إن هذا الفصل ليس من هذا الكتاب، وأنا لم أكتبه، وإنما
أحببت أن أنقله إلى القارئ الكريم، تماماً كساعي البريد الذي ينقل
أقوال وكتابات ورسائل من هذا إلى ذاك، أو بالعكس.
وحقيقة الأمر:
هي أنني أحببت أن أقدم لمحة عن علم علي «عليه السلام»، ليكون مقدمة
للفصول التي تعرضت لبعض ما له ارتباط بسيرته، فتمثل لي عجزي عن إدراك
أدنى سفوح ذلك الجبل الأشم. فلم أجد لي مناصاً سوى أن أتفيأ ظلال ذلك
الجبل، مرتاحاً إلى بعض النسمات العذاب التي تنساب من قممه الشامخة إلى
سفوحه الفسيحة، فتنتشي بها الأرواح، وتحيا بها القلوب.
وحين لمحت في المقدمة التي أثبتها ابن أبي الحديد
المعتزلي في كتابه شرح نهج البلاغة ما هو أدنى من لمعة الحباحب([1])
في عين شمس تموز، وهي تتوهج رأد الضحى، أحببت أن أستعير هذه اللمعة،
فلعل عين عقل، أو بصيرة قلب لا غشاء عليه تتمكن من التقاطها عبر
مجاهرها العملاقة.. ثم تضعها في عين شمس علي «عليه السلام»، وتقارن
بينهما، فلعلها تدرك المسافة فيما بين هذه الشمس الضاحية، وبين لمعة
الحباحب تلك.
وما استعرناه من كتاب ذلك المعتزلي ـ الذي استطاع أن
يعترف بهذا القدر من الحق، رغم سعيه الحثيث في كتابه لإطفاء نور الله،
وتعمية السبل على الباحثين عنه، والساعين إليه ـ هو ما يلي:
قال
المعتزلي:
«فأما فضائله «عليه السلام»، فإنها قد بلغت من العظم والجلالة،
والانتشار والإشتهار، مبلغاً يسمج معه التعرض لذكرها، والتصدي
لتفصيلها، فصارت كما قال أبو العيناء لعبيد الله بن يحيى بن خاقان وزير
المتوكل والمعتمد: رأيتني فيما أتعاطى من وصف فضلك، كالمخبر عن ضوء
النهار الباهر، والقمر الزاهر، الذي لا يخفى على الناظر، فأيقنت أنى
حيث انتهى بي القول منسوب إلى العجز، مقصر عن الغاية، فانصرفت عن
الثناء عليك إلى الدعاء لك، ووكلت الإخبار عنك إلى علم الناس بك.
وما أقول في رجل أقر له أعداؤه وخصومه بالفضل، ولم
يمكنهم جحد مناقبه، ولا كتمان فضائله، فقد علمت أنه استولى بنو أمية
على سلطان الإسلام في شرق الأرض وغربها، واجتهدوا بكل حيله في إطفاء
نوره، والتحريض عليه، ووضع المعايب والمثالب له، ولعنوه على جميع
المنابر، وتوعدوا مادحيه، بل حبسوهم وقتلوهم، ومنعوا من رواية حديث
يتضمن له فضيلة، أو يرفع له ذكراً، حتى حظروا أن يسمى أحد باسمه، فما
زاده ذلك إلا رفعة وسمواً، وكان كالمسك كلما ستر انتشر عرفه، وكلما كتم
تضوع نشره، وكالشمس لا تستر بالراح، وكضوء النهار إن حجبت عنه عين
واحدة، أدركته عيون كثيرة!
وما أقول في رجل تعزى إليه كل فضيلة، وتنتهي إليه كل
فرقة، وتتجاذبه كل طائفة، فهو رئيس الفضائل وينبوعها، وأبو عذرها،
وسابق مضمارها، ومجلي حلبتها، كل من بزغ فيها بعده فمنه أخذ، وله
اقتفى، وعلى مثاله احتذى.
وقد عرفت أن أشرف العلوم هو العلم الإلهي، لأن شرف
العلم بشرف المعلوم، ومعلومه أشرف الموجودات، فكان هو أشرف العلوم.
