قال ابن أعثم:
قال:
وأقبل الناس إلى علي بن أبي طالب بعرف الضبع فقالوا: يا أبا الحسن! إنه
قد قتل هذا الرجل، ولا بد من إمام، وليس لهذا الأمر أحد سواك، فهلم
فبايع الناس حتى يدفن هذا الرجل، فإنه في داره قتيل:
فقال علي:
لا حاجة لي في البيعة..
فقال له بعض القوم:
يا سبحان الله! لم لا تجيب القوم إلى البيعة وقد تعلم أن قتل عثمان كان
لله عز وجل رضا؟!
فقال علي:
ليس الأمر كما تقولون. لقد قتلتموه بلا دية ولا قود، فدعوني والتمسوا
غيري لهذا الأمر، فإني أرى أمراً له وجوه، ولا تقوم لها القلوب، ولا
تثبت عليها العقول، فعليكم بطلحة والزبير!
قالوا:
فانطلق معنا إلى طلحة والزبير.
فقال علي:
أفعل ذلك.
ثم خرج من منزله مع القوم حتى صار إلى طلحة في داره،
فقال يا أبا محمد! إن الناس قد اجتمعوا إلي في البيعة، وأما أنا فلا
حاجة لي فيها، فابسط يدك حتى يبايعك الناس.
فقال طلحة:
يا أبا الحسن أنت أولى بهذا الأمر وأحق به مني، لفضلك، وقرابتك،
وسابقتك.
فقال له علي:
إني أخاف إن بايعني الناس واستقاموا على بيعتي أن يكون منك أمر من
الأمور!
فقال طلحة:
مهلاً يا أبا الحسن! فلا والله لا يأتيك مني شيء تكرهه أبداً.
قال علي «عليه السلام»:
فالله تبارك وتعالى عليك راع وكفيل!
قال طلحة:
يا أبا الحسن نعم!
قال علي «عليه السلام»:
فقم بنا إذاً إلى الزبير بن العوام.
فأقبل معه طلحة إلى الزبير فكلمه على ما كلم به طلحة،
فرد عليه الزبير شبيهاً بكلام طلحة، وعاقده، وعاهده أنه لا يغدر به،
ولا يحبس بيعته.
قال:
فرجع علي إلى المسجد واجتمع الناس، فقام نفر من الأنصار منهم أبو
الهيثم بن التيهان، ورفاعة بن رافع، ومالك بن العجلان، وخزيمة بن ثابت،
والحجاج بن [عمرو بن] غزية، وأبو أيوب خالد بن زيد، فقالوا: أيها
الناس! إنكم رأيتم ما سار فيكم عثمان، وأنتم اليوم على شرف أن تقعوا في
مثلها، فاسمعوا قولنا وأطيعوا أمرنا.
قال:
فقال لهم الكوفيون والمصريون: فإننا قد قبلنا منكم، فأشيروا علينا،
فإنكم أهل السابقة، وقد سماكم الله أنصاراً، فأمرونا بأمركم.
فقالت الأنصار:
إنكم قد عرفتم فضل علي بن أبي طالب، وسابقته، وقرابته ومنزلته من النبي
«صلى الله عليه وآله»، مع علمه بحلالكم وحرامكم، وحاجتكم إليه من بين
الصحابة. ولن يألوكم نصحاً، ولو علمنا مكان أحد هو أفضل منه وأجمل لهذا
الأمر وأولى به منه لدعوناكم إليه.
فقال الناس كلهم بكلمة واحدة:
رضينا به طائعين غير كارهين.
[فقال لهم علي «عليه السلام»:
أخبروني عن قولكم هذا رضينا به طائعين غير كارهين] أحق واجب لله
عليكم؟! أم رأي رأيتموه من عند أنفسكم؟!
قالوا بل هو واجب أوجبه الله عز وجل لك علينا.
فقال علي «عليه السلام»:
فانصرفوا يومكم هذا إلى غد.
قال:
فانصرف الناس.
فلما كان من غد أقبل الناس إلى المسجد، وجاء علي بن أبي
طالب
«عليه السلام»،
فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أيها الناس، إن الأمر
أمركم فاختاروا لأنفسكم من أحببتم وأنا سامع مطيع لكم!
قال:
فصاح الناس من كل ناحية وقالوا: نحن على ما كنا عليه بالأمس، فابسط يدك
حتى يبايعك الناس!
قال:
فسكت علي، وقام طلحة إلى علي فبايعه، وضرب بيده على يد علي، وكان به
شلل من ضربة أصابته يوم أحد.
