صفحة :127-146   

الفصل الرابع: التمرد: بوادر وإرهاصات..

محاولة فاشلة لاغتيال علي :

ورووا: أنه لما بايع الناس علياً «عليه السلام» أتى الزبير فاستأذن علياً «عليه السلام».

قال أبو حبيبة ـ مولى زبير ـ: فأعلمته به؛ فسل السيف، ووضعه تحت فراشه، وقال: ائذن له.

فأذنت له، فدخل، فسلم، وهو واقف، ثم خرج.

فقال الزبير: لقد دخل لأمر ما قضاه. قم مقامه وانظر: هل ترى من السيف شيئاً؟!

فقمت في مقامه فأتيت ذباب السيف، فأخبرته، فقال: ذاك([1])!

وفي الطبري: «ذاك أعجل الرجل.فلما خرج علي سأله الناس، فقال: وجدت أبرَّ ابن أخت وأوصله.

فظن الناس خيراً.

فقال علي: إنه بايعه»([2]).

ونقول:

1 ـ لقد خرج علي «عليه السلام» من عند الزبير حين رأى ما دله على نوايا الغدر لديه.. مع أنه «عليه السلام» كان يستطيع الدخول، والاحتياط لنفسه، فيستولي على السيف عند أول بادرة غادرة من الزبير. ونحن على يقين من أنه سيكون هو المنتصر. فلماذا آثر الخروج على تسجيل نصر كهذا؟!

قد يقال: إن ذلك لو حصل لوفر على نفسه الكثير من العناء والجهد لإقناع الناس بخبث طوية الزبير، وسوء نواياه..

ونجيب: بأن الدخول في الأمر، وتسجيل نصر بهذه الطريقة، قد يكون هو الهزيمة التي كان «عليه السلام» يتحاشاها، فإن السيطرة على سيف الزبير يجعله «عليه السلام» أمام خيارين كل منهما مُرّ، فإما أن يأخذه من الزبير ويضربه به، وإما أن يتركه يهرب من وجهه، وينجو بنفسه؛ فإن قتله، فمن الذي يثبت للناس: أن الزبير كان المعتدي والغادر؟! وكيف يمكن إثبات ذلك؟!

وستبقى الشبهات تحوم حول من كان البادىء بالغدر وبالظلم.

وقد يدعي محبو الزبير: أن علياً «عليه السلام» قصده إلى بيته، وقتله طمعاً بالخلافة.. أو أن خلافاً نشأ بينهما وتطور، وليس بالضرورة أن يكون علي «عليه السلام» هو المحق فيه، فلعل الزبير كان هو المحق..

وأما فرار الزبير من وجهه، وتوفير سبيل السلامة للزبير، فهو لا يحل المشكلة، لأن الزبير قد يدعي أنه تعرض لهجوم من علي «عليه السلام» ليقتله، ويصفو له الجو. وقد أبى الزبير أن يقابله بالمثل، انطلاقاً من كرم الأخلاق، ودرءاً للفتنة، فاختار الفرار..

2 ـ أما ما ذكره الطبري من أنه «عليه السلام» لما خرج سأله الناس. فقال: «وجدت أبرّ ابن أخت وأوصله»، فلعله ساقه على سبيل التورية، لأنه إن صرح لهم بما رآه من إمارات الغدر والمكر، فلعل بعضهم لا يتقبل ذلك، لا سيما بعد أن رأى الزبير في أول المبايعين له، ولم تظهر منه بعد أية بادرة من بوادر النكث.

ويفسر البعض ذلك على أنه مجرد توهم وتخيل من علي «عليه السلام» لا واقع له.. هذا إن لم يكن ممن يسيء الظن به، ويسعى إلى التشنيع عليه «عليه السلام»..

وقد يتأكد ذلك حين يرى إنكار الزبير وحزبه حصول شيء مما يدعيه علي «عليه السلام»..