ومن كلامه «عليه السلام» اقتبس، وعنه نقل، وإليه انتهى،
ومنه ابتدأ، فإن المعتزلة ـ الذين هم أهل التوحيد والعدل، وأرباب
النظر، ومنهم تعلم الناس هذا الفن([2])
ـ تلامذته وأصحابه، لأن كبيرهم واصل بن عطاء تلميذ أبى هاشم عبد الله
بن محمد بن الحنفية، وأبو هاشم تلميذ أبيه، وأبوه تلميذه «عليه
السلام».
وأما الأشعرية، فإنهم ينتمون إلى أبى الحسن علي بن
«إسماعيل بن» أبى بشر الأشعري، وهو تلميذ أبى على الجبائي، وأبو علي
أحد مشايخ المعتزلة، فالأشعرية ينتهون بأخرة إلى أستاذ المعتزلة
ومعلمهم وهو علي بن أبي طالب «عليه السلام».
وأما الإمامية والزيدية، فانتماؤهم إليه ظاهر.
ومن العلوم:
علم الفقه، وهو «عليه السلام» أصله وأساسه، وكل فقيه في
الاسلام فهو عيال عليه، ومستفيد من فقهه.
أما أصحاب أبي حنيفة كأبي يوسف ومحمد وغيرهما، فأخذوا
عن أبي حنيفة.
وأما الشافعي فقرأ على محمد بن الحسن، فيرجع فقهه أيضا
إلى أبي حنيفة.
وأما أحمد بن حنبل، فقرأ على الشافعي، فيرجع فقهه أيضا
إلى أبي حنيفة، وأبو حنيفة قرأ على جعفر بن محمد «عليه السلام»، وقرأ
جعفر على أبيه «عليه السلام»، وينتهي الأمر إلى علي «عليه السلام».
وأما مالك بن أنس، فقرأ على ربيعة الرأي، وقرأ ربيعة
على عكرمة، وقرأ عكرمة على عبد الله بن عباس، وقرأ عبد الله بن عباس
على علي بن أبي طالب، وإن شئت رددت إليه فقه الشافعي بقراءته على مالك
كان لك ذلك، فهؤلاء الفقهاء الأربعة.
وأما فقه الشيعة:
فرجوعه إليه ظاهر. وأيضا فإن فقهاء الصحابة كانوا: عمر
بن الخطاب([3])
وعبد الله بن عباس، وكلاهما أخذ عن علي «عليه السلام».
أما ابن عباس فظاهر.
وأما عمر فقد عرف كل أحد رجوعه إليه في كثير من المسائل
التي أشكلت عليه وعلى غيره من الصحابة، وقوله غير مرة: لولا على لهلك
عمر، وقوله: لا بقيت لمعضلة ليس لها أبو الحسن. وقوله: لا يفتين أحد في
المسجد وعلى حاضر، فقد عرف بهذا الوجه أيضا انتهاء الفقه إليه.
وقد روت العامة والخاصة قوله «صلى الله عليه وآله»:
«أقضاكم على»، والقضاء هو الفقه، فهو إذاً أفقههم.
وروى الكل أيضاً:
أنه «عليه السلام» قال له وقد بعثه إلى اليمن قاضياً: «اللهم اهد قلبه
وثبت لسانه» قال: فما شككت بعدها في قضاء بين اثنين، وهو «عليه السلام»
الذي أفتى في المرأة التي وضعت لستة أشهر، وهو الذي أفتى في الحامل
الزانية، وهو الذي قال في المنبرية: صار ثمنها تسعا. وهذه المسألة لو
فكر الفرضي فيها فكراً طويلاً لاستحسن منه بعد طول النظر هذا الجواب،
فما ظنك بمن قاله بديهة، واقتضبه ارتجالاً.
ومن العلوم:
علم تفسير القرآن، وعنه أخذ، ومنه فرع. وإذا رجعت إلى
كتب التفسير علمت صحة ذلك، لأن أكثره عنه، وعن عبد الله بن عباس، وقد
علم الناس حال ابن عباس في ملازمته له، وانقطاعه إليه، وأنه تلميذه
وخريجه. وقيل له: أين علمك من علم ابن عمك؟!