فلما وقعت يده على يد علي قال قبيصة
بن جابر:
إنا لله وإنا إليه راجعون! أول يد وقعت على كف [علي] أمير المؤمنين يد
شلاء، لا والله لا يتم هذا الأمر من قبل طلحة بن عبيد الله أبداً.
قال:
ثم وثب الزبير وبايع، وبايع الناس بعد ذلك بالبيعة من المهاجرين
والأنصار، ومن حضر من العرب والعجم والموالي.
قال:
وتقدم رجل من أهل مصر يقال له سودان بن حمران المرادي، فقال له: يا أبا
الحسن! إننا قد بايعناك على إن عملت فينا كما عمل عثمان قتلناك!!
فقال علي «عليه السلام»:
اللهم فنعم.
قال:
فبايعه الناس على كتاب الله عز وجل وسنة نبيه «صلى الله عليه وآله».
قال:
وأنشأ عبد الرحمن بن حنبل الجمحي قصيدة مطلعها:
لـعـمـري
إذا بـايـعـتـم ذا حفيظـة على الدين معروف
العفاف موفقا
إلى آخره..([1]).
ونقول:
إن لنا هنا وقفات:
ذكرت الرواية المتقدمة:
أن الناس قالوا لعلي «عليه السلام» عن عثمان: إنه في داره قتيل.. وهذا
هو المفروض والمتوقع..
ولكننا نجد نصاً آخر ذكره ابن أعثم نفسه أيضاً بعد
صفحات يسيرة يقول:
«ثم أمر علي «عليه السلام» بدفن عثمان، فحمل ـ وقد كان
مطروحاً على مزبلة ثلاثة أيام، حتى ذهبت الكلاب بفرد رجليه ـ فقال رجل
من المصريين: لا ندفنه إلا في مقابر اليهود.
قال حكيم بن حزام:
كذبت أيها المتكلم، لا يكون ذلك أبداً ما بقي رجل من ولد قصي.
قال:
فحمل عثمان على باب صغير قد جازت رجلاه من الباب، وإن رأسه ليتقعقع،
وأتي به إلى حفرته إلخ..([2]).
ولكن حكيم بن حزام لم يكن صادقاً في قوله هذا أيضاً،
فقد دفن عثمان في حش كوكب، وهو مقبرة اليهود بالفعل، وإن ألحقه معاوية
بالبقيع فيما بعد.
وأما بالنسبة لكونه في بيته، أو على المزبلة يمكن الجمع
بين الكلامين، بأن يكون في بادئ الأمر قتيلاً في بيته، ثم ألقي على
مزبلة ثلاثة أيام، وتعرض لما تعرض له، ثم دفن بأمر علي «عليه السلام».
قال ابن أعثم:
«وأقبل الناس إلى علي بن أبي طالب بعرف الضبع، فقالوا:
يا أبا الحسن قد قتل هذا الرجل، ولا بد للناس من إمام وليس لهذا الأمر
أحد سواك»([3]).
ونقول:
أولاً:
لعل المراد بعرف الضبع: المكان المعروف باسم «الضبع»
قرب حرَّة بني سليم([4]).
ولعل سبب تسميته بالضبع هو كونه أكمة سوداء مستطيلة
قليلاً.. وربما يكون فيها حجارة كثيرة تشبه عرف الضبع.. وهو ما التف
على عنقها من الشعر.. ويضرب به المثل في الكثرة([5]).
ثانياً:
لعل في كتابة الكلمة تشويهاً، وأن أصل الكلمة هو «كعرف الضبع»، ويكون
ابن أعثم قد اقتبسها من قوله «عليه السلام» في الخطبة الشقشقية: «فما
راعني إلا والناس كعرف الضبع ينهالون علي من كل جانب، حتى لقد وطئ
الحسنان، وشق عطفاي»([6]).
إن من المعلوم:
أن عثمان كان مطالباً بالتراجع عن الأمور التي كان يؤاخذ عليها،
وبالتوبة منها، وبإفساح المجال لمحاسبة عمّاله، ومجازاتهم على
أفاعيلهم.
بل
حتى لو قلنا:
إنه كان مستحقاً للقتل، فإن ذلك لا يبرر قتله من قبل أي كان من الناس.
أي أن الطريقة التي قتل فيها لم تكن مقبولة من الناحية الشرعية، إذ ليس
للناس أن يتولّوا تنفيذ الأحكام بأنفسهم، بل لا بد من إصدار الحكم من
قبل أهل الحكم، وهم الذين يتولون إجراء العقوبات على مستحقيها..
