قد تقدم:
أن الناس حين لقوا علياً في السوق بعد قتل عثمان بهشوا في وجهه، أي
ارتاحوا له، وخفوا إليه. وأقبلوا إليه مسرورين ضاحكين([1]).
وفي نهج البلاغة في كلام له «عليه السلام» في وصف
بيعتهم له بالخلافة:
«وبسطتم يدي فكففتها، ومددتموها فقبضتها، ثم تداككتم
علي تداك الإبل الهيم على حياضها يوم ورودها، حتى انقطعت النعل، وسقط
الرداء. ووطئ الضعيف.
وبلغ من سرور الناس ببيعتهم إياي أن ابتهج بها الصغير،
وهدج إليها الكبير، وتحامل نحوها العليل، وحسرت إليها الكعاب»([2]).
ولكنها فرحة تبقى في حدود وعي الصفوة من أصحابه، وعمق
شعورهم بالمسؤولية والاستعداد لمواجهة الصعاب من أجل دينهم مع مزيد من
الوضوح لديهم في مدى توقعاتهم من خلافته «عليه السلام»، وموارد هذه
التوقعات. أما بالنسبة لعامة الناس، فإنها كانت في حدود رفع الظلم الذي
كان ينالهم من حكامهم بصورة مباشرة..
يضاف إلى ذلك،
اطمئنانهم إلى صحة معارفه «عليه السلام» بأحكام الدين
والشريعة، وطمأنينتهم إلى حرصه على مصالحهم، وعلى مستقبلهم، ومعرفتهم
بمدى إصراره على معاملتهم بالحق والصدق، ومن دون مواربة، أو خداع.
ولكن حين يتصادم الحق مع مصالحهم الدنيوية، فسيجد
الكثيرين من غير الواعين أو من الذين همهم الدنيا وحطامها يتطلعون
للتخلص والتملص من حكمه..
قال ابن واضح:
بعد ذكر بيعة الناس لعلي «عليه السلام»: وقام قوم من
الأنصار فتكلموا، وكان أول من تكلم ثابت بن قيس بن شماس الأنصاري ـ
وكان خطيب الأنصار، فقال:
«والله، يا أمير المؤمنين، لئن كانوا تقدموك في الولاية
فما تقدموك في الدين، ولئن كانوا سبقوك أمس فقد لحقتهم اليوم، ولقد
كانوا وكنت لا يخفى موضعك، ولا يجهل مكانك، يحتاجون إليك فيما لا
يعلمون، وما احتجت إلى أحد مع علمك.
ثم قام خزيمة بن ثابت الأنصاري ـ
وهو ذو الشهادتين، فقال:
يا أمير المؤمنين، ما أصبنا لأمرنا هذا غيرك، ولا كان المنقلب إلا
إليك، ولئن صدقنا أنفسنا فيك، فلأنت أقدم الناس إيماناً، وأعلم الناس
بالله، وأولى المؤمنين برسول الله، لك ما لهم، وليس لهم ما لك.
وقام صعصعة بن صوحان فقال:
والله، يا أمير المؤمنين، لقد زينت الخلافة وما زانتك، ورفعتها وما
رفعتك، ولهي إليك أحوج منك إليها.
ثم
قام مالك بن الحارث الأشتر فقال:
أيها الناس, هذا وصي الأوصياء, ووارث علم الأنبياء, العظيم البلاء,
الحسن العناء [الغناء], الذي شهد له كتاب الله بالإيمان, ورسوله بجنة
الرضوان, من كملت فيه الفضائل, ولم يشك في سابقته وعلمه وفضله الأواخر
ولا الأوائل.
ثم قام عقبة بن عمرو فقال:
من له يوم كيوم العقبة, وبيعة كبيعة الرضوان, والإمام الأهدى الذي لا
يخاف جوره, والعالم الذي لا يخاف جهله»([3]).
ونقول:
إن هذه الكلمات تدلل على ما كان الناس قد سمعوه في حق
علي، وما عاينوه له من فضائل، وما ظهر لهم من تقدمه في المواقف.
ولعل الأمر الذي كان حاضراً في ذهن الجميع هو علمه الذي
احتاج إليه الكل, واستغنى هو به عن الكل.
كما أن تصريح الأشتر بأنه «عليه السلام» لم يشك في
سابقته وعلمه وفضله الأواخر ولا الأوائل يشير إلى هذا التسالم، ويؤكد
بخوع الناس له, وتسليمهم به. ولا نريد أن نقول أكثر من ذلك.
ولما بويع علي «عليه السلام» جعل خزيمة بن ثابت يقول:
إذا نـحـن بـأيـعـنـا عليـاً
فـحـسبنا أبـو حـسن ممـا نـخـاف من الفتن
وجـدنـاه أولى الناس بالنــاس إنـه أطـب قـريـش بالكتاب
وبالسنن
وإن قـريـشــاً لا تـشـق غــبـــاره إذا ما جرى يوما
على ضمَّر البـدن
فـفـيـه الـذي فيهم من الخير كـلـه وما فيهم مثل الذي
فيه من حسـن
وصي رسول الله من دون أهــلـــه وفارسه قد كان في سالف
الـزمـن
وأول من صلى من النـاس كلـهـم سوى خيرة النسوان والله
ذي المنن
وصاحب كبش القوم في كل وقعة يكون لها نفس الشجاع لدى
الذقن
فـذاك الـذي تثنى الخنـاصر باسمه إمـامـهـم حـتـى أغيب في
الكفن
وقال أبو العباس: أحمد بن عطية:
رأيـت عـلياً خير من وطئ الحصـا وأكـرم خلق الله مـن بعـد
أحمــد
وصي الرسول المرتضى وابن عمــه وفـارسـه المشهـور في كل مشـهد
تـخـيره الرحمـان من خـير أســرة لأطـهـر مـولـود وأطـيـب
مولد
إذا نـحـن بـايعـنـا عليـاً فحسبنـا بـبـيـعـتـه
بعـــد النبي محمــد([4])
وقد تضمنت أشعار خزيمة أموراً جديرة بالتوقف عندها،
ومنها:
1 ـ
أن خلافته وإمامته ضمان من الوقوع في الفتن التي يخافونها. والمقصود
بالفتن ما يوجب الفتنة عن الدين، من خلال إثارة الشبهات والسعي لتضليل
الناس عن الحق. ولا شك في أنه «عليه السلام» ضمان وأمان للأمة، فهو مع
الحق والقرآن، والقرآن والحق معه..
2 ـ
إنه «عليه السلام» أعرف قريش بالكتاب والسنن. والمفروض أن تكون قريش
أعرف الناس بهذين الأمرين، لأنهم عشيرة رسول الله «صلى الله عليه
وآله»، والأكثر قدرة على توفير الوقت للكون معه، والتعلم منه.
فمن يكون أعلم من قريش كلها، فهو أعلم من الناس كلهم..
فكيف إذا كانت قريش لا تشق له غباراً في العلوم والمعارف.. أي أنه يمعن
في البعد عنها، حتى لا تكاد تصل إلى الغبار الذي يثيره سَيره خلال
انطلاقته..
3 ـ
إنه أولى الناس بالناس وبتدبير أمورهم، وحفظ شؤونهم.. وقد لمس الناس
ذلك بأنفسهم بصورة عملية.
4 ـ
إنه «عليه السلام» أحسن الناس تصرفاً فيما يملك من علوم ومعارف قرآنية،
كما أشار إليه قوله: أطب قريش بالكتاب وبالسنن، فإن كثرة العلم لا تعني
حسن التصرف والتدبُّر لدى كثير من الناس سوى علي «عليه السلام».
5 ـ
إن الأمر لم يقتصر على تفرده في العلوم، والمعارف، بل هو قد جمع كل
المحاسن، وكل الخير الذي في الناس ثم تفرد عنهم. بأنه ليس فيهم مثل
الذي فيه من محاسن المزايا، ومن الخير.
6 ـ
إنه «عليه السلام» وصي الرسول «صلى الله عليه وآله» دون سائر أهله،
وعشيرته الأقربين، وقريش كلها، وهم الذين يفترض أن يكون لهم خصوصية
ليست لغيرهم في مزايا الفضل.
7 ـ
ثم إنه قد ساق له العديد من المزايا في الشجاعة، والتضحية، وسبقه إلى
الإسلام..
