3. عليٌ
يُؤمر معاوية على الشام!!:
قال البلاذري:
إنَّ علياً «عليه السلام» كتب إلى معاوية: «إن كان
عثمان ابن عمك، فأنا ابن عمك، وإن كان وصلك، فإني أصلُك، وقد امرتُك
على ما أنت عليه، فاعمل فيه بالذي لحق عيلك»([1]).
ولعل الصحيح:
يحق عليك: أي يجب عليك. أو أن المعنى: اعمل بالذي يجوز لك.
وقال ابن قتيبة:
إنَّ علياً «عليه السلام» كتب إلى معاوية:
«أما بعد، فقد وليتُك ما قبلك من الأمر والمال، فبايع
من قبلك، ثُم أقدم إليَّ في ألف رجلٍ من أهل الشام..».
فلما أتى معاوية كتابُ عليٍ دعا بطومار، فكتب فيه:
«من معاوية إلى علي.
أما بعد، فإنَّهُ:
ليـس بـيـني وبـين قـيـس عـتاب غير طعن الكلي وضرب
الرَّقاب»([2])
ونقول:
لا شك في أنَّ هذا مكذوبٌ على عليٍ «عليه السلام»
جُملةً وتفصيلاً.. ويظهرُ ذلك من خلال ملاحظة مجموع ما نذكره فيما يلي:
1 ـ
ما الحاجة في أن يُقدم ألفُ رجُلٍ مع معاوية إلى عليٍ «عليه السلام» في
المدينة؟! وما هي الأعمال التي رصدها لهم؟! وكم هي الأموال التي
يحتاجها لضيافتهم؟!
2 ـ
إنَّ هذا لا ينسجم مع رفضه «عليه السلام» ما عرضه عليه المغيرةُ وابنُ
عباس من إبقاء معاوية على الشام، فإنَّهُ قال لهما:
﴿وَمَا كُنْتُ مُتَّخِذَ
الْمُضِلِّينَ عَضُداً﴾([3])»([4]).
وقد تكلمنا عن هذا الموضوع في أواخر الجزء العشرين من هذا الكتاب
فراجع.
وكتب «عليه السلام» إلى جرير بن عبد
الله البجلي:
«وإن المغيرة بن شعبة قد كان أشار عليَّ أن أستعمل
معاوية على الشام، وأنا حينئذٍ بالمدينة، فأبيتُ ذلك عليه، ولم يكن
الله ليراني أتخذ المضلين عضداً»([5]).
3 ـ ذكر ابن قتيبة:
أنَّ علياً «عليه السلام» قال لابن عباس في طلحة والزبير: «ولو كنتُ
مُستعملاً رجلاً لضره ونفعه لاستعملتُ معاوية على الشام»([6]).
4 ـ
ولا يخفى:
أنَّ معاوية لم يكن من أهل الاستقامة، وكان عليٌ «عليه السلام» يعرفه
حق المعرفة، وقد دلت تصرفاته على ذلك، حيثُ قتل حجر بن عدي ومن معه([7])،
وشن حرباً على إمام زمانه، ذهب ضحيتها سبعون ألفاً([8])،
ودس السم للأشتر، وقتل محمد بن أبي بكر، وغير ذلك.
وكان عليٌ «عليه السلام» يعتبرُ نفسه شريكاً لعامله
فيما يصدر منه، فقد كتب لعبد الله بن عباس يلومـه
على تنمـره
لبني تميـم:
«فأربـع
أبا العبـاس
ـ رحمك الله ـ فيما جرى على لسانك ويدك، من خيرٍ وشرٍ، فإنا شريكان في
ذلك»([9]).
5 ـ
وقد كتب «عليه السلام» لمعاوية: «وأما طلبك إلى الشام، فإني لم أكن
لأعطيك ما منعتك أمس»([10]).
6 ـ
لم يتضح لنا ما هو الداعي للتصريح بتوليته «عليه السلام» معاويةَ الأمر
والمال. مع أنَّ العادة لم تجر بالتصريح فيهما معاً.
إلا إن كان المُراد إطلاق يد معاوية في التصرف في أموال
المسلمين وفقاً للتخويل الذي منحه إياه عمر بن الخطاب من قبل، وجرى
عليه معاوية في عهد عثمان أيضاً.
على أنَّ نفس تولية عامل على بلدٍ إنما تعني إيكان
إدارة الأمور، وجباية الأموال إليه، فلا حاجة إلى التصريح بتولي هذا
وذاك، فإنَّهما ليسا أمرين منفصلين، يتولى أحدهما شخصٌ، ويتولى الآخر
شخصٌ آخر، ليحتاج إلى هذا التنصيص، ولم نجد هذا التنصيص في أية رسالة
من علي «عليه السلام» إلى أيّ من عماله الآخرين.
7 ـ
إنَّ هذه الرسالة أو تلك تعني: أنَّ معاوية قد حصل على ما كان يتمناه
من عليٍ «عليه السلام»، فلماذا يُجيبُ علياً بهذا التهديد والوعيد؟!
ألا يخشى من إعلان عليٍ «عليه السلام» كتابه هذا، ويَعرف الناس طغيانه
وبغيه؟!
وبعد ما تقدم نقول:
ظهر من ذلك كله:
أن النص المذكور لا أساس له من الصحة، وسنذكر فيما يلي نصاً آخر قد
خُلط فيه الغث بالسمين، والصحيح بالسقيم، وسنذكر هذا النص أولاً بطوله،
ثم نذكر مآخذنا عليه، وذلك على النحو التالي:
5.
علي
يدعو معاوية للبيعة:
قال البلاذري:
قال أبو مخنف وغيره:
وجه علي «عليه السلام» المسور بن مخرمة الزهري إلى معاوية لأخذ البيعة
عليه، وكتب إليه معه:
إن الناس قد قتلوا عثمان عن غير مشورة مني، وبايعوا لي
[عن مشورة واجتماع]، فبايع رحمك الله موفقاً. وفِدْ إلي في أشراف أهل
الشام.
ولم يذكر له ولاية.
فلما ورد الكتاب عليه، أبى البيعة لعلي واستعصى، ووجه
رجلاً معه صحيفة بيضاء، لا كتاب فيها ولا عليها خاتم ـ ويقال كانت
مختومة ـ وعنونها: من معاوية بن أبي سفيان إلى علي بن أبي طالب.
فلما رآها علي قال:
ويلك ما وراؤك؟!
قال:
أخاف أن تقتلني.
قال:
ولم أقتلك، وأنت رسول.
فقال:
إني أتيت من قبل قوم يزعمون أنك قتلت عثمان، وليسوا
براضين دون أن يقتلوك به.
فقال علي:
يا أهل المدينة، والله لتقاتلن، أو ليأتينكم من
يقاتلكم.
فبايع علياً أهل الأمصار، إلا ما كان من معاوية وأهل
الشام، وخواص من الناس([11]).
ونقول:
ويقول ابن حبان وغيره:
«ثم كتب علي إلى معاوية:
بسم الله الرحمن الرحيم
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي
سفيان، سلام عليك، فإنى أحمد إليك الله الذي لا إله إلا هو..
أما بعد..
فإنه قد بلغك ما كان من مصاب عثمان، وما اجتمع الناس عليه من بيعتي،
فادخل في السلام كما دخل الناس، وإلا فأذن بحرب كما يؤذن أهل الفرقة،
والسلام..
وبعث كتابه مع سبرة الجهني، والربيع بن سبرة، فلما قدم
سبرة بكتاب على ودفعه إلى معاوية جعل يتردد في الجواب مدة، فلما طال
ذلك عليه دعا معاوية رجلاً من عبس يدعى قبيصة، فدفع إليه الخ..»([12]).
حتى إذا كان الشهر الثالث من مقتل عثمان في صفر دعي
معاوية رجلاً من بني عبس يدعي قبيصة، فدفع إليه طوماراً مختوماً
عنوانه: من معاوية إلى علي، وقال له: إذا دخلت المدينة فاقبض على أسفل
الطومار، ثم أوصاه بما يقول، وأعاد رسول علي معه، فخرجا، فقدما المدينة
في ربيع الأول بغرته، فدخلها العبسي كما أمره قد رفع الطومار، فتبعه
الناس ينظرون إليه: وعلموا: أن معاوية معترض، ودخل الرسول على علي فدفع
إليه الطومار، ففض ختمه، فلم يجد فيه كتاباً، فقال للرسول: ما وراءك؟!