وفائدة هذه التورية هو التمهيد لظهور نوايا الزبير في نكثه البيعة، وسائر أفاعيله، حيث لا بد أن يقارن الناس بين ما كان ينويه علي «عليه السلام»، أو ما كان يتوقعه، وبين ما كان الزبير يُعِدّ ويهيئ له..

3 ـ إننا لا نرى مبرراً للكلمة الأخيرة التي أضافها الطبري، وهي قوله: وقال علي إنه بايعه.. فإن بيعة الزبير له لم تكن خفية، بل كانت على رؤوس الأشهاد، وفي المسجد، أو عند بيت المال، أو في حائط ابن مبذول، ولم تكن في بيت الزبير..

الأحنف يذكر عائشة وطلحة:

عن أسوس (أشرس) العبدي، عن عبد الجليل بن إبراهيم: أن الأحنف بن قيس أقبل حين نزلت عائشة أول مرحلة من البصرة، فدخل عليها، فقال: يا أم المؤمنين! وما الذي أقدمك؟! وما أشخصك؟! وما تريد؟!

قالت: يا أحنف، قتلوا عثمان!!.

فقال: يا أم المؤمنين! مررت بك عام أول بالمدينة وأنا أريد مكة، وقد أجمع الناس على قتل عثمان، ورمي بالحجارة، وحيل بينه وبين الماء، فقلت لك: يا أم المؤمنين! إعلمي أن هذا الرجل مقتول، ولو شئت لتردين عنه!

وقلت: فإن قتل فإلى من؟!

فقلت: إلى علي بن أبي طالب..

قالت: يا أحنف، صفوه حتى جعلوه مثل الزجاجة قتلوه!!

فقال لها: أقبل قولك في الرضا، ولا أقبل قولك في الغضب.

ثم أتى طلحة، فقال: ما الذي أقدمك؟! وما الذي أشخصك؟! وما تريد؟!.

فقال: قتلوا عثمان!

قال: مررت بك عاماً أول بالمدينة، وأنا أريد العمرة، وقد أجمع الناس على قتل عثمان، ورمي بالحجارة، وحيل بينه وبين الماء، فقلت لكم: إنكم أصحاب محمد «صلى الله عليه وآله»، لو تشاؤون أن تردوا عنه فعلتم؟!

فقلت: دبّر، فأدبر.

فقلت لك: فإن قتل فإلى من؟!

فقلت: إلى علي بن أبي طالب «عليه السلام».

فقال: ما كنا نرى أن أمير المؤمنين «عليه السلام» يرى أن يأكل الأمر وحده([3]).

وعن ابن أعثم وغيره: أن عائشة لما قضت حجها، وتوجهت إلى المدينة استقبلها بشراف عبيد بن أبي سلمة الليثي ـ وكان يسمى ابن أم كلاب ـ فسألته عائشة عن المدينة وأهلها، فقال: قتل عثمان.

«فلم تشك في أن طلحة صاحب الأمر، وقالت: بعداً لنعثل وسحقاً. إيه ذا الأصبغ، إيه أبا شبل، إيه يا ابن العم، لكأني أنظر إلى إصبعه وهو يبايع له حنوها، لا بل وذعذعوها.

قالت: فما فعلوا؟!

[قال: خيراً. حارت بهم الأمور إلى خير محار].

قال: بايعوا [ابن عم نبيهم] علي ابن أبي طالب «عليه السلام».

فقالت: لوددت أن السماء انطبقت على الأرض إن تم هذا، انظر ما تقول!

قال: هو ما قلت لك يا أم المؤمنين.

فولولت.

فقال لها: ما شأنك يا أم المؤمنين؟! والله، ما أعرف بين لابتيها أحداً أولى بها منه ولا أحق، ولا أرى له نظيراً في جميع حالاته، فلماذا تكرهين ولايته؟

قال: فما ردت جواباً ثم ردت ركائبها إلى مكة، فرأيتها في مسيرها تخاطب نفسها: قتلوا ابن عفان مظلوماً.

فقلت لها: يا أم المؤمنين، ألم أسمعك آنفاً تقولين: أبعده الله، وقد رأيتك قبل أشد الناس عليه، وأقبحهم فيه قولاً.

