وبعد أن تذكر الخطبة جرائم السفياني، وإذن الله سبحانه
بخروج القائم «عجل الله فرجه» تقول:
«ثم يشيع خبره في كل مكان، فينزل حينئذ جبرائيل على
صخرة بيت المقدس، فيصيح في أهل الدنيا: قد جاء الحق وزهق الباطل، إن
الباطل كان زهوقاً»([1]).
ونقول:
لا ندري لماذا ينزل جبرائيل على صخرة بيت المقدس، التي
هي قبلة اليهود القديمة([2])،
ولا ينزل على الكعبة، التي هي أقدس مكان على وجه الأرض؟!
ولا غرو، فقـد
رأينا مسلمي أهل الكتاب ـ وعلى رأسهم كعب الأحبار ـ يبذلون جهـوداً
كبـيرة،
لإظهار قدسية الصخرة، وأهميتها، وقد وضعوا الأحاديث الكثـيرة
في فضلها على لسان رسول الله «صلى الله عليه وآلـه».
وقد ساعدهم على ذلك:
أن السياسة الأموية كانت تتجه نحو صرف الناس عن الكعبة إلى بيت المقدس،
وخصوصاً إلى الصخرة، حتى بنوا عليها قبة، وصار الناس يحجون إلى بيت
المقدس، ويطوفون حول الصخرة، ويقومون بسائر مناسك الحج، ثم حولوا
القبلة إليها كما ذكرناه في كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأكرم «صلى
الله عليه وآله» الجزء الأول [تمهيد الكتاب].
وذكرت خطبة البيان في نصها الأول:
أن عيسى «عليه السلام» ينزل من السماء في بيت المقدس، يوم الجمعة، وقد
أقيمت الصلاة([3]).
ونقول:
لكن النص الثاني للخطبة يقول:
«فيظهر قائمنا المتغيب يتلألأ نوراً يقدمه الروح
الأمين، وبيده الكتاب المستبين، ثم مواريث النبيين، والشهداء الصالحين،
يقدمهم عيسى بن مريم، فيبايعونه في البيت الحرام ويجمع الله أصحاب
مشورته، فيتفقون على بيعته»([4]).
ويبدو:
أن حديث نزول عيسى في بيت المقدس قد وردت من طرق غير أهل البيت وشيعتهم([5]).
فراجع مصادره.
وبعد أن تذكر الخطبة صلاة عيسى خلف المهدي «عجل الله
فرجه»،
تذكر كيف أن
المهدي يستخلفه على قتال الدجال، تقول:
«ثم يتوجه إلى أرض الحجاز، فيلحقه عيسى على عقبة قرشا،
فيزعق عليه عيسى زعقة، ويتبعُها بضربة، فيذوب الدجال كما يذوب الرصاص،
والنحاس في النار»([6]).
غير أن من المعلوم:
أن شيعة أهل البيت «عليهم
السلام»
يعتقدون بأن المهدي «عجل الله فرجه» هو الذي يقتل
الدجال، ويخالفهم غيرهم في هذا الاعتقاد، ويزعمون: أن المسيح هو الذي
يقتله([7]).
ويظهر:
أن ذلك قد تسرّب إليهم من قِبَل أهل الكتاب، ومن المسيحيين على وجه
الخصوص، فإن الإنجيل المحرَّف
قد ذكر ذلك في أكثر من مورد، فراجع([8]).
إلا إذا قلنا:
إن المسيح هنا إنما يقتل الدجال، مع كون المسيح قد جاء ليجعل نفسه في
إمرة المهدي «صلوات الله عليهما»، وحيث يكون الإمام
«عليه
السلام» هو الحاكم والآمر، فالأمور تنسب إليه، فهو كقولك: إن يزيد قتل
الحسين «عليه السلام»، مع أنه إنما أمر أحد أتباعه، بذلك، فنفذ أمره..
وأما ما يقوله غير الشيعة، فإن كان
يراد به:
أن المسيح يقتله، ويكون المسيح
«عليه
السلام» هو الحاكم.. فهو غير مقبول، لأن المسيح لا يحكم، في آخر
الزمان، وإنما المهدي هو الذي يحكم..
وتقول الخطبة:
«ثم إن المهدي سار إلى بيت المقدس، واستخرج تابوت
السكينة، وخاتم سليمان بن داود، والألواح التي نزلت على موسى الخ..»([9]).
ولا ندري لماذا كل هذا التأكيد على أمور تلمح إلى
التراث الإسرائيلي بطريقة أو بأخرى، حتى إنها لا تشير إلى استخراج
الإنجيل مثلاً، وكأن الإنجيل ليس من الكتب السماوية المعترف بها، كما
أنها لا تشير إلى صحف إبراهيم، ولا غير ذلك مما لا يتضمن إلماحةً إلى
مقدسات اليهود، وإلى تراثهم، وتاريخهم.
والذي يطالع هذه الخطبة بنصوصها الثلاثة يجد تركيزاً
متميزاً على بيت المقدس، وعلى الصخرة وغير ذلك مما يشير إلى بني
إسرائيل.
وقد جاءت
المرويات التي
لها هذه الصفة
في روايات غير الشيعة، مع وجود إشارات قوية لتدخّلات
مسلمة أهل الكتاب في هذا الأمر، من قبيل كعب الأحبار، ووهب بن منبه،
و.. الخ..
مع أن ثمة روايات تؤكد على
أن
الكوفة هي التي يتخذها الإمام المهدي «عجل الله فرجه» مقرا«ً لحكمه([10])،
وقد جاء في بعضها:
«دار ملكه الكوفة، ومجلس حكمه جامعها، وبيت ماله، ومقسم
غنائم المسلمين مسجد السهلة. وموضع خلواته الذكوات البيض من الغريين،
قال المفضل: يا مولاي كل المؤمنين يكونون بالكوفة؟!
قال:
إي والله الخ..»([11]).
هذا ونجد هذه الخطبة تقول أيضاً:
«وأما بيت المقدس، فإنه محفوظ إلى يأجوج ومأجوج، لأن
بيت المقدس فيه آثار الأنبياء، وتخرب مدينة رسول الله من كثرة الحرب»([12]).
وهذا أمر مريب وعجيب:
فأولاً:
إنه إذا كانت آثار الأنبياء هي السبب في حفظ بيت
المقدس، فلماذا حفظته إلى حين خروج يأجوج ومأجوج فقط، ثم تخلت عن حفظه
بعد ذلك؟!.