قال:
آمن أنا؟!
قال:
نعم.. إن الرسول لا يقتل.
قال:
ورائي أني تركت قوماً لا يرضون إلا بالقود.
قال:
ممن؟!
قال:
من خيط رقبتك، وتركت ستين ألف شيخ تبكي تحت قميص عثمان
وهو منصوب لهم قد ألبسوه منبر دمشق.
قال:
أمني يطلبون دم عثمان؟! ألست موتوراً كترة عثمان؟!
اللهم إني أبرأ إليك من دم عثمان.. نجا والله قتلة عثمان إلا أن يشاء
الله، فإنه إذا أراد أمراً أصابه. أخرج.
قال:
وإني آمن؟!
قال:
وأنت آمن.
فخرج العبسي وصاحت السبئية، وقالت:
هذا الكلب رسول الكلاب اقتلوه!
فنادى يا آل مضر، يا آل قيس، الخيل والنبل، أقسم بالله
ليردنها عليكم أربعة آلاف خصي، فانظروا كم الفحول والركاب!
وتعاونوا عليه، فمنعته مضر، فجعلوا
يقولون له:
اسكت.
فيقول:
لا والله، لا يفلح هؤلاء أبداً. أتاهم ما يوعدون، لقد
حل بهم ما يجدون، انتهت والله أعمالهم، وذهبت ريحهم، فوالله ما أمسوا
حتى عرف الذل فيهم.
وأحب أهل المدينة أن يعلموا رأي علي في معاوية وقتاله
أهل القبلة أيجسر عليه أم ينكل عنه؟! وقد بلغهم: أن ابنه الحسن دعاه
إلى القعود، وترك الناس. فدسوا إليه زياد بن حنظلة التميمي ـ وكان
منقطعاً إلى علي ـ فدخل عليه فجلس إليه ساعة، فقال له علي: يا زياد
تيسر.
فقال:
لأي شيء؟!
فقال:
لغزو الشام.
فقال زياد:
الأناة والرفق أمثل، وقال:
ومـن لـم
يصـانع فـي أمـور كـثيرة يـضـرس بـأنـيـاب ويوطأ بمنسم
فتمثل علي وكأنه لا يريده:
متي تجمع
القلب الزكـي وصارمـاً وأنـفـاً حـمـيـاً تجـتـنـبـك
المظـالم
فخرج زياد والناس ينتظرونه، وقالوا:
ما وراءك؟!
فقال:
السيف يا قوم، فعرفوا ما هو فاعل. واستأذنه طلحة
والزبير في العمرة، فأذن لهما، فلحقا بمكة.
ودعا علي محمد بن الحنفية، فدفع إليه اللواء، وولى عبد
الله بن عباس ميمنته، وعمرو بن أبي سلمة أو عمرو بن سفيان بن عبد الأسد
ولاه ميسرته، ودعا أبا ليلي بن عمر بن الجراح، ابن أخي أبي عبيدة بن
الجراح، فجعله علي مقدمته، واستخلف على المدينة قثم بن العباس، ولم يول
ممن خرج على عثمان أحداً، وكتب إلى قيس بن سعد، وإلى عثمان بن حنيف،
وإلي أبي موسى: أن يندبوا الناس إلى أهل الشام. ودعا أهل المدينة إلى
قتالهم، وقال لهم: إن في سلطان الله عصمة أمركم، فأعطوه طاعتكم غير
ملوية ولا مستكره بها.
والله لتفعلن أو لينقلن الله عنكم سلطان الإسلام، ثم لا
ينقله إليكم أبداً حتى يأزر الأمر إليها.
انهضوا إلى هؤلاء القوم الذين يريدون تفريق جماعتكم،
لعل الله يصلح بكم ما أفسد أهل الآفاق وتقضون الذي عليكم. (خرنبا بفتح
الخاء المعجمة، وسكون الراء، وفتح النون والباء الموحدة وآخره ألف).
فبينما هم كذلك على التجهز لأهل الشام، أتاهم الخبر عن
طلحة والزبير وعائشة وأهل مكة بنحو آخر، وأنهم على الخلاف.
فأعلم علي الناس ذلك، وأن عائشة وطلحة والزبير قد سخطوا
على إمارته، ودعوا الناس إلى الإصلاح، وقال لهم: سأصبر ما لم أخف على
جماعتكم، وأكف إن كفوا، وأقتصر على ما بلغني([13]).
تستوقفنا في هذا النص أمور عديدة، نذكر منها ما يلي:
إنه «عليه السلام» ينسب قتل عثمان إلى الناس. ولم ينسبه
لرجل بعينه، مما يعني أن المطالبة بقاتله تصبح غير ذات جدوى، وغير
عملية. بل ظاهر كلامه «عليه السلام» أن عامة الناس قد شاركوا في قتل
عثمان، ثم إن عامتهم قد اجتمعوا على بيعته..
ذكر «عليه السلام»:
أنه لم يشارك في قتل عثمان، لا بالفعل، ولا بالرأي، فلا معنى لاتهامه
بشيء من ذلك..
ويلاحظ هنا:
أنه «عليه السلام» قال: «عن غير مشورة مني»، ليدل على أن الذي يستوجب
المطالبة بدم المقتول هو إما المشاركة العملية، أو المشاركة بالرأي،
وإعطاء الموافقة..
ولم يقل على غير رضا مني، فإن الرضا وعدمه مما لا يسأل
عنه ولا يطالب به أحد من الناحية العملية، لأن مناشئ السخط، والمحبة
والكراهة غير خاضعة للسلطان، بل قد يفرح الإنسان بقتل من يخالفه في
الدين، لأنه يراه خطراً على دينه، أو بقتل ظالم له أو لغيره، أو بقتل
المنافس له على مقام، أو من يحسده على نعمة.
ولكن ذلك كله لا يعني أن هذا الراضي صار شريكاً في دم
ذلك المقتول، لكي تصح مطالبته به، علماً بأنه قد يكون ممدوحاً ومثاباً
على رضاه بقتل ذلك الشخص، إذا كان ذلك المقتول ظالماً أو قاتلاً لنبي
أو وصي مثلاً.. مع العلم بأنه ليس لأحد غير الله حق الاقتصاص من أحد،
أو تنفيذ وإنزال العقوبة به لمجرد رضاه بفعل غيره.
كما أنه قد يذم على رضاه هذا لو كان ذلك المقتول عبداً
صالحاً، أو مظلوماً، فالحساب على النوايا هو لله وحده، وقد ذم الله
قوماً رضوا بما فعل أسلافهم، وصوبوهم فيما صدر عنهم([14]).
ولكن ذمه ليس على قبح فعله ـ فإنه لم يفعل شيئاً بحسب الظاهر ـ بل على
سوء سريرته، وخبث باطنه، وتركه واجب التخلص منه. وأما من يشرب من قدح
يظن أن فيه الخمر فظهر أن ما شربه كان ماءً.. أو أراد أن يقتل مؤمناً
فقتل كافراً ظالماً مستحقاً للقتل.
فهو إن كان يعبر عنه بالقبح الفاعلي، أي قبح نية
الفاعل، وليس فيه قبح فعلي، لأن نفس الفعل ليس قبيحاً. ولكنا لا نسلم
بأن القبح الفاعلي لا يستتبع عقوبة، فقد أنزل الله تعالى عذابه على
ثمود، ولأنهم قتلوا ناقة صالح، مع أن قاتلها فرد أو أفراد، ولكن رضا
الباقين بذلك جعلهم يستحقون نزول العذاب عليهم، وقد نزل بالفعل.
ومن جهة أخرى فإن من يقتل رجلاً لأنه مؤمن فظهر أنه
طاغوت كافر يستحق الطرد والذم، والتضييق عليه، ولا يكون له عند الحاكم
العادل نفس المقام الذي يعطيه لسائر المؤمنين، الذين لم يقدموا على ما
أقدم عليه.
ويكون نفس سقوط محله عنده عقوبة له، فضلاً عما سوى ذلك.
وهذا يجري في الدنيا وفي الآخرة، فإن بعده عن ساحة رحمة الله سبحانه
يكون من أهم العقوبات له، لأن العقوبة حينئذ تكون على أمرين:
أحدهما:
على نفس القتل.