فقالت: لقد كان ذلك. ولكني نظرت في أمره، فرأيتهم استتابوه حتى تركوه كالفضة البيضاء أتوه صائماً محرماً في شهر حرام فقتلوه.

وفي نص ابن أعثم: أنه لما أخبرها بالبيعة لعلي «عليه السلام»، قالت: [فعلوها!!] ليت السماء سقطت على الأرض ولم أسمع ذلك منك! والله لقد قتل عثمان مظلوماً، ولأطلبن بثأره. و والله، إن يوماً من عمر عثمان أفضل من حياة علي!!

فقال عبيد: أما كنت تثنين على علي «عليه السلام»! وتقولين: ما على وجه الأرض أحد أكرم على الله من علي بن أبي طالب «عليه السلام»؟!! فما بدا لك إذ لم ترضي بإمامته؟! وأما كنت تحرضين الناس على قتل عثمان؟!، وتقولين: اقتلوا نعثلاً فقد كفر؟!

فقالت عائشة: قد كنت قلته، ولكني علمته خيِّراً، فرجعت عن قولي. وقد استتابوه، فتاب، وغفر له.

فرجعت عائشة إلى مكة، وكان من أمرها ما ستر([4]).

ونقول:

لعل الصحيح: كان من أمرها ما مرَّ.

قال المجلسي: حنوها: أي جعلوا إصبعه منحنية للبيعة «لا بل وذعذعوها» أي كسروها وبددوها لهجومهم على البيعة.

ونقول:

تستوقفنا الأمور التالية:

استتابوه فتاب، وغفر له:

أولاً: لم نجد أي نص يدلنا على أن عثمان قد تاب. بل وجدنا أنه أظهر التوبة ثم صار يجمع السلاح والرجال.. وقد كتب إلى معاوية وغيره من عماله يخبرهم بكفر أهل المدينة، ويطلب منهم إمداده بالرجال والسلاح.

ثانياً: من أين علمت عائشة: أن الله تعالى قد غفر لعثمان، والحال أن مجرد إظهار التوبة لا يكفي إذا لم يرجع الحقوق إلى أصحابها، ولم ينصف المظلوم من الظالم، ولم يرجع إلى أحكام الله.. ولم نر عثمان فعل شيئاً من ذلك.

يا أحنف قتلوا عثمان:

إن عائشة أجابت الأحنف على أسئلته عن سبب مجيئها بقولها: يا أحنف، قتلوا عثمان.

وقد كان المتوقع أن يقول لها الأحنف:

أولاً: ما شأنك أنت وقتل عثمان؟! إذ ما للنساء وهذا الأمر!!

ثانياً: كان عليه أن يقول لها: أنت التي أمرت بقتل عثمان بعد أن حكمت بكفره.

ولكن يبدو أن الأحنف لم ير فائدة من سلوك هذا الطريق. فآثر أن يلزمها بنفس أقوالها في السنة التي سلفت..

ولكن لا على أساس أمرها بقتل عثمان، لعلمه بأنها قد تدعي توبته.

ولا على أساس أن ذلك لا يعني عائشة، لأنها قد تدعي أنها تريد أن تأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر.. إلى غير ذلك من أعذار لا يقرها الدين لأكثر من سبب.

وكان الأحنف بستطيع أن يحتج عليها أيضاً: بأن الشارع أمرها بأن تبقى في بيتها، لا بأن تجمع الجيوش، وتحارب إمام زمانها، كما أنه لو جاز لها أن تطالب بدم عثمان، فقد كان عليها أن تقدم القتلة للعدالة لدى الحاكم الشرعي. وأول القتلة طلحة، غير أن الأحنف عزف عن كل ذلك، وألزمها بما هو أشد وأقسى على قلبها حين طالبها بأقوالها السابقة في مدح علي «عليه السلام»..

ولكن لا بما تذكره له من فضائل ومقامات، لأنها قد تدعي أيضاً أن لغيره من الفضائل ما يجعله أهلاً للخلافة مثل علي «عليه السلام»..