فقال:
كنسبة قطرة من المطر إلى البحر المحيط.
ومن العلوم:
علم الطريقة والحقيقة، وأحوال التصوف، وقد عرفت أن
أرباب هذا الفن في جميع بلاد الاسلام، إليه ينتهون، وعنده يقفون، وقد
صرح بذلك الشبلي، والجنيد، وسري، وأبو يزيد البسطامي، وأبو محفوظ معروف
الكرخي، وغيرهم. ويكفيك دلالة على ذلك الخرقة التي هي شعارهم إلى
اليوم، وكونهم يسندونها بإسناد متصل إليه «عليه السلام».
ومن العلوم:
علم النحو والعربية، وقد علم الناس كافه أنه هو الذي
ابتدعه وأنشأه، وأملى على أبى الأسود الدؤلي جوامعه وأصوله، من جملتها
الكلام كله ثلاثة أشياء: اسم وفعل وحرف.
ومن جملتها:
تقسيم الكلمة إلى معرفة ونكرة، وتقسيم وجوه الإعراب إلى
الرفع والنصب والجر والجزم، وهذا يكاد يلحق بالمعجزات، لأن القوة
البشرية لا تفي بهذا الحصر، ولا تنهض بهذا الاستنباط.
وإن رجعت إلى الخصائص الخلقية والفضائل النفسانية
والدينية وجدته ابن جلاها وطلاع ثناياها.
وأما الشجاعة:
فإنه أنسى الناس فيها ذكر من كان قبله، ومحا اسم من
يأتي بعده، ومقاماته في الحرب مشهورة يضرب بها الأمثال إلى يوم
القيامة، وهو الشجاع الذي ما فر قط، ولا ارتاع من كتيبة، ولا بارز
أحداً إلا قتله، ولا ضرب ضربة قط فاحتاجت الأولى إلى ثانية، وفي
الحديث: «كانت ضرباته وتراً»، ولما دعا معاوية إلى المبارزة ليستريح
الناس من الحرب بقتل أحدهما، قال له عمرو: لقد أنصفك.
فقال معاوية:
ما غششتني منذ نصحتني إلا اليوم! أتأمرني بمبارزة أبي
الحسن وأنت تعلم أنه الشجاع المطرق! أراك طمعت في إمارة الشام بعدي!
وكانت العرب تفتخر بوقوفها في الحرب في مقابلته، فأما
قتلاه فافتخار رهطهم بأنه «عليه السلام» قتلهم أظهر وأكثر، قالت أخت
عمرو بن عبد ود ترثيه:
لـو كـان قـاتـل عمرو غير قاتله بـكـيـتـه
أبـداً مـا دمـت في الأبـد
لكـن قـاتـلـه مـن لا نـظـير لـه وكـان يـدعـى أبـوه بـيـضة
البلد
وانتبه يوماً معاوية، فرأى عبد الله بن الزبير جالساً
تحت رجليه على سريره، فقعد، فقال له عبد الله يداعبه: يا أمير
المؤمنين، لو شئت أن أفتك بك لفعلت.
فقال:
لقد شجعت بعدنا يا أبا بكر.
قال:
وما الذي تنكره من شجاعتي وقد وقفت في الصف إزاء علي بن
أبي طالب!
قال:
لا جرم أنه قتلك وأباك بيسرى يديه، وبقيت اليمنى فارغة، يطلب من يقتله
بها.
وجملة الأمر:
أن كل شجاع في الدنيا إليه ينتهي، وباسمه ينادى في
مشارق الأرض ومغاربها.
وأما القوة والأيد:
فبه يضرب المثل فيهما.
قال ابن قتيبة في «المعارف»:
ما صارع أحداً قط إلا صرعه.
وهو الذي قلع باب خيبر، واجتمع عليه عصبة من الناس
ليقلبوه فلم يقلبوه.
وهو الذي اقتلع هبل من أعلى الكعبة، وكان عظيماً جداً،
وألقاه إلى الأرض.