والآخر:
على تجرِّيه وسوء سريرته، وتركه واجب التزكية لنفسه، حيث يحب. وعلى عقد
قلبه على حب الشر وبغض الخير، وهذا من الأفعال الجوارحية، التي يعاقب
الله عليها، ويوجب استبدالها بضدها. كما يوجب عليه أن يتخلص من مساوئ
الأخلاق، ومن الصفات الذميمة، كالحسد، والرياء وما إلى ذلك.
ثم إنه «عليه السلام» ذكر لمعاوية أن الناس قد بايعوه،
وذكر له أمرين لا يدعان لمعاوية فرصة للتعلل والمراوغة، إلا على سبيل
البغي الظاهر، والعصيان لله تعالى.
وهذان الأمران هما:
الأول:
إن بيعة الناس له «عليه السلام» كانت عن تأمل وتدبر، من
خيار الأمة، وكبارها، ولم تكن بصورة انفعالية ولا عشوائية، كما أنها لم
تكن فلتة استغفل بها بعض الناس أهل البصيرة والرأي، حتى فاز بها من
فاز.
الثاني:
إن البيعة له «عليه السلام» كانت عن اتفاق كامل،
واجتماع شامل، فلم تكن كالبيعة التي جرت في السقيفة ابتزها أشخاص لا
يصل عددهم إلى عدد أصابع اليد الواحدة، وقيل: عقدها اثنان، بل قيل:
انعقدت ببيعة رجل واحد.
كما أنها لم تنعقد بوصية سابق للاحق، كما في وصية أبي
بكر لعمر.
كما لم تنعقد بشورى يفرض فيها رأي رجل واحد كالشورى
العمرية، حيث أنيط القرار بعبد الرحمان بن عوف، فمنح الخلافة لعثمان..
فإذا كانت خلافته «عليه السلام» انعقدت بهذا النحو
الصحيح والصريح، حسب منطق جميع الفئات، فالمفروض هو أن ينصاع إليها كل
مسلم..
بل ينبغي أن تعد البيعة لعلي «عليه السلام» في هذه
الحال من التوفيقات الإلهية، ومن السعادة والإقبال.. ولذلك قال له
«عليه السلام»، وهو يسوق الكلام وكأنه نتيجة طبيعية «فبايع ـ رحمك الله
ـ موفقاً»..
وكان من الطبيعي:
أن يطلب «عليه السلام» قدوم أشراف أهل الشام عليه فإن كبار القوم
وأعيانهم إذا وفدوا إليه، وتعرفوا عليه، وعاشوا معه برهة طالت أو قصرت،
وإذا رأوا سمته وهديه، وعرفوا صدقه، وعاينوا زهده، وورعه وعبادته،
وسمعوا كلامه وتوجيهاته، فسيصبح من الصعب تسويق الشائعات الباطلة التي
يطلقها أعداؤه ضده، وسيبطل ذلك الكثير من الكيد الذي يستهدف تشويه
صورته، وإظهاره على حقيقته.
ولن يجد معاوية بعد من يصدق الكثير مما يفتريه عليه، من
قبيل أن علياً «عليه السلام» هو قاتل عثمان، أو أنه لا يصلى، أو نحو
ذلك..
وبذلك يفقد معاوية أمضى أسلحته، ويجعلها كليلة وحطيمة،
وبذلك يتمكن الإمام «عليه السلام» من أن يصون الأمة من الوقوع في
أحابيله، ومن تصديق أباطيله وأضاليله..
وعلى كل حال،
فإن هذا الإجراء كان ضرورياً، لأن معاوية إن استجاب
للدعوة وقدم عليه بأهل الشام كان ذلك لمصلحة علي «عليه السلام»، كما
بيناه. وإن لم يستجب لهذا الطلب، ورفض القدوم، ومنع أهل الشام من ذلك،
فإنه يكون قد فضح نفسه، وأعلن بنواياه الفاسدة، وطموحاته الباطلة، لأن
الكل يعلم: أن طلب علي «عليه السلام» قدومه عليه تصرف طبيعي، ومألوف
ومتوقع، ولم يظهر منه «عليه السلام» بعد ما يبرر أي تصرف سلبي مهما كان
نوعه.
وذكرت الرواية المنقولة عن ابن حبان، والطبري، التي تصف
فعل رسول معاوية، ما يلي:
1 ـ
أن معاوية أمر رسوله أن يقبض على أسفل الطومار، لكي
يقرأ الناس عنوانه، ويعرفوا: أنه مرسل من معاوية إلى أمير المؤمنين
«عليه السلام»، ليدفعهم فضولهم إلى محاولة معرفة محتواه، حتى إذا وجدوا
أنه لم يكتب فيه شيئاً سيقعون في الحيرة، وتثور البلابل في الصدور،
ويصير ذلك حديثهم في سرهم وجهرهم.
2 ـ
وقد بدأ بالكتاب بنفسه، وثنى بعلي «عليه السلام»، ليدل
على أنه لا يعترف بخلافة أمير المؤمنين «عليه السلام»، وإلا لبدأ بعلي
«صلوات الله وسلامه عليه» تشريفاً وتكريماً له.
3 ـ
أعاد معاوية رسول علي «عليه السلام»، وهو سبرة الجهمي
مع قبيصة العبسي، ولم يرسل رسالته مع سبرة، إما ليظهر المزيد الاستهانة
من حيث أنه هو المبادر، الذي لم يحفل برسالة علي «عليه السلام»، ولا
برسوله، وإما لأنه يريد من رسوله أن ينفذ سلسلة من الأمور التي أوصاه
بها مما لا يمكن أن يرضى سبرة بالقيام به. أو أراد كلا الأمرين معاً.
وبعدما تقدم نقول:
إن لنا على هذه الرواية شكوكاً من جهات عديدة كمايلي:
ذكرت الرواية:
أن قبيصة قال لعلي «عليه السلام»: إن أهل الشام لا
يرضون إلا بالقود. فسأله علي «عليه السلام»: ممن؟!
غير أننا نقول:
لم يكن قبيصة يتوقع هذا السؤال منه «عليه السلام»، فإن
المفروض هو: أنه عالم بما يحاوله معاوية، وأهل الشام من التذرع بقتل
عثمان لشن الحرب عليه.
ومع غض النظر عن ذلك، فإنه «عليه
السلام» يعلم:
أن القود إنما يكون من القاتل، فإن كان يعلم باتهامهم
إياه بقتله، فهو يعلم أن قتله «عليه السلام» هو المطلوب، وإن كان لا
يعلم بذلك، لأنهم لم يكونوا قد جهروا به، فهو يعلم أن القود يكون بقتل
القاتل الحقيقي، فلا معنى لسؤاله هذا في الحالتين معاً.
ولكنه «عليه السلام» قد فاجأ قبيصة بهذا السؤال، لأنه
أراد أن يصرح قبيصة بهذا الأمر، ليسمعه الناس حوله، فإنهم قد حضروا
وعاينوا ما جرى، ولا بد أن يستفزهم هذا التجني الفاضح على أمير
المؤمنين «عليه السلام»، الذي لمسوا عملياً حرصه على دفع القتل عن
عثمان، ولكن عثمان لم يف له بوعوده، وأعان قاتليه على نفسه، وزادهم
إصراراً على سفك دمه.
وهذا يزيده بصيرة بمظلومية علي «عليه السلام»، وبغي
مناوئيه عليه، وليطلعوا مباشرة على ما كان يدبره معاوية من مكر وحيل.
ولست أدري إن كانت الشام قادرة على أن تفرز ستين ألف
شيخ ليبكوا حول قميص عثمان، وإذا كان في الشام شيوخ بهذا المقدار، فلا
بد أن يكون شبابها أضعاف هذا العدد، فكيف لم يستطع معاوية أن يجمع من
بلاد الشام كلها سوى مئة وعشرين ألفاً لحرب صفين.
والحال: أنه كان يعلم أنه بحاجة إلى ضعف هذا العدد
ليضمن النصر في حربه لأمير المؤمنين «عليه السلام».
ولست أدري لماذا لم يسأل علي «عليه السلام» سبرة عن مدى
صحة هذه المزعمة التي جاء بها رسول معاوية. إلا إن كان يعلم أن سبرة لا
يستطيع أن يأتيه بالخبر اليقين في هذا الأمر، فإن معاوية لا يسمح لسبرة
بالتجول، والاتصال بالناس.
فلعل معاوية هو الذي أوصى رسوله بأن
يقول:
هذا بين الناس، تهويلاً منه عليهم، وتخويفاً لهم، ليخذِّل الناس عن
نصرته.