بل ألزمها بقولها له: إن البيعة بعد قتل عثمان يجب أن تكون لخصوص علي «عليه السلام»..

عام أول:

قد يقال:

إن الأحنف يقول: لعائشة وطلحة إنه مر بهما عام أول بالمدينة، وكان عثمان قد حوصر، ورمي بالحجارة، ومنع من الماء.. والمفروض أن عثمان قتل في ذي الحجة في أيام التشريق.. فهل حوصر عثمان سنة كاملة، أو أكثر؟!

ونجيب:

إن الأحنف يتحدث بعد عدة أشهر من قتل عثمان، أي بعد أن جمعوا الجموع، وساروا إلى البصرة لقتال علي «عليه السلام»، وذلك في سنة ست وثلاثين.. وكان قتل عثمان في سنة خمس وثلاثين.. فكلام الأحنف صحيح من هذه الجهة، ولا يدل على مضي سنة من بدء حصار عثمان إلى حين قتله، بل يدل على الانتقال من سنة خمس وثلاثين إلى سنة ست وثلاثين، مع وجود فارق كبير بين مسيره الأول إلى المدينة، وبين ملاقاته لعائشة وطلحة هذه المرة في البصرة.

إرشاد عائشة وطلحة إلى علي :

وقد أوضح الأحنف أن عائشة وطلحة قد أرشداه إلى البيعة لعلي «عليه السلام» بعد قتل عثمان..

ولا بد من السؤال عن سبب ذلك، فإن عائشة مذ كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» حياً لم تكن تطيق ذكر علي «عليه السلام» بخير أبداً..

كما أنها بمجرد علمها بالبيعة لعلي «عليه السلام» أعلنت رفضها لها، وبدأت تعد لحربه.. فكيف ترشد الأحنف إلى علي «عليه السلام»، وتشيد بفضائله لابن أم كلاب؟!

ونجيب:

إن عائشة وطلحة كانا يعلمان أنه لا بد للتجييش ضد عثمان، من الاستفادة من علي «عليه السلام». أما عائشة نفسها ـ فضلاً عن طلحة ـ فليس لها ذلك الأثر على الناس في مجال جمع التأييد ودفع الناس للثورة على عثمان، فإن قبيلة تيم ليس لها شأن، ولا يخشاها أحد.. وليس بإمكان عائشة وطلحة مواجهة الأمويين وأشياعهم وأتباعهم، الذين كانوا يمسكون بالسلطة، وبكل مقدراتها وإمكاناتها وبكل أسباب القوة، مادياً ومعنوياً في طول البلاد وعرضها..

فكان لا بد لهم من التلطي وراء اسم علي «عليه السلام»، والاستفادة مما يملكه من رصيد معنوي عظيم بين الصحابة، ولا سيما الأنصار منهم، فضلاً عن تأييد بني هاشم، وأناس آخرين..

ولكن عائشة وطلحة ظنَّا: أن قتل عثمان سينتهي بما يشبه الفتنة، أو فقل: الانهيار العام، وربما التصادم بين بني هاشم وبني أمية، فتتهيأ الفرصة لطلحة من خلال تأييد عائشة له..

صفوه فصار كالزجاجة:

وعن قول عائشة عن عثمان: صفوه حتى جعلوه مثل الزجاجة، قتلوه، نقول:

1 ـ لم نعرف كيف صفا عثمان المعترضون عليه!! والحال أنه لم يتراجع عن شيء، ولا أصلح شيئاً مما طالبوه بإصلاحه!!

وهل تحصل التصفية لمرتكب المخالفة بمجرد حصاره، ومنع الماء عنه؟! وهل من يتعرض للحصار وسواه تبرأ ذمته مما ارتكبه؟!

2 ـ لماذا لم تطلب من الثائرين عليه الكف عنه قبل قتله، حين رأت هذا الصفاء فيه..