ثانياً:
إنه إذا كان في بيت المقدس آثار الأنبياء، فإن في مدينة
الرسول «صلى الله عليه وآله» آثار خاتم الأنبياء، وسيدهم، وأفضلهم،
ورئيسهم، وقائدهم، ألا وهو النبي محمد «صلى الله عليه وآله».
والإمام المهدي، وإن كان وارث الأنبياء، ولكن انتسابه
إلى جده المصطفى أوضح وأصرح..
وثالثاً:
لقد وردت روايات عديدة تفيد حفظ مكة والمدينة وأضافت
إليها بعض الروايات إيليا، ونجران، فراجع([13]).
ونجد هذه الخطبة تقول:
«قال «عليه
السلام»:
بعد ذلك يموت المهدي، ويدفنه عيسى بن مريم في المدينة بقرب جده»([14]).
ونقول:
إن الذي ورد عندنا هو أن الذي يدفن المهدي هو الإمام
الحسين «عليه السلام».
قال الحر العاملي:
«لما روي سابقاً في أحاديث كثيرة من رجعة الحسين «عليه السلام» عند
وفاة المهدي ليغسله»([15]).
وقد صرحت الروايات:
بأن الإمام الحسين «عليه السلام» يغسل المهدي، ويكفنه، ويحنطه، ويبلغه
حفرته، ويلحده. فراجع([16]).
وهذا يكذّب ما جاء في تلك الروايات، كما هو ظاهر.
وأما الإمام الحسين «عليه
السلام»، فيقبضه الله تعالى، ويعيده إلى حيث كان، ولا يحتاج إلى تغسيل
وتكفين، لأنه قضى شهيداً، وجرى حكمه على يد الإمام زين العابدين «عليه
السلام»..
وقد ورد في خطبة البيان أيضاً قوله:
«أنا مصحف الإنجيل»([17]).
ولم نستطع تحديد المراد من هذه الكلمة بصورة مقنعة
وسليمة.
فهل المراد بالتصحيف هنا:
ذلك المعنى الذي ينتهي إلى التحريف في الألفاظ، بسبب اختلاف النَّقط؟!
فيرد سؤال: لماذا يحرّف كتاب الله يا ترى؟!
أم أنه يقصد بالتصحيف جعله في الصحف، وكتابته فيها؟!
وأيّ فضيلة كبرى في هذا الأمر؟! وهل لم يكتب الإنجيل في الصحف قبله «عليه
السلام»؟!
ولماذا لا يفعل مثل ذلك بالتوراة، وصحف إبراهيم؟!
أم أنه يقصد:
أنه هو الذي أنشأه وأنزله حتى صار كتاباً يُقرأ ويتلى؟!
وهذا أمرّ وأدهى.
أم أن الحاء تقرأ مخفّفة، ويكون
معناها:
أنه قرآن الإنجيل ومصحفه!.
فلابد من الاجتهاد في فهم المراد من هذا الكلام الذي
يفتخر به، ويعده مكرمة لنفسه.
وقد دلت تلك الخطبة على أنه «عليه السلام» لا يزيل سائر
الأديان، بل هو يتعامل مع أهلها، وهم على دينهم.. مع أن هذا ينافي ما
روي عن أبي عبد الله «عليه السلام»: «إذا قام القائم لا يبقى أرض إلا
نودي فيها شهادة أن لا إله الله، وأن محمداً رسول الله»([18]).
وعن ابن بكير، عن أبي الحسن في قوله تعالى: ﴿وَلَهُ
أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً﴾([19])
قال: «أنزلت في القائم عليه السلام إذا خرج باليهود و النصارى
والصابئين والزنادقة وأهل الردة والكفار في شرق الأرض وغربها ، فعرض
عليهم الاسلام فمن أسلم طوعا أمره بالصلاة والزكاة وما يؤمر به المسلم
ويجب لله عليه ، ومن لم يسلم ضرب عنقه حتى لا يبقى في المشارق والمغارب
أحد الا وحد الله..»
([20]).
وعن أبي جعفر «عليه السلام» في تأويل قوله تعالى: ﴿وَقَاتِلُوهُمْ
حَتَّى لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلهِ﴾([21])
قال: لم يجئ تأويل هذه الآية بعد، إن رسول الله «صلى الله عليه وآله»
رخص لهم لحاجته وحاجة أصحابه، فلو قد جاء تأويلها لم يقبل منهم، لكنهم
يقتلون حتى يوحد الله عز وجل، وحتى لا يكون شرك
([22]).
وراجع ما رواه ابن طاوس عن صحف إدريس([23]).
وقال في النص الأول لخطبة البيان:
«وأما
بيت المقدس، فإنه محفوظ إلى يأجوج، ومأجوج، لأن بيت المقدس فيه آثار
الأنبياء».
وتخرب مدينة رسول الله
«صلى
الله عليه وآله»
من كثرة الحرب، وتخرب الهجر(!!) بالرياح والرمل.
إلى أن قال:
«ثم تخرج يأجوج ومأجوج، وهم صنفان:
الصنف الأول:
طول أحدهم مئة ذراع، وعرضه سبعون ذراعاً.
والصنف الثاني:
طول أحدهم ذراع، وعرضه ذراع. يفترش أحدهم (لعل الصحيح: إحدى) أذنيه،
ويلتحف بالأخرى.
وهم أكثر عدداً من النجوم، فيسيحون في الأرض، فلا يمرون
بنهر إلا وشربوه، ولا جبل إلا لحسوه، ولا وردوا على شط إلا نشفوه..
ثم تخرج بعد ذلك دابة الأرض الخ..».
ونقول:
أولاً:
إن ما ذكر في هذه الخطبة عن طول وعرض رجال يأجوج ومأجوج مروي في كتب
أهل السنة، ولم نجد في المصادر التي دونت حديث أهل البيت «عليهم
السلام» حديثاً يدل على أطوال وأحجام يأجوج ومأجوج سوى ما رواه الشيخ
حسن بن سليمان في كتاب المحتضر، بإسناده عن سلمان الفارسي، في حديث جاء
فيه: أن علياً «عليه السلام» أخذه إلى موضع يأجوج ومأجوج، قال سلمان:
«فرأيت أصنافاً ]أصناماً
خ.ل[
ثلاثة:
طول أحدهم [أحدهم خ.ل]:
مئة وعشرون ذراعاً.
والثاني:
طول كل واحد [طوله أحد وسبعون خ.ل] واحد وسبعون ذراعاً.
والثالث:
يفرش أحد أذنيه تحته، والأخرى يلتحف به»([24]).
قال المجلسي «رحمه الله» تعليقاً
على هذا الحديث:
«أقول: هذا خبر غريب، لم نره في الأصول التي عندنا، لا
نردها، ونرد علمها إليهم»([25]).
ثانياً:
لماذا تخرب مدينة الرسول «صلى
الله عليه وآله»،
وسائر المدن التي ذكرها. ويسلم بيت المقدس؟!
فإن كان وجود آثار الأنبياء في بيت المقدس هو المانع من
خرابها، فإن في المدينة المنورة آثار نبينا الأعظم
«صلى
الله عليه وآله»
وكونه مدفوناً فيها، وفيها أيضاً قبور أربعة من أئمة أهل البيت
«عليهم
السلام»..
يضاف إليهم
الإمام المهدي «عليه
السلام» الذي يدفن
فيها بقرب قبر
جده كما تقول الرواية، وهذا أهم من آثار جميع الأنبياء «عليهم السلام»،
لأنه «صلى
الله عليه وآله»
أعظمهم،
وأفضلهم.
ويزيد الأمر وضوحاً، بإضافة هؤلاء الأئمة الأطهار، لا
سيما وأنه قد توسل به وبهم الأنبياء العظام والكرام، مثل: آدم، ونوح،
وإبراهيم، وموسى، وعيسى، ويونس، و.. و..
ثالثاً:
لم تذكر لنا الخطبة مصير مكة، والمسجد الحرام، فلماذا تجاهلتها؟!
رابعاً:
ما هذه الخلقة العجيبة لبشر يكون طول أحدهم سبعين ذراعاً، ويكون عرضه
سبعين ذراعاً!!
وصنف آخر:
يكون ذراعاً بذراع.
وما هذه الصناديق التي تسير على وجه الأرض؟! وهل يكون
الرأس من ضمن السبعين ذراعاً؟! وكيف يكون شكله؟! وما هو شكل الرجلين؟!
وهل هما داخلان أيضاً في قياس الطول والعرض؟! أم خارجان عنه؟!
ولماذا طالت الأذنان دون سائر أعضائهم إلى حد أن أحدى
أذنيه تكون وطاءً، وتكون الأخرى غطاءً؟! وهل؟! وهل؟!
على أن بعض الروايات قد ذكرت:
أن طائفة منهم تكون أطوالهم أربعة أذرع في أربعة أذرع([26]).
وروى أيضاً:
أن الواحد منهم شبر وشبران وثلاثة([27]).
خامساً:
إن الأرض اليابسة كلها، وكذلك جميع المحيطات، والبحار قد أصبحت مكتشفة
في أيامنا هذه. فلماذا لم يذكر لنا أحد أنه رأى في أية بقعة منها
مخلوقات كهذه؟! لا سيما مع ما تذكره الروايات في كتب غير الشيعة من
أعداد هائلة لهم.. بحيث تكون مقدمتهم بالشام، وساقتهم بخراسان([28]).
سادساً:
إذا كان الترك في الأصل سرية من سرايا يأجوج ومأجوج وخرجت تغير، فبنى
ذو القرنين السد، وكانوا خارجه، فلم يتمكنوا من الالتحاق بإخوانهم في
الجهة الأخرى([29]).
إذا كان الأمر كذلك، فلماذا لا نرى في الترك أية صفة من
الصفات التي ذكرت لنا عن يأجوج ومأجوج؟! فإن أجسامهم ليست ذراعاً في
ذراع، ولا سبعين في سبعين، كما أن آذانهم عادية كآذان سائر البشر،
وليست بحيث يمكن أن يجعل أحدهم إحداها غطاءً والأخرى وطاءً؟!
قال تعالى:
﴿حَتَّى
إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لاَ
يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً، قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ
يَأجُوجَ وَمَأجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ
خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً، قَالَ مَا
مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ
بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً، آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى
إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذَا
جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً، فَمَا
اسْطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً، قَالَ
هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ
دَكَّاء وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً، وَتَرَكْنَا بَعْضَهُمْ
يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْنَاهُمْ
جَمْعاً، وَعَرَضْنَا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكَافِرِينَ عَرْضاً﴾([30]).
وقال تعالى:
﴿وَحَرَامٌ
عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ، حَتَّى
إِذَا فُتِحَتْ يَأجُوجُ وَمَأجُوجُ وَهُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ
يَنْسِلُونَ، وَاقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذَا هِيَ شَاخِصَةٌ
أَبْصَارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يَا وَيْلَنَا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ
مِنْ هَذَا بَلْ كُنَّا ظَالِمِينَ﴾([31]).
إن مراجعة هذه الآيات الكريمة تعطي أنه ليس في القرآن
الكريم أية إشارة إلى أنه تعالى يتحدث في الآيات عن يأجوج ومأجوج
الموجودين في عصرنا هذا..
بل الآيات تقول:
إن ذا القرنين جعل ردماً، يمنع يأجوج ومأجوج من التعرض لجيرانهم. وأنه
بعد أن بنى السد، ورأى أنه قد حقق الأهداف المرجوة منه قال:
﴿فَإِذَا
جَاء وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاء﴾..
ولم يوضح زمان هذا الوعد الإلهي بالتدمير، ولعله قد حصل فيما مضى، إذ
إن الجمع بين الآيات الكريمة يفيد: أن الله تعالى قد أهلك قريتهم، ودمر
سدهم..
لكن هلاك قريتهم التي فيها معظم قوتهم، وقوام عزهم،
الذي أشير إليه في قوله تعالى:
﴿وَحَرَامٌ
عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا أَنَّهُمْ لاَ يَرْجِعُونَ﴾..
لا يعني أن لا يبقى منهم أحد، فإن بقاياهم التي كانت تعيش خارج تلك
القرية تبقى، وتتكاثر..
ولعل هؤلاء البقايا هم الذين أشارت إليهم الآيات في
سورة الأنبياء في قوله تعالى:
﴿حَتَّى
إِذَا فُتِحَتْ يَأجُوجُ وَمَأجُوجُ﴾..
إذ لا مجال لفهم الارتباط بين هذه وبين ما سبقها، وهو
قوله تعالى:
﴿وَحَرَامٌ
عَلَى قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا﴾..
إلا إذا قلنا بأن الذين هلكوا في تلك القرية، هم غير هؤلاء الباقين
الذين سوف يخرجون بعد فتح بلادهم.. لأن هذا الفتح سوف يكون حين اقتراب
الوعد الحق للساعة، أعني يوم القيامة..
أما قوله تعالى في سورة الكهف:
﴿وَتَرَكْنَا
بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَنُفِخَ فِي الصُّورِ
فَجَمَعْنَاهُمْ جَمْعاً﴾..
فلا ربط له بيأجوج ومأجوج، بل هو يتحدث عن حال عامة الناس قبيل نفخ
الصور، حين يكون الهرج والمرج..
والحاصل:
أنه لا دلالة في الآيات على وجود السد الآن بيننا وبين يأجوج ومأجوج،
لكي نبحث عنه ونحدد وجوده.
كما أن من الممكن أن يكون هؤلاء الأقوام هم أحد الشعوب
التي تعيش الآن على هذه الأرض، وتتكاثر بصورة كبيرة وربما يكونون في
الصين أو في غيرها، لكن لم تسنح لهم الفرصة، ولم تفتح بلادهم، ليخرجوا
منها سراعاً، وينتشروا في الأرض..
وذكر في خطبة البيان:
أن دابة الأرض تخرج بعد يأجوج ومأجوج، فقد قال:
«ثم بعد ذلك تخرج دابة من الأرض لها رأس كرأس الفيل،
ولها وبر، وصوف، وشعر، وريش من كل لون، ومعها عصا موسى، وخاتم سليمان،
فتنكت وجه المؤمن بالعصا، فتجعله أبيض. وتنكت وجه الكافر بالخاتم،
فتجعله أسود. ويبقى المؤمن مؤمناً، والكافر كافراً. ثم ترفع بعد ذلك
التوبة».
ونقول:
إن هذا الكلام غير مقبول، وهو يخالف ما ورد عن أهل
البيت
«عليهم
السلام»،
فقد قال تعالى: ﴿وَإِذَا وَقَعَ
الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ
تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ﴾([32]).
وهذه الآية تدل على أنه إذا أصبح عذاب الكفار أمراً
واقعاً، فإن الله تعالى يخرج دابة من الأرض تكلمهم، ويكون نفس خروجها
آية لهم..
والدابة هي كل ما يدب على الأرض من إنسان أو غيره.. وقد
دلت الآية على أن لهذه الدابة عقلاً، وتمييزاً، وهي تتكلم معهم بكلام
يهمهم، ويفسر حالهم، حيث تقول:
﴿تُكَلِّمُهُمْ
أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا يُوقِنُونَ﴾.
وقد دلت الروايات عن أهل البيت «عليهم السلام»، على أن
هذه الدابة هي من البشر، وأنها هي علي بن أبي طالب.. وأنه يكون معها
عصا موسى، تسم بها وجه المؤمن، وخاتم سليمان تختم به وجه الكافر، وغير
ذلك. فلاحظ النصوص التالية:
1 ـ
علي بن إبراهيم قال: حدثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن
أبي بصير، عن أبي عبد الله «عليه السلام» قال: انتهى رسول الله «صلى
الله عليه وآله» إلى أمير المؤمنين «عليه السلام» وهو نائم في المسجد،
وقد جمع رملاً، ووضع رأسه عليه، فحركه برجله، ثم قال (له): قم يا دابة
الأرض.
فقال رجل من أصحابه:
يا رسول الله، أفيسمي بعضنا بعضاً بهذا الاسم؟!
فقال:
لا والله، ما هو إلا له خاصة، وهي الدابة التي ذكرها الله في كتابه: ﴿وَإِذَا
وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ
الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كَانُوا بِآَيَاتِنَا لَا
يُوقِنُونَ﴾([33]).
ثم قال:
يا علي، إذا كان آخر الزمان أخرجك الله في أحسن صورة
ومعك ميسم تسم به أعداءك.
فقال رجل لأبي عبد الله «عليه
السلام»:
«إن العامة يقولون هذه الدابة لا تكلمهم».
فقال أبو عبد الله «عليه السلام»:
كلمهم الله في نار جهنم وإنما هو تُكَلِّمهم من الكلام، والدليل على أن
هذا في الرجعة [قوله]: ﴿وَيَوْمَ
نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآَيَاتِنَا
فَهُمْ يُوزَعُونَ حَتَّى إِذَا جَاءُوا قَالَ أَكَذَّبْتُمْ
بِآَيَاتِي وَلَمْ تُحِيطُوا بِهَا عِلْماً أَمْ مَاذَا كُنْتُمْ
تَعْمَلُونَ﴾([34]).
قال:
الآيات أمير المؤمنين والأئمة «عليهم السلام».
فقال الرجل لأبي عبد الله «عليه
السلام»:
إن العامة
تزعم أن قوله: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ
كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً﴾
عني يوم القيامة.
فقال أبو عبد الله «عليه السلام»:
أفيحشر الله
«يوم القيامة» من كل أمة فوجاً ويدع الباقين؟! لا، ولكنه في الرجعة.
وأما آية القيامة [فهي]: ﴿وَحَشَرْنَاهُمْ
فَلَمْ نُغَادِرْ مِنْهُمْ أَحَداً﴾([35])»([36]).
وقد يقال:
كيف يحرك النبي «صلى الله عليه وآله» علياً «عليه
السلام» برجله.. ألا يتنافى هذا مع أدب الرسول؟!
ونجيب:
إن هذا إنما يكون له مورد فيما لو كان الضمير في كلمة
«برجله» يعود إلى الرسول «صلى الله عليه وآله». أما إذا كان مرجعه هو
علي «عليه السلام»، فلا يرد هذا الكلام، لأن المعنى حينئذٍ: أنه «صلى
الله عليه وآله» يحرك رجل علي «عليه السلام» ليوقظه، فإن النائم إذا
حرك برجله استيقظ غيرر منزعج. كما ورد في الروايات.
2 ـ
حدثني
أبي، عن ابن أبي عمير، عن المفضل، عن أبي عبد الله «عليه السلام» في
قوله تعالى: ﴿وَيَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ
كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً﴾([37]).
قال:
ليس أحد من المؤمنين قتل إلا يرجع حتى يموت، ولا يرجع
إلا من محض الإيمان محضاً، ومن محض الكفر محضاً.
قال أبو عبد الله «عليه السلام»:
قال رجل لعمار بن ياسر، يا أبا اليقظان، آية في كتاب
الله قد أفسدت قلبي وشككتني.
قال عمار:
وأي آية هي؟!
قال:
قول الله: ﴿وَإِذَا
وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ
الْأَرْضِ..﴾([38])
الآية. فأي دابة هي؟!
قال عمار:
والله، ما أجلس ولا آكل ولا أشرب حتى أريكها.
فجاء عمار مع الرجل إلى أمير المؤمنين «عليه السلام»
وهو يأكل تمراً وزبداً، فقال له: يا أبا اليقظان، هلم.
فجلس عمار، وأقبل يأكل معه. فتعجب الرجل منه، فلما قام
عمار قال له الرجل: سبحان الله يا أبا اليقظان، حلفت أنك لا تأكل ولا
تشرب ولا تجلس حتى ترينيها.
قال عمار:
قد أريتكها إن كنت تعقل([39]).
3 ـ
حدثنا محمد بن جعفر بن محمد بن الحسن قال: حدثنا عبد
الله بن محمد الزيات قال: حدثنا محمد، يعني ابن الجنيد، قال: حدثنا
مفضل بن صالح، عن جابر، عن أبي عبد الله الجدلي، قال: دخلت على علي
«عليه السلام» يوماً، فقال: أنا دابة الأرض([40]).
4 ـ
حدثنا علي بن أحمد بن حاتم، حدثنا إسماعيل بن إسحاق الراشدي، حدثنا
خالد بن مخلد، حدثنا عبد الكريم بن يعقوب الجعفي، عن جابر بن يزيد، عن
أبي عبد الله الجدلي، قال: دخلت على علي بن أبي طالب «عليه السلام»،
فقال: ألا أحدثك ثلاثاً قبل: أن يدخل علي وعليك داخل.
قلت:
بلى.
قال:
أنا عبد الله، أنا دابة الأرض، صدقها وعدلها، وأخو
نبيها.
ألا أخبرك بأنف المهدي وعينه؟!
قال:
قلت: نعم.
فضرب بيده إلى صدره، فقال:
أنا([41]).
5 ـ
حدثنا أحمد بن
محمد بن الحسن الفقيه، حدثنا أحمد بن عبيد بن ناصح، حدثنا الحسين بن
علوان، عن سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباته قال: دخلت على أمير
المؤمنين «عليه السلام» وهو يأكل خبزاً وخلاً وزيتاً، فقلت: يا أمير
المؤمنين، قال الله عز وجل: ﴿وَإِذَا
وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنَا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ
الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ﴾([42]).
فما هذه الدابة؟!
قال:
هي دابة تأكل خبزاً وخلاً وزيتاً([43]).
6 ـ
قال: حدثنا الحسين بن أحمد، عن محمد بن عيسى، عن يونس
بن عبد الرحمان، عن سماعة بن مهران، عن الفضل بن الزبير، عن الأصبغ بن
نباتة قال: قال لي معاوية: يا معاشر الشيعة، تزعمون أن علياً دابة
الأرض؟!
فقلت:
[نعم] نحن نقوله، واليهود يقولون.
[قال:]
فأرسل إلى رأس الجالوت، فقال [له]: ويحك تجدون دابة
الأرض عندكم مكتوبة؟!
فقال:
نعم.
فقال:
ما هي؟!
[فقال:
رجل.
فقال:]
أتدري ما اسمه؟!
قال:
نعم، اسمه إيليا.
قال:
فالتفت إلي، فقال: ويحك يا أصبغ، ما أقرب إيليا من علي([44]).
7 ـ
حدثنا الحسين بن إسماعيل القاضي، حدثنا عبد الله بن
أيوب المخزومي، حدثنا يحيى بن أبي بكير، حدثنا أبو حريز، عن علي بن زيد
بن جذعان، عن خالد بن أوس ـ قال القاضي: قال المخزومي: ـ خالد بن أوس،
عن أبي هريرة قال: قال رسول الله «صلى الله عليه وآله» تخرج دابة الأرض
ومعها عصى موسى وخاتم سليمان «عليهما السلام» تجلو وجه المؤمن بعصا
موسى «عليه السلام» وتسم وجه الكافر بخاتم سليمان([45]).
وذكرت الخطبة:
أن أصحاب المهدي يأتون إلى مكة، ثم يمضون إلى المهدي
وهو مختف تحت المنارة، فيقولون: أنت المهدي، فيقول: «نعم يا أنصاري، ثم
يخفي نفسه عنهم ليختبر طاعتهم، فيمضي إلى المدينة فيلحقونه، فإذا أحس
بهم يرجع إلى مكة، فلا يزالون على ذلك ثلاثاً، ثم يتراءى لهم بين الصفا
والمروة، فيبايعونه عند الصفا..».
ونقول:
أولاً:
هل يوجد تحت المنارة مكان يصلح للسكنى؟!
وإذا كان الجواب بالإيجاب، فلماذا يهمله القيمون على
الحرم، ولا يتفقدونه، حتى يسكن فيه من يشاء من الناس الذين لا
يعرفونهم؟!
ثانياً:
من أين عرف هؤلاء الناس موضع الإمام «عليه السلام»؟!
ثالثاً:
إذا كان هؤلاء الناس لم يروا الإمام «عليه السلام» ولا يعرفون شخصه،
فما الذي يمنع من أن يكون ذلك الرجل الذي كلموه ليس الإمام، وقد أحب
التدليس عليهم، واستغلال الفرصة للحصول على هذا المقام عندهم؟!
رابعاً:
ماذا نصنع بالروايات التي تقول: إن هؤلاء الثلاث مئة والثلاثة عشر
رجلاً يفقدون عن فرشهم([46])،
ويسير بعضهم إليه في السحاب، وهم أصحاب الألوية وهم النجباء، والقضاة
والحكام على الناس([47]).
ويبعث الله تعالى طائفة منهم من قبورهم، فما معنى أن
يحتاجوا إلى اختبار الطاعة([48]).
خامساً:
كيف حصل اختبار الطاعة لهم بغيبته عنهم إلى المدينة ثم
إلى مكة والعكس.. إلى ثلاث مرات؟!
سادساً:
قوله: إن البيعة حصلت بين الصفا والمروة يخالف ما ورد من أن الثلاث مئة
والثلاثة عشر يبايعونه بين الركن والمقام([49]).
وتقول الخطبة المزعومة:
«ألا وإن أول الفتن إذا انقطعت سنة مئة وثلاثة وستون
(كذا) سنة توقعوا أول الفتن».
مع أنهم يزعمون:
أن أول الفتن هو قتل عثمان.. وهناك من يقول: أول الفتن ما جرى بعد وفاة
الرسول «صلى الله عليه وآله»..
كما أن ما جرى في حروب الجمل وصفين والنهروان هو من
الفتن التي حدثت قبل سنة 163 هـ.
وتقول الخطبة:
«ويرتفع الزنا، والربا، وشرب الخمر ،والغناء، ولا يعمله أحد إلا وقتله
المهدي». مع أن حكم هؤلاء ليس هو القتل، فيقتل الزاني إذا كان محصناً.
فهل تتغير أحكام الشريعة في زمن الإمام «عليه السلام»؟! مع أن
الروايات تصرح: بأنه «عليه السلام» يعمل بكتاب الله وسنة رسوله([50]).
وبعد، فإننا لم نفهم المراد من قول ابن مسعود في أول
الخطبة:
«وكان رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد أسّر إليه [أي
إلى علي «عليه السلام»] السّر الخفي بينه وبين الله عز وجل، فلأجل ذلك
انتقل النور الذي كان في وجه رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى وجه
علي بن أبي طالب «عليه السلام»..»
قال:
ومات النبي «صلى الله عليه وآله» في مرضه الذي أوصى فيه لعلي أمير
المؤمنين «عليه السلام»([51]).
ونقول:
أولاً:
ألم تكن الإمامة ونورها في علي «عليه السلام»، منذ أن
بعث الله تعالى محمد «صلى الله عليه وآله» نبياً؟! بل كانت إمامته منذ
ولادته «عليه السلام»، أو منذ أن خلق الله تعالى نوره ونور النبي «صلى
الله عليه وآله» وجعلهما مطيفين بعرشه..
ثانياً:
وإن كان المراد إعلان ولايته على الناس، فيرد السؤال الذي يقول: ألم
ينصبه «صلى الله عليه وآله» إماماً وولياً للأمة في يوم إنذاره عشيرته
الأقربين؟! وفي يوم الغدير؟! حيث أخذ له البيعة من أكثر من مئة وعشرين
ألفاً من المسلمين في حجة الوداع، قبل استشهاده «صلى الله عليه وآله»
بحوالي سبعين يوماً.
على أننا نسأل أيضاً:
هل النور الذي انتقل هو نور الإمامة والولاية؟! أم هو
نور النبوة والرسالة؟!
وعلى التقدير الثاني:
هل أصبح علي «عليه السلام» نبياً أيضاً ـ والعياذ بالله
ـ أم أنه قد حصل على علم النبوة ولم يحصل على نفس النبوة؟!
وعلى جميع التقادير،
هل بقي من هذا النور شيء في وجه النبي «صلى الله عليه وآله»؟! أم أن
وجهه الشريف قد خلا من ذلك النور بالكلية؟!
وعلى التقدير الثاني، هل كان ذلك على سبيل العقاب له
«صلى الله عليه وآله» على إفشاء السر؟! أم أن هذا الإفشاء يوجب فراغ
الذات النبوية، لأجل ما يعرض لها من الجهل، فيكون انتقال النور من
الجاهل بالسر إلى العالم به أمراً طبيعياً؟!
وكيف يمكن أن نتصور هذا الجهل؟! فهل هو على سبيل
النسيان للسر، أم هو إنساء من الله سبحانه له؟!
وهل مجرد إفشاء ذلك السر يوجب انتقال النور من شخص إلى
آخر؟!.
وهل كان هذا الإفشاء بإذن من الله سبحانه، أو بدونه؟!
وهل كان وجه علي
«عليه السلام»
خالياً من النور قبل اطّلاعه على ذلك السر؟!
وهل يمكن استفادة إلماحة خفيّة إلى عقيدة الحلول ـ التي
تعتقد بها بعض الفرق الباطنية ـ وهل يمكن تأييد هذا التلميح بالموارد
الكثيرة التي صرحت بهذه العقيدة في فقرات الخطبة، في نصوصها الثلاثة
المختلفة؟!
وليت أحداً يستطيع أن يعرّفنا
شيئاً عن حقيقة وطبيعة ذلك السر المنتقل، الذي أوجب انتقال ذلك النور.
ويقول النص الأول لخطبة البيان:
«اسمعوا أبيِّن لكم أسماء أنصار القائم: إن أولهم من
أهل البصرة، وآخرهم من الأبدال»([52]).
وقال:
«وستة رجال من الأبدال كلهم أسماؤهم عبد الله»([53]).
ولا
نريد أن نتوقف عند قوله:
إن أول أنصار القائم من البصرة؟! ولماذا لم يكن من غيرها؟! ألإن البصرة
كانت عثمانية برهة من الزمن؟! أو لأن علياً «عليه السلام» أكثر شكواه
فيها، وكانت أول بلد حاربه «عليه السلام»؟!
أما بالنسبة للأبدال، فنقول:
قلنا في كتابنا مختصر مفيد ما يلي:
إن الروايات التي تتحدث عن الأبدال، وأنهم في الشام،
إنما رواها العامة، لا الخاصة.. غير أنه قد روي عن خالد بن أبي الهيثم
الفارسي أنه قال: قلت لأبي الحسن الرضا عليه السلام: إن الناس يزعمون
أن في الأرض أبدالاً، فمن هم هؤلاء الأبدال؟!
قال:
صدقوا، الأبدال هم الأوصياء. جعلهم الله عز وجل في
الأرض بدل الأنبياء، إذا رفع الأنبياء، وختمهم بمحمد صلى الله عليه
وآله([54])..
وفي هذا الحديث إسقاط للحديث الذي رواه العامة عن
الاعتبار، وإثارة لأكثر من سؤال عن سبب وضعه..
ولكن قد ورد في الدعاء المروي عن أم داود، عن الإمام
الصادق «عليه السلام»، في النصف من رجب، قوله:
«اللهم صل على محمد وآل محمد، وارحم محمداً وآل محمد،
وبارك على محمد وآل محمد، كما صليت، ورحمت، وباركت على إبراهيم وآل
إبراهيم، إنك حميد مجيد.
اللهم صل على الأوصياء والسعداء، والشهداء، وأئمة
الهدى.
اللهم صل على الأبدال والأوتاد، والسياح والعباد،
والمخلصين والزهاد، وأهل الجد والاجتهاد»([55]).
فقد تضمن هذا الدعاء ذكراً للأبدال
أيضاً، ونجيب:
بأنه رغم أن ما ورد في هذا الدعاء قد جاء على سبيل
النعت والتوصيف، لا ليدل على وجود أناس بأعيانهم لهم هذا الاسم.. إلا
أنه لا يعارض الرواية الآنفة الذكر، فإن الذين ثبتت لهم هذه الصفات على
نحو الحقيقة، هم خصوص أئمة الهدى «عليهم السلام»، وأما إطلاقها على
غيرهم، فهو بضرب من التجوز والتسامح في التعبير..