وإذ قد انتهى الأمر بعثمان إلى القتل على يد عامة
الناس، فلا مجال للقود، ولا للدية، لوجود الشبهة القوية لديهم، من حيث
استحقاقه للقتل بنظرهم. لما اعتقدوه فيه من الإقدام على إبطال أحكام
الشريعة، وطمس معالمها. وغير ذلك..
وقد صرحت الرواية هنا:
بأنه «عليه السلام» رفض قبول الخلافة، وقال للناس عليكم بطلحة والزبير.
وكلامه هذا لا يعني أنه «عليه السلام» يعترف بأنهما أحق
منه بهذا الأمر، بل هو لا يدل على أن لهما أي شيء من الحق، وإنما هو
يدل على أنه يريد من الناس أن يتركوه، ويذهبوا إلى طالبي هذا الأمر،
بحق أو بباطل. وذلك بسبب ما ظهر من طموحهما إلى هذا الأمر.
كما أنه «عليه السلام» أراد استدراجهما للإعتراف بأنهما
لا حق لهما، وليمهد الطريق لأخذ عهد ووعد منهما بأن لا ينكثا بيعتهما
له بعد إعطائها، وهكذا كان.
ولكن ما أظهرته هذه الرواية ـ ولعله هو الصحيح ـ هو أنه
«عليه السلام» لم يعرض على طلحة والزبير أن يبايعهما.. بل قال لطلحة
والزبير: «فابسط يدك حتى يبايعك الناس».
وقد لوحظ:
أن طلحة والزبير قد اعترفا بأنه «عليه السلام» أولى وأحق بالخلافة
منهما، وذكرا أن هذه الأحقية تعود إلى أمور ثلاثة هي:
1 ـ
فضله «عليه السلام».
2 ـ
قرابته.
3 ـ
سابقته.
ولكنهما لم يشيرا إلى النص عليه ولا إلى البيعة له في
غدير خم، لأن ذلك يعني أن لا تبقى لهم أية فرصة لادعاء شيء من الحق
لأنفسهما في هذا الأمر:
قال الطبري:
وأخبرنا علي بن مسلم، قال: حدثنا حبان بن هلال، قال: حدثنا جعفر بن
سليمان، عن عوف، قال: أما أنا فأشهد أني سمعت محمد بن سيرين يقول: إن
علياً جاء فقال لطلحة: ابسط يدك يا طلحة لأبايعك.
فقال طلحة:
أنت أحق، وأنت أمير المؤمنين، فابسط يدك.
قال:
فبسط علي يده فبايعه([7]).
وفي نص آخر عن أبي أروى:
لما برز الناس للبيعة عند بيت المال، قال علي «عليه السلام» لطلحة:
أبسط يدك للبيعة..
فقال طلحة:
أنت أحق بذلك مني، وقد استجمع لك الناس، ولم يجتمعوا إلي.
فقال علي «عليه السلام» لطلحة:
والله، ما أخشى غيرك.
فقال طلحة:
لا تخش. فوالله لا تؤتى من قبلي أبداً.
فبايعه، وبايعه الناس([8]).
ونلاحظ من ما يلي:
أولاً:
إنه «عليه السلام» قال لطلحة ـ حسب نص رواية أبي أروى ـ: أبسط يدك
للبيعة. ولم يقل له لأبايعك..
فإن كانت كلمة للبيعة تعني الطلب منه أن يرضى ببيعة
الناس له.. فعلي «عليه السلام» مسكوت عنه، وليس بالضرورة أن يكون في
جملة المبايعين له.
بل لعله يتعامل معه كما تعامل مع أبي بكر وعمر وعثمان.
حيث دلت بعض النصوص على أنه لم يبايع أحداً منهم، وقد رضوا منه بذلك.
وهذا النص يضع علامة استفهام على صحة ما ورد في رواية
عن عوف، من أنه قال: أبسط يدك لأبايعك..
ثانياً:
إن عرض علي «عليه السلام» البيعة لطلحة ليس بالأمر المستهجن، لا سيما
وأنه قد قال لهم: إني لأسمعكم وأطوعكم لمن وليتموه أمركم. وقال: أنا
لكم وزير خير لكم مني أميراً.. ونحو ذلك..
ثالثاً:
إنه «عليه السلام» كان يعلم بأن طلحة لا يرضى بأن يبايع علي «عليه
السلام» له، لا لأجل معرفة طلحة بالحق، وإيثاره العمل به، بل لأنه يعلم
أن أحداً لا يرضاه مع وجود أمير المؤمنين «عليه السلام». وقد رأى
انثيال الناس على أمير المؤمنين، وملاحقتهم له من مكان إلى مكان
وإصرارهم على أن يبايعوه، وهو يأبى ذلك طيلة خمسة أيام مضت من قتل
عثمان..