ولست أدري كيف يمكن تفسير وقاحة رسول معاوية، وجرأته
على أمير المؤمنين «عليه السلام»، حيث أجاب علياً على سؤاله: ممن؟!
بقوله: من خيط رقبتك.
فإنها كلمة فظة ونابية، لا يقولها إلا جبار متغطرس، لا
يرى أن أحداً يستطيع مع إحساسهم بالأمن أن يؤذيه بشيء.
ولعل الهدف هو كسر هيبة أمير المؤمنين «عليه السلام» مع
إحساسهم بالأمر، لأنهم عرفوا سجاحة خلق أمير المؤمنين «عليه السلام»،
فتمادوا في جرائمهم، وأظهروا أنفسهم على حقيقتها، وعلى ما هي عليه من
سوء الأدب، الذي أخذوه من أهل الطغيان، والوقاحة والفجور، وقد تجرأ
أسلافهم، والمتخلقون بأخلاق أهل الباطل على رسول الله «صلى الله عليه
وآله»، وأسمعوه من قواذع القول ما لا يخفى على أحد، ولا نريد أن نقول
أكثر من ذلك.
فإن كان هذا الرجل قد اعتمد على الأمان الذي حصل عليه
من أمير المؤمنين «عليه السلام»، فإن الأمان لا يشمل صورة التعدي
وتجاوز الحدود، إلى حد إساءة الأدب، وإهانة خليفة المسلمين وإمامهم.
ومما يزيد هذا الأمر وضوحاً:
زعمهم: أن هذا الرجل احتاج إلى الأمان مرة أخرى بعد أن قال هذا الكلام
لأمير المؤمنين «عليه السلام»، وقد منحه إياه أمير المؤمنين «عليه
السلام».
وحين خرج بالأمان الممنوح له من علي «عليه السلام»،
وصاحت السبأية آمرة بقتله، لماذا لم يرجع إلى علي «عليه السلام»،
ليطالبه بأمانه؟!
ولماذا التجأ إلى آل مضر، وإلى آل قيس، لا إلى علي
«عليه السلام»؟!
ومن تحميه قيس ومضر، ويستطيع أن يستحضر الخيل والنبل،
وعنده أربعة آلاف خصي ما عدا الفحوال والركاب، فإنه بلا ريب لا يحتاج
إلى أمان علي «عليه السلام»، لا عند دخوله ولا عند خروجه!!
وعن أي سبأية يتحدث هؤلاء؟! وقد عرفنا أن هذا من
الباطل، ومن مساعيهم لتزييف الحقائق، فإن ابن سبأ لم يكن قد ظهر بعد،
ولا ظهر له اتباع، وحين ظهر واشتهر قتله علي «عليه السلام» وقتل
أصحابه!
وعن أي خيل ونبل يتحدث قبيصة؟!
ولماذا لم تستعمل في هذه المناسبة؟! ولماذا لم يدع
بالسيوف والرماح أيضاً، واقتصر على الخيل والنبل؟!
وهل سمع علي «عليه السلام» بالجلبة والضوضاء؟!
وهل وصل إليه الخبر فأمر السبأية بقتل رجل أعطاه هو
الأمان؟! أم لم يصل إليه؟!
وهل أبلغه أحد بما يجري، أم بقي الأمر في حدود الخفاء
والكتمان؟!
وإذا كانت أمثال هذه الحوادث تخفى عليه، فكيف يحفظ أمور
الأمة، ويدفع عنها الشرور؟!
وإذا كان قد سمع وعرف فماذا كان موقفه؟!
ولماذا لم يبادر إلى الدفع عن هذا الرجل الذي يتعرض
لخطر جسيم؟!
وأي شجاعة كانت لدى هذا الرجل حتى إنه لم يسكت عن
أقواله الجارحة تجاه الذين احتوشوه وتعاونوا عليه من السبأية؟!
وماذا كان موقف مضر منه، حين لم يستجب لأمرها له
بالسكوت؟! هل واصلت حمايتها له؟! أم أنها تخلت عنه؟!
وأي معنى لقول هذا الرجل عن السبأية: أتاهم ما يوعدون،
وقد حل بهم ما يحذرون؟!
فبماذا كانوا يوعدون؟!
وأين ومتى أتاهم؟!
وما الذي حدث لهم أو حل بهم؟!
وأي أعمال صدرت منهم وانتهت؟!
ومتى ذهبت قوتهم؟!
وأي ذل عرف فيهم قبل حلول المساء؟!
وما هي أسباب حلول هذا الذل بهم؟!
إلى غير ذلك من الأسئلة الكثيرة التي نصرف النظر عنها،
لعلمنا: أن ما ذكرناه منها يكفي لإعطاء الانطباع عن مدى الإسفاف في
التزوير للحقائق..
17. علي
وقتال أهل القبلة:
وقد ذكرت الرواية المتقدمة عن محاولة أهل المدينة معرفة
رأي علي «عليه السلام» عن معاوية وقتاله أهل القبلة. وهذا كلام ظاهر
الوهن والسقوط.
فأولاً:
هل كان أهل المدينة لا يقرأون القرآن ولا يعرفون حكم الله في حق
البغاة، والخارجين على إمام زمانهم؟! وهل كانوا يظنون في علي «عليه
السلام» أنه يداهن في دين الله، ويتهاون في أحكامه؟!
ثانياً:
هل نسي أهل المدينة أن أبا بكر قد حارب أهل القبلة بمجرد أنهم رفضوا
الاعتراف بشرعية خلافته، وأصروا على الوفاء لعلي «عليه السلام»، الذي
بايعه المسلمون في يوم الغدير قبل استشهاد رسول الله «صلى الله عليه
وآله» بسبعين يوماً.
ثالثاً:
أليس غض النظر عن معاوية، سوف يفسح المجال لمعاوية ولغيره للعبث بأمن
الناس، وإثارة الفتن، وتمزيقهم، وزرع الشقاق بينهم، ونشوء دويلات
متناحرة، وموهونة، لا تستطيع أن تصمد أمام أعداء الدين وأهله.. كما أن
من الطبيعي أن يجرئهم غض النظر هذا على مهاجمة أمير المؤمنين «عليه
السلام» في عقر داره، وإسقاط نظام حكمه، وربما قتله.
فهل من الحكمة ـ والحال هذه ـ ومن الوفاء إعطاء الفرصة
لهؤلاء، لتحقيق مآربهم وإسقاط الأمة ونظامها في هذا المأزق البالغ
الخطورة؟!
رابعاً:
أليس معاوية وأضرابه يفسدون في الأرض، بإثارتهم القلاقل والفتن، حتى
أصبحوا مصداقاً لقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا
جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي
الْأَرْضِ فَسَاداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ
أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِنْ خِلَافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ
الْأَرْضِ ذَلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيَا وَلَهُمْ فِي
الْآَخِرَةِ عَذَابٌ عَظِيمٌ﴾([15])
خامساً:
لا يحتاج أهل المدينة إلى دس أحد إلى علي «عليه السلام» ليعرف لهم
رأيه، فقد كان يكفي أن يسأله أحدهم عن ذلك، فيسمع منه الجواب الصحيح
والصريح.. فإن هذا الأمر لا يتستر عليه أمير المؤمنين «عليه السلام»،
ولا يخجل من إظهاره، بل هو مما يجب الجهر به ليعرف الناس ما ينتظرهم،
وليستعدوا له، ويهتموا به كما يستحقه.
وإن صح هذا، فهو يكشف عن مشكلة عند أهل المدينة في
إيمانهم وعقيدتهم في الدين والإسلام، والنبي، وكل ما جاء به «صلى الله
عليه وآله».
إن ما تقدم يؤكد:
أولاً:
أن الإمام الحسن «عليه السلام» لا يمكن أن يدعو إلى القعود ، لأنه يعلم
أن المصيبة بالقعود ستكون أعظم، والكارثة ستكون أكبر على هؤلاء، والعدو
سيكون أشد بطشاً وتنكيلاً، هذا في الدنيا، وفي الآخرة سيواجه القاعد
العذاب الأليم، وغضب الإله العظيم.
ثانياً:
إن الإمام الحسن «عليه السلام» كان يعلم: أن أباه باب مدينة علم النبي
«صلى الله عليه وآله»، وأنه إمام معصوم، منصوب من قبل الله تعالى، وهو
أخو رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ويعلم أيضاً: أن رسول الله «صلى
الله عليه وآله» الذي لا ينطق عن الهوى، إن هو إلا وحي يوحى قد قال:
«علي مع الحق، والحق مع علي، يدور معه حيثما دار». أو «علي مع القرآن،
والقرآن معه» ونحوذلك([16]).