بل لقد روي ما قد يستفاد منه تضايق الأئمة من نسبة مثل
هذا الحديث إليهم، فقد روى المفيد، بسنده عن محمد بن سويد الأشعري،
قال:
«دخلت أنا وفطر بن خليفة، على جعفر بن محمد، فقرب إلينا
تمراً، فأكلنا، وجعل يناول فطراً منه..
ثم قال له:
كيف الحديث الذي حدثتني عن أبي الطفيل «رحمه الله» في
الأبدال؟!
فقال فطر:
سمعت أبا الطفيل يقول: سمعت علياً أمير المؤمنين «عليه
السلام» يقول: الأبدال من أهل الشام، والنجباء من أهل الكوفة، يجمعهم
الله لشر يوم لعدونا..
فقال جعفر الصادق:
رحمكم الله، بنا يبدأ البلاء ثم بكم. وبنا يبدأ الرخاء
ثم بكم، رحم الله من حببنا إلى الناس، ولم يكرِّهنا إليهم»([56]).
وهذا الحديث كما ترى، قد رواه للإمام «عليه السلام»،
فطر بن خليفة ـ وهو من رجال العامة ـ ويلاحظ: أن الإمام «عليه السلام»
كان يناول التمر لفطر، ربما لأنه يريد أن يتلطف به، ليستخرج منه
إقراراً بحديث أبي الطفيل، عن الإمام علي «عليه السلام»، وكأنه توطئة
لإعلان عدم رضاه بمثل هذه النقول.
ثم إنه بعد أن أعاد فطر الحديث على مسامعه، أعلن «عليه
السلام»، بلطف وحكمة، عدم رضاه عن مضمونه، ربما لأنه اعتبره أحد وسائل
التحريض على أهل البيت «عليهم السلام» وشيعتهم.. وإثارة مناوئيهم ضدهم،
إذا عرفوا: أن الشيعة سوف يجتمعون في يوم يحل فيه البلاء بأولئك
المناوئين..
وقد ذكر «عليه السلام»:
أن البلاء يصيب أولاً أهل البيت «عليهم السلام» ثم يصيب الآخرين، فلا
ينبغي أن يغضب الآخرون من أهل البيت «عليهم السلام»، أو من شيعتهم..
ولعل الإمام «عليه السلام» رأى في هذا الحديث أيضاً
تأييداً لحكم بني أمية، وتقوية لهم. وهذا الأمر يزيد من بلاء أهل البيت
«عليهم السلام» وشيعتهم..
وفي جميع الأحوال نقول:
إن حديث «الأبدال في الشام»، قد وضعه ـ فيما يظهر ـ
الأمويون، وروجوا له، بهدف تأييد ملكهم وسلطانهم به.. وليس لهذا الحديث
أثر ـ فيما يبدو ـ في كتب شيعة أهل البيت «عليهم السلام»، ولا هو مقبول
عند أئمة أهل البيت «عليهم السلام»..
والحديث المذكور عن الاحتجاج يدلنا:
على أن مصطلح الأبدال يشير إلى معنى آخر، لا يمكن انطباقه على أهل
الشام، ولا على غيرهم، فهو إذن مصطلح قد غُيّر مساره، وطُبِّق على غير
أهله..
وبذلك كله يظهر:
أنه لا يصح تطبيق حديث الأبدال بالشام، على شيعة أهل البيت، الذين
يعيشون في أكناف هذه البلاد (في جبل عامل وغيره)، إذ إن المثل يقول:
«العرش ثم النقش».
([1])
إلزام الناصب ص199 وبشارة الإسلام ص210.
([2])
راجع: بحار الأنوار ج19 ص196 ومكاتيب الرسول ج1 ص666 والدر
المنثور ج1 ص343 وج1 ص142 ومجمع البيان ج1 ص413 وتفسير مقاتل
ج1 ص83 وفتح القدير ج2 ص467 والعجاب لابن حجر ج1 ص395 والجامع
لأحكام القرآن ج8 ص371 والتفسير الكبير للرازي ج4 ص122 = = و
141 ونواسخ القرآن لابن الجوزي ص50 والمحرر الوجيز لابن عطية
ج1 ص287 وتفسير البغوي ج1 ص128 وتفسير السمعاني ج1 ص124 و 152
وأسباب النزول ص26 و 136 وتفسير الثعلبي ج2 ص11 و 17 وتفسير
ابن زمنين ج1 ص185 وتفسير السمرقندي ج1 ص127 وجامع البيان ج2
ص7 و 35 و 4 وأحكام القرآن للشافعي ج1 ص64 والبداية والنهاية
ج2 ص14 وج7 ص65 والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج2 ق2 ص149 وقصص
الأنبياء لابن كثير ج2 ص46 ومقدمة ابن خلدون ص354 و 355.
([3])
راجع:إلزام الناصب (ط سنة 1404 هـ) ج2 ص209.
([4])
إلزام الناصب ج2 ص225.
([5])
السنن الورادة في الفتن لأبي عمرو المقري ص1256 والمهدي
المنتظر للغماري ص61 والبرهان في علامات مهدي آخر الزمان ص160
وعقد الدرر ص220 ومصادر كثيرة أخرى.
([7])
راجع: أضواء على السنة المحمدية ص191 و 192 والبداية والنهاية
ج9 ص155 و 156 والمقدمة لابن خلدون ص311 ويوم الخلاص ص617 و
619 عن كشف الغمة ج3 ص273 و 274 وبشارة الإسلام ص192 و 274 و
275 وإلزام الناصب ص228 و 229 وصحيح مسلم ج8 ص197 و 198 و 260
وينابيع المودة ج3 ص66 و 136 عن إسعاف الراغبين ص92. انتهى.
وراجع: تهذيب تاريخ ابن عساكر ج1 ص50 والملاحم والفتن لنعيم بن
حماد ص158 و 163 و 167 ومعجم أحاديث الإمام المهدي ج1 ص553 ـ
559 عن مصادر كثيرة.
([8])
راجع: الإصحاح الثاني من رسالة بولس الثانية والإصحاح19 و20 من
رؤيا يوحنا.
([10])
راجع: بشارة الإسلام ص244 و 245 و 246 عن البحار، والغيبة
للطوسي ص284 والبحار ج52 ص381.
([11])
البحار ج53 ص11 وبشارة الإسلام ص258.