وكان «عليه السلام» يعرف أنه لا محيص له هو عن قبول هذا
الأمر. وإذا قبله
«عليه السلام»
فإن أخشى ما يخشاه هو نكث طلحة والزبير بالذات، فلماذا
لا يدفع أولئك الطامعين لتسجيل اعتراف صريح ـ ولا سيما من طلحة الذي
تدعمه عائشة ـ بأن علياً «عليه السلام» هو الأولى والأحق بهذا الأمر.
فإذا أراد طلحة (الزبير أو غيره) أن ينكث، وأمكن أن
يخدع بعض السذج بدعواه أن يده بايعته، ولم يبايعه قلبه، كما حدث ذلك
بالفعل([9])،
فإنه لا يستطيع أن يتملص من كلامه الصادر عنه باختياره في وقت لم يكن
لعلي سلطة، وكان علي «عليه السلام» نفسه هو الذي يعرض عليه البيعة
والخلافة، بملء إرادته واختياره، وكان طلحة هو الرافض لها، متبرعاً
بتسجيل اعتراف بأحقية علي «عليه السلام» بالخلافة..
ويبدو:
أن عرض علي «عليه السلام» هذا الأمر على طلحة قد تكرر، وقد اعترف طلحة
بما يلي:
أولاً:
بما دل على أن الأمر لعلي «عليه السلام» من الله ورسوله فقد قال له كما
في رواية عوف: أنت أحق مني، وأنت أمير المؤمنين، فإن هذا اللقب قد منحه
الله ورسوله لعلي «عليه السلام». وقد أورده طلحة للتدليل على أحقية علي
«عليه السلام» بهذا الأمر دونه.
ثانياً:
بأنه الأحق لاجتماع الناس له، ولم يجتمعوا لطلحة ولا لسواه.
فإن كان مصدر السلطة هو الله ورسوله فقد اعترف به طلحة
لعلي «عليه السلام»، وإن كان مصدرها هو الناس، فقد استجمع الناس له،
ولم يجتمعوا لغيره «عليه السلام».
فما معنى أن يبادر إلى النكث بعد ذلك العرض، وبعد هذا
الإعتراف؟!
قد يقال:
إن قول عبد الرحمان بن حنبل في شعره:
«علي وصي المصطفى وابن عمه»..
وقول خزيمة بن ثابت:
«وصي رسول الله من دون أهله»..
لا يحرج أحداً، لأنه قول شاعر، ولم تؤخذ البيعة له
استناداً إلى هذه الوصية، بل لإعتبارات أخرى أشرنا إليها سابقاً
ولاحقاً.
ونقول:
إن المطلوب هنا ليس هو الإحراج في أمر البيعة، بل
المطلوب هو إقامة الحجة وبيان الحقيقة التي أرادوا طمسها وتعمية السبل
الموصلة إليها.
وقد سجل الأنصار إضافة إلى ما ذكره طلحة والزبير
اعترافهم بسبب آخر من أسباب أحقية علي «عليه السلام» بالخلافة، وهو أنه
الأعلم بالحلال والحرام، وهي صفة امتاز بها علي «عليه السلام» على سائر
الصحابة، حتى أصبح الناس كلهم يحتاجون إليه من بين الصحابة، ولا يحتاج
هو إلى أحد..
وسجلوا له أيضاً صفة أخرى لا يدانيه فيها أحد، حين لم
يكتفوا بإثبات صفة الفضل له «عليه السلام»، بل صرّحوا بأنهم لا يعلمون
أحداً أفضل وأجمل منه لأمر الخلافة..
ولعل اكتفاءهم بهذه الأمور، وعدم ذكر النص إما كان لأجل
وضوحه لدى كل أحد، أو لأجل تحاشي إثارة حفيظة محبي أبي بكر وعمر، إذا
اعتبروا: أن المقصود هو إبطال خلافتهما، لمخالفتها للنص..
وبذلك اتضح:
أن الداعي لدى الأنصار لعدم ذكر النص يختلف عن الداعي
الذي دعا طلحة والزبير لعدم ذكره..
وقد ذكرت النصوص:
أن علياً «عليه السلام» قد أجَّل بيعة الناس له إلى اليوم التالي،
لتكون البيعة في المسجد..
وقد قلنا:
إن من جملة أهداف هذا التأجيل هو أن لا يتوهم متوهم أنه «عليه السلام»
قد اهتبل الفرصة، واستغل موافقتهم لفرض بيعته عليهم، وعلى غيرهم،
ومستعداً من هذا الاحساس لهذه الجماعة الصغيرة بالفراغ والضياع،
وبالحاجة إلى الوالي، والخوف من عواقب التأجيل..