فمن يعلم ذلك كيف يعترض على أبيه، ويراه مخطئاً في قراراته، ويأمر
بتصحيح الخطأ؟!
والحال أنه «عليه السلام» هو الآخر إمام معصوم لا يخطئ
رأيه، وهو مطهر بنص القرآن، لا يقرب إليه أي نوع من أنواع الرجس والخطأ
والخطل في قول ولا في فعل.
وقد أوهمت الرواية:
أن قيس بن سعد كان على مصر آنئذ من قبل علي «عليه
السلام»، وأنه «عليه السلام» قد كتب إليه أن يندب الناس إلى قتال أهل
الشام.
ولكننا قد ذكرنا في موضع آخر:
أن الظاهر: أن قيساً كان لا يزال في المدينة عند علي
«عليه السلام»، وأنه إنما تولى مصر بعد حرب الجمل، فما ذكر هنا حول قيس
يكون من موجبات وهن هذه الرواية أيضاً.
وذكرت الرواية المتقدمة:
أن ستين الف شخص كانوا يطيفون بقميص عثمان.
وقالوا:
أن «النعمان بن بشير، أخذ أصابع نائلة امرأة عثمان التي
قطعت، وقميص عثمان الذي قتل فيه، وهرب به، فلحق بالشام.
فكان معاوية يعلق قميص عثمان، وفيه الأصابع، فإذا رأوا
ذلك أهل الشام ازدادوا غيظاً، وجدوا في أمرهم»([17]).
ونقول:
1 ـ
لقد أصبح قميص عثمان مضرب المثل للتشنيع بأمر لا ينبغي
التشنيع به، أو للجوء لذرائع واهية لا يصح اللجوء إليها..
2 ـ
إن معاوية حين كان يعلق قميص عثمان، وأصابع نائلة زوجته، إنما كان يسعى
لتجييش النفوس، وشحنها، وإثارة الحنق الأرعن، والغضب الخاوي من المضمون
بهذه الطريقة. مع أنها طريقة لا تجدي في إثبات مظلومية عثمان، إلا إن
كان الناس يعتقدون عصمته وطهارته من كل رجس ودنس، أو خطأ أو خطل، في
فكر، وقول، وعمل..
فإن المقتول، قد يكون محقاً، وقد لا يكون.. كما أن مجرد
كون إنسان حاكماً لا يجعله محقاً في كل شيء.. فلماذا يريد معاوية تهييج
الناس بهذه الأساليب؟! ألم يكن يملك حجةً تكفي لإثبات مظلومية الخليفة
القتيل؟!
أم أنه استخف قومه فأطاعوه؟!
أم أن المقصود:
هو أن لا يدخل الناس في نقاشٍ حول أسباب قتل عثمان؟! لأن ذلك يضر
بمصلحة معاوية، ويحبط مسعاه. حيث ستظهر للناس صحة وصوابية مطالب الناس
منه، وسيطلع أهل الشام على جانب كبير من تصرفات عمال عثمان، وسيفتضح
بنو أمية، وربما تصل النوبة إلى معاوية نفسه، حيث سيطالبه الناس
بمبررات حجبه المساعدة عن عثمان.
وحين استعصى معاوية عن البيعة، فإنه ارتكب خطأً ظاهراً
لا لبس فيه، ولا شبهة تعتريه.
كما أن كل من كان معه ـ لو كان منصفاً وطالباً للحق
لعرف أن ما يحاوله معاوية هو الباطل.. خصوصاً مع ما أوضحته رسالة علي
«عليه السلام» هذه الصغيرة في مبناها، العظيمة في دلالاتها ومعناها..
ولكن زعماء أهل الشام آنئذٍ لم يذوقوا حلاوة الإسلام
الأصيل، بل كان معاوية قد روضهم على قبول مراداته، وجعلهم يعيشون
أجواءه، وأهواءه، ويطمحون إلى ما يطمح إليه، ويضحون بكل شيءٍ في سبيل
الحصول عليه. والناس على دين ملوكهم.
وهم إنما عرفوا الإسلام كما عرفهم إياه معاوية.. وهل
يعرفهم معاوية إلا إسلام الأطماع والأهواء، والمفاهيم الجاهلية باسم
الدين؟! أما عامة الناس فهم تبع لرؤسائهم وقادتهم، فماذا يمكن أن يرتجى
منهم..
إن ثمة نصاً آخر قد أورده كتاب علي «عليه السلام» إلى
معاوية، وفيه قوله: «وفد إلي في أشراف أهل الشام قبلك»، ولم يذكر له
ولاية([18]).
ولكن العبارة الأخرى هي كما رأينا:
«وأوفد إلي أشراف أهل الشام قبلك».
ويبدو:
أن الصحيح هو العبارة الأولى، المنقولة عن البلاذري: فإن معاوية إن
أطاع هذا الأمر، فسيرى الناس معاوية يأتي بنفسه، ويرضى بالبيعة له
«عليه السلام»، وهذا يقطع على معاوية دابر التعلل، والتضليل،
والإدعاءات الباطلة.
كما أن وفوده إليه في أشراف أهل الشام، الذين سيرون
منه هذه الطاعة سوف يُصَعِّب على معاوية إقناعهم بعد ذلك بأن من حقه أن
يظهر الطغيان على علي «عليه السلام»، وأن يعصي أوامره.
وسينتقل هذا التأثير من الرؤساء إلى اتباعهم، فإن الناس
كانوا ينقادون لرؤسائهم وأشرافهم، وفق المنطق الذي كان مهيمناً على
الواقع الإجتماعي القائم آنذاك.
وإن لم يطع معاوية هذا الأمر، ولم يأت مع أشراف أهل
الشام، فإن الناس، والأجيال كلها سيرون أنه هو السبب في شق عصا
المسلمين، وفي إثارة الفتن بينهم بلا مبرر.
وقد أكد معاوية أنه ينحو نحو إثارة الفتن، وشق عصا
المسلمين، حين أرسل إلى الزبير بأنه بايع له أهل الشام.
عن صالح بن كيسان قال:
قتل عثمان، وبويع علي، وعائشة في الحج؛ فأقامت بمكة، وخرج إليها طلحة
والزبير، وقد ندما على الذي كان من شأنهما في أمر عثمان.
وكتب علي إلى معاوية:
إن كان عثمان ابن عمك فأنا ابن عمك، وإن كان يوصلك فإني
أصلك. وقد أمَّرتك على ما أنت عليه، فاعمل فيه بالذي يحق عليك.
فلما ورد الكتاب على معاوية دعا بطومار لا كتاب فيه، ثم
كتب:
بسم الله الرحمن الرحيم فقط.
ثم طواه وختم عليه، وكتب عنوانه:
من معاوية إلى علي بن أبي طالب.
وبعث به مع رجل من عبس يقال له:
يزيد بن الحر، فقدم به على علي، فقال لعلي: أجرني.
قال:
قد أجرتك إلا من دم. فدفع الكتاب إليه، فلما نظر فيه
عرف أن معاوية مباعده.
ثم إن يزيد بن الحر قال:
يا معشر قريش، الخيل، الخيل، والذي نفسي بيده ليدخلنها اليوم عليكم
أربعة آلاف فارس » أو قال: فرس([19]).
ونقول:
في هذا النص موارد يحسن إيضاحها..
فأولاً:
هو لا يخلو من تهافت، فإن علياً «عليه السلام» إن كان
قد ولاه الشام، فلماذا رفض مشورة المغيرة بتوليته؟!
ثانياً:
إذا كان «عليه السلام» قد كتب له بتأميره على ما هو
عليه، فلماذا لم يقبل منه؟! وهل كان معاوية يريد من علي «عليه السلام»
غير إبقائه على عمله؟!
ثالثاً:
لماذا يطلب ذلك العبسي الأمان من علي «عليه السلام»؟!
أليس هو رسول، ولا يعاقب الرسول، ولا يروع؟!
رابعاً:
إذا كان معاوية قد طوى الكتاب وختمه، فمن أين علم ذلك
العبسي بمضمونه؟!
وحتى لو علم بمضمونه، فلماذا يخاف من بطش علي «عليه
السلام»؟!