وهو الذي اقتلع الصخرة العظيمة في أيام خلافته «عليه
السلام» بيده بعد عجز الجيش كله عنها، وأنبط الماء من تحتها.
وأما السخاء والجود:
فحاله فيه
ظاهرة، وكان يصوم ويطوي ويؤثر بزاده، وفيه أنزل: ﴿وَيُطْعِمُونَ
الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا
نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهِ لَا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزَاءً وَلَا
شُكُوراً﴾([4]).
وروى المفسرون:
أنه لم يكن
يملك إلا أربعة دراهم، فتصدق بدرهم ليلاً، وبدرهم نهاراً، وبدرهم سراً،
وبدرهم علانية، فأنزل فيه: ﴿الَّذِينَ
يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهَارِ سِرّاً
وَعَلَانِيَةً﴾([5]).
وروى عنه:
أنه كان يسقي بيده لنخل قوم من يهود المدينة، حتى مجلت يده، ويتصدق
بالأجرة، ويشد على بطنه حجراً.
وقال الشعبي وقد ذكره «عليه
السلام»:
كان أسخى الناس، كان على الخلق الذي يحبه الله: السخاء
والجود، ما قال: «لا» لسائل قط.
وقال عدوه ومبغضه الذي يجتهد في وصمه وعيبه معاوية بن
أبي سفيان لمحفن بن أبي محفن الضبي لما قال له: جئتك من عند أبخل
الناس.
فقال:
ويحك! كيف تقول: إنه أبخل الناس، لو ملك بيتاً من تبر
وبيتاً من تبن، لأنفد تبره قبل تبنه.
وهو الذي كان يكنس بيوت الأموال ويصلي فيها.
وهو الذي قال:
يا صفراء، ويا بيضاء، غري غيري.
وهو الذي لم يخلف ميراثاً، وكانت الدنيا كلها بيده إلا
ما كان من الشام.
وأما الحلم والصفح:
فكان أحلم الناس عن ذنب، وأصفحهم عن مسئ، وقد ظهر صحة
ما قلناه يوم الجمل، حيث ظفر بمروان بن الحكم ـ وكان أعدى الناس له،
وأشدهم بغضاً ـ فصفح عنه.
وكان عبد الله بن الزبير يشتمه على رؤوس الأشهاد، وخطب
يوم البصرة، فقال: قد أتاكم الوغد اللئيم علي بن أبي طالب ـ وكان علي
«عليه السلام» يقول: ما زال الزبير رجلاً منا أهل البيت حتى شب عبد
الله ـ فظفر به يوم الجمل، فأخذه أسيراً، فصفح عنه، وقال: اذهب فلا
أرينك، لم يزده على ذلك([6]).
وظفر بسعيد بن العاص بعد وقعة الجمل بمكة، وكان له
عدواً، فأعرض عنه ولم يقل له شيئاً.
وقد علمتم ما كان من عائشة في أمره، فلما ظفر بها
أكرمها، وبعث معها إلى المدينة عشرين امرأة من نساء عبد القيس عممهن
بالعمائم، وقلدهن بالسيوف، فلما كانت ببعض الطريق ذكرته بما لا يجوز أن
يذكر به، وتأففت وقالت: هتك سترى برجاله وجنده الذين وكلهم بي فلما
وصلت المدينة ألقى النساء عمائمهن، وقلن لها: إنما نحن نسوة.
وحاربه أهل البصرة وضربوا وجهه ووجوه أولاده بالسيوف،
وشتموه ولعنوه، فلما ظفر بهم رفع السيف عنهم، ونادى مناديه في أقطار
العسكر: ألا لا يتبع مول، ولا يجهز على جريح، ولا يقتل مستأسر، ومن
ألقى سلاحه فهو آمن، ومن تحيز إلى عسكر الإمام فهو آمن.
ولم يأخذ أثقالهم، ولا سبى ذراريهم، ولا غنم شيئاً من
أموالهم، ولو شاء أن يفعل كل ذلك لفعل، ولكنه أبى إلا الصفح والعفو
وتقيل سنة رسول الله «صلى الله عليه وآله» يوم فتح مكة، فإنه عفا
والأحقاد لم تبرد، والإساءة لم تنس.