وأنه أراد أن يلزم الأكثرية ببيعة جماعة قليلة قد يدعي
مدع ٍ أنها لم تتدبر الأمر بالمقدار الكافي.
فإذا أجلهم إلى الغد.. وانضم إليهم سائر الناس، فإن كل
هذه التوهمات تصبح بلا معنى ولا مبرر.. وتكون البيعة ملزمة، وبعيدة عن
أي شبهة..
وقد أشرنا إلى ذلك في موضع آخر في هذا الكتاب.
وذكروا:
أن طلحة والزبير قالا لعلي «عليه السلام»: نبايعك على أنا شركاءك في
هذا الأمر.
فقال «عليه السلام»:
لا، ولكنكما شريكان في القوة والاستعانة، وعونان على العجز والأود([10]).
وفي نص آخر ذكره الإسكافي:
أنه «عليه السلام» قال لهما: لا، ولكنكما شريكاي في الفيء، لا أستأثر
عليكما ولا على عبد حبشي مجدع بدرهم فما دونه، لا أنا ولا ولداي هذان،
فإن أبيتما إلا لفظ الشركة، فانهما عونان لي عند العجز والفاقة، لا عند
القوة والإستقامة.
قال أبو جعفر الإسكافي:
فاشترطا ما لا يجوز في عقد الأمانة، وشرط «عليه السلام» لهما ما يجب في
الدين والشريعة([11]).
ونقول:
لاحظ ما يلي:
قال المعتزلي:
لقد أحسن فيما قال، لما سألاه أن يشركاه في الأمر، فقال: أما المشاركة
في الخلافة، فكيف يكون ذلك؟! وهل يصح أن يدبر أمر الرعية إمامان؟! وهل
يجمع السيفان ـ ويحك ـ في غمد؟!
وإنما تشركاني في القوة والاستعانة، أي إذا قوي أمري
وأمر الإسلام بي قويتما أنتما أيضاً، وإذا عجزت عن أمر، أو تأوّد على
أمر ـ أي اعوجّ ـ كنتما عونين لي ومساعدين على إصلاحه.
وقال أيضاً:
المراد بالإستعانة هنا: الفوز والظفر([12]).
ونقول:
إننا نستبعد أن يكون طلحـة والزبـير قد تجـرءا على طـرح
هذا الشرط ـ شرط المشاركة في بيعتهما له «عليه السلام» ـ سواء في حائط
بني مبذول، أو عند بيت المال، أوفي المسجد، أو في أي مكان آخر.. فقد
كانت هجمة الناس عليه، وإصرارهم على البيعة له لا تقاوم، ولا تسمح بطرح
أمثال هذه الشروط..
من أجل ذلك نقول:
لعل طلحة والزبير قد طرحا هذا الأمر حين جاءا يطلبان
ولاية الكوفة والبصرة، حيث تدل عليه بعض نصوص هذه الحادثة أنهما كانا
يحاولان الحصول على نصيب من هذا الأمر. فردهما «عليه السلام».
وبعد..
فإنه إن كان المقصود هو إعطاؤهما بعض العذر في نكثهما، وخروجهما عليه
فاشترطا الشراكة، وأجابهما «عليه السلام» بما تقدم، فإن ذلك لا يبرر
خروجهما ونكثهما. بل هو يزيده قباحةً وشناعةً، لأن هذا الإشتراط وذلك
الرد يعني زوال أي وهم لديهما في أن يكون لهما الحق بشيء، وقد أصبحت
مطالبتهما بالشراكة، مسبوقة بالتنصيص على نفيها ورفضها، فما معنى أن
يقدما على البيعة له «عليه السلام» بعد هذا التنصيص الصريح والظاهر؟!
ألا
يعني ذلك:
البغي عليه، والسعي لاستلاب حق رضيا مسبقاً بالتخلي عنه، وجرت البيعة
على رفض قبوله، وعلى التخلي عن مطالبتهما به؟!
إن هذا الطلب غير معقول ولا مقبول، وهو يعني تعريض
مصالح الناس لخطر الضياع، وعلي «عليه السلام» هو القائل: الشركة في
الملك تؤدي إلى الاضطراب([13]).
وعن
الإمام الصادق «عليه السلام»:
ما لكم وللرياسات، إنما للمسلمين رأس واحد([14]).
وليس من المعقول ولا المقبول:
أن يدبر أمر الرعية إمامان، وهل يجتمع سيفان في غمد واحد؟!