([12])
راجع إلزام الناصب ج2 ص182 تحقيق السيد علي عاشور.
([13])
راجع: الملاحم والفتن [مخطوط] لنعيم بن حماد الورقة 158 و 159
وكنز العمال ج13 ص319 بل راجع ما بين ص200 حتى ص224 وإلزام
الناصب ص181.
([14])
إلزام الناصب ص202.
([15])
الإيقاظ من الهجعة ص404 وراجع ص306.
([16])
راجع: الإيقاظ من الهجعة
ص310 و 368 وتفسير البرهان ج2 ص406.
([17])
إلزام الناصب ص193.
([18])
تفسير العياشي ج1 ص183 وبحار الأنوار ج52 ص340 وتفسير نور
الثقلين ج1 ص362 وتفسير كنز الدقائق ج2 ص147.
([19])
الآية 83 من سورة آل عمران.
([20])
شرح الأخبار ج3 ص564 وتفسير العياشي ج1 ص183 وبحار الأنوار ج52
ص340 وتفسير نور الثقلين ج1 ص362 وتفسير كنز الدقائق ج2 ص147.
([21])
الآية 39 من سورة الأنفال.
([22])
الكافي ج8 ص201 وبحار الأنوار ج52 ص378 وجامع أحاديث الشيعة
ج13 ص216 وتفسير نور الثقلين ج2 ص154 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة
آل البيت) ج15 ص127 و (ط دار الإسلامية) ج11 ص97 وينابيع
المودة ج3 ص239 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج13 ص335.
([23])
بحار الأنوار ج52 ص384 عن سعد السعود لابن طاوس..
([24])
بحار الأنوار ج27 ص36 والمحتضر 71 ـ 76.
([25])
بحار الأنوار ج27 ص40.
([26])
الدر المنثور ج ص عن ابن المنذر، وابن أبي حاتم عن كعب
الأحبار.
([27])
الدر المنثورج ص عن ابن المنذر، والحاكم، وغيرهما، عن ابن
عباس.
([28])
بحار الأنوار ج6 ص298.
([29])
راجع: بحار الأنوار ج6 ص298عن وهب بن منبه ومقاتل.
([30])
الآيات ص93 ـ 100 من سورة الكهف.
([31])
الآيات 95 ـ 97 من سورة الأنبياء.
([32])
الآية 82 من سورة النمل.
([33])
الآية 82 من سورة النمل.
([34])
الآيتان 83 و 84 من سورة النمل.
([35])
الآية 47 من سورة الكهف.
([36])
تفسير القمي ج2 ص130 وتفسير نور الثقلين ج4 ص98 وتأويل الآيات
ج1 ص406 و 407 وبحار الأنوار ج53 ص52 و 53 وج39 ص243 ومدينة
المعاجز ج3 ص90 ومختصر البصائر ص168 ومستدرك سفينة البحار ج3
ص250 وتفسير الميزان ج15 ص405 والإيقاظ من الهجعة بالبرهان
على الرجعة للحر العاملي ص315 و 316 .
([37])
الآية 83 من سورة النمل.
([38])
الآية 82 من سورة النمل.
([39])
تفسير القمي ج2 ص131 وتفسير نور الثقلين ج4 ص98 وبحار الأنوار
ج53 ص53 وج39 ص242 ومدينة المعاجز ج3 ص92 ومختصر البصائر ص169.
([40])
بحار الأنوار ج53 ص100 و 110 و 117 وج39 ص243 و 244 ومدينة
المعاجز ج3 ص93 و 94 ومختصر بصائر الدرجات ص206 و 207 ومناقب
آل أبي طالب ج2 ص297 وتأويل الآيات ج1 ص403 والإيقاظ من الهجعة
ص350 .
([41])
بحار الأنوار ج53 ص110 وج39 ص243 ومدينة المعاجز ج3 ص93 ومختصر
بصائر الدرجات ص206 وتأويل الآيات ج1 ص404.
([42])
الآية 82 من سورة النمل.
([43])
مختصر بصائر الدرجات ص208 ومدينة المعاجز ج3 ص94 وبحار الأنوار
ج39 ص243 و 244 وج53 ص112 وتأويل الآيات ج1 ص404 والإيقاظ من
الهجعة ص352.
([44])
بحار الأنوار ج39 ص243 و 244 وتأويل الآيات ج1 ص404 و 405
ومدينة المعاجز ج3 ص95 .
([45])
مختصر بصائر الدرجات ص208 وبحار الأنوار ج53 ص111 و الإيقاظ من
الهجعة ص352 وراجع: تفسير القرآن العظيم ج3 ص387 والدر المنثور
ج5 ص116 وفتح القدير ج4 ص153 وتفسير الآلوسي ج20 ص22.
([46])
راجع: الغيبة للنعماني ص326 و 330 ودلائل الإمامة ص555.
([47])
دلائل الإمامة ص555.
([48])
راجع: ميزان الحكمة ج2 ص1037 وبحار الأنوار ج53 ص62 و 76 و 77
و 90 و 91 وراجع دلائل الإمامة ص479 والغيبة للطوسي ص458
والخرائج والجرائح ج3 ص1166 ومنتخب الأنوار المضيئة ص36 وحلية
الأبرار ج5 ص301 و 352 ونوادر الأخبار ص283 وإثبات الهداة ج3
ص515 عن الغيبة للطوسي، والإيقاظ من الهجعة ص271 و 266 وتنقيح
المقال ج2 ص189 ورجال ابن داود ص206 ورجال الكشي ص217 ومجمع
الرجال ج4 ص5.
([49])
راجع: تفسير العياشي ج1 ص65 وبحار الأنوار ج52 ص223 وإلزام
الناصب (ط سنة 1404 هـ) ج2 ص101 ومكيال المكارم ج1 ص255 وراجع:
ينابيع المودة ج3 ص172 غير أنه قال: إن عدة الذين يبايعونه
«عليه السلام» هم 360 رجلاً.
([50])
بحار الأنوار ج5 ص308.
([51])
إلزام الناصب ص193.
([52])
راجع:إلزام الناصب (ط سنة 1404 هـ.ق) ج2 ص201.
([53])
المصدر السابق ج2 ص204.
([54])
الاحتجاج ج2 ص449 و450 والبحار ج27 ص48.
([55])
بحار الأنوار ج27 ص48 وإقبال الأعمال ج3 ص244 وبحار الأنوار
ج95 ص401 ومسند الإمام الرضا ج2 ص11.
([56])
الأمالي للمفيد ص31 والبحار ج52 ص347.
|