ولما ملك عسكر معاوية عليه الماء، وأحاطوا بشريعة
الفرات، وقالت رؤساء الشام له: اقتلهم بالعطش كما قتلوا عثمان عطشاً،
سألهم علي «عليه السلام» وأصحابه أن يشرعوا لهم شرب الماء، فقالوا: لا
والله، ولا قطرة حتى تموت ظمأ كما مات ابن عفان.
فلما رأى «عليه السلام» أنه الموت لا محالة تقدم
بأصحابه، وحمل على عساكر معاوية حملات كثيفة، حتى أزالهم عن مراكزهم
بعد قتل ذريع، سقطت منه الرؤوس والأيدي، وملكوا عليهم الماء، وصار
أصحاب معاوية في الفلاة، لا ماء لهم، فقال له أصحابه وشيعته: أمنعهم
الماء يا أمير المؤمنين، كما منعوك، ولا تسقهم منه قطرة، واقتلهم بسيوف
العطش، وخذهم قبضاً بالأيدي فلا حاجه لك إلى الحرب.
فقال:
لا والله، لا أكافئهم بمثل فعلهم، افسحوا لهم عن بعض
الشريعة، ففي حد السيف ما يغني عن ذلك. فهذه إن نسبتها إلى الحلم
والصفح فناهيك بها جمالاً وحسناً، وإن نسبتها إلى الدين والورع فأخلق
بمثلها أن تصدر عن مثله «عليه السلام»!
وأما الجهاد في سبيل الله:
فمعلوم عند صديقه وعدوه: أنه سيد المجاهدين، وهل الجهاد
لأحد من الناس إلا له! وقد عرفت أن أعظم غزاة غزاها رسول الله «صلى
الله عليه وآله» وأشدها نكاية في المشركين بدر الكبرى، قتل فيها سبعون
من المشركين، قتل علي نصفهم، وقتل المسلمون والملائكة النصف الآخر.
وإذا رجعت إلى مغازي محمد بن عمر الواقدي وتاريخ
الاشراف ليحيى بن جابر البلاذري وغيرهما علمت صحة ذلك، دع من قتله في
غيرها كأحد والخندق وغيرهما، وهذا الفصل لا معنى للإطناب فيه، لأنه من
المعلومات الضرورية، كالعلم بوجود مكة ومصر ونحوهما.
وأما الفصاحة:
فهو «عليه السلام» إمام الفصحاء، وسيد البلغاء، وفي
كلامه قيل: دون كلام الخالق، وفوق كلام المخلوقين. ومنه تعلم الناس
الخطابة والكتابة، قال عبد الحميد بن يحيى: حفظت سبعين خطبة من خطب
الأصلع، ففاضت ثم فاضت.
وقال ابن نباتة:
حفظت من الخطابة كنزاً لا يزيده الإنفاق إلا سعة وكثرة،
حفظت مائة فصل من مواعظ علي بن أبي طالب.
ولما قال محفن بن أبي محفن لمعاوية:
جئتك من عند أعيا الناس، قال له: ويحك! كيف يكون أعيا
الناس! فوالله ما سن الفصاحة لقريش غيره، ويكفي هذا الكتاب الذي نحن
شارحوه دلالة على أنه لا يجارى في الفصاحة، ولا يبارى في البلاغة.
وحسبك أنه لم يدون لأحد من فصحاء الصحابة العشر، ولا
نصف العشر مما دون له، وكفاك في هذا الباب ما يقوله أبو عثمان الجاحظ
في مدحه في كتاب «البيان والتبيين» وفي غيره من كتبه.
وأما سجاحة الأخلاق، وبشر الوجه،
وطلاقة المحيا، والتبسم:
فهو المضروب به المثل فيه حتى عابه بذلك أعداؤه، قال
عمرو بن العاص لأهل الشام: أنه ذو دعابة شديدة.