3 ـ من أين علمت بحصول هذا الصفاء له؟! وكيف اكتشفت مقداره؟! حتى تمكنت من تحديده بأنه مثل الزجاجة؟!

4 ـ ما ذنب علي «عليه السلام» في هذا الأمر، فلتذهب إلى قتلته، فتطالبهم، وأولهم طلحة بن عبيد الله نفسه..

5 ـ إذا كانت هي التي أمرت بقتله، بعد أن حكمت بكفره، فلماذا لم تعاقب نفسها؟! أو على الأقل لماذا لم تخبر قاتليه بأنها تراجعت عن قولها هذا.. ومنهم طلحة..

6 ـ لماذا لم يقبل الأحنف هذا الادعاء من عائشة، واعتبره من نفثات الغضب الذي يبعد الإنسان عن الحق؟!

علي يأكل الأمر وحده:

واللافت هنا: قول طلحة: ما كنا نظن أن أمير المؤمنين يأكل الأمر وحده..

ونقول:

أولاً: إن طلحة يرى أن الخلافة أكلة يفوز بها هذا أو ذاك، وليست مسؤولية وأمانة إلهية لا بد من أدائها إلى من هي له.. وهذه هي نظرة أهل الدنيا وطلاب اللبانات.

ويدلنا ذلك على أن طلحة إنما كان يريد قتل عثمان، لأنه يراه يأكل الأمر وحده، ولا يعطيه شيئاً منه. ولم يكن يريد قتله لأجل إقامة العدل، والعمل بأحكام الله، وإنصاف المظلومين. فهو لم يغضب لله، لا حين شارك في قتل عثمان، ولا حين جاء لحرب علي «عليه السلام»..

ثانياً: هل كان طلحة ينقم على رسول الله «صلى الله عليه وآله» أيضاً؟! ويرى أنه يأكل الأمر وحده؟! وهل كان ينقم على أبي بكر وعمر، لأنهما لم يشاركاه في أمرهما أيضاً؟!

ثالثاً: هل رأى من سيرة علي «عليه السلام» ما دله على أنه يأكل شيئاً، أو يستأثر بشيء لنفسه؟! أم رأى الزهد والعزوف عن حطام الدنيا، والأمانة، وأداء الحقوق، ونصرة المظلومين، ومواجهة الظالمين؟!

رابعاً: هل يصح، أو هل يجوز لعلي أن يولي، أو أن يشرك في الأمر من له هذه النظرة، ويفكر بهذه الطريقة؟! وهو الذي سمع قول رسول الله «صلى الله عليه وآله»: إنَّا لا (لن) نستعمل على عملنا من أراده([5]). فكيف إذا كان يراه طعمة له؟!

فإن كان يرى جواز ذلك، فلماذا لم يعمل بمشورة المغيرة بإبقاء عمال عثمان على أعمالهم، ولا سيما معاوية، ويوفر على نفسه وعلى المسلمين حرباً انجلت عن سبعين ألف قتيل؟!

علي يفضح طلحة والزبير!:

وقالوا: إنه «عليه السلام» كتب لطلحة عهداً على الشام، والزبير على العراق. فقالا: وصل قرابتنا، وشكراه.

وأخبر علي بذلك، فقال: ظنَّا أن هذا محاباةً مني لهما؟! واسترد العهدين.

وغضبا، واستأذنا في العمرة، وعائشة بمكة، فأذن لهما، وعلم أنهما يغدران. فأقسما، وصنعا ما صنعا([6]).

وذكر ذلك اليعقوبي، غير أنه قال: إنه «عليه السلام» ولاهما اليمامة والبحرين([7]).

ونقول:

إن لنا أن نظن: أن علياً «عليه السلام» ـ حين كتب عهداً للزبير على العراق، وكتب عهداً لطلحة على الشام أراد «عليه السلام» أن يبين للناس على لسان طلحة والزبير مباشرة طمعهما في الدنيا، وأنهما يريدان الولاية لأنفسهما، ولذلك اعتبرا عهده «عليه السلام» للزبير على العراق ولطلحة على الشام من مفردات صلة الرحم، ومن موجبات شكرهما له،

فدلا بذلك على أنهما يريدان العراق والشام لتكون طعمة لهما لا لأجل الناس، وإقامة الحق والعدل.. فبادر «عليه السلام» إلى فضح نواياهما هذه، حين استرد الكتابين منهما.