فكيف إذا كانوا ثلاثة سيوف، وكانت سيوفاً متناقضة
الهوى، متخالفة الاتجاهات، هذا سيف يضرب في سبيل الله، وذاك سيف يراد
له أن يكرس الأطماع، ويلبي الشهوات، ويستجيب للأهواء، ويحمي الظلم
والبغي والانحراف؟!
وأما القبول بشراكة طلحة والزبير في القوة والاستعانة،
فذلك يعني أنه يريدهما أن يشاركا في بناء قوة الدولة فإن سائر المسلمين
شركاء في بناء القوة التي يحتاجها أميرهم وحاكمهم وقائدهم في إقامة
الدولة القوية والمقتدرة، التي لا يطمع بها أعداؤها، ويريدهم أن يعينوه
على إحقاق الحق وإبطال الباطل، حيث يحتاج إلى العون منهما، أو إلى
العون على العدو في محاربته ودفعه، أي أنه يريدهما سيفاً في يده يذب به
عن الحق، ويزهق به الباطل..
كما أنه يريدهما عونين له حين يريد تقويم الأود
والاعوجاج الداخلي، وعونين له حين ظهور العجز العام فيما يرتبط
بالحاجات الداخلية، لإزالة ذلك العجز، وتبديله إلى قوة وغنى.
أما النص المنقول عن الإسكافي، وهو:
أنهما قالا لعلي «عليه السلام»: نبايعك على أنا شركاؤك في الأمر.
فقال:
لا، ولكنكما شريكاي في الفيء، لا أستأثر عليكما ولا على عبد حبشي مجدع
بدرهم فما دونه، لا أنا ولا ولداي هذان.
فإن صحت هذه الرواية، فلا معنى
لقولهما بعد قسم ما في بيت المال:
أعطيناك بيعتنا على ألا تقضي الأمور، ولا تقطعها دوننا.
لأن المفروض: أنهما اشترطا الشراكة في الأمر وقت البيعة، ولم يرض
بالشرط، بل قبل بشراكتهما في الفيء بحيث يكون نصيبهما منه مثل نصيبه،
ونصيب أي من أولاده وغيرهم.
كما أنه لا ينسجم مع قولهما:
إنهما نقما منه تسويته لهما مع غيرهما في قسم الأموال..
وقد صرح «عليه السلام» لطلحة والزبير بإصراره على
المساواة في العطاء لنفسه وولديه حتى مع العبد الحبشي المجدع، وهذا
قرار حاسم منه بإدانة وإبطال نزعة التمييز بين الناس على أساس لا يرضاه
الله ورسوله، ولا يقرها عقل ولا شرع، حتى لو كان من أسّس لهذا التمييز
من هو أكثر الناس نفوذاً في الناس، وهو عمر بن الخطاب.
إنه «عليه السلام» رفض إشراكهما في الحكم وفي القرار
السلطاني من جهة.. وأقر لهما بالمساواة معه ومع ولديه في الفيء.. ولكنه
رفض أن يميزهما فيه، وابطل السياسة التي ألفوها وأحبوها.
كما أنه «عليه السلام» قد أظهر لهما الموافقة والمرونة،
بقبوله إطلاق لفظ الشراكة، ولكنه حصرها وحاصرها في الدائرة المشروعة
والنافعة، التي تؤدي إلى حفظ الكيان، وتقويته، وإبعاد الأذى عنه، لا
تلك الشراكة التي توجب الخلاف، وتضعف الحاكم أو تمنعه من الإمساك
بالأمور وحل المشكلات كما يرضاه الله تعالى..
إن لفظ الشراكة في الأمر مبهم ومطاط.. فلا بد من بيانه
وتحديده، حتى لا يبقى أي مبرر للاتهام أو السعي. وللابتزاز الذي لا
يمكن أن يرضخ له علي «عليه السلام» بأي حال.
علي
يتوقع غدر الزبير:
قال المعتزلي:
قال علي «عليه السلام» للزبير يوم
بايعه:
إني لخائف أن تغدر بي، فتنكث بيعتي.
قال:
لا تخافنّ، فإن ذلك لا يكون مني أبداً.
فقال علي «عليه السلام»:
فلي الله عليك بذلك راعٍ وكفيل!!
قال:
نعم، الله لك عليّ بذلك راع وكفيل([15]).
فأنه «عليه السلام» لم يكن متوقعاً لذلك فحسب، بل هو قد
صارح طلحة: بأنه يخاف أن يغدر به، فأجابه بنفي ذلك عن نفسه.