وقال علي «عليه السلام» في ذاك:
عجبا لابن النابغة! يزعم لأهل الشام: أن في دعابة، وأني
امرؤ تلعابة، أعافس وأمارس!
وعمرو بن العاص إنما أخذها عن عمر بن الخطاب لقوله له
لما عزم على استخلافه: لله أبوك لولا دعابة فيك! إلا أن عمر اقتصر
عليها، وعمرو زاد فيها وسمجها.
قال صعصعة بن صوحان وغيره من شيعته
وأصحابه:
كان فينا كأحدنا، لين جانب، وشدة تواضع، وسهولة قياد، وكنا نهابه مهابة
الأسير المربوط للسياف الواقف على رأسه.
وقال معاوية لقيس بن سعد:
رحم الله أبا حسن، فلقد كان هشاً بشاً، ذا فكاهة، قال
قيس: نعم، كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» يمزح ويبتسم إلى أصحابه،
وأراك تسر حسوا في ارتغاء، وتعيبه بذلك!
أما والله لقد كان مع تلك الفكاهة والطلاقة أهيب من ذي
لبدتين قد مسه الطوى، تلك هيبة التقوى، وليس كما يهابك طغام أهل الشام!
وقد بقي هذا الخلق متوارثاً متناقلاً في محبيه وأوليائه
إلى الآن، كما بقي الجفاء والخشونة والوعورة في الجانب الآخر، ومن له
أدنى معرفة بأخلاق الناس وعوائدهم يعرف ذلك.
وأما الزهد في الدنيا:
فهو سيد الزهاد، وبدل الأبدال، وإليه تشد الرحال، وعنده
تنفض الأحلاس، ما شبع من طعام قط.
وكان أخشن الناس مأكلاً وملبساً،
قال عبد الله بن أبي رافع:
دخلت إليه يوم عيد، فقدم جراباً مختوماً، فوجدنا فيه
خبز شعير يابساً مرضوضاً، فقدم فأكل، فقلت: يا أمير المؤمنين، فكيف
تختمه؟!
قال:
خفت هذين الولدين أن يلتاه بسمن أو زيت.
وكان ثوبه مرقوعاً بجلد تارة، وليف أخرى، ونعلاه من
ليف. وكان يلبس الكرباس الغليظ، فإذا وجد كمه طويلاً قطعه بشفرة، ولم
يخطه، فكان لا يزال متساقطاً على ذراعيه حتى يبقى سدى لا لحمة له، وكان
يأتدم إذا ائتدم بخل أو بملح، فإن ترقى عن ذلك فبعض نبات الأرض، فإن
ارتفع عن ذلك فبقليل من ألبان الإبل، ولا يأكل اللحم إلا قليلا، ويقول:
لا تجعلوا بطونكم مقابر الحيوان.
وكان مع ذلك أشد الناس قوة وأعظمهم أيداً، لا ينقض
الجوع قوته، ولا يخون الإقلال منته.
وهو الذي طلق الدنيا وكانت الأموال تجبى إليه من جميع
بلاد الاسلام إلا من الشام، فكان يفرقها ويمزقها، ثم يقول: هذا جناي
وخياره فيه إذ كل جان يده إلى فيه.
وأما العبادة:
فكان أعبد الناس وأكثرهم صلاة وصوماً، ومنه تعلم الناس
صلاة الليل، وملازمة الأوراد وقيام النافلة، وما ظنك برجل يبلغ من
محافظته على ورده أن يبسط له نطع بين الصفين ليلة الهرير، فيصلي عليه
ورده، والسهام تقع بين يديه وتمر على صماخيه يميناً وشمالاً، فلا يرتاع
لذلك، ولا يقوم حتى يفرغ من وظيفته!
وما ظنك برجل كانت جبهته كثفنة البعير لطول سجوده.
وأنت إذا تأملت دعواته ومناجاته، ووقفت على ما فيها من
تعظيم الله سبحانه وإجلاله، وما يتضمنه من الخضوع لهيبته، والخشوع
لعزته والإستخذاء له، عرفت ما ينطوي عليه من الإخلاص، وفهمت من أي قلب
خرجت، وعلى أي لسان جرت!