خامساً:
إن رواية أبي مخنف وغيره تتناقض مع هذه الرواية
لتصريحها: بأن علياً «عليه السلام» كتب إلى معاوية يأمره بالوفود إليه
في أشراف أهل الشام، ولم يذكر له ولاية([20]).
سادساً:
إن هذه
الرواية تتناقض مع الرواية التي تقول:
«إن
معاوية أرسل إلى علي «عليه السلام» صحيفة بيضاء لا كتاب فيها، ولا
عليها خاتم»([21]).
وفي نص آخر:
أمر حامل كتابه: أن ينشره ويطوف به في المدينة ليقرأه الناس قبل أن
يصلوا إلى علي «عليه السلام»([22]).
سابعاً:
لماذا خاطب يزيد بن الحر قريشاً بذلك الخطاب التحذيري
من خيل سوف تهاجمهم؟! ولماذا لم يخاطب به سائر أهل المدينة أيضاً؟! هل
أراد أن يخيف قريشاً من أربعة آلاف؟! ألم تكن قريش تستطيع أن تجمع ضعف
بل أضعاف هذا العدد من الفرسان؟! كما كانت تفعله حين كانت تحارب رسول
الله «صلى الله عليه وآله»، وحين وفاته حيث أدخلت عدة آلاف إلى
المدينة، لابتزاز الخلافة من علي «عليه السلام».
وهل دخل هؤلاء الفرسان على قريش في ذلك اليوم؟!
وهل استطاعت قريش أن تصدهم؟!
ولماذا لم يحدثنا التاريخ عن هذه الحادثة التي يزعمون
أنها حصلت في المدينة؟!
وهل يمكن أن يخبرنا أحد عن هؤلاء الأربعة آلاف، من هم؟!
ومن أين جاؤوا، ومن أرسلهم؟! وماذا يريدون؟! وإلى ماذا يدعون؟! ولماذا
يهاجمون؟! ومن هو قائدهم؟!
وإذا كان لم يحصل شيء في ذلك اليوم، فهل سكت عنه علي
«عليه السلام»، وكيف تعامل معه؟! وبأي شيء طالبه؟!
وأي قريش عنى يزيد بن الحر، هل قصد قريشاً المناوئة
لعلي، أم قصد قريشاً التي بايعته وأيدته؟!
إن هذه الأسئلة تحتاج إلى أجوبة، كما أن تلك الإشكالات
والإبهامات التي ذكرناها. تحتاج إلى إيضاح وحل قبل أن يمكن التفكير
بطبيعة التعامل مع هذه الرواية المزعومة..
قال المعتزلي:
«لما بويع علي «عليه السلام» كتب إلى معاوية:
أما بعد، فإن الناس قتلوا عثمان من غير مشورة مني،
وبايعوني عن مشورة منهم وإجماع. فإذا أتاك كتابي فبايع لي، وأوفد إلي
أشراف الشام قبلك.
فلما قدم رسوله على معاوية، وقرأ كتابه بعث رجلاً من
بني عبس، وكتب معه كتاباً إلى الزبير بن العوام، وفيه:
بسم الله الرحمن الرحيم:
لعبد الله الزبير أمير المؤمنين، من معاوية بن أبي
سفيان.
سلام عليك..
أما بعد، فإني قد بايعت لك أهل الشام، فأجابوا،
واستوثقوا الحلف. فدونك الكوفة والبصرة، لا يسبقنك لها ابن أبي طالب،
فإنه لا شيء بعد هذين المصرين.
وقد بايعت لطلحة بن عبيد الله من بعدك، فأظهرا الطلب
بدم عثمان، وادعوا الناس إلى ذلك، وليكن منكما الجد والتشمير. أظهركما
الله، وخذل مناوئكما.
فلما وصل هذا الكتاب إلى الزبير سُرَّ به، وأعلم به
طلحة، وأقرأه إياه. فلم يشكا في النصح لهما من قبل معاوية، وأجمعا عند
ذلك على خلاف علي».
ثم ذكر المعتزلي:
أن طلحة والزبير، جاءا إلى علي «عليه السلام» بعد البيعة بأيام، وطلبا
منه أن يوليهما بعض أعماله فرفض طلبهما.
فانصرفا وقد دخلهما اليأس، فاستأذناه في العمرة، فقال:
ما العمرة تريدان، فحلفا له: ما الخلاف عليه ولا نكث بيعته يريدان.
فطلب منهما إعادة البيعة، فأعاداها بأشد ما يكون من
الإيمان والمواثيق إلخ..([23]).
ونقول:
إن لنا مع ما تقدم وقفات، هي التالية:
وكتاب معاوية إلى الزبير ببيعة أهل الشام له، ولطلحة من
بعده. قد تضمن كذباً ظاهراً، حيث إن أحداً لم يبايع للزبير، ولا لطلحة
من بعده.
وعلى هذا الأساس نقول:
إن كان طلحة والزبير عارفين بأن معاوية قد كذب عليهما؛
فلماذا لم يظهرا ذلك للناس، ليحذروا من ألاعيب معاوية..
وإن كانت هذه الكذبة قد أفرحتهما وسرتهما، لأنهما وجدا
فيه بريق أمل لنيل ما يحاولان الوصول إليه.
وإن كانا قد صدقاه فيما أخبرهما به، فسيكونان في غاية
السذاجة والتغفيل..
ومهما يكن من أمر، فقد أراد معاوية بذلك أن يذكي
طموحهما، ويزيد من تصميمهما على مناوأة علي «عليه السلام» ومنازعته،
ليضعف بذلك أمره، ويثقل خطوه نحو اقتلاعه من حكم بلاد الشام. وليجد
الفرصة للتهيؤ للمواجهة إن اقتضى الأمر.. أو لاستمرار التسويف
والمماطلة إلى أن يتمكن من حسم الأمر لصالحه..
ويبقى هناك سؤال يحتاج إلى إجابة،
وهو:
إذا كان معاوية يعلم أن طلحة هو الأكثر شراسة في طلب هذا الأمر، وهو
مؤيد بأم المؤمنين عائشة.. فلماذا اختار الزبير ليقدمه عليه ويعلن أنه
قد بايع له اهل الشام؟!
ونجيب:
بأن معاوية لا يريد أن يقوي الرجل القوي بعائشة، وببني تيم الذين
اكتسبوا بخلافة أبي بكر التيمي نفوذاً وجاهاً.. بل يريد أن يلجم قوة
طلحة، ويحدِّد من قدرته على منافسته، فقدم الزبير عليه، في وقت لا
يستطيع طلحة إلا السكوت والرضا على مضض، كما أنه يريد أن تتأجج في صدر
طلحة نار الحسد للزبير، ويؤسس بذلك لفصول من الصراع بينهما لو تمكنا من
فعل شيء في مقابل علي «عليه السلام»..
وقد ألقى لطلحة بفتاتٍ يضمن معه إبقاءه في دائرة
السيطرة حين ذكر: أنه قد بايع له بعد الزبير..
ثم إن معاوية الذي كان على علم بمطامع طلحة والزبير، قد
وضع الكوفة والبصرة أمام أعينهما لتكونا هما الهدف الأول الذي ينبغي
لهما الوصول إليه. مع إدراكه أن أول ما سيواجههما فيهما هو علي بن أبي
طالب. لأنه يريد أن يدق إسفين الفتنة، ولا يتسنى له ذلك إلا بذلك..
ولو أنه دعاهما إلى الشام ليتسلما زمام الأمور فيها
لكان قد سعى إلى حتفه بظلفه، ولكانت خطته قد فشلت، وآماله قد خابت..
وسيتمكن هذان الرجلان ومعهما عائشة من الاستئثار بالأمور دونه، ولو في
الشام فقط، على رغم أنفه.
وما ذكرناه يظهر:
أن معاوية قد كاد علياً «عليه السلام» والزبير، وطلحة،
وحتى عائشة في رسالته هذه.. والغريب أن طلحة، والزبير، وعائشة منهم لم
ينتبهوا لمكيدته هذه بالرغم من وضوحها، إذ كان يكفي عائشة، والزبير
وطلحة أن يسألا أنفسهما: لماذا خص الزبير بهذا الأمر دون طلحة؟!
ولماذا لم يطلب منهما القدوم إلى الشام، إذا كان قد
بايع لهما فيها؟!
ولماذا لم يمدهما بالعساكر الشامية، إن كانت الشام قد
أصبحت من رعاياهما.
