كتابه
في الولائم للعمال:
وكتب «عليه السلام» إلى عامله على البصرة عثمان بن حنيف
الأنصاري وقد بلغه «عليه السلام» أن بعض المترفين من أهل البصرة دعاه
إلى وليمة، فأجابه ومضى إليها.
أما بعد يا بن حنيف، فقد بلغني أن رجلاً من فتية أهل
البصرة دعاك إلى مأدبة فأسرعت إليها، تستطاب لك الألوان، وتنقل إليك
الجفان، وما ظننت أنك تجيب إلى طعام قومٍ عائلهم مجفو، وغنيهم مدعو.
فانظر إلى ما تقضمه من هذا المقضم، فما اشتبه عليك علمه فالفظه وما
أيقنت بطيب وجوهه فنل منه.
ألا وإن لكل مأموم إماماً يقتدي به، ويستضيء بنور علمه،
ألا وإن إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمها بقرصيه، ألا وإنكم
لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهادٍ، وعفة وسدادٍ، فو الله
ما كنزت من دنياكم تبراً، ولا ادخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددت لبالي
ثوبي طمراً، ولا حزت من أرضها شبراً، ولا أخذت منه إلا كقوت أتانٍ
دبرةٍ، ولهي في عيني أوهى وأهون من عفصة مقرةٍ.
بلى كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت
عليها نفوس قومٍ، وسخت عنها نفوس قومٍ آخرين، ونعم الحكم الله.
وما أصنع بفدكٍ وغير فدكٍ، والنفس مظانها في غدٍ جدث،
تنقطع في ظلمته آثارها وتغيب أخبارها، وحفرة لو زيد في فسحتها، وأوسعت
يدا حافرها لأضغطها الحجر والمدر، وسد فرجها التراب المتراكم، وإنما هي
نفسي أروضها بالتقوى، لتأتي آمنة يوم الخوف الأكبر، وتثبت على جوانب
المزلق.
ولو شئت لاهتديت الطريق إلى مصفى هذا العسل، ولباب هذا
القمح، ونسائج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي، ويقودني جشعي إلى
تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص، ولا عهد
له بالشبع، أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى، وأكباد حرى، أو أكون كما
قال القائل:
وحـسـبـك داء أن
تـبـيت ببطنةٍ وحـولـك أكـبـاد تحـن إلى الـقـد
أأقنع من نفسي بأن يقال [لي] أمير المؤمنين ولا أشاركهم
في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش، فما خلقت ليشغلني
أكل الطيبات، كالبهيمة المربوطة همها علفها، أو المرسلة شغلها
تَقَمُّمُها، تكترش من أعلافها وتلهو عما يراد بها، أو أترك سدى، وأهمل
عابثاً، أو أجر حبل الضلالة، أو أعتسف طريق المتاهة.
وكأني بقائلكم يقول:
«إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن
قتال الأقران، ومنازلة الشجعان».
ألا وإن الشجرة البرية أصلب عوداً، والروائع الخضرة أرق
جلوداً، والنباتات البدوية أقوى وقوداً، وأبطأ خموداً، وأنا من رسول
الله كالصنو من الصنو، والذراع من العضد.
والله لو تظاهرت العرب على قتالي لما وليت عنها، ولو
أمكنت الفرص من رقابها لسارعت إليها، وسأجتهد في أن أطهر الأرض من هذا
الشخص المعكوس، والجسم المركوس حتى تخرج المدرة من بين حب الحصيد.
ومن هذا الكتاب وهو آخره:
إليك عني يا دنيا، فحبلك على غاربك، قد انسللت من
مخالبك، وأفلت من حبائلك، واجتنبت الذهاب في مداحضك، أين القوم الذين
غررتهم بمداعبك، أين الأمم الذين فتنتهم بزخارفك؟! ها هم رهائن القبور،
ومضامين اللحود.
والله لو كنت شخصاً مرئياً، وقالباً حسياً، لأقمت عليك
حدود الله في عباد غررتهم بالأماني، وأمم ألقيتهم في المهاوي، وملوك
أسلمتهم إلى التلف، وأوردتهم موارد البلاء، إذ لا ورد ولا صدر.
هيهات، من وطئ دحضك زلق، ومن ركب لججك غرق، ومن أزور عن
حبالك وفق، والسالم منك لا يبالي إن ضاق به مناخه، والدنيا عنده كيوم
حان انسلاخه.
أعزبي عني، فوالله لا أذل لك فتستذليني، ولا أسلس لك
فتقوديني.
وأيم الله ـ يميناً أستثني فيها بمشيئة الله ـ لأروضن
نفسي رياضة تهش معها إلى القرص إذا قدرت عليه مطعوماً، وتقنع بالملح
مأدوماً، ولأدعن مقلتي كعين ماءٍ نضب معينها، مستفرغةً دموعها.
أتمتلئ السائمة من رعيها فتبرك؟! وتشبع الربيضة من
عشبها فتربض؟! ويأكل علي من زاده فيهجع؟! قرت إذاً عينه، إذا اقتدى بعد
السنين المتطاولة بالبهيمة الهاملة، والسائمة المرعية!
طوبى لنفسٍ أدت إلى ربها فرضها، وعركت بجنبها بؤسها
وهجرت في الليل غمضها، حتى إذا غلب الكرى عليها افترشت أرضها، وتوسدت
كفها، في معشرٍ أسهر عيونهم خوف معادهم، وتجافت عن مضاجعهم جنوبهم،
وهمهمت بذكر ربهم شفاههم، وتقشعت بطول استغفارهم ذنوبهم
﴿أُولَئِكَ
حِزْبُ اللهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾([1]).
فاتق الله يا بن حنيفٍ، ولتكفك أقراصك، ليكون من النار
خلاصك([2]).
ونقول:
نحتاج إلى لفت النظر إلى الأمور التالية:
عائلهم:
محتاجهم.