وقيل لعلي بن الحسين «عليه السلام»
ـ وكان الغاية في العبادة ـ:
أين عبادتك من عبادة جدك؟!
قال:
عبادتي عند عبادة جدي كعبادة جدي عند عبادة رسول الله
«صلى الله عليه وآله».
وأما قراءته القرآن واشتغاله به:
فهو المنظور إليه في هذا الباب، اتفق الكل على أنه كان
يحفظ القرآن على عهد رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ولم يكن غيره
يحفظه، ثم هو أول من جمعه.
نقلوا كلهم أنه تأخر عن بيعة أبى بكر، فأهل الحديث لا
يقولون ما تقوله الشيعة من أنه تأخر مخالفة للبيعة، بل يقولون: تشاغل
بجمع القرآن، فهذا يدل على أنه أول من جمع القرآن، لأنه لو كان مجموعاً
في حياة رسول الله «صلى الله عليه وآله» لما احتاج إلى أن يتشاغل بجمعه
بعد وفاته «صلى الله عليه وآله».
وإذا رجعت إلى كتب القراءات وجدت أئمة القراء كلهم
يرجعون إليه، كأبي عمرو بن العلاء، وعاصم بن أبي النجود وغيرهما، لأنهم
يرجعون إلى أبي عبد الرحمن السلمي القارئ، وأبو عبد الرحمن كان تلميذه،
وعنه أخذ القرآن، فقد صار هذا الفن من الفنون التي تنتهي إليه أيضاً،
مثل كثير مما سبق.
وأما الرأي والتدبير:
فكان من أسد الناس رأياً، وأصحهم تدبيراً، وهو الذي
أشار على عمر بن الخطاب لما عزم على أن يتوجه بنفسه إلى حرب الروم
والفرس بما أشار.
وهو الذي أشار على عثمان بأمور كان صلاحه فيها، ولو
قبلها لم يحدث عليه ما حدث. وإنما قال أعداؤه: لا رأي له، لأنه كان
متقيداً بالشريعة لا يرى خلافها، ولا يعمل بما يقتضي الدين تحريمه.
وقد قال «عليه السلام»:
لولا الدين والتقى لكنت أدهى العرب.
وغيره من الخلفاء كان يعمل بمقتضى ما يستصلحه ويستوقفه،
سواء أكان مطابقاً للشرع أم لم يكن.
ولا ريب أن من يعمل بما يؤدي إليه اجتهاده، ولا يقف مع
ضوابط وقيود يمتنع لأجلها مما يرى الصلاح فيه، تكون أحواله الدنيوية
إلى الانتظام أقرب، ومن كان بخلاف ذلك تكون أحواله الدنيوية إلى
الانتثار أقرب.
وأما السياسة:
فإنه كان شديد السياسة، خشناً في ذات الله، لم يراقب
ابن عمه في عمل كان ولاه إياه، ولا راقب أخاه عقيلاً في كلام جبهه به.
وأحرق قوماً بالنار، ونقض دار مصقلة بن هبيرة ودار جرير بن عبد الله
البجلي، وقطع جماعة وصلب آخرين.
ومن جملة سياسته في حروبه أيام خلافته بالجمل وصفين
والنهروان، وفي أقل القليل منها مقنع، فإن كل سائس في الدنيا لم يبلغ
فتكه وبطشه وانتقامه مبلغ العشر مما فعل «عليه السلام» في هذه الحروب
بيده وأعوانه.
فهذه هي خصائص البشر ومزاياهم قد أوضحنا أنه فيها
الإمام المتبع فعله، والرئيس المقتفى أثره.
وما أقول في رجل تحبه أهل الذمة على تكذيبهم بالنبوة،
وتعظمه الفلاسفة على معاندتهم لأهل الملة، وتصور ملوك الفرنج والروم
صورته في بيعها وبيوت عباداتها، حاملاً سيفه، مشمراً لحربه، وتصور ملوك
الترك والديلم صورته على أسيافها!