وقد كان ينبغي أن يعتبرا بموقفه من عثمان حيث منع جند
الشام من نجدته، وأبقاهم بعيداً عنه، بالرغم من تكرر استغاثات عثمان به
وبغيره. وبقي الأمر على هذه الحال إلى أن قتل عثمان.
1 ـ
ولما بويع «عليه السلام» في المدينة كتب إلى معاوية:
«أما بعد.. فإن الناس قد
قتلوا عثمان على غير مشورة مني، وبايعوني عن مشورة منهم واجتماع، فإذا
أتاك كتابي فبايع لي، وأوفد إلي أشراف أهل الشام قِبلك»([24]).
2 ـ
وكتب «عليه السلام» إلى معاوية، على ما رواه الواقدي في كتاب الجمل:
«من عبد الله عليٍ أمير المؤمنين إلى معاوية بن أبي
سفيان.
أما بعد..
فقد علمت إعذاري فيكم، وإعراضي عنكم، حتى كان ما لا بد منه، ولا دفع
له، والحديث طويل والكلام كثير، وقد أدبر ما أدبر، وأقبل ما أقبل،
فبايع من قبلك، وأقبل إلي في وفدٍ من أصحابك، والسلام»([25]).
ونقول:
المراد من قوله:
«حتى كان ما لا بد منه» هو قتل عثمان المسبب عن إفساده، وإفساد بني
أبيه، وسكوت عثمان عنهم.
قيل:
إن جملة: «أقبل إلي في وفد من أصحابك» كانت تكتب إلى وال يراد عزله.
ولا نرى ذلك دقيقاً، فإنها كلمة عامة تصلح لكلتا
الحالتين..
قوله «عليه السلام» في الكتاب
الأول:
«قتلوا عثمان عن غير مشورة مني» يعطي: أنه «عليه
السلام» يريد أن يبين: أن الإقدام على قتل عثمان لم يكن مطروحاً
للتداول في أيام حصاره، مما يعني: أن قتله قد فاجأ الجميع.. وأن الحصار
لم يكن يستبطن التباني على القتل لكي يعتبر الصبر عليه، والأناة في
التعامل مع الأحداث المرافقة له، ممالأة على القتل.
وإذا كان بعض قادة الحصار يهددون بقتل عثمان، فلعل هذه
التهديدات لم تكن تؤخذ على محمل الجد، لعلم الجميع: بأن الإقدام على
هذا الأمر مجازفة عظيمة، لا يتحمل تبعاتها أحد في الظروف العادية..
إنه «عليه السلام» قد نسب قتل عثمان إلى الناس، ولم
يحدد القاتل بالإسم أو الصفة.. ربما لأنه «عليه السلام» لم يحضر ولم
يشاهد بعينه.
وربما لأن جماعة قد تشاركوا في هذا القتل يختلف الناس
في أسمائهم وأشخاصهم. أو لأجل أن الأهواء قد لعبت لعبتها في إطلاق
التهم، وتضخيم الأدوار أو تصغيرها..
أو لأن الدخول في لعبة الأسماء والأشخاص يدفع باتجاهات
تؤدي إلى متاهات، وتنتهي بمظالم ومآثم، لم يكن علي «عليه السلام»
ليساعد عليها من قريب أو من بعيد. بل كان يرى أن من واجبه حسم مادتها،
والقضاء على تفاعلاتها بكثير من الصلابة والحزم..
ثم ذكر «عليه السلام»:
أن الناس قد بايعوه، وأنه قد توفر في هذه البيعة أمران أساسيان:
أولهما:
أنها لم تكن بيعة مرتجلة، ولا في أجواء إنفعالية، أو عاطفية، ولا
غوغائية يقودها همج الناس ورعاعهم، وإنما هي بيعة عن بصيرة وروية، شارك
في صنعها عقلاء الرجال، وأهل الدين والمعرفة والسلامة.
الثاني:
أن بيعته «عليه السلام» لم تكن فلتة، ولم تكن صفقة تمليها مصالح
دنيوية، ولا عقدها له هذا القريب، أو ذلك الصديق والصاحب، بل كانت بيعة
عامة بالمعنى الدقيق للكلمة، لا استثناء فيها على الإطلاق..
وهذا يميزها على ما سبقها من بيعات وصفقات، فهي كبيعة
يوم غدير خم التي تمت بأمر الله، وبإشراف رسوله «صلى الله عليه وآله».
الثالث:
إنها كانت بيعة طوعية، إختيارية، لا أثر فيها للتدليس، ولا للمراء، ولا
للإكراه، ولا تشوبها أية شائبة.
ثم طلب «عليه السلام» من معاوية:
أن يبايع له، وأن يوفد إليه أشراف أهل الشام، وفي النص
الثاني: أمره أن يفد معهم أيضاً.. مع أنه كان بإمكانه «عليه السلام» أن
يكتفي بطلب بيعتهم، ولا يطلب وفودهم عليه.
ويجاب:
1 ـ
لعله «عليه السلام» أراد لأشراف أهل الشام أن يروه
ويحاوروه بصورة مباشرة، ويتلمسوا بأنفسهم علمه، وخصاله، وأخلاقه،
وإخلاصه، وقيمه، ومفاهيمه، وزهده، وكل أحواله.
فإذا تم له ذلك، فإن تضليل معاوية لهم سيكون أصعب.. كما
أنهم سيقارنون بينه وبين معاوية، ويرون البون الشاسع بينهما، وهم
سيشاهدون صدق واستقامة، وعلم وعقل، وطاقات، وميزات، وأخلاق علي «عليه
السلام»، وسيرون أضداد هذه الصفات في معاوية، وسيسقط ذلك محل معاوية في
نفوسهم، وسيشعرون بالأمن والسكينة مع علي «عليه السلام»، وسيرونه في
كمالاته وسائر حالاته، منسجماً مع ما تحكم به عقولهم، وتقضي بهم
فطرتهم، وترضاه نفوسهم.
2 ـ
إن هذا يعطي: أن على الحاكم أن يتصل بالرعية بصورة مباشرة، ولا يكلهم
إلى ولاتهم، ولا يجعل علاقته بالناس من خلال أولئك الولاة، بل لا بد من
إبقاء السبل مفتوحة أمامهم للوصول إليه، وطرح قضاياهم عليه. بل إن
وصولهم إلى ولاتهم من خلاله سيكون هو الأرجح والأصلح.
وقوله «عليه السلام» في الكتاب
الثاني:
«قد علمت إعذاري فيكم وإعراضي عنكم» يشير به إلى خلافة
أبي بكر وعمر وعثمان، ثم ما جرى لعثمان، وموقفه «عليه السلام» منه،
فإنه «عليه السلام» قد اتبع سياسة استنفاد القوة، والاستفادة من كل
وسيلة لبيان حقه، وبيان أن غيره يضع نفسه في موضع ليس له.
وقد بلغ في ظهور حجته، وسطوع براهينه، ووضوح بيانه ما
جعله معذوراً عند الله تعالى وعند خلقه في موقفه الذي اتخذه منهم.
وقد جعل «عليه السلام» هذا الوضوح في البيان، وسطوع
البرهان، وظهور تعمد الاستمرار في غصب موقعه منه، ومواصلة سياسات
إقصائه ـ جعل ذلك ـ مبرراً للإعراض عنهم..
وكذلك الحال بالنسبة لمحاولاته إصلاح أمر عثمان، الذي
كان يأبى ذلك، وكان بنو أمية يحرضونه على التصلب في موقفه هذا، حتى ظهر
عذره «عليه السلام» وأصبح الإعراض عن الدخول في أمره، لا يشك أحد في
صوابيته..
وقوله «عليه السلام»:
«وقد أدبر ما أدبر، وأقبل ما أقبل» يعطي: أن سياسة علي «عليه السلام»
لا ترتضي الخمول والخمود، والتوقف عند الحدث للبكاء على الأطلال، بل
كان يرى: أنه لا بد من استخلاص العبر، مما يحدث، والإنطلاق بها إلى
المستقبل، ليداوي بها الداء، ويستفيد منها في تجنب الوقوع في الأدواء،
ليبني مستقبلاً صحيحاً وسليماً ومعافىً وقوياً.
([1])
أنساب الأشراف ج3 ص 13 و (ط مؤسسة الأعلمي سنة 1394هـ) ص212.
([2])
الإمامة والسياسة (تحقيق الشيري) ج1 ص68 و (تحقيق الزيني) ج1
ص48 ومكاتيب الإمام علي للأحمدي «رحمه الله» ج1 ص57 عنه،
والغدير ج10 ص316. وراجع: أنساب الأشراف ج1 ص212 وج3 ص10
وجمهرة رسائل العرب ج1 ص385.