ونقول:
لعل سائلاً يسأل:
هل يعقل أن يواجه علي «عليه السلام» من يبايعه، ويرضى
بحكومته، بل يكون من أول المبايعين له بأنه يخاف أن يغدر به، وأن ينكث
بيعته؟!
ألا يستبطن ذلك قدراً من التجني على الزبير وعلى طلحة،
وتشهيراً بهما، واتهاماً لهما بما يأبى أهل الشهامة والسؤدد أن يواجههم
أحد به، ويرون فيه إهانة واحتقاراً لهم؟!!
ولماذا خص علي «عليه السلام» الزبير وطلحة بهذا
الاتهام، دون سواهما. فلم يوجّه مثله إلى أبي أيوب، أو سهل بن حنيف، أو
غيرهما؟!
ويمكن أن يجاب:
أولاً:
بأن النص قد لا يكون دقيقاً في نقل الصورة، فكيف إذا كان الرواة يرغبون
في حفظ شأن ومقام أحد الأطراف الرئيسية في الحدث المنقول، أو يراد
تبرئته من أمر قبيح، أو التخفيف من بشاعة أفعاله ومواقفه، وربما رافق
ذلك رغبة في الحيف والتجني على طرف أساسي آخر في ذلك الحدث بالذات..
فلعل الرواة المهرة قد حرفوا تاريخ هذا الإصرار العلوي
على التأكد من عدم نكث طلحة، أو الزبير.. بأن كانت كلمة «يوم بايعه»
مقحمة في النص.
ثانياً:
لعل الصحيح: أنه «عليه السلام» قد قال ذلك للزبير أو لطلحة بعد أن ظهرت
أمارات نكثهما، حين استأذناه في العمرة، وقال لهما: ما العمرة تريدان،
وإنما تريدان الغدرة، كما سيأتي إن شاء الله.
فحلفا له على أنهما لا يريدان نكث بيعته.
فقال لهما:
فأعيدا البيعة لي ثانية.
فبايعاه مرة أخرى بأشد ما يكون من الأيمان والمواثيق([16]).
بل يظهر من كلام المجلسي:
أن تفكير طلحة والزبير بنكث بيعتهم قد بدأ في يوم البيعة أو في اليوم
التالي. فإن القسم الذي قسمه فيهم بعد البيعة مباشرة قد أثار حفيظتهم،
قال:
«فلذا نكث طلحة والزبير في اليوم التالي من بيعته،
وقالوا: آسيت بيننا وبين الأعاجم، وكذلك عبد الله بن عمر، وسعيد بن
العاص، ومروان وأضرابهم، ولم يقبلوا ما قسم لهم»([17]).
ولعلهما تدرجا في إظهار السخط. فبدأ ذلك من حين قسم
المال بينهم، ثم تصاعد حتى بلغ الذروة واشتهر بين الناس قبل إتمام
الشهر.
فقد قال علي «عليه السلام»:
«وهذا طلحة والزبير ليسا من أهل بيت النبوة، ولا من ذرية الرسول حين
رأيا أن الله قد رد علينا حقنا بعد أعصر، فلم يصبرا حولاً كاملاً، ولا
شهراً كاملاً حتى وثبا على دأب الماضين قبلهما، ليذهبا بحقي، ويفرقا
جماعة المسلمين عني. ثم دعا عليهما([18]).
غير أن علينا أن نشير إلى أن هذين الذين سعيا هذا السعي
الحثيث لقتل عثمان، ثم نكثا بيعة علي «عليه السلام» بهذه السرعة لا بد
أن يكونا قد بيتا نية الغدر، منذ اللحظة الأولى. فإنه حتى ولو سوّى علي
«عليه السلام» بين الناس في العطاء، فهو لا يستحق إظهار النكث بهذه
السرعة، وهذا يدل على أن البيعة لعلي «عليه السلام» كانت مجرد انحناء
منهما أمام العاصفة. حيث وجدا أن أحداً لا يقبل بهما مع وجود علي «عليه
السلام» فاضطرا لمجاراة الناس، انتظاراً لسنوح الفرصة..
ثم كانت مبادرتهما إلى بيعته مكراً منهما به. أو أنهما
أرادا أن يجعلا من هذه المبادرة يداً عنده ليبادلهما بتوليتهما الكوفة
والبصرة، حتى إذا أصبحت بأيديهما البلاد ورقاب العباد، وثبوا وثبتهم
الأخرى لإزاحة علي «عليه السلام»، واستلاب ما تبقى من البلاد من يده.
([1])
قال المعلق على الكتاب: في د: في موضعها أبيات، وهي:
عفيفاً عن الفحشـاء
أبيض ساجد صدوقا
مع الجبار قدسا مصدقـــا
أبا حسن فارضوا بـه وتمسكــوا فليس لمن فيه يرى
العيب مطلقـــا
علياً: وصى المصطفى وابن عمــه وأول من صلى لذي
العرش واثقـا
في د
«عفيف» مكان «عفيفاً»، و «علي» مكان «علياً».
والنص
المذكور أعلاه مذكور في الفتوح لابن أعثم ج2 ص243 ـ 247 و (ط
دار الأضواء سنة 1411هـ) ج2 ص434 ـ 436.
([2])
الفتوح لابن أعثم ص247 و (ط دار الأضواء سنة 1411هـ) ج2 ص436.
([3])
الفتوح لابن أعثم (ط حيدرآباد الدكن) ج2 ص243 و (ط دار الأضواء
سنة 1411هـ) ج2 ص434.
([4])
معجم البلدان ج3 ص452 وتاج العروس ج11 ص296.
([5])
راجع: معجم البلدان ج3 ص451.
([6])
مناقب علي بن أبي طالب لابن مردويه ص135 والدرجات الرفيعة ص35
والفصول المهمة لابن الصباغ ج2 ص1185 واللمعة البيضاء ص198
ورسائل المرتضى ج2 ص112 وعلل الشرائع ج1 ص151 والإرشاد للمفيد
ج1 ص289 والإحتجاج للطبرسي ج1 ص287 ومناقب آل أبي طالب ج2 ص49
وكتاب الأربعين للشيرازي ص168 ونهج البلاغة (بشرح عبده) ج1 ص35
الخطبة رقم3 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص200 وتذكرة الخواص
ص117 وبحار الأنوار ج29 ص499 عن المناقب لابن الجوزي، والعقد
الفريد لابن عبد ربه ج4 وأبي علي الجبائي في كتابه وابن الخشاب
في درسه، والحسن بن عبد الله، بن سعيد العسكري في المواعظ
والزواجر.
([7])
تاريخ الأمم والملوك ج4 ص434 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص455.
([8])
الكافئة للمفيد ص12 وبحار الأنوار ج32 ص32 وراجع: أنساب
الأشراف للبلاذري (ط مؤسسة الأعلمي سنة 1394هـ 1974م) ص215
وتاريخ الأمم والملوك (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص455.
([9])
راجع: الجمل للمفيد (ط مكتبة الداوري ـ قم ـ إيران) ص175 وكتاب
الفتوح لابن أعثم (ط دار الأضواء سنة 1411هـ) ج2 ص466. ونهج
البلاغة (بشرح عبده) ج1 ص42.
([10])
راجع: نهج البـلاغـة (بشرح عبـده) ج4 ص46 وخصائص الأئمـة ص114
= = وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج19 ص22 وبحار الأنوار ج32 ص48
وراجع ج30 ص17 وراجع: مصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج4
ص82 وكشف المحجة لابن طاووس ص181 ونهج السعادة ج5 ص225 وتاريخ
اليعقوبي ج2 ص180.
([11])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج7 ص42.
([12])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج19 ص22 وبحار الأنوار ج32 ص48 عنه.
([13])
غرر الحكم ودرر الحكم (مطبوع مع الترجمة الفارسية) ج1 ص83
ومستدرك الوسائل ج13 ص452 وجامع أحاديث الشيعة ج18 ص414.
([14])
إختيار معرفة الرجال ص293 و (ط مركز النشر الإسلامي سنة
1419هـ) ج9 ص596 وقصار الجمل ج1 ص262 عن مستدرك الوسائل ج2
ص322 وبحار الأنوار ج69 ص215 وجامع أحاديث الشيعة ج13 ص462.
([15])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص230 وبحار الأنوار ج32 ص5 وشجرة
طوبى ج2 ص317.
([16])
بحار الأنوار ج32 ص6 و 99 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص232
والإحتجاج (ط الغري) ج1 ص235 والإرشاد للمفيد ص130 فصل17
وأعيان الشيعة ج1 ص448 ومناقب أهل البيت للشيرواني ص210 وشجرة
طوبى ج2 ص318.
([17])
بحار الأنوار ج32 ص36.
([18])
الإحتجاج (ط بيروت) ج1 ص162 و (ط دار النعمان سنة 1386هـ
1966م) ج1 ص236 وبحار الأنوار ج32 ص99 و 62 و 115 ونهج
السعادة ج1 ص267 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج1 ص290
والإرشاد للمفيد ج1 ص249.
|