كان على سيف عضد الدولة بن بويه وسيف أبيه ركن الدولة
صورته، وكان علي سيف إلب أرسلان وابنه ملكشاه صورته، كأنهم يتفاءلون به
النصر والظفر.
وما أقول في رجل أحب كل واحد أن يتكثر به، وود كل أحد
أن يتجمل ويتحسن بالانتساب إليه، حتى الفتوة التي أحسن ما قيل في حدها:
ألا تستحسن من نفسك ما تستقبحه من غيرك، فإن أربابها نسبوا أنفسهم
إليه، وصنفوا في ذلك كتباً، وجعلوا لذلك إسناداً أنهوه إليه، وقصروه
عليه، وسموه سيد الفتيان، وعضدوا مذهبهم إليه بالبيت المشهور المروي،
أنه سمع من السماء يوم أحد:
لا سـيـف إلا
ذو الــفــــــقــــار ولا فــــــتـــــى إلا عــــــــلي
وما أقول في رجل أبوه أبو طالب سيد البطحاء، وشيخ قريش،
ورئيس مكة، قالوا: قل أن يسود فقير، وساد أبو طالب وهو فقير لا مال له،
وكانت قريش تسميه الشيخ.
وفي حديث عفيف الكندي، لما رأى النبي «صلى الله عليه
وآله» يصلى في مبدأ الدعوة، ومعه غلام وامرأة، قال: فقلت للعباس: أي
شيء هذا؟!
قال:
هذا ابن أخي، يزعم أنه رسول من الله إلى الناس، ولم
يتبعه على قوله إلا هذا الغلام ـ وهو ابن أخي أيضاً ـ وهذه الامرأة،
وهي زوجته.
قال:
فقلت: ما الذي تقولونه أنتم؟!
قال:
ننتظر ما يفعل الشيخ، يعني أبا طالب.
وأبو طالب هو الذي كفل رسول الله «صلى الله عليه وآله»
صغيراً، وحماه وحاطه كبيراً، ومنعه من مشركي قريش، ولقي لأجله عنتاً
عظيماً، وقاسى بلاء شديداً، وصبر على نصره والقيام بأمره.
وجاء في الخبر:
أنه لما توفى أبو طالب أوحى إليه «عليه السلام» وقيل
له: اخرج منها، فقد مات ناصرك.
وله مع شرف هذه الأبوة:
أن ابن عمه محمد سيد الأولين والآخرين، وأخاه جعفر ذو
الجناحين، الذي قال له رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «أشبهت خلقي
وخلقي».
فمر يحجل فرحاً.
وزوجته سيدة نساء العالمين، وابنيه سيدا شباب أهل
الجنة، فآباؤه آباء رسول الله، وأمهاته أمهات رسول الله، وهو مسوط
بلحمه ودمه، لم يفارقه منذ خلق الله آدم، إلى أن مات عبد المطلب بين
الأخوين عبد الله وأبى طالب، وأمهما واحدة، فكان منهما سيد الناس.
هذا الأول وهذا التالي، وهذا المنذر وهذا الهادي!
وما أقول في رجل سبق الناس إلى الهدى، وآمن بالله
وعبده، وكل من في الأرض يعبد الحجر، ويجحد الخالق، لم يسبقه أحد إلى
التوحيد إلا السابق إلى كل خير، محمد رسول الله «صلى الله عليه وآله»
الخ..»([7])..
([1])
الحباحب: ذباب يطير في الليل يضيء ذنبه. وتسميه العامة عندنا:
سراج الليل.
([2])
هذه دعاوى عريضة. والصحيح خلافها، فإن التوحيد والعدل خرج من
مشكاة علم أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، وهم واصحابهم أرباب
النظر.
([3])
مع أن عمر بن الخطاب يقول: «كل الناس أفقه من عمر، حتى ربات
الحجال في خدورهن».
([4])
الآيتان 8 و 9 من سورة الإنسان.
([5])
الآية 247 من سورة البقرة.
([6])
وهذا يشبه قول رسول الله «صلى الله عليه وآله» لوحشي، قاتل
حمزة: «غيب وجهك عني».
([7])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص16 ـ 31.
|