الطمر:
الثوب الخلق البالي.
الوفر:
المال.
الدبرة:
القرحة تحدث في ظهر الدابة.
العفصة:
صمغ شجرة البلوط.
المقر:
الشيء إذا صار مراً أو حامضاً.
القد:
سير من الجلد غير المدبوغ. أو فقل: هو اللحم المجفف.
جشوبة العيش:
خشونته وصعوبته.
سدى:
أي مهمل.
الإعتساف:
ركوب الطريق من غير مبالاة.
الصنوان:
النخلتان يجمعهما أصل واحد.
الغارب:
الكاهل، وما بين السنام والعنق.
المداحض:
المساقط. والمكان الزلق، الذي لا تثبت فيه الأرجل.
ازورَّ:
مال وتنكب.
السائمة:
الحيوان الذي يأكل ويرعى حيث شاء من النبات، من دون
تدخل من أحد في أمره.
الهاملة:
المسترسلة.
عركُ الجنب بالبؤس والفقر:
الصبر على الفقر.
لقد قرر أمير المؤمنين «عليه
السلام»:
أن لقبول الدعوة إلى الولائم شروطاً، لا بد من رعايتها،
وهي:
1 ـ
أن لا يكون صاحب الطعام ممن يدعو الأغنياء، ويتجاهل الفقراء والمحتاجين
ويجفوهم.
ولعل السبب في ذلك أن هذا النوع من الناس لا يقيم
ولائمه، استجابة لشعور إنساني، نشأ من إحساسه بحاجة الطرف الآخر
للطعام..
كما أنه لا يدعو من يدعوهم إلى وليمته بهدف تكريمهم،
وتقديرهم، لصفات إنسانية، وميزات أخلاقية، وفضائل نفسانية لديهم، بل هو
يدعوهم للتدليل على خصوصية الغنى فيهم، وهي خصوصية قد تكون من موجبات
ذمهم إذا كان مصدر تلك الأموال غير مشروع، أو إذا كان صاحب المال لا
يؤدي حقوق الله منه، أو إذا كانوا يبخلون بأموالهم عن المحتاجين إليها،
وهم واقفون على تلك الحاجة، وغير مبالين بها..
فتقدير أمثال هؤلاء والإستجابة لدعواتهم قد يكون بمثابة
تشجيع لهم على هذا السلوك، وقد يفهمه الناس على أنه رضا به وإمضاء له،
وقبول به. بل هو تعبير عن أن من يستجيب لدعوة أولئك الأغنياء يشاركهم
في نفس النظرة، ونفس الشعور، ونفس السياسة والسلوك، لو حصل على مثل
الأموال التي في حوزتهم.
2 ـ
إنه لا بد من التأكد من مشروعية مصدر المال الذي استفيد فيه في تهيئة
ذلك الطعام، وتحصيل اليقين بشرعيته، وبطيب وجوهه.
3 ـ
إن هذا يعني أن مجرد الشبهة في مصادر الأموال يفترض أن تمنع من النيل
منه.
وطبيعي أن يكون تنزه الولاة والحكام عن الشبهات،
والمشتبهات، يؤدي إلى الإقتداء بهم، وتكريس ذهنية التدقيق والاحتياط في
الأمور المالية، وتصحيح وتصويب مصادرها، والتأكد من طيب وجوهها..
4 ـ
إنه «عليه السلام» أمره بلفظ ما اشتبه عليه علمه.. فدل ذلك على مدى
خطورة النيل منه مع بقاء الشبهة، فإنه «عليه السلام» لم يكتف بنهيه عن
النيل من ذلك المال، بل أمره حتى بلفظ ما يكون منه في فمه، وهو يلوكه،
ويعده للازدراد.
5 ـ
إنه «عليه السلام» لم يجر قاعدة حمل فعل المسلم على الصحة، ولا قاعدة
اليد أمارة على الملكية في مثل هذا المورد.. مما يعني أنه يريد حصر
مدلول أمثال هذه القواعد في حكمنا على تصرفات صاحب المال نفسه فيما
يرتبط بتصرفاته فيه..
أما بالنسبة لتصرفنا نحن بالنسبة لما في يد ذلك الغير،
فإن هذا التوجيه يعطي أن علينا أن نحتاط، ولا نتصرف إلا بناءً على
اليقين بطيب وجوه تلك الأموال.. أو على الأقل: إن ذلك هو الأمثل
والأفضل بالنسبة للولاة الذين يقتدي الناس بهم..
وقد قرر «عليه السلام»:
أن النظام الحياتي الاجتماعي يقوم على مفهوم الإمامة
والقدوة.
ويرتبط ارتباطاً وثيقاً بالمعرفة ومصادرها.
وهذه هي الحالة الطبيعية، والحركة العفوية للمجتمعات..
حتى قيل: الناس على دين ملوكهم، وقيل: كما تكونوا يولى عليكم، وأرقى
وأدق تعبير عن هذا الواقع هو هذا الذي نقرؤه ها هنا عن أمير المؤمنين
«عليه السلام».
غير أن ذلك يعني أن الإمامة القدوة في السلوك، والمؤثرة
في التكوين الفكري. لا بد أن تكون معصومة لأن أي خطأ في السلوك، أو أي
إخلال في التكوين الفكري سوف يدخل الناس في متاهات، ومواجهة أخطار
جسام، وربما يؤدي إلى انهيار البناء الاجتماعي كله..
وهذا يشير إلى أن غير المعصوم، وغير الأعلم لا يمكن أن
يكون إماماً وحاكماً.. لأنه لا يمكن أن يكون قدوة، ولا أن يستضاء بنور
علمه..
وهو يدل على عدم صحة إمامة غيره «عليه السلام»، وغير من
دلت آية التطهير على عصمتهم، ودلت كلمات الرسول «صلى الله عليه وآله»
على أنهم هم علماء الأمة، وأمر الله ورسوله بالتعلم منهم، ونهى عن
التصدي لتعليمهم..
وقد انتقل «عليه السلام» من الحديث عن النظام العام إلى
الحديث عن الواقع القائم، الذي يعنيه مباشرة، فقال: «ألا وإن إمامكم قد
اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمها بقرصيه. ألا وإنكم لا تقدرون على
ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفة وسداد».
وقد تضمنت هذه الفقرات حقائق مهمة، نجمل الإشارة إلى
بعضها فيما يلي:
1 ـ
إنه «عليه السلام» لم يقل: «ألا وإني قد اكتفيت»، بل قال: «ألا وإن
أمامكم» ربما ليشير إلى لزوم الإقتداء به في هذا الأمر، لأنه يفعله من
موقع الإمامة التي تقتض لزوم الاقتداء..
غير أن ذلك لا يعني البحث عن العيش الذليل، واختيار
الطريقة الصعبة فيه مع توفر ما هو أيسر وأسهل، ولا إهمال تحصيل ما يعين
على تذليل مصاعب الحياة. بل المطلوب هو أن لا يجعلوا الدنيا أكبر همهم،
وأن لا يضحوا بآخرتهم في سبيل دنياهم، وأن لا تكون الملذات هي الهدف،
والغاية.. بل يكون الهدف هو رضا الله تعالى، وتحصيل الكمالات، والتحلي
بالفضائل..
2 ـ
إنه «عليه السلام» قد تحدث عن نفسه بصفته إماماً لهم، ولكن بصيغة
الغائب. فلم يقل: ألا وإني إمامكم، وقد اكتفيت. ربما لأنه لم يرد لهم
أن يتوهموا أنه جعل من صفة الإمامة لنفسه ذريعة لتلذذه بهذا التوصيف،
أو سبيلاً للثناء، أو إظهار الاعتزاز بالمقام، وتمييز نفسه عليهم حباً
منه بالدنيا.. ولعل له أغراضاً أخرى لم نهتد إليها كانت مقصودة له
أيضاً..
3 ـ
إنه «عليه السلام» اكتفى بذكر ما يؤثر على الحالة الجسدية بصورة
مباشرة، وهو أمران:
أحدهما:
اللباس، الذي يشعر الجسد بنعومته، وخشونته، ويقيه من الحر والبرد،
ويستر ما ينبغي له ستره منه..
وقد بين لهم:
أنه اكتفى من هذا اللباس بمجرد طمرين باليين، لا يفيدان شيئاً في غير
الستر والوقاية، وبلينهما وخشونتهما شعور الشخص، فليس فيهما ما يعجب
الناظر، ولا ما يصلح للتباهي به.
الثاني:
المطعوم الذي يحتاج الجسد للتقوي به، ويعين على حفظ خيط
الحياة له، فإنه هو الآخر، ليس مما يستطاب، أو يطلب للتلذذ به، لا من
حيث الطعم، ولا من حيث سهولة إساغته، لأنه مجرد قرصين من الشعير، ليس
معهما من الإدام ما يثير الرغبة في الاستزادة منهما.. مع ملاحظة ما هما
عليه من القلة، فإنهما مجرد قرصين، لا أزيد.
1 ـ
وهنا سؤال مهم يطرح نفسه، وهو: أنه إذا كان الإمام قدوة للمأمومين،
وكان ما يفعله الإمام مقدوراً له، ويفترض بالناس أن يتابعوه فيه، فما
معنى قوله «عليه السلام»: إنهم لا يقدرون على ذلك؟!
وكيف يطلب منهم أن يقتدوا بإمامهم؟!
ولماذا كان هذا الأمر مقدوراً له دونهم؟!
ويجاب:
بأن هناك قدرة حقيقية واقعية، من حيث أن العقل لا يرى
مانعاً من اقتداء الناس بإمامهم حتى في هذا الحد من القناعة والزهد..
وهناك قدرة عادية، يلاحظ فيها نظرة الناس إلى الأمر،
وعرضهم له على أحوالهم، وما يرونه من الصعوبة في الالتزام به. بسبب
مستوى مقاومتهم للمغريات، والشهوات. ومقدار ما لديهم من بصيرة في
دينهم، ووضوح في رؤيتهم، وعمق إيمان، وبخوع وتسليم، وغير ذلك من طاقات
وقدرات، ومعرفة وإيمان، والتزام. وما يواجهونه من صوارف ومعوقات،
ومغريات، وطموحات وشهوات.
وهذه هي القدرة التي أرادها «عليه السلام» هنا.
2 ـ
إن هذا البيان يعطي: أن الإسلام يلحظ أمثال هذه الأمور، ويعطي الفرصة
للإنسان لامتلاك القدرة على تجاوزها، ولو بصورة تدريجية، من خلال
امتلاك أسباب القوة، وتنامي المعرفة، وتحسين المستوى الإيماني، وتربية
النفس، وتنمية الملكات، والتحلي بالفضائل والأخلاق والكمالات، وتحصيل
المناعة أمام دواعي الشهوات، والصمود أمام المغريات، بعد أن يكون قد
التزم بالبقاء خلف الخطوط الحمراء فيما يرتبط بالعمل بالواجبات،
والابتعاد عن المحرمات..
وقد طلب «عليه السلام» من الناس أن يعينوه، ولم يطلب
منهم أن يعينوا أنفسهم، ربما ليفهمهم أن تجاوز هذه المراحل في مسيرتهم
نحو الله سبحانه يحتاج إلى جهدٍ من ناحيتين:
إحداهما:
منه هو كحاكم ومسؤول عن تعليمهم، وتربيتهم، وتوفير
المناخات الملائمة لاكتساب المزيد من المناعة، والحصول على المزيد من
الطاقات والملكات، وخصال الخير..
والأخرى:
من الناس الذين يطلب منهم أربعة أمور، هم الذين
يمارسونها باختيارهم، ولا يمكن أن يقوم بها غيرهم، وهي:
الأول:
الورع عن محارم الله.
الثاني:
الإجتهاد والعمل الدائب على تحصيل الكمالات، والتحلي
بالفضائل، ومحاربة هوى النفس، والشهوات.
الثالث:
العفة عن دنيات الأمور، والترفع والشعور بالكرامة، فإن
ذلك يحسم الأمر في مجال واسع يستسهل فيه الناس ممارسة بعض الأمور التي
يرونها غير ذات أهمية، مع أنها قد تشكل مدخلاً إلى ما هو أشر وأضر..
الرابع:
التزام طريق السداد، الذي يعني تحري الصواب في الأمور، والحذر من
التورط في الأخطاء، لنفس السبب الذي ذكرناه آنفاً، من حيث أن الخطأ
الذي يحسبه الإنسان غير ذي أهمية قد ينتهي به إلى التورط فيما هو أكبر
وأخطر..
فترى أنه «عليه السلام» قد ركز على تزويد الناس
بالمناعات، وبصمامات الأمان من جهة، وركز في خط مواز آخر على قوة
الدفع، ومواصلة التحرك باتجاه الهدف. متوخياً في كلا الأمرين أن يكون
ذلك جزءاً من التكوين الذاتي. الذي تواكبه إمامة معصومة، ترفده
بالهدايات والمعارف الصحيحة، وتغنيه بالقيم، وتمده بكل ما يغنيه،
ويزيده كمالاً وجمالاً، وقوةً ورسوخاً، وتوفر له المناخات التي يحتاجها
في مسيرته السليمة والقويمة نحو الله سبحانه وتعالى..
وقد قال «عليه السلام»:
«ولا أخذت منه إلا كقوت أتان دبرة، ولهي في عيني أوهى وأهون من عفصة
مقرة».
فقد تضمنت هذه الفقرة الإشارة إلى أمور عديدة، منها:
1 ـ
أنه ضرب لهم مثلاً بالأتان: وهي أنثى الحمار.
والدَّبَرُ:
هو القرحة تكون في ظهر الدابة، فإذا كانت الأتان دبرة، فذلك يعني أنها
قد حملت أثقالاً صعبة تسببت بجرحها، وبتقرح ظهرها، الأمر الذي يسبب لها
آلاماً مبرحة، حتى إنها لم تعد تلتذ بطعام، وضعفت شهيتها، وقلَّ أكلها.
ولا ندري لماذا خص الكلام بالأتان، ولم يعممه لمطلق
الدابة، هل لأن الأتان بالصبر على الجوع وعلى الشدائد؟! وهل لأن الأتان
إذا قيست بغيرها من أصناف الدواب أضعف بنية من غيرها من الدواب التي
تحمل الأثقال؟! كما أنها أكثر صبراً وتحملاً، حتى يبلغ الأمر بها في
ذلك إلى أن تضعف شهيتها للقوت، وهي مع ذلك لا تأكل إلا ما يحفظ به قوام
وجودها وينتهي الأمر بها إلى الموت؟!
2 ـ
إنه «عليه السلام» إنما عبر بـ «قوت» الأتان، والقوت هو ما تحفظ به
الحياة، ولا تطلب فيه الزيادة.
ولم يقل «علف» الأتان، لأن المطلوب بالعلف سمن الدابة،
وزيادة قوَّتها..
3 ـ
لعله «عليه السلام» اختار الحديث عن هذا النوع من الحيوان، ولم يذكر
الإنسان ربما لأن الحيوان، ولا سيما الأتان الدبرة إذا حصلت لها هذه
الحالة، فإنها لا تسعى للخروج منها، ولا تهتم لابتكار الأدوية لها، ولا
تفكر بمداراة حالها، ولا التحايل على نفسها لتعويض نقص الطعام، ولو بأن
تقسر نفسها على تناوله، ولو من غير رغبة فيه..
4 ـ
وتكتمل الصورة في تأكد الصدود عن القوت حين ينضم إلى هذا وذاك أن يكون
القوت عفصة مقرة، أي مشحونة بالمرارة وشديد الأذى.
ثم إنه «عليه السلام» أشار في هذا المورد بالذات إلى
فدك، فقال: «بلى، كانت في أيدينا فدك من كل ما أظلته السماء، فشحت
عليها نفوس قوم، وسخت عنها نفوس آخرين ونعم الحكم الله.. وما أصنع بفدك
وغير فدك، والنفس مظانها في غد جدث، تنقطع في ظلمته آثارها إلخ..».
ونقول:
تحدثنا في الأجزاء السابقة من هذا الكتاب عن موضوع فدك
بما لعله يكفي عن الدخول في هذا الموضوع مرة أخرى.. غير أننا نظن: أن
تذكير أمير المؤمنين «عليه السلام» بهذا الموضوع يهدف إلى:
ألف:
دفع توهم أن تكون مطالبتهم بفدك تنافي هذا الزهد
بالدنيا، الذي ألمح إليه في كتابه لابن حنيف.. فإن حياته العملية قد
أثبتت أن ما كان لديه من بساتين وأراضٍ زراعية مختلفة، لم يخرجه عن
الحالة التي كان عليها، ووصفها في كلامه السابق، فلم يكن يتملى من
الطعام، ولا كان يتخير الألبسة الفاخرة، ولا كان ممن تستطاب له
الألوان، أو تقدم له الجفان.. لا قبل فدك ولا بعد فدك..
بل هو قد وقف كل تلك العقارات والبساتين على الفقراء
والمحتاجين، وقد أشرنا إلى ذلك أكثر من مرة في كتابنا هذا وغيره. ولعل
رغبته في إبقاء فدك في يده كانت تنبع من حب الاستمرار في استجلاب
الثواب بما ينفقه منها على أهل الحاجة، ثم من الرغبة بالإحتفاظ بآثار
الرسول «صلى الله عليه وآله»، بالرغم من أنه لم يكن ينفق غلتها على
نفسه، ولا على أولاده.
ب:
إنه «عليه السلام» أراد أن يذكر الناس باغتصاب فدك منه،
ليدلهم على أن من سبقوه لم يتعاملوا معه وفق ما يحبه ويريده الله
ورسوله. وليذكرهم أيضاً بمظلوميته، وبصبره، وحيطته على الإسلام ورغبة
فيما عند الله تعالى.
إنه «عليه السلام» قال:
«كانت في أيدينا فدك»، ولم يقل كانت لنا فدك.. مع أنه في مقام تسجيل
الاعتراض على أخذها منهم، ومع أن ملكيتهم «عليهم السلام» لها لا تشوبها
شائبة، لأن فدك كانت مما أفاءه الله على رسوله، ولم يوجف عليها بخيل
ولا ركاب. وله «صلى الله عليه وآله» أن يعطيها لمن شاء. لما نزلت آية:
وآت ذا القربى حقه أمر الله تعالى رسوله بأن يعطيها، وقد أعطاها لابنته
فاطمة «عليها السلام»، وتسلمتها منه في حال حياته، وكان عمالها فيها
عدة سنوات.. وهذا هو الدليل القاطع على ملكيتهم «عليهم السلام» فدكاً،
وليست قاعدة اليد كما توهمه بعضهم.
وقد أراد «عليه السلام» بعبارته «كانت في أيدينا» هذه
أن يثبت أن فاطمة «عليها السلام» لم تدَّعِ ملكية أرض كانت في يد
غيرها، أو ملكية أرضٍ لم تكن عليها يد أخرى، لكي تطالَبَ بالبينة
والدليل.. بل كانت الأرض في يدها تتصرف فيها تصرف المالك لعدة سنوات،
فمن يدعي خلاف ذلك هو الذي يجب أن يأتي بالبينة. فما معنى طلب أبي بكر
البينة منها إذن؟!
وبعبارة أخرى:
قد يقال لبعض الناس: هذا لك، فإن قبضه وأصبح في يده، فقد حسم الأمر،
وإن لم يقبضه، فقد يتوهم متوهم أن الهبة أو الهدية أو العطاء لا يلزم
إلا بعد أن يقبضه الموهوب أو المهدى له، فإذا قال «عليه السلام»: «بلى
كانت في أيدينا»، فإنه يكون قد دلنا على أن هذه النحلة أو الهدية أو
الهبة أو العطاء قد تجاوز دائرة الإنشاء اللفظي ليصل إلى تنجيز العطاء
بالقبض والتصرف، وبذلك يعلم عدم صحة ما توهمه بعضهم، من أن كلمة «في
أيدينا» لا تدل على ملكيتهم فدكاً، لأن اليد أمارة على الملكية وليست
دليلاً قطعياً عليها.
إن قوله «عليه السلام»:
«فشحت عليها نفوس قوم» يشير إلى أن الدافع إلى أخذهم فدكاً من علي
والزهراء «عليهما السلام» لم يكن هو إجراء الحكم الشرعي، أو توهم أن
لهم الحق في أخذها.. بل كان الداعي هو شح نفوسهم عليها رغم أنها ليست
ملكهم، بل هي ملك نفس هؤلاء الذين أخذت منهم.. ثم أكد صحة ذلك بسائر
الفقرات التي يقرر فيها حقيقة زهده «عليه السلام» في مقابل شره
الغاصبين، وشحهم على ما لا يملكونه، ليأخذوه من أصحابه الحقيقيين..
وقد بين لنا «عليه السلام» حقيقة الزهد في بضع عبارات
وردت في هذه الرسالة الرائعة، فقال: «ولو شئت لاهتديت إلى مصفى هذا
العسل، ولباب هذا القمح، ونسائج هذا القز. ولكن هيهات أن يغلبني هواي،
ويقودني جشعي إلى تخير الأطعمة، ولعل بالحجاز أو اليمامة، من لا طمع له
في القرص، ولا عهد له بالشبع إلخ..».
وفي هذه الكلمات إشارات لأمور كثيرة، منها:
1 ـ
أنه «عليه السلام» حين عف عن مصفى العسل، ولباب القمح،
ونسائج القز، وإنما عف عنه، وهو موجود بالفعل وميسور، ومقدور له، ولم
يعف عما عجز عنه، أو عن أمر مفقود، أو عما تمنعه عن النيل منه ملامة
الناس، أو الخجل منهم، أو غلاء قيمته، أو لأنه يجافي ذائقته، أو ما إلى
ذلك..
وقد استفاد من كلمة «هذا» ليدل على هذا الحضور، وعلى
اليسر، والقدرة كما قلنا.
2 ـ
إنه «عليه السلام» يصرح: بأن ما يدعوه إلى الزهد هو الرغبة في نيل رضا
الله سبحانه وتعالى. كما أن حبه مواساة أهل الحاجة هو الذي دعاه إلى
هذا الأمر، وحببه إليه، ورجحه لديه، وهو شعور إنساني، واندفاع إيماني
صحيح وعميق.
3 ـ
إنه «عليه السلام» قد ذكر هذه الأمور الثلاثة: «مصفى العسل، ولباب
القمح، ونسائج القز»، ليجمع بين اللذائذ الأساسية كلها، وهي أفضل وألذ
الطعام والأدام وأفخر وألين اللباس. مؤكداً على أنه لم يزهد بشيء دون
شيء. ليدل بذلك على: أنه ينطلق من ملكة الزهد وحقيقته، غير متأثر بأي
مانع قد يعرض له في مجال دون آخر..
4 ـ
وقد بين لنا «عليه السلام» أيضاً: أن ما يضاد الزهد الواقعي أمران:
أحدهما:
غلبة الهوى.. والهوى رغبة عارضة يحركها تخيل لذة، أو يقظة غريزة، تتلمس
ما يثيرها في المحيط الذي هي فيه، وربما تنشأ هذه الإثارة عن أحلام
اليقظة وأوهامها، أو ما إلى ذلك..
الثاني:
سيطرة الجشع على الإنسان.. والجشع: أشد الحرص وأسوأه. ولعل من أسبابه،
قوة الشره، وضعف الدين([3])،
كما عن علي «عليه السلام».
وعنه «صلوات الله عليه»:
«على الشك وقلة الثقة بالله مبني الحرص والشح»([4]).
وعن النبي «صلى الله عليه وآله»:
اعلم يا علي، أن الجبن، والبخل، والحرص، غريزة واحدة، يجمعها سوء الظن([5]).
دل هذا النص على أن مسؤولية الحاكم تشمل:
ألف:
لزوم رعاية حال الناس كلهم ومن دون استثناء: قريبهم
وبعيدهم، مهما اختلفوا نسباً، وموطناً، وعشيرة، وسكناً، ومقاماً،
ومكانة، من دون فرق بينهم في أديانهم، وطبقاتهم، ودرجاتهم، وسائر
أحوالهم..
ب:
لا بد للحاكم من أن يعرف حال كل فرد في مملكته.
ج:
على الحاكم أن يساوي نفسه بأضعف من هم تحت يده في
الناحية المعيشية على وجه الخصوص.
د:
حتى لو لم يكن وجود بعض الفئات متيقناً، فإن احتمال
وجودها يحتم عليه مراعاة حالها، وتطبيق معيشته على الحال التي يحتمل أن
تكون عليها في الواقع ونفس الأمر.
هـ:
إن الخروج على
هذه الطريقة، وعدَّ من غلبه هواه في جملة من هيمن عليه الهوى، وقاده
الجشع يسقطه عن الصلاحية للمقام الذي هو فيه، بدليل أنه «عليه السلام»
قد بين في مورد آخر:
«أنه
لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء، والمغانم، والأحكام،
وإمامة المسلمين: البخيل، فتكون في أموالهم نهمته، ولا الجاهل، فيضلهم
بجهله، ولا الجافي، فيقطعهم بجفائه، ولا الخائف للدول، فيتخذ قوماً دون
قوم، ولا المرتشي في الحكم، فيذهب بالحقوق، ويقف بها دون المقاطع، ولا
المعطل للسنة فيهلك الأمة..»([6]).
ملاحظة:
المراد بالخائف للدول: من يخشى تقلبات الأحوال.
ثم بين أمير المؤمنين «عليه السلام»
الهدف من خلق الله تعالى لنا بقوله:
«فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات، كالبهيمة المربوطة، همها علفها، أو
المرسلة شغلها تقممها، تكترش من أعلافها، وتلهو عما يراد بها.
أو أترك سدى، أو أهمل عابثاً؟!
أو أجر حبل الضلالة؟!
أو أعتسف طريق المتاهة»؟!
وهذا بيان منه «عليه السلام» لقوله تعالى:
﴿أَفَحَسِبْتُمْ
أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثاً..﴾([7]).
وقد ضمنه إشارات لعدة أمور، منها:
1 ـ
أن ثمة هدفاً جليلاً لا ينبغي أن يشغل الإنسان أي شيء
عنه، حتى أكل الطيبات.
2 ـ
لقد أورد «عليه السلام» مثالين لمن يشغله طعامه عن هدف
خلقته، يستوعبان البشر كلهم:
أحدهما:
يراد به الأغنياء، الذين شبههم بالبهيمة التي وفر
القائمون عليها لها كل ما تحتاج إليه لاكتساب القوة والعافية.
الثاني:
يراد به الفقراء الذين لم يهيئ لهم أحد شيئاً، بل إن
عليهم أن يبحثوا عن لقمة هنا، ولقمة هناك، مما لهى عنه غيرهم، فهم
كالبهيمة السائمة التي لا علف لها، فهي تدور من مكان إلى مكان بحثاً عن
مرعى، أو شيء من العشب لتجد على المزابل بعض الفضلات التي لا يرغب بها
أهل النعمة، فتلقي ما يسنح لها من ذلك في كرشها لكي تملأه به، فإن
التقمم هو تتبع القمامة، وهي الأوساخ وفضلات الخضار والفاكهة، كقشور
البطيخ وغيره تلقى في المزابل، لتتناول منه ما تسد به جوعتها.
3 ـ
إن الدابة المشغولة بالعلف، والتقمم لا تدري ما يؤول إليه حالها، فإما
أن تذبح لسمنها، أو تستخدم، وكذلك الإنسان اللاهي عن الهدف من خلقه
سيواجه المفاجآت، وسيدرك مدى خسارته، ويحاسب على أعماله، وعلى إهماله..
4 ـ
كما أنه «عليه السلام» لم يخلق ليترك سدى، أو يترك ليعبث ويلعب، بل
لينجز عملاً له قيمة حقيقية، وأثر جليل..
5 ـ
إنه تعالى قد وفر له الهدايات والدلالات التامة على تلك الأهداف
العالية والجليلة. وهيأ له سبل الوصول إليها، وما يحفظه من الوقوع في
المتاهات عنها..
وقد
أشار «عليه السلام»:
إلى أن البعض قد يتوهم أن ما يتناوله «عليه السلام» من القوت نزر
ويسير، لا يعطيه القوة على منازلة الأقران، إلا إن كان «عليه السلام»
يورد هذا الكلام على سبيل الافتراض، أو التمني. أو أنه قد استعمل أسلوب
التورية، ليوهم الناس إرادة معنى، والحال أنه يريد غيره..
ثم أجاب عن ذلك:
أولاً:
إنه «عليه السلام» قد بين أن القوة والضعف ليسا بسبب
جودة الغذاء ورداءته، أو فقل: إن اللباس الفاخر، والطعام اللذيذ ليس هو
مصدر القوة، ليكون فقدانه مصدراً للضعف، وحيث إن توضيح ذلك لهم بصورة
علمية متعذر، فقد عدل «عليه السلام» إلى تقديم النموذج العلمي الحي،
الذي يشاهدونه، ويتلمسون فيه صحة قوله «عليه السلام».
فإن الشجرة البرية لا تجد من الماء ما يكفيها، ولا من
الأسمدة ما يغذيها، ثم تكون أصلب عوداً. كما أن النباتات البدوية، وهي
التي لا يسقيها إلا ماء المطر أبطأ خموداً، مما يعني أن النار تحتاج
إلى وقت أطول لتستهلك أجزاءها.
ونجد في مقابل ذلك:
أن الروائع الخضرة ـ وهي الأشجار التي تروع بخضرتها
ونضارتها بسبب إمدادها المتواصل بالماء وغيره من المنشطات ـ تكون ذات
قشر رقيق لين، ولكنه ضعيف عن مقاومة ما هو صلب وحاد، ولا يتحمل الكثير
من الضغط والتحدي.
والنتيجة هي:
أنه «عليه السلام» سيكون الأقوى، وسيكون خصومه المهزومون والعاكفون على
ملذات الدنيا، على درجة من الضعف.
فلا مبرر إذن، لتوهم أن نتائج الحرب ستكون على خلاف ما
يقرره «عليه السلام» لهم..
ثانياً:
إنه «عليه السلام» يستدل على قوته وشدة بأسه: بأنه من
رسول الله «صلى الله عليه وآله» كالصنو من الصنو، والذراع من العضد..
وفي نص آخر:
«كالضوء من الضوء».
ويظهر المقصود بملاحظة ما يلي:
1 ـ
إنه «عليه السلام» قد ذكر مثالاً آخر يؤكد على أن الميزان ليس طيب
الطعام، ولين اللباس، وما إلى ذلك، وقد أظهر هذا المثال: أن منازلة
الشجعان لها محفزات ومقومات أخرى تجعل الإنسان قادراً على أن يهاجم
البطل أو الأبطال مهما علا شأنهم ومهما كثروا كما فعل القاسم بن الحسن
في كربلاء، فإنه برز إلى القتال وعمره ثلاث عشرة سنة، وقتل خمسة
وثلاثين رجلاً([8]).
بل تجعل الشيخ الذي أدرك النبي «صلى الله عليه وآله»
يهاجم جيش يزيد في كربلاء ويقتل اثنين وستين رجلاً من أبطاله وشجعانه..
كما هو الحال بالنسبة لحبيب بن مظاهر في كربلاء([9]).
بل إن الأشتر حين عارك ابن الزبير في حرب الجمل، وأراد
أن يقتله، كان في يومه ذاك صائماً، وقد طوى من قبل يومين، فأدركه
الضعف، فأفلت ابن الزبير من يده، وهو يظن أنه غير ناج منه([10]).
وهذا وأشباهه يدل على أن المعرفة بالله، ونيل الكمالات
النفسانية، وإشراقة نور الهدى الإلهي على قلب الإنسان وكل وجوده،
والإستفادة من علم النبوة، والتأسي والإقتداء به «صلى الله عليه وآله»،
وتصفية النفس وتزكيتها، والزهد بالدنيا، إن ذلك كله من شأنه أن يجعل
الإنسان يستهين بالصعاب، ولا يقيم وزناً للأبطال، ولا يكترث بهم في
ساحات النزال.
2 ـ
إنه حين يكون الدافع دينياً وأمراً إلهياً، وتكليفاً شرعياً، فإن
القدرات الكامنة تظهر نفسها، وتسترفد التوفيق والرضا الإلهي، ليكون هو
الآخر المدد الذي لا ينتهي، والمعين الذي لا ينضب.
فإذا كان الهدف هو نصرة الدين، وكان رسول الله «صلى
الله عليه وآله» هو الأصل والمصدر للقوة والعضد، فإن علياً «عليه
السلام» هو وسيلة ذلك العضد، وذراعه الذي يتصرف ويبطش، ويدمر الكفر
وأهله، ويحفظ الدين وأهله..
فلا معنى للحديث بعد هذا عن زخارف الدنيا وملذاتها،
وتخير الأطعمة والألبسة اللينة منها، بل المطلوب هو طرح ذلك جانباً،
والاشتغال بما هو أهم، ونفعه أعم.
توضيح:
العضد:
هو من المرفق إلى الكتف([11]).
والمرفق:
هو موصل الذراع بالعضد([12]).
والذراع:
من طرف المرفق إلى طرف الإصبع الوسطى([13]).
1 ـ
ثم أضاف «عليه السلام» ما تكتمل به عناصر تقرير هذه
الحقيقة، ومقومات إثباتها، وهو القسم الذي أكد على أن العرب لو اجتمعت
على قتاله لما ولى عنها، وبذلك يكون قد جعل مصيره عند الله مرهوناً
بصواب وصدق ما قرره «عليه السلام»، وذلك بعد أن استدل عليه بالسنة
الإلهية التكوينية أولاً، بانياً ذلك على واقع ملموس، وأمثلة عملية
حية. ومقتنعاً بأن القوة والشجاعة لا تستند إلى عامل واحد، بل لها
مؤثرات مختلفة. وهو هنا يضيف ضمانة وجدانية نابعة من الإيمان،
والإعتقاد..
2 ـ
إنه «عليه السلام» في نفس الوقت الذي يواجه فيه احتمال عدم كفاية قوته
لمواجهة الأقران، ومنازلة الشجعان يعلن أنه على أتم الاستعداد لمواجهة
العرب بأجمعها إذا اجتمعت على قتاله، ولا يولي عنها..
وهذا شاهد رابع على بطلان دعوى ضعف من يكتفي من دنياه
بطمريه، ومن عيشه بقرصيه عن خوض الحروب، ومواجهة الأقران.
وقوام هذا الشاهد هو وضع قدراته «عليه السلام» أمام
التجربة، وقبول الإمتحان العملي لها، ليس فقط في مستوى مواجهة بطل
لنظيره، وإنما في مستوى وضع رجل في مقابل أمة من الناس..
ويمكن خوض هذه التجربة في أي مستوى يراد اختياره
واختباره..
ولكن هذا الاختبار إنما هو مع توفر
شرائط المواجهة، وأهمها:
أن تكون هذه المواجهة تحقق رضا الله تعالى، بما تتضمنه من نصرة للدين،
وكسر شوكة الطغاة والجبارين.
3 ـ
إنه «عليه السلام» قد قرر: أن ما يذكره عن مواجهة العرب بأجمعهم ليس
مجرد ادعاء، بل ستكون هذه هي سياسته الفعلية، التي سينتهجها في حربه
لأعداء الدين، وسيكون هو المتعرض لهم، وللوثبة عليهم، وكسر شوكتهم، ولن
ينتظر هجومهم عليه، وزحفهم إليه..
وبعد أن أكد «عليه السلام» على مدى ثقته بقدرته،
استناداً إلى تلك الأمور التي ألمحنا إليها آنفاً، أراد أن يستفيد من
ذلك لمحاصرة أوهام وطموحات الرجل الذي يرى أنه الأخطر على دين الله،
وعلى مستقبل عباده، وبلاده، وهو معاوية بن أبي سفيان، المتربص في
الشام، ويوجه له تهديداً قوياً، فإنه يتحكم بذلك البلد الذي لم يعرف
علياً «عليه السلام»، ولا عاش قيم الإسلام بمعناها الصحيح، بل عاش
إسلام معاوية، وبني أمية، ومن هم على شاكلتهم ممن يتخذ من الدين ذريعة
للحصول على الدنيا، ويعيشون مفاهيم الجاهلية متلفعين بعباءة الإسلام..
إن هذا النوع من الناس خطرون على الدين وأهله، لأن
دعوتهم تروق لطلاب اللبانات، ويرغب باللحاق بهم أهل الدنيا.. ومعاوية
يعيش في بلد رباه على أفكاره ومفاهيمه، وصنعه وفق أهوائه، ولخدمة
طموحاته.
وهو شخص معكوس، وجسم مركوس، لأنه اهتم بملذاته الجسدية،
ولم يهتم بالكمالات الروحية، فانعكس عن الكمالات ليتجه إلى الجهات
السافلة، وارتكس في الرذائل، وهوى في بؤر الشهوات، وأوغل في متاهات
الضلال.
وحسبنا ما ذكرناه حول هذا الكتاب المرسل لعثمان بن
حنيف، ونسأل الله أن يوفقنا لمعاودة الحديث عنه، بنحو أدق وأشمل، وأوفى
وأفضل.
([1])
الآية 22 من سورة المجادلة.
([2])
نهج البلاغة (بشرح عبده) ج3 ص70 ـ 75 المختار من كتبه، الكتاب
رقم45 وربيع الأبرار، الباب44 وبحار الأنوار ج33 ص473 ـ 476
وج40 ص340 ـ 342 وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج7 ص165 وج8
ص425 ـ 427 ونهج السعادة ج4 ص32 ـ 41 وينابيع المودة ج1 ص439 ـ
442 وجواهر المطالب لابن الدمشقي ص50 وراجع ص104 و (ط مجمع
إحياء الثقافة الإسلامية ـ قم ـ إيران) ج1 ص312 ـ 314 وراجع:
زين الفتى، أواسط الفصل الخامس تحت عنوان: وأما علم المكاتبة،
وراجع: والخرائج والجرائح ص542.
([3])
غرر الحكم، الحكمة رقم 5772 وعيون الحكم والمواعظ ص297 و 328.
([4])
غرر
الحكم، الحكمة رقم 6195 وعيون الحكم والمواعظ ص328.
([5])
علل الشرايع ج1 ص559 و (ط المكتبة الحيدرية) ج2 ص558 والخصال
ص102 ومن لا يحضره الفقيه ج4 ص409 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل
البيت) ج12 ص47 و (ط دار الإسلامية) ج8 ص429 وبحار الأنوار ج67
ص386 وج70 ص162 و 304 وج72 ص99 وجامع أحاديث الشيعة ج13 ص598
وج16 ص85 وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج2 ص20 و 351 وج6
ص361 وج8 ص97 وج10 ص264.
([6])
نهج البلاغة (بشرح عبده) ج2 ص14 ودعائم الإسلام ج2 ص531 وكتاب
الأربعين للشيرازي ص195 وبحار الأنوار ج25 ص167 وج34 ص111
وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص15 وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي
ج4 ص218.
([7])
الآية 115 من سورة المؤمنون.
([8])
وسيلة الدارين في أنصار الحسين ص252 و 253 وبحار الأنوار ج45
ص35 و 36 ولواعج الأشجان للسيد محسن الأمين ص174 و 175.
([9])
وسيلة الدارين ص118 ـ 124 ومناقب آل أبي طالب (ط المكتبة
الحيدرية) ج3 ص252 وبحار الأنوار ج45 ص26 و 27 والعوالم،
الإمام الحسين «عليه السلام» ص270.
([10])
كتاب الجمل للشيخ المفيد ص362 والفتوح لابن أعثم ج2 ص332 و 333
و (ط دار الأضواء) ج2 ص482 وتاريخ الأمم والملوك ج4 ص530
وشجرة طوبى ج2 ص320 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص262.
([11])
كتاب العين للفراهيدي ج1 ص268 والصحاح للجوهري ج2 ص509
والنهاية في غريب الحديث ج3 ص252 والقاموس المحيط ج1 ص314.
([12])
القاموس المحيط ج3 ص236 ومجمع البحرين ج2 ص205 وتاج العروس ج13
ص167.
([13])
غريب الحديث للحربي ج1 ص277 ولسان العرب ج8 ص93 والقاموس
المحيط ج3 ص22 وتاج العروس ج11 ص123.
|