8 ـ
ثم إن هذا الشعر تضمن التنصيص على سبقه «عليه السلام» كل الناس إلى
الإسلام مستثنياً سيدة النسوان، يعني خديجة سلام الله عليها..
ولكننا قلنا في أوائل هذا الكتاب:
إن النصوص صريحة في أنه «عليه السلام» كان أول الأمة أو أول الناس
إسلاماً، بل يكفي في ذلك الروايات التي تقول: إنه «عليه السلام» أول من
صلى، أو إنه صلى قبل الناس بسبع سنين، ولم تستثن الرواية أحداً حتى
خديجة صلوات الله وسلامه عليها..
ومن المعلوم:
أن خزيمة لم يكن في تلك الفترة في مكة، ولم ير ولم يشهد.. فلعله لم
يتحقق من هذا الأمر، فسمع أن خديجة كانت أول من صلى وأن علياً أول من
صلى.. فذكر الأمرين جميعاً في شعره، ولم يعين الأسبق منهما..
أو أنه «رحمه الله» قد نظر إلى الصلاة المعلنة التي بدأ
إعلانها بالمجاهرة بها بعد بعثته «صلى الله عليه وآله». ولم ينظر إلى
ما سبق ذلك حين كان «صلى الله عليه وآله» نبياً، ولم يكن رسولاً قد
أُمر بدعوة الناس بعد.. فإنه إنما أمر بذلك وهو في سن الأربعين..
9 ـ
والبيت الأخير لخزيمة لا يخلو من إشارة إلى أنه «رحمه الله» كان بصدد
تقرير إمامة علي «عليه السلام»، والشهادة بها، ولذلك اعتبر علياً «عليه
السلام» إمام الناس. وأنه يثبت له هذه الإمامة حتى يُغيَّب في الكفن.
قال البلاذري:
«لما بويع علي أتى الكوفة الخبر، فبايع هشام بن عتبة (الصحيح هاشم)
لعلي، وقال هذه يميني وشمالي لعلي. وقال:
أبــايـــع غــير مـكـتـتـم عـلـيــاً ولا
أخـشـى أمــيري الأشـعـريـا
وقدم ببيعته على أهل الكوفة يزيد بن عاصم المحاربي.
فبايع أبو موسى لعلي.
فقال عمار حين بلغته بيعته له:
والله لينكثن عهده، ولينقضن عقده، وليغرَّن جهده، وليسلمن جنده.
فلما كان من طلحة والزبير ما كان
قال أبوموسى:
الإمرة ما أمر فيه، والملك ما غلب عليه إلخ..»([5]).
قال ابن أعثم:
وبلغ أهل الكوفة قتل عثمان وبيعة الناس لعلي بن أبي
طالب «عليه السلام»، فقامت الناس إلى أميرهم أبي موسى الأشعري فقالوا:
أيها الرجل! لم لا تبايع علياً، وتدعو الناس إلى بيعته؟! فقد بايعه
المهاجرون والأنصار!
فقال أبو موسى:
حتى أرى ما يكون، وما يصنع الناس بعد هذا
قال:
فأنشأ رجل من أهل الكوفة أبياتاً مطلعها:
أبــايـــع غــير مـكـتـتـم
عـلـيــاً وإن لم يـرض ذاك الأشـعـريــا([6])
إلى آخره..
قال:
وأقبل هاشم بن عتبة بن أبي وقاص إلى أبي موسى الأشعري فقال: يا أبا
موسى! ما الذي يمنعك أن تبايع عليا؟
فقال:
أنتظر الخبر.
قال:
وأي خبر تنتظر وقد قتل عثمان؟! أتظن أنه يرجع إلى الدنيا؟! إن كنت
مبايعاً لأمير المؤمنين وإلا فاعتزل أمرنا، ثم أنشأ أبياتا مطلعها:
إن ابـن
عـفـان إذ أودى بشـقـوتـه طـغـى فـحـل بـه مـن ذلكـم غير
إلى آخره..
قال:
ثم ضرب هاشم بن عتبة بيده على الأخرى، وقال: لي شمالي، ويميني لعلي بن
أبي طالب.
فلما قال هاشم ذلك وثب أبو موسى الأشعري فبايع، ولم يجد
بُدّاً من ذلك.
قال:
وبايعت أهل الكوفة علياً «عليه السلام» بأجمعهم، وأنشأ هاشم بن عتبة
أبياتاً مطلعها:
أبـايـعــه فـي الله حـقـا ومـا
أنـا أبـايـعـه مـنـي اعـتـذارا ولا بطلا
إلى آخره.
قال: فبايعت أهل الحجاز وأهل العراقين لعلي بن أبي طالب
«عليه السلام»([7]).
وقال البلاذري:
«فبايع علياً أهل الأمصار، إلا ما كان من معاوية وأهل الشام، وخواص من
الناس»([8]).
يشير بذلك إلى ما يزعمونه من امتناع سعد، وابن عمر،
وابن ثابت عن البيعة، وقد قلنا: إن ذلك غير صحيح.
«قال أبو عمر: وبايع لعلي
أهل اليمن بالخلافة يوم قتل عثمان»([9]).
ونقول:
لم نستطع استكناه مراد هذا القائل، فإن وصول الخبر إلى
اليمن يوم بيعة علي «عليه السلام» لا يمكن تأييده بحسب ظواهر الأمور،
لتعذر وصول الخبر من المدينة إلى اليمن بهذه السرعة.. إلا إن كان قد
وصل بواسطة الحمام الزاجل.. أو أية وسيلة أخرى لا نستطيع تأييدها، إن
لم يرد لنا نص يؤكدها، إلا إن كان المراد هو أهل اليمن الذين كانوا في
المدينة، أو بالقرب منها؛ وأن هؤلاء قد سبقوا إلى بيعة أمير المؤمنين
«عليه السلام».
ولعل بعض أهل اليمن كان قد قدم إلى المدينة لمواجهة
عثمان كما قدم إليها أهل مصر، وأهل الكوفة وغيرهم..
وقد قال المفيد «رحمه الله»:
«ولم تكن بيعته «عليه السلام» مقصورة على واحد واثنين
وثلاثة ونحوها في العدد، كما كانت بيعة أبي بكر مقصورة عن بعض أصحابه،
على بشير بن سعد، فتمت بها عنده، ثم اتبعه عليها من تابعه عليها من
الناس.
وقال بعضهم:
بل تمت ببشير بن سعد، وعمر بن الخطاب.
وقال بعضهم:
بل تمت بالرجلين المذكورين، وأبي عبيدة بن الجراح، وسالم مولى أبي
حذيفة.
واعتمدوا ذلك:
في أن البيعة لا تتم بأقل من أربعة نفر من المسلمين.
وقال بعضهم:
بل تمت بخمسة نفر: قيس بن سعد، وأسيد بن حضير من الأنصار، وعمر، وأبو
عبيدة، وسالم من المهاجرين.
ثم تابعهم الناس بعدها بالخمسة المذكورين. ومن ذهب إلى
هذا المذهب: الجبائي وأبوه، والبقية من أصحابهما في هذا الزمان.
وقالوا في بيعة عمر بن الخطاب مثل ذلك، فزعم من يذهب
إلى أن البيعة تتم بواحد من الناس، وهم جماعة من المتكلمين منهم:
الخياط، والبلخي، وابن مجالد، ومن ذهب مذهبهم من أصحاب الإختيار: أن
الإمامة تمت لعمر بأبي بكر وحده، وعقد له إياها دون من سواه.
وكذلك قالوا في عثمان بن عفان
والعقد له:
أنه تم بعبد الرحمن بن عوف خاصة.
وخالفهم على ذلك من أضاف إلى
المذكورين غيرهما في العقد، وزعم:
أن بيعة عمر انفردت من الاختيار له عن الإمام. وعثمان
إنما تم له الأمر ببيعة بقية أهل الشورى وهم خمسة نفر، أحدهم عبد
الرحمن، فاعترفت الجماعة من مخالفينا بما هو حجة عليهم في الخلاف على
أئمتهم، وبشذوذ العاقدين لهم، وانحصار عددهم بمن ذكرناه.
وثبتت البيعة لأمير المؤمنين «عليه السلام» بإجماع من
حوته مدينة الرسول من المهاجرين والأنصار، وأهل بيعة الرضوان، ومن
انضاف إليهم من أهل مصر والعراق في تلك الحال من الصحابة والتابعين
بإحسان، ولم يدع أحد من الناس أنه تمت له بواحد مذكور، ولا إنسان
مشهور، ولا بعدد يحصى محصور، فيقال: تمت بيعته بفلان واحد، وفلان،
وفلان، كما قيل في بيعة أبي بكر، وعمر، وعثمان»([10]).
انتهى.
وبلغ ذلك أهل اليمن فبايعوا طائعين غير مكرهين، ثم إنهم
قدموا عليه يهنونه بالخلافة؛ فأول من قدم عليه رفاعة بن وائل الهمداني
في قومه من همدان وهو يقول أبياتاً مطلعها:
نـسـير إلـى
عـلـي ذي المـعــــالي بـخـير عـصـــابــة يـمـن كــرام
إلى آخره.
قال:
وقدم عليه كيسون بن سلمة الجهني في قومه من جهينة وأنشأ يقول أبياتاً
مطلعها:
أجـبـنـا
عـلـيـا بـعـل بـنت نبـينـا على كـل خنـذيـذ من الخيل سابح
إلى آخره.
قال:
ثم قدم عليه رويبة بن وبر البجلي في قومه من بجيلة، وأنشأ يقول أبياتاً
مطلعها:
أجـبـنـاه
دون الهـاشمي سـوابـخ ومـوَّاه بـرق مـقـفـرات مـــوادخ
إلى آخره.
قال:
فكانت هؤلاء الوفود يسيرون من بلاد اليمن يريدون المدينة الليل مع
النهار، ولا يفترون من السير؛ وقد ذكر بعضهم ذلك في أرجوزة له حيث يقول
أبياتا مطلعها:
سـيروا بـنـا فـي ظـلـمة الحنادس
فـي مـهـمـه قـفـر الفـلاة واهـس
إلى آخره.
قال:
وبلغ ذلك علي بن أبي طالب «عليه السلام»، فدعا بالأشتر النخعى فأمره أن
يخرج فيلقاهم في أهل المدينة؛ فخرج الأشتر في تعبية حسنة حتى يلقاهم
فرحب بهم، وقال: قدمتم خير مقدم إلى قوم يحبونكم وتحبونهم؛ وإلى إمام
عادل، خليفة فاضل، قد رضي به المسلمون، وبايعه الأنصار والمهاجرون.
قال:
فدخل القوم المدينة فنزلوا، وجاء الأشتر حتى دخل على علي «عليه السلام»
رافعاً صوته وهو يقول أبياتاً مطلعها:
أتـتـك
عـصـابـة من خـير قـــوم بــما يـنـوون مـن حـضـر وبـادى
إلى آخره.
قال:
وأقام القوم يومهم ذلك، فلما كان من الغد بعث إليهم، فأقبل رؤساء القوم
منهم العياض بن خليل الأزدي، ورفاعة بن وائل الهداني، وكيسون بن سلمة
الجهنى، ورويبة بن وبر البجلي، ورفاعة بن شداد الخولاني، وهشام بن
أبرهة النخعي، وجميع بن خيثم الكندي، والأخنس بن قيس العتكي، وعقبة بن
النعمان النجدي، وعبد الرحمن بن ملجم المرادى.
قال:
فلما دخل إليه هؤلاء العشرة، وسلموا عليه رد
«عليهم
السلام»،
ثم قربهم وأدناهم وقال لهم:
إنكم صناديد اليمن، وسادتها. فليت شعري إن دهمنا أمر من
الأمور كيف صبركم على ضرب الطلا، وطعن الكلا؟!
قال:
فبادر عبد الرحمن بن ملجم بالكلام فقال: ياأمير المؤمنين! إرم بنا حيث
شئت، إذا شئت تعلم ذلك، فوالله! ما فينا إلا كل بطل أهيس، وحازم أكيس،
وشجاع أشرس، وليث أعبس، ورثنا ذلك عن الآباء والأجداد، وكذلك يرثه عنا
صالح الأولاد؛ وأنشأ يقول أبياتاً مطلعها.
أبـادر فـي
الحـروب إلى الأعــادي بـكـل مـهـنـــد يـوم الـضــراب
إلى آخره.
قال:
فدعا علي «عليه السلام» بالحبر اليمانية، والثياب الألحمية، فجعلها
عليهم، وانصرفوا إلى رحالهم فرحين مسرورين([11]).
ونقول:
لاحظ ما يلي:
صرح النص المتقدم:
بأن وفوداً خرجت من اليمن لتهنئة أمير المؤمنين «عليه السلام»
بالخلافة.. ويستوقفنا هنا أمران:
أحدهما:
هذا الاهتمام الظاهر لأهل اليمن بتقديم التهاني لعلي
«عليه السلام» بالخلافة، وهو ما لم نجد نظيراً له فيما يرتبط باهتمام
أهل اليمن باستخلاف الخلفاء الذين سبقوا علياً «عليه السلام». فقد
تعددت وفودهم إليه دون سواه.. ويبدو أنها خصوصية كانت لعلي «عليه
السلام» لدى أهل اليمن، الذين أسلموا على يديه «عليه السلام»..
الثاني:
هذه السرعة التي طبعت مسيرهم من اليمن إلى المدينة، حتى كانوا يصلون
الليل بالنهار، ولا يفترون من السير. وهذا يعبر عن لهفةٍ وشوق، يدعوهم
إلى تحمل مشقات السفر الطويل وبذل مزيد من الجهد.. وليت العوادي صفحت
لنا عن الأشعار التي كانوا ينشدونها في سفرهم ذاك، ولم تستهدفها
بالطمس، إلى حد إسقاطها عن صلاحيتها للاستفادة منها..
وقد بادلهم علي «عليه السلام» الإكرام بمثله، وأرسل
«عليه السلام» الأشتر النخعي «رحمه الله»، الذي هو شخصية يمانية
مرموقة، ومعه أهل المدينة لاستقبالهم. وهذه الشخصية هي من أحب الناس
وأقربهم إليه، وأوثقهم لديه، وأجلهم محلاً عنده..
ولم تترك الأمور في مراسم الإستقبال لتجري بعفوية،
تنتهي عادةً إلى العشوائية، بل سارت وفق نظم خاصة، وتعبئة حسنة، تشير
إلى مزيد من الاهتمام والاحترام لهذا الوفد العتيد..
وقد حملت خطبة الأشتر لهم في مراسم الاستقبال بشائر
تشتاقها القلوب، وتلتذ بها النفوس.. فقد اشتملت على الترحيب، والتقدير
لمسيرهم، كما أنها تضمنت إعلامهم بأن الذي يربط أهل اليمن بعلي «عليه
السلام» ومن معه، هو الحب. وليس أي شيء آخرن كالمصالح ونحوها..
وأعلن أيضاً أن نهج علي «عليه السلام» هو العدل والفضل،
وأنه «عليه السلام» يتأمر على المسلمين برضا منهم، وببيعة خيارهم
وكبارهم وأفاضلهم، فلا إكراه من أحد لأحد.
كما أن الذين قاموا بأمر البيعة هم من أهل الاستقامة
والعقل والعدل، وهم المأمونون، الذين أزيحوا عن مواقعهم ومقاماتهم في
المرات السابقة، ليحل محلهم من لم يعد خافياً أمرهم على أحد، حيث
ارتكبوا الموبقات، وأفحشوا في المخالفات والتعديات..
وحين دخلوا إلى المدينة، ودخل الأشتر إلى علي «عليه
السلام» خاطبه بأبيات تضمنت الثناء على الوافدين. ووصفهم بأنه خير قوم،
وبأن نواياهم حسنة، وأن باطنهم يوافق ظاهرهم..
واللافت هنا:
أن ابن ملجم كان في جملة الوافدين على أمير المؤمنين «عليه السلام».
وكان هو المبادر للكلام المتضمن لإظهار الطاعة والانقياد المطلق لأمير
المؤمنين «عليه السلام»، وللإعلان عن الاستعداد لتنفيذ أوامره «عليه
السلام»، وخوض اللجج، في محاربة أعدائه صلوات الله وسلامه عليه.
فكان كلامه هذا حجة عليه أمام الله، وأمام المؤمنين،
وسيطالبه الله تعالى به حين يقدم عليه ناكثاً بيعة سيد الأولياء،
قاتلاً أفضل الأوصياء، يلعنه أهل السموات وأهل الأرضين، ويكون أشقى
الأولين والآخرين.
علي
لا يغرر بأحد:
وقد بادر علي «عليه السلام» إلى إعلام هؤلاء الوافدين
بما ينتظرهم من تحديات، لأنه لا يريد أن تفاجئهم الأحداث، ولا أن يتوهم
متوهم أنه «عليه السلام» قد غرر بهم، وأخفى عنهم نواياه في البداية، ثم
ساقهم إلى ما لم يكونوا راغبين بالدخول فيه. و لو أنهم توهموه من أول
الأمر لكان لهم موقف آخر من البيعة وصاحبها..
ويلاحظ:
أنه «عليه السلام» قد بين لهم ما ينتظرهم بأصرح التعابير، وأوضحها، ولم
يلجأ إلى التعريضات والتلميحات. فقد قال:
«فليت شعري إن دهمنا أمر من الأمور كيف صبركم على ضرب
الطلا، وطعن الكلا»!!([12]).
وقد زاد علي «عليه السلام» في حفاوته بهم، وتكريمه لهم،
حين «دعا «عليه السلام» بالحبر اليمانية، والثياب الألحمية، فجعلها
عليهم، وانصرفوا إلى رحالهم فرحين مسرورين».
([1])
أقرب الموارد ج1 ص64.
([2])
نهج البلاغة (بشرح عبده) ج2 ص222 المختار رقم227، ومصباح
البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج1 ص149 و 277 وبحار الأنوار ج32
ص51 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص96 وج13 ص3 والغارات للثقفي
ج1 ص310 والمسترشد للطبري ص418 وكتاب الأربعين للشيرازي ص186.
([3])
تاريخ اليعقوبي (ط صادر) ج2 ص179 و (ط الحيدرية ـ النجف) ج2
ص166 وبهج الصباغة ج9 ص561.
([4])
راجع: بحار الأنوار ج32 ص35 ومناقب آل أبي طالب ج3 ص196 و (ط
المكتبة الحيدرية) ج2 ص375 والفصول المختارة ص267 و 268 وشرح
نهج البلاغة للمعتزلي ج3 ص322 و 323 والدرجات الرفيعة ص311 و
312 وأبيات خزيمة توجد كلها أو بعضها في: المستدرك للحاكم ج3
ص114 ـ 115 وكشف الغمة للأربلي (ط سنة 1426هـ) ج1 ص150 و 151
والمناقب للخوارزمي ص51 فصل 3.
([5])
أنساب الأشراف (بتحقيق الحمودي) ج2 ص213 عن أبى الحسن المدائني،
عن أشياخ ذكرهم. وعلي من مجاهد. ولعل الصواب: علي بن مجاهد.
([6])
في الإصابة ج6 ص276: «لما جاء قتل عثمان إلى أهل الكوفة قال
هاشم لأبي موسى الأشعري: تعال يا أبا موسى بايع لخير هذه الأمة
علي، فقال: لا تعجل، فوضع هاشم يده على الأخرى فقال: هذه لعلي
وهذه لي وقد بايعت علياً، وأنشده:
أبـايــع غـيــر
مــكترث عـلـيـــاً ولا أخـشـى أمـيراً
أشـعــريــــا
أبـايـعـه وأعـلـم أن سـأرضـــي بـــذاك الله
حــقــاً والـنـبــــيا
([7])
الفتوح لابن أعثم ج2 ص250 ـ 252 و (ط دار الأضواء) ج2 ص438 و
439.
([8])
أنساب الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج2 ص212.
([9])
تاريخ الخميس ج2 ص276 عن الرياض النضرة، وعن سيرة مغلطاي.
([10])
الجمل للمفيد ص91 و 92 و (ط مكتبة الداوري ـ قم ـ إيران) ص41 و
42.
([11])
الفتوح لابن أعثم ج2 ص252 ـ 256 و (ط دار الأضواء) ج2 ص439 ـ
441.
([12])
الفتوح لابن أعثم ج2 ص256 و (ط دار الأضواء) ج2 ص440 و 441.
|