([3])
الآية 51 من سورة الكهف.
([4])
راجع حول نص الحديث المصادر التالية: تاريخ الأمم والملوك ج4
ص439 و440 و441 و(ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص460 و461 و462
والغدير ج10 ص316 وراجع: مروج الذهب ج2 ص364 والكامل في
التاريخ ج2 ص306 وج3 ص197 و 198 والبداية والنهاية ج7 ص229
وراجـع: = = الفصول المهمة لابن الصباغ ج1 ص358 ـ 361 وسير
أعلام النبلاء ج3 ص139 وتاريخ الإسلام للذهبي ج3 ص538.
([5])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج3 ص84 وبحار الأنوار ج32 ص378
ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج4 ص245 ونهج السعادة ج4
ص96 وصفين للمنقري ص52 وراجع: الفتوح لابن أعثم (ط دار
الأضواء) ج2 ص515 وتاريخ مدينة دمشق ج59 ص131 وأعيان الشيعة ج1
ص470 و4 ص74 .
([6])
الامامة والسياسة (تحقيق الزيني) ج1 ص51 و(تحقيق الشيري) ج1
ص71 وحياة الإمام الحسين للقرشي ج1 ص421 والمعيار والموازنة
للإسكافي ص98.
([7])
تاريخ الكوفة للسيد البراقي ص315 ـ 319 والغارات للثقفي ج2
ص812 و 813 و 814 والاحتجاج ج2 ص19 وبحار الأنوار ج18 ص124
وج44 ص129 وشرح الأخبار ج2 ص169 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2
ص262 وج16 ص17 و 193 وج18 ص301 والدرجات الرفيعة ص430 والنص
والإجتهاد ص472 والغدير ج10 ص225 وج11 ص10 و 60 و 79 وقاموس
الرجال للتستري ج10 ص122 ومستدرك سفينة البحار ج2 ص225
والاستيعاب ج1 ص329 و 331 وكنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج13
ص587 وفيض القدير ج4 ص166 وتاريخ خليفة بن خياط ص160 والأخبار
الطوال ص224 وتاريخ مدينة دمشق ج12 ص229 و 231 وج34 ص270 وأسد
الغابة ج1 ص386 وتهذيب الكمال ج17 ص42 والإصابة ج2 ص33 وتاريخ
الأمم والملوك ج4 ص208 والكامل في التاريخ ج3 ص486 و 487
وينابيع المودة ج2 ص27 وصلح الحسن للسيد شرف الدين ص269 و 337
والوافي بالوفيات ج11 ص248 والبداية والنهاية ج8 ص58 و 59
وإمتاع الأسماع ج12 ص219 وج14 ص127 وكتاب الفتوح ج4 ص316
وإعلام الورى ج1 ص93 وسبل الهدى والرشاد ج10 ص156 والسيرة
الحلبية (ط دار المعرفة) ج3 ص163 وخلاصة عبقات الأنوار ج3 ص289
([8])
راجع: أنساب الأشراف ص322 ومناقب آل أبي طالب ج2 ص363 والصراط=
= المستقيم ج3 ص120 وبحار الأنوار ج29 ص470 وج32 ص589 وشجرة
طوبى ج2 ص325 وسير أعلام النبلاء ج3 ص142 والأعلام للزركلي ج4
ص295 ومعجم البلدان ج3 ص414 وتاريخ الإسلام للذهبي ج3 ص545
والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج2 ص707 وعمدة القاري ج16
ص141 وفتح الباري ج13 ص75 وتاريخ مدينة دمشق ج43 ص482 وتهذيب
الكمال ج21 ص226 والثقات لابن حبان ج2 ص291 ومصباح البلاغة
(مستدرك نهج البلاغة) ج3 ص10 وجواهر المطالب لابن الدمشقي ج2
ص44 و 60.
([9])
نهج البلاغة (بشرح عبده) ج3 ص18 الكتاب رقم18 وبحار ج33 ص492 و
493 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج15 ص125 ومكاتيب الإمام علي ج1
ص181 ـ 182 عنهم، ونهج السعادة ج5 ص172 .
([10])
نهج البلاغة (بشرح عبده) ج3 ص16 الكتاب رقم17 وصفين للمنقري
ص471 ومناقب آل أبي طالب ج2 ص361 وكنز الفوائد ص201 وبحـار = =
الأنوار ج32 ص612 وج33 ص105 و 130 والمحاسن للبيهقي ص53 وشرح
نهج البلاغة للمعتزلي ج15 ص117 وشرح نهج البلاغة للآملي ج18
ص248 ـ 253 والإمامة والسياسة (تحقيق الزيني) ج1 ص103 و (تحقيق
الشيري) ج1 ص138 ومروج الذهب ج4 ص14 والغدير ج10 ص324 ومكاتيب
الإمام علي ج1 ص60 عنهم، ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة)
ج4 ص46 والمناقب للخوارزمي ص256 وشرح إحقاق الحق (الملحقات)
ج31 ص378 و كتاب سليم بن قيس (تحقيق الأنصاري) ص337 .
([11])
أنساب الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج2 ص121.
([12])
الثقات لابن حبان ج2 ص277.
([13])
الكامل في التاريخ ج3 ص203 ـ 205 وتجارب الأمم ج1 ص299 ـ 302
وتاريخ الأمم والملوك 443 ـ 445 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص464 ـ
465 والفتنة ووقعة الجمل ص102 وأعيان الشيعة ج1 ص447 والفصول
المهمة لابن الصباغ ج1 ص362.
([14])
الإحتجاج للطبرسي ج2 ص41 وبحار الأنوار ج45 ص296.
([15])
الآية 33 من سورة المائدة.
([16])
راجع: دلائل الصدق ج2 ص303 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج18 ص72
وعبقات الأنوار ج2 ص324 عن السندي في دراسات اللبيب ص233 وكشف
الغمة ج2 ص35 وج1 ص141 ـ 146 والجمل لابن شدقم ص11 = = والجمل
للمفيد ص36 و 231 وتاريخ بغداد ج14 ص321 والمستدرك ج3 ص119 و
124 وربيع الأبرار ج1 ص828 و 829 ومجمع الزوائد ج7 ص234 ونزل
الأبرار ص56 وفي هامشه عنه وعن: كنوز الحقائق ص65 وعن كنز
العمال ج6 ص157 وملحقات إحقاق الحق ج5 ص77 و 28 و 43 و 623 و
638 وج 16 ص384 و 397 وج4 ص27 عن مصادر كثيرة جداً.
([17])
بحار الأنوار ج32 ص8 والكامل في التاريخ ج3 ص192 والعبر وديوان
المبتدأ والخبر ج2 ق1 ص151 ومستدركات علم رجال الحديث ج8 ص79
وأعيان الشيعة ج1 ص444 .
([18])
أنساب الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج2 ص211.
([19])
أنساب الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج2 ص122.
([20])
أنساب الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج2 ص121.
([21])
أنساب الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج2 ص121.
([22])
راجع: الثقات لابن حبان ج2 ص276 والفتنة ووقعة الجمل ص102
وتاريخ مدينة دمشق ج49 ص267 وتاريخ الأمم والملوك (ط مؤسسة
الأعلمي) ج3 ص464 والكامل في التاريخ ج3 ص203 والعبر وديوان
المبتدأ والخبر ج2 ق1 ص152.
([23])
راجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص230 و 231 الخطبة رقم8،
وبحار الأنوار ج2 ص5 و 6 والغدير ج10 ص316 ونهج السعادة ج4 ص17
وراجع: البدء والتاريخ ج5 ص209 ـ 211.
([24])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي (ط دار إحياء الكتب العربية ـ عيسى
البابي الحلبي وشركاه) ج1 ص230 وجمهرة رسائل العرب ج1 ص385
عنه، وأنساب الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج2 ص211 والجمل لابن
شدقم ص74 وبحار الأنوار ج32 ص5 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج
البلاغة) ج4 ص234 والغدير ج10 ص316 ونهج السعادة ج4 ص17.
([25])
نهج البلاغة (بشرح عبده) ج3 ص135 الباب الثاني، المختار رقم75.
وبحار الأنوار ج32 ص365 والغدير ج10 ص316 ونهج السعادة ج4 ص18
وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج18 ص68.
|