ومن حق الإمام أن يختبر رعيته ليعرف من هو أهل للولاية، من غيره..

ومن فوائد هذا التصرف زيادة الوعي لدى الناس، وإعدادهم للتبصر في الأمور، والتدبر في دلالات المواقف والتصرفات، والأقوال والحركات..

كما أن هذا الموقف قد أوضح للناس: أن علياً كان يتناقض مع هذا النوع من البشر في عمق الفكر، وفي النظرة إلى الأمور، وفي منطلقات التعامل مع القضايا.. فلم يكن ما جرى بسيطاً ولا عابراً..

التآمر والنكث:

قال ابن قتيبة: وأتاهما (الضمير يرجع إلى طلحة والزبير) عبد الله بن خلف، فقال لهما: إنه ليس أحد من أهل الحجاز كان منه في عثمان شيء إلا وقد بلغ أهل العراق، وقد كان منكما في عثمان من التغليب والتأليب ما لا يدفعه جحود، ولا ينفعكما فيه عذر، وأحسن الناس فيكما قولاً من أزال عنكما القتل، وألزمكما الخذل، وقد بايع الناس علياً بيعة عامة، والناس لاقوكما غداً، فما تقولان؟!

فقال طلحة: ننكر القتل، ونقر بالخذل، ولا ينفع الإقرار بالذنب إلا مع الندم عليه، ولقد ندمنا على ما كان منا.

وقال الزبير: بايعنا علياً والسيف على أعناقنا، حيث تواثب الناس بالبيعة إليه دون مشورتنا، ولم نصب عثمان (قتلاً) خطأ فتجب علينا الدية، ولا عمداً فيجب علينا القصاص.

فقال عبد الله بن خلف: عذركما أشد من ذنبكما([8]).

ونقول:

1 ـ لقد قطع عبد الله بن خلف كل عذر لطلحة والزبير، حين ذكر لهما: أن ما فعلاه بعثمان لا يمكن التستر عليه في الحجاز ولا في العراق، فقد سارت به الركبان، لا سيما وأن حصارهم له قد طال إلى شهرين أو أقل أو أكثر، وانتشرت أخبار ما يجري في الآفاق.

2 ـ زعم طلحة: أنه سينكر أمام الناس: أن يكون قد قتل عثمان، ولكنه سيعترف لهم بأنه خذله.. وهذا عذر أقبح من ذنب.

أولاً: لأن هذا الإنكار سيظهر للناس، كل الناس: أن طلحة يتلاعب بهم، ويسعى لخديعتهم.. وأنه لا يتورع عن الكذب الصريح والفاجر، الذي لا دواء له.

ثانياً: إن هذا الخذلان الذي يعترفون به قد رافقه بيعة منهم لعلي «عليه السلام»، ولا يتقبل الناس نقض البيعة، ولا يرضونها. فكيف إذا كانت بيعة لمثل علي «عليه السلام»؟!

ثالثاً: إن الناس يرفضون أن يقر إنسان بخطيئة ثم يظهر الندم عليها، ثم يدعي لنفسه منصب الإمامة والخلافة، فإن من يرتكب أمثال هذه الأمور، ويعترف على نفسه بالخطأ في الدماء، لا يمكن أن يليق بذلك المنصب الخطير، ولا يصح منه التوثب إليه، ولا سيما إذا كان هذا التوثب مستنداً إلى نقض البيعة..

رابعاً: إن دعوة الناس إلى نكث بيعتهم هو الآخر من الذنوب التي لا يستسيغها الناس، ولا يرون من يفعل ذلك أهلاً لأي مقام مهما كان نوعه، فهل يرونه أهلاً لمقام خلافة النبوة؟!

وبذلك كله يظهر معنى قول ابن خلف: عذركما أشد من ذنبكما.

3 ـ أما ما اعتذر به الزبير، فهو أبشع وأشنع.. فإنه سيقول للناس: إنه بايع علياً «عليه السلام» والسيف على عنقه، مع أنه هو الذي قال للناس: «إن الله قد رضى لكم الشورى، فأذهب بها الهوى، وقد تشاورنا فرضينا علياً فبايعوه»([9]).

4 ـ قول الزبير: إن الناس تواثبوا لبيعة علي «عليه السلام» دون مشورتهم، يشير إلى:

ألف: حماس الناس للبيعة.

ب: عدم اهتمامهم برأي طلحة والزبير، وأن ما يدعيانه من مكانة لهما في الناس لا حقيقة له..

ج: لا شك في أنهما كانا أول من بايع علياً «عليه السلام»، حتى لقد زعم بعضهم: أن الأمر لا يتم، لأن أول يد بايعت علياً «عليه السلام» هي يد طلحة، وهي شلاء، فكيف يكونان قد بايعا والسيف على أعناقهما؟!

أليس المفروض: أن يكون هناك من بايع أولاً، ثم يؤتى بالممتنع ملبباً ليبايع قهراً، إن صح ما يدعيانه من القهر والإلجاء؟!

5 ـ وبذلك كله يتضح: أن علم الناس بمشاركتهما في قتل عثمان وبمبادرتها إلى بيعة علي «عليه السلام» يجعل هذه الأعذار أقبح من الذنب، لأنها تظهر أنهما على درجة كبيرة من الخبث وقلة الدين، وتعريهما أمام الناس.


([1]) بحار الأنوار ج32 ص25 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج11 ص18 وتاريخ الأمم والملوك ج4 ص432 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص454.

([2]) تاريخ الأمم والملوك ج4 ص432 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص454 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج11 ص18.

([3]) بحار الأنوار ج32 ص141 و 142 والكافئة في إبطال توبة الخاطئة للمفيد ص22 و 23.

([4]) بحار الأنوار ج32 ص137 و 142 و 143 و 167 عن الفتوح. وراجع الفتوح لابن أعثم ج2 ص248 و 249 و (ط دار الأضواء) ج2 ص437 وبينهما بعض الإختلاف، فراجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص215 ـ 217 وأنساب الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج2 ص217 و 218 والمحصول للرازي ج4 ص343 و 344 وقاموس الرجال للتستري ج12 ص205 و 206 والغدير ج9 ص83.

([5]) مواهب الجليل ج8 ص85 ومسند أحمد ج4 ص409 وصحيح البخاري ج3 ص48 وج8 ص50 وصحيح مسلم ج6 ص6 وفتح الباري ج4 ص363 وج8 ص49 وج12ص242وج13 ص120وعون المعبود ج8 ص106 والسنن الكبرى للنسائي ج1 ص13 و 65 ومسند أبي يعلى ج13 ص214 والمعجم الأوسط ج1 ص216 والمعجم الكبير ج20 ص42 ومسند الشهاب ج2 ص177 والجامع الصغير ج1 ص386 وكنز العمال ج6 ص47 والجامع لأحكام القرآن ج9 ص216 والأحكام لابن حزم ج6 ص764 والضعفاء للعقيلي ج3 ص190 ولسان الميزان ج4 ص324.

([6]) مكارم أخلاق النبي «صلى الله عليه وآله» وأهل بيته «عليهم السلام» منسوب للقطب الرواندى (مخطوط) في مكتبة المجلس بطهران.

([7]) تاريخ اليعقوبي (ط الحيدرية ـ النجف الأشرف ـ العراق) ج2 ص167.

([8]) الإمامة والسياسة ج1 ص61 و 62 و (تحقيق الزيني) ج1 ص59 و (تحقيق الشيري) ج1 ص81.

([9]) الإمامة والسياسة (تحقيق الزيني) ج1 ص46 و (تحقيق الشيري) ج1 ص65.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان