صفحة :153-196   

الفصل الخامس: امتداد نسل آدم ..

زواج أبناء آدم :

وقد ورد في الرواية التي ذكرناها في الفصل السابق: أن ملك المجوس برر ارتكابه جريمة الزنا بابنته: بأن الله تعالى لم يخلق خلقاً أكرم عليه من أبينا آدم، وأمنا حواء، وقد زوج بنيه ببناته، وبناته من بنيه.

فقالوا له: صدقت هذا هو الدين.

وقد وعدنا في ذلك الفصل: أن نفرد لبيان هذا الموضوع فضلاً مستقلاً لبيان ما نعتقد أنه الحق فيه، وقد حان الآن موعد الوفاء بذلك الوعد، فنقول:

بداية توضيحية:

إننا قبل تفصيل القول في هذا المورد نشير إلى ما يلي:

1 ـ إن القول بأن آدم قد زوج بنيه بناته، هو قول المجوس، وإن ذلك من دينهم.

2 ـ إن هذا القول هو مذهب غير الشيعة أيضاً، وهو في رواياتهم.

3 ـ إن بعض علماء الشيعة ـ وهو السيد الطباطبائي «رحمه الله» ـ لم ير بهذا القول بأساً([1]).

4 ـ إن كلام أمير المؤمنين «عليه السلام» لا يدل على قبوله بمقولة المجوس هذه.

أكرم الخلق على الله:

وقد تضمن النص المتقدم ما يدل: على أن ما ذكره «عليه السلام» من قول المجوس لا يعني أنه يعتبره حقاً، ولم يذكره على سبيل الرضا والإلتزام بمضمونه، ففيه: أن ملك المجوس قال لقومه: إن أكرم الخلق على الله هو أبونا آدم، وأمنا حواء.

وهذا غير صحيح، فإن أكرم الخلق على الله هو نبينا محمد «صلى الله عليه وآله»، وعلي، والسيد فاطمة الزهراء، ثم الأئمة، وإبراهيم الخليل، ثم أولوا العزم من الأنبياء «عليهم السلام»، وليس آدم وحواء من هؤلاء.. نعم.. هو من الأنبياء، وأبو البشر.

قبح تزويج الأخوة بالأخوات:

ثم إن تزويج الإخوة بالأخوات مما لا يمكن صدوره عن الله تبارك وتعالى، وتوضيح ذلك:

أن العدلية يرون: أن للحُسن واقعية وقيمة ذاتية في الأفعال، وأن هذه القيمة هي التي تجعل العقل يرجح ذلك الفعل.. كما أن القبح أمر واقعي في الأفعال، وفيه خصوصية سيئة تجعل العقل يرفضه ويأباه.

فالفعل الحسن هو ما ينبغي فعله عند العقلاء، ويستحق فاعله عليه المدح. والقبيح هو ما ينبغي تركه، ويستحق فاعله الذم. أي أن عقل جميع العقلاء يدرك أن هذا ينبغي فعله، وذاك ينبغي تركه.

وهذا الإدراك هو المراد بحكم العقل، بالحسن والقبح.

وهذا ما يصطلح عليه بالعقل العملي، لأن المدرك هو مما ينبغي أن يفعل أو يترك.

أما العقل النظري فهو الذي يتعلق فيما ينبغي أن يعلم، مثل الكل أعظم من الجزء ونحو ذلك.

وإدراك المصلحة والمفسدة، وإدراك الكمال والنقص هو من موارد العقل النظري، لأن هذا مما ينبغي أن يعلم.

أما إدراك أن هذا مما ينبغي فعله، لأنه كمال للنفس، أو لأن فيه مصلحة، فيدخل في دائرة العقل العملي.

والدخول في بيان الأقسام المختلفة والوصول إلى المعايير في ذلك يحتاج إلى بسط في القول وتوسع في البيان. وليس ههنا محله.. فيمكن مراجعة الكتب التي بحثت هذا الموضوع، ولعل أيسرها كتاب أصول الفقه للشيخ محمد رضا المظفر «رحمه الله».

وبملاحظة ما ذكرناه، نقول:

إن من المعلوم: أن الأحكام تابعة للمصالح والمفاسد الواقعية وليست مجرد أمور مجعولة تكتسب قيمتها من نفس إنشائها وجعلها. وهذا معناه: أنه لا يمكن أن يكون زواج الأخ بأخته حلالاً، ثم يصير حراماً، لأن المنع فيه إنما هو لخصوصية ومفسدة واقعية هي دعت إلى إلزام الناس بالإبتعاد عنه.

والمصالح والمفاسد قد تكون ظاهرة ومعلومة، وقد تكون مما يحتاج إلى تعليم وكشف، وبيان، فإذا تولى الشارع الكشف عن هذه المصالح والمفاسد، فيدرك العقل القبح والحسن في مجال العمل، من حيث يحكم بأن ما فيه مصلحة واقعية لا بد أن يكون مما ينبغي فعله، وما فيه مفسدة واقعية فهو مما ينبغي تركه.

وحكم الشارع بحرمة زواج الأخ بأخته، حكماً مؤبداً، ومترتباً على الموضوع بعنوانه الأولي. أي من حيث هو أخ وأخت، يكشف عن وجود مفسدة واقعية اقتضت هذا الحكم.. فيأتي العقل العملي ليحسِّن أو ليقبح عمل ما ظهرت مصلحته، أو الإجتناب عما ظهرت مفسدته..

ولعل هذا هو السبب في حكم السبزواري بقبح زواج الأخ بأخته فيما يرتبط بأبناء آدم «عليه السلام».

الصحيح من القول:

والروايات التي بين أيدينا تصب في اتجاهين:

أحدهما: القول: بأن انبثاق النسل كان بتزويج الإخوة بالأخوات.

الآخر: رفض صحة هذا القول بحزم وبشدة.

ونرى: أنه لا بد من رفض بعض الأخبار القليلة جداً التي تحدثت عن تزويج الإخوة بالأخوات:

أولاً: لأنها موافقة لما يقوله غير أهل البيت وشيعتهم، فاحتمال صدورها على سبيل التقية قوي، ويكفي في التقية أن لا يعرضوا شيعتهم لبعض المتاعب من أولئك الناس.

ثانياً: لأن ما ورد في الأخبار النافية لهذا الأمر من تعليل واستدلال متوافق مع المنطق المعقول والمقبول.

بالإضافة إلى أمور أخرى تسهل على الباحث الركون إليها، والتعويل عليها في الإلتزام بهذا القول.

ماذا عن الروايات؟!:

فمن الروايات التي تؤيد تزويج الإخوة بالأخوات نذكر:

1 ـ روايتهم: أن قابيل قال: لا عشت يا هابيل في الدنيا وقد تقبل قربانك ولم يتقبل قرباني، وتريد أن تأخذ أختي الحسناء وآخذ أختك القبيحة؟!

فقال له هابيل ما حكاه الله، فشدخه بحجر فقتله. روي ذلك عن أبي جعفر ـ أي الطبري ـ وغيره من المفسرين([2]).

توضيح هذه الرواية ليست مروية من طرق الشيعة، بل نقلها الطبرسي في مفسري أهل السنة.

2 ـ عن أبي حمزة الثمالي قال: سمعت علي بن الحسين «عليه السلام» يحدث رجلاً من قريش قال: لما تاب الله على آدم، واقع حواء ولم يكن غشيها منذ خلق وخلقت إلا في الأرض، وذلك بعدما تاب الله عليه.

قال: وكان آدم يعظم البيت وما حوله من حرمة البيت، وكان إذا أراد أن يغشى حواء خرج من الحرم وأخرجها معه، فإذا جاز الحرم غشيها في الحل ثم يغتسلان إعظاماً منه للحرم، ثم يرجع إلى فناء البيت.

قال: فولد لآدم من حواء عشرون ولداً ذكراً، وعشرون أنثى، فولد له في كل بطن ذكر وأنثى، فأول بطن ولدت حواء هابيل ومعه جارية يقال لها: إقليما.

قال: وولدت في البطن الثاني، قابيل ومعه جارية يقال لها: لوزا، وكانت لوزا أجمل بنات آدم.

قال: فلما أدركوا خاف عليهم آدم الفتنة، فدعاهم إليه وقال: أريد أن أنكحك يا هابيل لوزا، وأنكحك يا قابيل إقليما.

قال قابيل: ما أرضى بهذا، أتنكحني أخت هابيل القبيحة وتنكح هابيل أختي الجميلة؟!

قال آدم: فأنا أقرع بينكما، فإن خرج سهمك يا قابيل على لوزا، وخرج سهمك يا هابيل على إقليما زوجت كل واحد منكما التي خرج سهمه عليها.

قال: فرضيا بذلك، فاقترعا.

قال: فخرج سهم هابيل على لوزا أخت قابيل، وخرج سهم قابيل على إقليما أخت هابيل.

قال: فزوجهما على ما خرج لهما من عند الله.

قال: ثم حرم الله نكاح الأخوات بعد ذلك.

قال: فقال له القرشي: فأولداهما؟!

قال: نعم.

قال: فقال القرشي: فهذا فعل المجوس اليوم.

قال: فقال علي بن الحسين «عليه السلام»: إن المجوس إنما فعلوا ذلك بعد التحريم من الله.

ثم قال علي بن الحسين «عليه السلام»: لا تنكر هذا، أليس الله قد خلق زوجة آدم منه ثم أحلها له؟! فكان ذلك شريعة من شرائعهم ، ثم أنزل الله التحريم بعد ذلك([3]).

3 ـ ابن عيسى، عن البزنطي قال: سألت الرضا «عليه السلام» عن الناس كيف تناسلوا من (عن خ) آدم «عليه السلام»؟!

فقال: حملت حواء هابيل وأختاً له في بطن، ثم حملت في البطن الثاني قابيل وأختاً له في بطن. فزوج هابيل التي مع قابيل وتزوج قابيل التي مع هابيل، ثم حدث التحريم بعد ذلك([4]).

وهذه الرواية صحيحة من حيث السند.

قال العلامة المجلسي «رحمه الله»: هذان الخبران محمولان على التقية، لاشتهار ذلك بين العامة([5]).

روايات الرأي المعتمد:

1 ـ قال اليعقوبي: «وقد روى بعضهم: أن الله عز وجل أنزل لهابيل حوراء من الجنة، فزوجه بها، وأخرج لقابيل جنية، فزوجه بها، فحسد قابيل أخاه على الحوراء، فقال لهما آدم: قربا قرباناً! فقرب هابيل من تين زرعه، وقرب قابيل أفضل كبش في غنمه لله، فقبل الله قربان هابيل، ولم يقبل قربان قابيل، فازداد نفاسة وحسداً، وزين له الشيطان قتل أخيه، فشدخه بالحجارة، حتى قتله([6]).

2 ـ ابن الوليد، عن أحمد بن إدريس ومحمد العطار معاً، عن الأشعري، عن أحمد بن الحسن بن فضال، عن أحمد بن إبراهيم بن عمار، عن ابن نويه، عن زرارة قال: سئل أبو عبد الله «عليه السلام»: كيف بدأ النسل من ذرية آدم «عليه السلام»، فإن عندنا أناساً يقولون: إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى آدم «عليه السلام»: أن يزوج بناته من بنيه، وأن هذه الخلق كلهم أصله من الإخوة والأخوات.

قال أبو عبد الله «عليه السلام»: سبحان الله، وتعالى عن ذلك علواً كبيراً، يقول من يقول هذا: إن الله عز وجل جعل أصل صفوة خلقه، وأحبائه وأنبيائه ورسله، والمؤمنين والمؤمنات، والمسلمين والمسلمات من حرام، ولم يكن له من القدرة ما يخلقهم من الحلال، وقد أخذ ميثاقهم على الحلال والطهر الطيب؟! والله لقد تبينت أن بعض البهائم تنكرت له أخته، فلما نزا عليها ونزل كشف له عنها، وعلم أنها أخته أخرج غرموله، ثم قبض عليه بأسنانه ثم قلعه، ثم خر ميتاً.

قال زرارة: ثم سئل «عليه السلام» عن خلق حواء، وقيل له: إن أناساً عندنا يقولون: إن الله عز وجل خلق حواء من ضلع آدم الأيسر الأقصى، قال: سبحان الله وتعالى عن ذلك علواً كبيراً! يقول من يقول هذا: إن الله تبارك وتعالى لم يكن له من القدرة ما يخلق لآدم زوجة من غير ضلعه، وجعل لمتكلم من أهل التشنيع سبيلاً إلى الكلام؟! يقول: إن آدم كان ينكح بعضه بعضاً، إذا كانت من ضلعه؟! ما لهؤلاء؟! حكم الله بيننا وبينهم.

ثم قال: إن الله تبارك وتعالى لما خلق آدم من طين أمر الملائكة فسجدوا له، وألقى عليه السبات، ثم ابتدع له خلقاً، ثم جعلها في موضع النقرة التي بين ركبتيه، وذلك لكي تكون المرأة تبعاً للرجل، فأقبلت تتحرك، فانتبه لتحركها، فلما انتبه نوديت أن تنحي عنه، فلما نظر إليها نظر إلى خلق حسن يشبه صورته غير أنها أنثى، فكلمها فكلمته بلغته، فقال لها: من أنت؟!

فقالت: خلق خلقني الله كما ترى.

فقال آدم عند ذلك: يا رب، من هذا الخلق الحسن الذي قد آنسني قربه والنظر إليه؟!

فقال الله: هذه أمتي حواء([7]).

ملاحظة سندية:

يمكن القول بأن هذه الرواية معتبرة من حيث السند، فإن أحمد بن محمد بن يحيى بن عثمان الأشعري وإن كان لم يوثق في الرجال، ولكنه من مشايخ الإجازة، وقد روى عنه الأجلة، مثل محمد بن يحيى العطار، وأحمد بن محمد بن إدريس.

وأما أحمد بن إبراهيم، وابن نوبة، فقد وقع في السند قبلها ابن فضال، وقد جاء في خبر معتبر رواه الشيخ الطوسي عن وكيل الناحية المقدسة: أن خذوا ما رووا وذروا ما رأوا([8]).

3 ـ أبي، عن محمد بن يحيى العطار، عن الحسين بن الحسن بن أبان، عن محمد بن أورمة، عن النوفلي، عن علي بن داود اليعقوبي، عن الحسن بن مقاتل، عمن سمع زرارة يقول:

سئل أبو عبد الله «عليه السلام» عن بدء النسل من آدم كيف كان، وعن بدء النسل عن ذرية آدم، فإن أناساً عندنا يقولون: إن الله عز وجل أوحى إلى آدم يزوج بناته ببنيه، وأن هذا الخلق كله أصله من الإخوة والأخوات؟!

فقال أبو عبد الله «عليه السلام»: تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً يقول من قال هذا: بأن الله عز وجل خلق صفوة خلقه وأحبائه وأنبيائه ورسله والمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات من حرام، ولم يكن له من القدرة ما يخلقهم من حلال، وقد أخذ ميثاقهم على الحلال الطهر الطاهر الطيب، فوالله لقد تبينت أن بعض البهائم تنكرت له أخته فلما نزا عليها ونزل كشف له عنها فلما علم أنها أخته أخرج غرموله، ثم قبض عليه بأسنانه حتى قطعه فخر ميتاً، وآخر تنكرت له أمه، ففعل هذا بعينه، فكيف الإنسان في إنسيته وفضله وعلمه، غير أن جيلاً من هذا الخلق الذي ترون رغبوا عن علم أهل بيوتات أنبيائهم، وأخذوا من حيث لم يؤمروا بأخذه، فصاروا إلى ما قد ترون من الضلال والجهل بالعلم، كيف كانت الأشياء الماضية من بدء أن خلق الله ما خلق وما هو كاين أبداً.

ثم قال: ويح هؤلاء، أين هم عما لم يختلف فيه فقهاء أهل الحجاز، ولا فقهاء أهل العراق، إن الله عز وجل أمر القلم فجرى على اللوح المحفوظ بما هو كاين إلى يوم القيامة قبل خلق آدم بألفي عام.

وإن كتب الله كلها فيما جرى فيه القلم في كلها تحريم الأخوات على الإخوة مع ما حرم.

وهذا نحن قد نرى منها هذه الكتب الأربعة المشهورة في هذا العالم: التوراة، والإنجيل، والزبور، والفرقان، أنزلها الله عن اللوح المحفوظ عن رسله صلوات الله عليهم أجمعين، منها: التوراة على موسى «عليه السلام» والزبور على داود «عليه السلام»، والإنجيل على عيسى «عليه السلام»، والقرآن على محمد «صلى الله عليه وآله»، وعلى النبيين «عليهم السلام»، وليس فيها تحليل شيء من ذلك.

حقاً أقول: ما أراد من يقول هذا وشبهه إلا تقوية حجج المجوس، فما لهم قاتلهم الله؟!

ثم أنشأ يحدثنا كيف كان بدء النسل من آدم، وكيف كان بدء النسل من ذرية، فقال: إن آدم «عليه السلام» ولد له سبعون بطناً في كل بطن غلام وجارية، إلى أن قتل هابيل، فلما قتل قابيل هابيل جزع آدم على هابيل جزعاً قطعه عن إتيان النساء، فبقي لا يستطيع أن يغشى حواء خمسمائة عام، ثم تخلى ما به من الجزع عليه، فغشي حواء، فوهب الله له شيثاً وحده ليس معه ثان، واسم شيث هبة الله، وهو أول من أوصى إليه من الآدميين في الأرض.

ثم ولد له من بعد شيث يافث، ليس معه ثان، فلما أدركا وأراد الله عز وجل أن يبلغ بالنسل ما ترون، وأن يكون ما قد جرى به القلم من تحريم ما حرم الله عز وجل من الأخوات على الإخوة أنزل بعد العصر في يوم الخميس حوراء من الجنة اسمها «نزلة»، فأمر الله عز وجل آدم أن يزوجها من شيث، فزوجها منه، ثم أنزل بعد العصر حوراء من الجنة اسمها «منزلة»، فأمر الله تعالى آدم أن يزوجها من يافث، فزوجها منه، فولد لشيث غلام، وولدت ليافث جارية، فأمر الله عز وجل آدم حين أدركا أن يزوج بنت يافث من ابن شيث، ففعل، فولد الصفوة من النبيين والمرسلين من نسلهما، ومعاذ الله أن يكون ذلك على ما قالوا من الإخوة والأخوات([9]).

4 ـ وقد روى الصدوق القسم الأخير من الحديث: عن زرارة، عن أبي عبد الله «عليه السلام»: أن آدم «عليه السلام» ولد له شيث وأن اسمه هبة الله، وهو أول وصي أوصي إليه من الآدميين في الأرض، ثم ولد له بعد شيث يافث.. إلى آخر الرواية المتقدمة([10]).

ملاحظة: هذه الرواية صحيحة حسب.. وعد الشيخ الصدوق «رحمه الله» في مشيخة من لا يحضره الفقيه.

5 ـ ابن المتوكل، عن الحميري، عن ابن عيسى، عن ابن محبوب، عن مقاتل بن سليمان، عن الصادق «عليه السلام» عن النبي «صلى الله عليه وآله» قال: أوصى آدم إلى شيث وهو هبة الله ابن آدم، وأوصى شيث إلى ابنه شبان وهو ابن نزلة الحوراء التي أنزلها الله على آدم من الجنة، فزوجها ابنه شيثاً الخ..([11]).

6 ـ كتاب المحتضر للحسن بن سليمان نقلاً من كتاب الشفاء والجلاء بإسناده عن معاوية بن عمار قال: سألت أبا عبد الله «عليه السلام» عن آدم أبي البشر: أكان زوج ابنته من ابنه؟!

فقال: معاذ الله، والله لو فعل ذلك آدم «عليه السلام» لما رغب عنه رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وما كان آدم إلا على دين رسول الله «صلى الله عليه وآله».

فقلت: وهذا الخلق من ولد من هم، ولم يكن إلا آدم وحواء؟! لأن الله تعالى يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً([12]). فأخبرنا: أن هذا الخلق من آدم وحواء «عليهما السلام»، فقال «عليه السلام»: صدق الله، وبلغت رسله، وأنا على ذلك من الشاهدين.

فقلت : ففسر لي يا ابن رسول الله.

فقال: إن الله تبارك وتعالى لما أهبط آدم وحواء إلى الأرض وجمع بينهما ولدت حواء بنتاً، فسماها عناقاً، فكانت أول من بغى على وجه الأرض، فسلط الله عليها ذئباً كالفيل ونسراً كالحمار فقتلاها، ثم ولد له أثر عناق قابيل بن آدم، فلما أدرك قابيل ما يدرك الرجل أظهر الله عز وجل جنية من ولد الجان يقال لها: جهانة، في صورة إنسية، فلما رآها قابيل ومقها، فأوحى الله إلى آدم: أن زوج جهانة، من قابيل فزوجها من قابيل، ثم ولد لآدم هابيل، فلما أدرك هابيل ما يدرك الرجل أهبط الله إلى آدم حوراء واسمها: ترك الحوراء، فلما رآها هابيل ومقها فأوحى الله إلى آدم: أن زوج تركاً من هابيل.

ففعل ذلك، فكانت ترك الحوراء زوجة هابيل بن آدم.

إلى أن قال:

وإن هابيل يوم قتل كانت امرأته ترك الحوراء حبلى، فولدت غلاماً، فسماه آدم باسم ابنه هابيل.

وإن الله عز وجل وهب لآدم بعد هابيل ابنا فسماه شيثاً، ثم قال : ابني هذا هبة الله.

فلما أدرك شيث ما يدرك الرجل أهبط الله على آدم حوراء يقال لها: ناعمة في صورة إنسية، فلما رآها شيث ومقها، فأوحى الله إلى آدم: أن زوج ناعمة من شيث، ففعل ذلك آدم، فكانت ناعمة الحوراء زوجة شيث، فولدت له جارية، فسماها آدم حورية، فلما أدركت أوحى الله إلى آدم: أن زوج حورية من هابيل بن هابيل، ففعل ذلك آدم، فهذا الخلق الذي ترى من هذا النسل الخ..([13]).

7 ـ عن أبي بكر الحضرمي، عن أبي جعفر «عليه السلام» قال: إن آدم ولد له أربعة ذكور، فأهبط الله إليهم أربعة من الحور العين، فزوج كل واحد منهم واحدة فتوالدوا، ثم إن الله رفعهن وزوج هؤلاء الأربعة أربعة من الجن، فصار النسل فيهم، فما كان من حلم فمن آدم، وما كان من جمال فمن قبل الحور العين، وما كان من قبح أو سوء خلق فمن الجن([14]).

8 ـ عن أبي بكر الحضرمي، عن أبي جعفر «عليه السلام» قال: قال لي: ما يقول الناس في تزويج آدم ولده؟!

قال: قلت: يقولون: إن حواء كانت تلد لآدم في كل بطن غلاماً وجارية، فتزوج الغلام الجارية التي من البطن الآخر الثاني، وتزوج الجارية الغلام الذي من البطن الآخر الثاني، حتى توالدوا.

فقال أبو جعفر «عليه السلام»: ليس هذا كذاك، ولكنه لما ولد آدم هبة الله وكبر سأل الله أن يزوجه، فأنزل الله له حوراء من الجنة، فزوجها إياه، فولد له أربعة بنين، ثم ولد لآدم ابن آخر، فلما كبر أمره فتزوج إلى الجان، فولد له أربع بنات، فتزوج بنو هذا بنات هذا، فما كان من جمال فمن قبل الحوراء، وما كان من حلم فمن قبل آدم، وما كان من خفة فمن قبل الجان.

فلما توالدوا صعدت الحوراء إلى السماء([15]).

9 ـ عن سليمان بن خالد قال: قلت لأبي عبد الله «عليه السلام»: جعلت فداك، إن الناس يزعمون: أن آدم زوج ابنته من ابنه.

فقال أبو عبد الله «عليه السلام»: قد قال الناس ذلك، ولكن يا سليمان: أما علمت أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قال: لو علمت أن آدم زوج ابنته من ابنه لزوجت زينب من القاسم، وما كنت لأرغب عن دين آدم؟!

فقلت: جعلت فداك، إنهم يزعمون: أن قابيل إنما قتل هابيل لأنهما تغايرا على أختهما.

فقال له: يا سليمان تقول هذا؟! أما تستحيي أن تروي هذا على نبي الله آدم؟!

فقلت: جعلت فداك، ففيم قتل قابيل هابيل؟!

فقال: في الوصية.

ثم قال لي: يا سليمان، إن الله تبارك وتعالى أوحى إلى آدم أن يدفع الوصية واسم الله الأعظم إلى هابيل، وكان قابيل أكبر منه، فبلغ ذلك قابيل فغضب، فقال: أنا أولى بالكرامة والوصية، فأمرهما أن يقربا قرباناً بوحي من الله إليه، ففعلا، فقبل الله قربان هابيل، فحسده قابيل فقتله.

فقلت له: جعلت فداك، فممن تناسل ولد آدم؟!

هل كانت أنثى غير حواء؟! وهل كان ذكر غير آدم؟!

فقال: يا سليمان، إن الله تبارك وتعالى رزق آدم من حواء قابيل، وكان ذكر ولده من بعده هابيل، فلما أدرك قابيل ما يدرك الرجال أظهر الله له جنية وأوحى إلى آدم أن يزوجها قابيل، ففعل ذلك آدم، ورضي بها قابيل وقنع، فلما أدرك هابيل ما يدرك الرجال أظهر الله له حوراء وأوحى الله إلى آدم أن يزوجها من هابيل، ففعل ذلك، فقتل هابيل والحوراء حامل، فولدت حوراء غلاماً، فسماه آدم: هبة الله، فأوحى الله إلى آدم: أن ادفع إليه الوصية واسم الله الأعظم.

وولدت حواء غلاماً، فسماه آدم شيث بن آدم، فلما أدرك ما يدرك الرجال أهبط الله له حوراء وأوحى إلى آدم: أن يزوجها من شيث بن آدم ففعل، فولدت الحوراء جارية فسماها آدم حورة، فلما أدركت الجارية زوج آدم حورة بنت شيث من هبة الله بن هابيل، فنسل آدم منهما، فمات هبة الله بن هابيل، فأوحى الله إلى آدم: أن ادفع الوصية واسم الله الأعظم وما أظهرتك عليه من علم النبوة، وما علمتك من الأسماء إلى شيث بن آدم، فهذا حديثهم يا سليمان([16]).

10 ـ محمد بن يحيى، عن أحمد بن محمد، عن الحسين بن سعيد، عن صفوان بن يحيى، عن خالد بن إسماعيل، عن رجل من أصحابنا من أهل الجبل، عن أبي جعفر «عليه السلام» قال: ذكرت له المجوس، وأنهم يقولون: نكاح كنكاح ولد آدم، وإنهم يحاجوننا بذلك.

فقال: أما أنتم فلا يحاجونكم به، لمَّا أدرك هبة الله قال آدم: يا رب، زوج هبة الله.

فأهبط الله عز وجل له حوراء، فولدت له أربعة غلمة، ثم رفعها الله.

فلما أدرك ولد هبة الله قال: يا رب، زوج ولد هبة الله.

فأوحى الله عز وجل إليه أن يخطب إلى رجل من الجن ـ وكان مسلماً ـ أربع بنات له على ولد هبة الله، فزوجهن، فما كان من جمال وحلم فمن قبل الحوراء والنبوَّة. وما كان من سفه أو حدة فمن الجن([17]).

11 ـ علي بن حاتم، عن أبي عبد الله بن ثابت، عن عبد الله بن أحمد، عن القاسم بن عروة، عن بريد العجلي، عن أبي جعفر «عليه السلام» قال: إن الله عز وجل أنزل حوراء من الجنة إلى آدم، فزوجها أحد ابنيه، وتزوج الآخر الجن، فولدتا جميعاً، فما كان من الناس من جمال وحسن خلق فهو من الحوراء، وما كان فيهم من سوء الخلق فمن بنت الجان، وأنكر أن يكون زوج بنيه من بناته([18]).

تناقضات في الروايات المتقدمة:

يلاحظ مدى التناقض والإختلاف في عدد من العناصر التي تضمنتها تلك الروايات، فلاحظ على سبيل المثال:

ألف: اختلافها في أسماء الحورية، أو الحوريات، أو الجنية، أو الجنيات.

ب: اختلافها في عددهن.

ج: اختلافها في الولد الأكبر: هل هو قابيل؟! أم هابيل؟!

د: اختلافها في شيث وهبة الله، هل هما اسمان لرجل واحد؟! أو لرجلين؟!

ويمكن حل هذا الإشكال بما يلي:

1 ـ إن هذه المسألة لم تكن موضع تداول بين الناس ليهتم الراوي بحفظها وضبطها، وليحرص على أن لا يقع بالخطأ فيها، فيشنع عليه به الحفاظ الآخرون، بل هي مسألة يندر استحضارها، والتوقف عندها.

2 ـ لم يكن جميع الرواة من أهل الدقة والضبط، وإذا مضى على مسامعهم زمن طويل، فقد تختلط عليهم بعض التفاصيل، ويقع في كلامهم التغيير والتبديل.

3 ـ وقد يشتبه الأمر عليه بسبب ما ذكرناه وغيره، فيحسب اللقب اسماً، أو الاسم لقباً، كما هو الحال في كلمتي: شيث، وهبة الله.

4 ـ وقد يقدم المتأخر، ويؤخر المتقدم، فيقدم هابيل تارة، ويقدم قابيل أخرى.

5 ـ إن تشابه اسمي هابيل وقابيل قد يوقع بعض الناس في الخلط والخطأ، فيزعم راو: أن هابيل هو القاتل، ويكون غيره أكثر دقة، فيقول: بل كان قابيل هو القاتل، وقد ينسب قربان هذا إلى ذاك، وعمل ذاك إلى هذا.

6 ـ وعن النساء اللواتي خلقهن الله من العنصر الذي يتكون منه الجن، أو يتكون منه الحور، إذا تعدد خلق نساء من هذا العنصر أو ذاك، لأجل شيث ويافث، وقابيل، وهابيل الأب، وهابيل الابن، فقد يحصل الخلط بين أسمائهم وأسمائهن. وإذا كان هناك اثنان اسمهما هابيل، فإن إمكانية حصول الغلط والخلط تصير أكبر، كما أن بعض أسماء البنات قد يكون لقباً، وقد يكون اسماً.

7 ـ كما أن الراوي قد يظن أن هبة الله غير شيث، وقد يظنهما اسمين حقيقيين، وقد.. وقد.

8 ـ وبعد هذا البيان يتضح: أن هذا الإختلاف لا يعني: أن ثمة تعمداً للكذب، كما أنه لا يسقط ما اتفقت عليه الروايات عن الإعتبار إذا كانت الروايات متفقة في سياقها العام، وفي العناصر الأساسية التي سيقت لتأكيدها، وفي القضية المحورية فيها، وهي تأكيد وإثبات أن الإخوة لم يتزوجوا بالأخوات، لأن اختلاف الروايات إنما هو في مجال التطبيق في التقديم والتأخير، وفي الأسماء وفي غير ذلك، فلا بأس بأن تسقط حجيتها فيما اختلفت فيه. وتبقى حجيتها فيما اتفقت عليه.

هل هذا تناقض؟!:

ونقول:

إن الحديث المتقدم برقم (3): إن الله تعالى أنزل بعد العصر في يوم الخميس حوراء من الجنة، اسمها بركة فزوجها من شيث. ثم نزل بعد العصر من الغد حوراء من الجنة اسمها نزلة، فزوجها من يافث، وهذه الرواية السادسة تقول: إن أحد ولدي آدم تزوج بجنية لا بحوراء.

ويجاب:

أولاً: لعل المقصود بالجنية الشبيهة بالجن في سوء أخلاقها، وفي بعض حركاتها غير المنتظمة. وبالحورية الشبيهة بالحورية في الجمال.

ثانياً: إذا كان النسل من قابيل وهابيل، ومن شيث ويافث، فلا منافاة بين الروايتين، لوجود الحوريتين والجنية في سياق النسل، فتصح نسبة النسل إلى الحورية والجنية، وتصح نسبته إلى الحوريتين، وينتفي الإشكال في البين.

وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً:

وقد استدلوا على تزويج الإخوة بالأخوات بقوله تعالى: ﴿خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً([19]).

حيث دلت الآية: على أن النسل منحصر بآدم وحواء، ولم يشاركهما غيرهما فيه، وإلا لقال: بث منهما، ومن غيرهما.. وهذا الإنحصار يحتم تزويج الإخوة بالأخوات([20]).

ونجيب:

بأنه يكفي في صدق مضمون الآية: أن يكون آدم وحواء قد ولدا هابيل وقابيل، وشيثاً، ولا ينظر إلى زوجات هؤلاء، والسبب في ذلك: أنهم حتى إذا تزوجوا بنساء خلقن من عنصر الحور أو الجن، أو أي شيء آخر.

ثم ولد لهم أولاد. ثم تزوج أولادهم.

فإنه يصح أن يقال: إن الناس قد ولدوا من آدم وحواء، كما يقال فلان من بني تميم، وقلان الآخر منهم أيضاً، فلا ينظر إلى نساء تميم، فلعل تميماً تزوج بعدة نساء، وقد ولدن له أجداد هؤلاء القوم، إذ يكفي أن يكون تميم هو الأب للجميع، وإن كانت الأمهات مختلفات، بحيث تكون كل أم من قبيلة.

الضرورة تفرض تزويج الإخوة والأخوات:

وذكر العلامة الطباطبائي «رحمه الله» أيضاً: أنه لا مانع من أن يبيح الله تعالى زواج الإخوة بالأخوات، لاستدعاء الضرورة ذلك. ثم يحرمه بعد ذلك لارتفاع الحاجة. ولإيجابه انتشار الفحشاء في المجتمع، لأن الحكم بحرمة زواج الإخوة بالأخوات في الإسلام وكذا في الشرائع السابقة عليه ـ على ما يحكى ـ إنما هو حكم تشريعي يتبع المصالح والمفاسد وليس تكوينياً غير قابل للتغيير.

وزمام التشريع بيد الله سبحانه يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد([21]).

ونجيب:

أولاً: إن الحاجة والضرورة غير متصورة في مثل المقام، فإن الله تعالى قادر على أن يدفع الضرورة بخلق نساء للأولاد، حسبما ذكرته الروايات، لأن فعل ذلك لا يوجب وهناً في مقام ألوهيته، ولا طعناً في صفاته، ولا انتقاصاً من مقامه.

ثانياً: من الذي قال: إن إبقاء هذا التشريع سارياً يوجب شيوع الفحشاء؟! وسقوط العفة؟!

ثالثاً: إن الأحكام تابعة، ومنها زواج الإخوة بالأخوات تابعة للمصالح والمفاسد، فإن كان المراد بها: ما كان كامناً في ذات الفعل، فمعنى ذلك: أنه أمر تكويني، فتشريع جواز هذا الزواج لا يلغي المفسدة الكامنة فيه؟! فقول الطباطبائي: ليس تكوينياً غير قابل للتغيير([22]). في غير محله.

أما إن كانت مفسدة خارجة عن حقيقة ذاته، فمعنى ذلك: أن الحرمة لم تكن لأجل مفسدة واقعية، بل ذلك يدخله فيما يكون المصلحة والمفسدة فيه بالوجوه والإعتبارات.

فإن قلت: لعل المراد: أن التشريع لهذا الزواج كان لأجل الضرورة، فهو كتجويز أكل الميتة عند خوف التلف..

يجاب:

بأن ذلك معناه: إدخال المفاسد على بيوت الأنبياء، وحملهم على الإنغماس في موجباتها، لأجل الحصول على منفعة أخرى لا تعود إليهم، بل ترتبط بغيرهم.. ولا ذنب لهم إلا أن الله تعالى لم يرد أن يحل المشكلة إلا بهذا النحو المؤذي لهم، مع أنه يقدر على ذلك، ولو بأن يخلق للأبناء نساء يمكن تكثير النسل من خلالهن؟!

وإن قلت أيضاً: لعل المراد بالمصالح والمفاسد الواقعية: أن في ذلك المورد اقتضاء المفسدة والمصلحة، كالكذب، الذي يطرأ عليه عنوان يجعله واجباً.

يجاب:

بأنه لو صح هذا لكان لنا أن نتوقع إيجاب أو إباحة الزواج بالأخوات، وبالبنات، وبالأمهات كلما مست الحاجة إلى ذلك، أي حين تطرأ بعض العناوين بسبب تبدل الأحوال والتقلبات.. فلماذا جعله الله تعالى من الحرام المؤبد إلى يوم القيامة؟!

هذا الزواج.. والفطرة:

واستدل العلامة الطباطبائي «رحمه الله» أيضاً: بأن الفطرة لا تدعو إلى خلاف هذا الزواج، من جهة تنفرها عن هذا النوع من المباشرة (مباشرة الأخ لأخته)، وإنما تبغضه وتنفيه من جهة تأديته إلى شيوع الفحشاء والمنكر، وبطلان غريزة العفة بذلك، وارتفاعها من المجتمع الانساني.

ومن المعلوم: أن هذا النوع من التماس والمباشرة إنما ينطبق عليه عنوان الفجور والفحشاء في المجتمع العالمي اليوم، وأما المجتمع يوم ليس هناك بحسب ما خلق الله سبحانه إلا الإخوة والأخوات، والمشية الإلهية متعلقة بتكثرهم وانبثاثهم، فلا ينطبق عليه عنوانا الفجور والفحشاء.

والدليل على أن الفطرة لا تنفيه من جهة النفرة الغريزية: تداوله بين المجوس أعصارا طويلة([23]).

ونجيب:

أولاً: إن الاستشهاد بتداول المجوس لزواج الإخوة بالأخوات للتدليل على عدم منافرته لقضاء الفطرة في غير محله، فإن الإنسان يتمرد على الفطرة، ويقهرها، ويكبتها استجابة لشهوة أو وسوسة شيطانية، فكيف إذا أعانه على تطويع فطرته ما يزعم أنه دين مقدس، ومعصوم؟!

وبعبارة أخرى:

إن الإنسان إذا فسق عن فطرة الله ووكله الله إلى نفسه زينت له نفسه كل قبيح، ويقدم على كل ما يشتهي، فيفعل الموبقات ويرتكب العظائم والفواحش، فيعمل عمل قارووط، وينكح ذوات المحارم، ولا يصح أخذ من حكم الله عليهم بالفسق لخروجهم عن قوانين الفطرة ومقتضياتها نماذج للحكم على أفعالهم، فإنها لا تنافي الفطرة، لأن في هذا مصادرة وتحكم وأقل ما يقال أنه دعوى بلا دليل.

والخلاصة: إنه لا يصح قياس الفطرة الملوثة على الفطرة السليمة، لأن صاحب الفطرة قد يتمرد ويرتكب أعظم الموبقات والجرائم، ويمارس أبشع أنواع الظلم مع أن الفطرة تأباه، ولا تنسجم معه، ولا ترضاه..

ثانياً: إن العلامة الطباطبائي قد أقر بتنفر الفطرة من هذا الزواج، لكنه عزا هذا النفور إلى ما يترتب عليه من فحشاء، وفجور، وبطلان غريزة العفة.. وهل هذا إلا ادعاء منه لا شاهد له، ولا دليل عليه، ولا سبيل إلى إثباته؟!

ثالثاً: إنه زعم أنه حين ينحصر الأمر بأفراد قليلين، ويراد تكثير النسل، فلا ينطبق على هذا الزواج عنوان الفجور والفحشاء.

ونقول له:

1 ـ ماذا لو عكسنا الأمر وقلنا: إنما أصبح هذا التزويج من مصاديق الفجور والفحشاء، لأن الشارع حرمه، ولم يسمح به، حتى مع انحصاره بين هؤلاء الأفراد، وذلك لشدة قبحه عنده، ومبغوضيته لديه.

ولو أنه لم يحرمه، وكان زواجاً مشروعاً وحلالاً، فهل يكون أيضاً من موجبات شيوع الفجور والفحشاء؟! أو أن هذه العناوين القبيحة يمكن تطبيقها على هكذا زواج؟!

وهل انقطع الفجور والفحشاء بتحريم نكاح الإخوة بالأخوات؟! أم أن لتقليل الفحشاء عوامل أخرى مثل دعوة الناس إلى الالتزام بالشرع، وتقبيح هذا الفعل، ووعظهم، وتخويفهم من الله، وغير ذلك؟!

رابعاً: قول العلامة الطباطبائي: إن مباشرة الأخ لأخته ينطبق عليه عنوان الفجور والفحشاء في المجتمع العالمي اليوم. ليس مسلماً، خصوصاً بعد أن شاعت ظاهرة مضاجعة الأخوة للأخوات، والآباء لبناتهم، وشاع اللواط، وتزوج الرجال بالرجال، والنساء بالنساء، وشاع السحاق في الشعوب المتحضرة، وشرعته لهم حكوماتهم.

خامساً: قول الطباطبائي: إن الفطرة لا تنفي مباشرة الأخ لأخته من جهة النفرة الغريزية.. لا يصح:

1 ـ لما روي عن الإمام الكاظم «عليه السلام»: هل تخرج الكبائر من الايمان؟!

فقال: نعم.. وما دون الكبائر، قال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق وهو مؤمن. ونحوه عن الإمام الباقر «عليه السلام» أيضاً([24]).

2 ـ وعن الإمام الباقر «عليه السلام»، وقد سئل عن قول رسول الله «صلى الله عليه وآله»: إذا زنى الرجل فارقه روح الإيمان. قوله عز وجل: ﴿وَأَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ([25]). ذلك الذي يفارقه([26]).

3 ـ عن زرارة: قلت لأبي عبد الله «عليه السلام»: أرأيت قول النبي «صلى الله عليه وآله»: «لا يزني الزاني وهو مؤمن».

قال: حتى ينزع عنه روح الإيمان.

قلت: ينزع منه روح الايمان؟!

قال: قلت: فحدثني عن روح الإيمان.

قال: هو شيء!

ثم قال: هذا أجدر أن تفهمه. أما رأيت الإنسان يهم بالشيء فيعرض بنفسه الشيء يزجره عن ذلك وينهاه؟!

قلت: نعم.

قال: هو ذاك([27]).

4 ـ وعنه «عليه السلام»، قد سأله جماعة عن الإيمان، فقال: قال رسول الله «صلى الله عليه وآله» لا يزني الزاني وهو مؤمن، ولا يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر وهو مؤمن.

فجعل بعضهم ينظر إلى بعض، فقال له عمر بن ذر: بم نسميهم؟!

فقال «عليه السلام»: بما سماهم الله وبأعمالهم، قال الله عز وجل: ﴿وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا([28]).

وقال: ﴿الزَّانِيَةُ وَالزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ([29]).

فجعل بعضهم ينظر إلى بعض([30]).

5 ـ وعن رسول الله «صلى الله عليه وآله»: لا يزني حين يزني وهو مؤمن، ولا يسرق السارق حين يسرق وهو مؤمن، ولا يشرب الخمر حين يشربها وهو مؤمن، والتوبة معروضة بعد([31]).

وقد دل ذلك: على أن المعصية تؤثر على روح الإيمان، فتفارق الإنسان المؤمن حين ارتكابه المعصية، ثم تعود إليه بواسطة التوبة.

ومن الواضح: أن الإيمان منسجم مع الفكرة، ومتوافق معها، فيدلنا ذلك على أن الفطرة أمر ثابت، ولكن ما حدث هو مجرد معصية لها، وخروج عن سلطانها، لا أنها قد تلوثت وتشوهت. ولذلك سمى الله ذلك فسقاً وعصياناً، وخروجاً عن طاعة الفطرة.

فإذا تاب الإنسان وعاد إلى الإنقياد إلى فطرته عاد إليه إيمانه، وانسجم مع فطرته من جديد..

غير أن هذه المعصية تؤثر على نفسه وروحه كدورة، وخفوتاً، وتحدث ظلمة.. وقد أشير إلى ذلك في بعض الروايات أيضاً، ولكن النفس ليست هي الفطرة..ولذلك ورد وصفها باللوامة، وبالأمَّارة بالسوء.

ومن الروايات التي دلت على تأثر النفس ما عن أبي عبد الله «عليه السلام»، من أن عيسى «عليه السلام» قال للحواريين: «وأنا آمركم أن لا تحدثوا أنفسكم بالزنا فضلاً عن أن تزنوا، فإن من حدث نفسه بالزنا كان كمن أوقد في بيت مزوق، فأفسد التزاويق الدخان وإن لم يحترق البيت»([32]).

سادساً: إن القلة والكثرة في النسل لا أثر لهما في انطباق عنوان الفجور والفحشاء، وهما ينطبقان على المورد، ولو كان لمرة واحدة، لأنهما يحكيان طبيعة الفعل وحقيقته، قال تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ([33]).

وقال سبحانه: ﴿وَإِذَا فَعَلُوا فَاحِشَةً قَالُوا وَجَدْنَا عَلَيْهَا آَبَاءَنَا وَاللهُ أَمَرَنَا بِهَا قُلْ إِنَّ اللهَ لَا يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاءِ أَتَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ([34]).

وقال جل وعلا: ﴿وَاللَّاتِي يَأْتِينَ الْفَاحِشَةَ مِنْ نِسَائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً([35]).

سابعاً: إن ما ذكر في الروايات عن بعض الحيوانات يشهد بأن مباشرة الأخ لأخته، أو لأمه مما تأباه الفطرة، حتى بالنسبة لبعض الحيوانات، فكيف بالإنسان؟!

لا إجماع على تزويج الإخوة بالأخوات:

وقد ادعى الفاضل المقداد: الإجماع على أن آدم «عليه السلام» قد زوج الإخوة بالأخوات، ثم رفع ذلك، واعتبر ذلك من موارد النسخ([36]).

ونجيب:

أولاً: إن هذه المسألة ليست من الأحكام ليكون الإجماع حجة فيها.

ثانياً: لو سلمنا حجية الإجماع هنا، فإننا نقول: لم تكن المسألة معنونة عند أكثر العلماء.

ثالثاً: هو إجماع مدركي، معلوم المستند، فلا بد من النظر في مستنده.

رابعاً: هو إجماع منقول من قبل السيوري دون سواه.

لا سنخية بين الجن والإنسان!!:

وقالوا: لا بد في الزواج من السنخية بين الزوجين، وهي مفقودة بين الإنسان والجن.. تماماً كما هي مفقودة بين أنواع الحيوان.

ونجيب:

أولاً: إن الله تعالى هو خالق الأسباب، وجاعلها، وهو قادر على تبديلها بأسباب جديدة يبتدعها لمصالح تقتضي ذلك.. فكما خلق الله آدم «عليه السلام» من تراب يمكن أن يخلق من مادة الجن إمرأة من لحم ودم، تحمل بعض صفات الجن. وأن يخلق من مادة الحور امرأة لها بعض صفات الحور.

ثانياً: إن الله تعالى يمكن أن ينزل حورية وجنية على الحقيقة، ثم يوجد السنخية بينهما وبين الإنسان، لمصلحة تقتضي ذلك، وهي هنا أن يخلق صفوة خلقه من الطاهرين والطاهرات، حتى لا يخلقهم مما سيُظْهِر تحريمه الأبدي قبحَه وسوءَه في نفسه، حسبما بيناه.

ثالثاً: إن الله تعالى قد وعد البشر بالزواج من الحور العين في الآخرة، مع أن الحشر إنما يكون لهذه الأجساد والأرواح. فكيف يمكن هذا الزواج إذا كان لا سنخية بينهما؟! أليس لأن الله تعالى سيجعل سنخية بين الحور والبشر؟! ودعوى أن السنخية مطلوبة لأجل تحقيق التناسل، والزواج من الحور العين في الآخرة ليس لأجل التناسل، ليس لها ما يبررها، فإن من جملة ما يتلذذ به الإنسان هو الحصول على الأبناء، فلماذا يحرم الله عباده من هذا النوع من النعيم في الجنة؟! وما الدليل على هذا الحرمان؟!

على أن الذي يسر الزواج بالحور العين، مع عدم وجود سنخية، فلماذا لا ييسر التناسل بين غير المتسانخين في الحياة الدنيا، وهو أحكم الحاكمين والقادر على كل شيء؟!

وأما الجنية، فيمكن أن يكون الله تعالى قد خلق من الطين، ما له أخلاق الجن وبعض صفاته. ويصح إطلاق الاسم عليها بهذه الملاحظة.

رابعاً: ورد في تفسير قوله تعالى: ﴿وَشَارِكْهُمْ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَولَادِ([37]) روايات كثيرة تدل على مشاركة إبليس ـ وهو من الجن ـ للبشر في الجماع، وفي اختلاط نطفة الرجل بنطفته إذا كان النكاح والمال الذي يبذل في سبيل الحصول على الأمة التي ينكحها حراماً([38]). وإذا لم يذكروا اسم الله عند الجماع([39]). وفي حالات الزنا([40]). ويعرف شك الشيطان بحبهم وبغضهم «عليهم السلام»([41]).

خامساً: لعلها جنية كشف عنها الغطاء، فتحولت إلى إنسية، ولعل تخصيص أحد الشخصين بالحورية، والآخر بالجنية لأجل فعل خاص صدر منه صار مستحقاً وملائماً للجنية، وفعل آخر صدر من ذاك جعله ملائماً للجنية.

لزوجت زينب من القاسم:

إن ما ورد في الروايات من أنه «صلى الله عليه وآله» قال: «لو علمت أن آدم زوج ابنته من ابنه، لزوجت زينب من القاسم، وما كنت لأرغب عن دين آدم». لا يقصد به زينب زوجة أبي العاص بن الربيع، ليقال: إن هذا النص يدل على أن زينب هذه كانت ابنته حقيقة.

بل المقصود: هو زينب التي ماتت قبل الهجرة في مكة، وكانت لا تزال صغيرة، وكان سنها يقارب سن القاسم، الذي هو أصغر من زوجة أبي العاص بن الربيع بسنوات..

وقد قلنا في كتبنا: أنه كان للنبي «صلى الله عليه وآله» بنات اسمهن: زينب، ورقية، وأم كلثوم كن قد متن وهن صغار، ولم يتزوجن.

موازنة بين الروايات:

إن ملاحظة الروايات بمجموعها يعطي: أن الروايات التي أنكرت على القائلين بتزويج الإخوة بالأخوات قد رويت عن ثلاثة من الأئمة «عليهم السلام»، وهم الإمام الباقر، والصادق، والرضا «عليهم السلام»، وأن الرواة لها متعددون أيضاً، وهم:

1 ـ زرارة.. ولروايته نصوص مختلفة، ولا ندري إن كان «رحمه الله» كان يحكي لنا فيها وقائع مختلفة عنهم «عليهم السلام». أو أنه يحكي واقعة واحدة.

2 ـ سليمان بن خالد.

3 ـ أبو بكر الحضرمي.

4 ـ معاوية بن عمار.

5 ـ بريد العجلي.

6 ـ مقاتل بن سليمان.

7 ـ رجل من أصحابنا من أهل الجبل.

الروايات التي نعتمدها:

ويمكن أن يقال: إن هذه الروايات التي تنزه ساحة آدم «عليه السلام» عن تزويج أبنائه ببناته، وعددها أحد عشر رواية، وإن كان أكثرها ضعيفاً، فإن إحداها، وهي رواية الفقيه صحيحة كما تقدم.. كما أنه يمكن إثبات اعتبار بعضها الآخر.

أما الروايات القائلة بتزويج الإخوة بالأخوات، فهي اثنتان:

إحداهما: عن الإحتجاج، ولا تملك سنداً أصلاً.

والأخرى: عن قرب الإسناد، وهي صحيحة السند.

والروايات، النافية لزواج الإخوة بالأخوات، وكثرة الأدلة التي ساقتها، وتعدد الأئمة المنسوبة إليهم، وكثرة رواتها، وتعدد ألسنتها، وتأييد مضامينها بكثير مما ذكرناه، ومخالفتها للعامة، بالإضافة إلى أمور كثيرة ذكرناها يحتم الإلتزام بها، واعتبار تينك الروايتين صادرتين على سبيل التقية.

النتيجة المتوخاة:

فظهر من ذلك كله: أن روايات تزويج الإخوة بالأخوات لا يمكن الإعتماد عليها. مع معارضتها بكل هذه الروايات النافية. كما أن تلك الروايات القليلة جداً لم تستطع أن تصل إلى ثلاث روايات، ومع موافقة العامة. وستأتي قرائن أخرى، حين نشير إلى التعليلات التي تضمنتها الروايات المتقدمة، والتي توجب رد تلك المقولة.

آدم وحواء أبوا البشر:

ولعلك تقول: إن حديث الحوراء والجنية مردود، لأنه ينافي كون آدم وحواء أبوي البشر.

ويجاب:

أولاً: بأنه يكفي أن يكونا أبوي البشر كون الولد الأول ابناً لهما، وإن تزوج بعد ذلك الحورية، أو زوَّجه آدم «عليه السلام» بالجنية، والشاهد على ذلك: قولهم: بنو تيم. مع أنه قد يكون لتيم أكثر من زوجة. وربما لا يكون لأولاده أيضاً زوجات  من غير بني تيم.

ثانياً: لعل المراد بالحورية والجنية: أنهما كالحورية والجنية في الجمال والقبح، أو أن أخلاقهما تشبه أخلاق الحورية والجنية.

أو أن مبدأ خلق هذه وتلك هو الحور والجن، كما خلق آدم وحواء من تراب.

لماذا قتل هابيل؟!:

ذكرت بعض الروايات: أن قابيل قد قتل هابيل، لأن آدم «عليه السلام» أراد أن يزوجه أخت هابيل القبيحة، وأراد أن يزوج هابيل أخت قابيل الجميلة.. وهو كلام تنفيه الآيات والروايات الكثيرة التي ذكرت: أن سبب قتله هو حسده له على قبول قربانه. قال تعالى: ﴿إِذْ قَرَّبَا قُرْبَاناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِمَا وَلَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآَخَرِ قَالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قَالَ إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ([42]).

وقد صرحت بعض الروايات أيضاً: أنه قد حسد أخاه على ما أتاه الله إياه في وصايته لأبيه، لا لأجل أنه أراد أن يتزوج أخته الجميلة.

توضيح للمجلسي:

قال العلامة المجلسي «رحمه الله»:

«قوله «عليه السلام»: «وإن كتب الله كلها فيما جرى فيه القلم».

لعل وجه الإستدلال: أن اتفاق تلك الكتب السماوية المعروفة على التحريم مع اختلاف الشرائع دليل على أنه مما لا يختلف باختلاف الأزمان والأحوال، ويكون ذكر «الأمور في اللوح»، لبيان ظهور فظاعة هذا القول، لاستلزامه أن يكون ثابتاً في اللوح في صحف آدم حرمة ذلك، وفي ذكر تقدير خلق أولاد آدم كونهم من الإخوة والأخوات، فيلزم: إثبات المتناقضين فيه.

ويحتمل: أن يكونوا قائلين بكون ذلك حراماً في جميع الشرائع، ومع ذلك قالوا بهذا ذاهلين عما يلزمهم في ذلك من التناقض لكنه بعيد جداً»([43]).

إشارات ودلالات:

وقد لاحظنا: أن الروايات المتقدمة قد نقلت عن الأئمة «عليهم السلام» إشارات إلى العديد من الأمور التي تحتم رفض مقولة تزويج الإخوة بالأخوات، ومنها:

1 ـ الإشارة إلى أن ذلك من دين المجوس، ولعلهم هم أول من سوَّق له. وتقدم: أن الذي قال بهذا القول أراد به تقوية حجج المجوس . وهذا يدل على أن بعض المنافقين الذين كانت لهم صلة بالمجوس هم الذين أشاعوا هذا القول بين المسلمين.

2 ـ إن الله تعالى لا يمكن أن يجعل أصل صفوة خلقه وأحبائه، وأنبيائه، ورسله، والمؤمنين، والمؤمنات، والمسلمين، والمسلمات من حرام.

3 ـ إن الله تعالى قادر على أن يخلق صفوة خلقه من الحلال، ولو بأن يخلق لهم أزواجاً بعضهن كالحور في الجمال، وبعضهن كالجن في القبح أو في الأخلاق، وهم يختارون هذه أو تلك.

4 ـ إن الله تعالى قد أخذ ميثاق البشر على الحلال، والطهر والطيب، فكيف يوقعهم في الرجس والحرام والخبيث؟!

فدل ذلك: على أن تزويج الإخوة بالأخوات فيه مفسدة في ذات الفعل، وتأباه الفطرة السليمة، فلا يشرعه الحكيم تبارك وتعالى.. وهذا هو منشأ قبحه المقتضي للمنع عنه، وليس قبحه بالوجوه والإعتبار، ناشئاً عن تحريم الشارع له كالتزوج من أخت الزوجة، فإنه محرم ما دامت الزوجة في حبالة الزوج، ولو في مدة العدة.

ثم ضرب «عليه السلام» مثلاً على ذلك بالبهائم التي ترفض النزوان على الأخوات والأمهات، وتعاقب نفسها بقطع غرمولها (أي آلتها التناسلية) لو صدر منها ذلك، ولو بسبب التدليس عليها.

5 ـ إن فضل الإنسان على الحيوان يمنعه من فعل ذلك، فكيف يفعله الله تعالى بالإنسان؟!

6 ـ إن إنسانية الإنسان تمنعه من فعل ذلك، ولعل مراده «عليه السلام» أن ذلك مما تأباه فطرته وطبيعته الإنسانية، إلا إذا خرج عن طبيعته هذه باتباع الشهوات. ولا يفعل الله تعالى بمخلوقاته ما يتناقض مع طبيعتهم وفطرتهم.

7 ـ إن أهل العلم الصحيح ـ يعني أهل البيت «عليهم السلام» ـ يأبون القول بهذه المقولة.. ولا يقول بها إلا من ابتعد عن أهل بيوتات الأنبياء، وأخذ من حيث لم يؤمر أن يأخذ، فصار إلى الضلال والجهل بما كانت عليه الأمور الماضية من بدء أن خلق الله ما خلق، وما هو كائن ابداً.

أي أن هذا من البديهيات لمن عاش في بيوت الأنبياء، وعرف أقوالهم، واستقى من معينهم، والقول الآخر غريب عنهم، مرفوض في محيطهم. والأنبياء «عليهم السلام» أعلم بالله وبما أجراه في خلقه من كل أحد، فلا يصح الأخذ من غيرهم.

8 ـ إن الله تعالى إذا كان قد أجرى القلم قبل خلق آدم بألفي عام بتحريم الإخوة بالأخوات. كما اتفق على روايته أهل الحجاز وفقهاء العراق، فكيف يصح منهم القول: بأن الله تعالى قد نقض ما قرره وكتبه قبل خلق آدم؟!

9 ـ واستشهد «عليه السلام» لذلك: بأن كتب الله المنزلة كلها تشهد بهذا التحريم.. لأن كتب الله المنزلة كلها قد نزلت من اللوح المحفوظ، لا من لوح المحو الإثبات.. واللوح المحفوظ إنما يسجل الحقائق كما هي، ولا تغيير ولا تبديل فيه، ومن جملة الحقائق: الأحكام الشرعية الثابتة لموضوعاتها بعناوينها الأولية..

10 ـ لو ان آدم قد زوج الأخ بأخته لما رغب عنه رسول الله «صلى الله عليه وآله»، لأن هذا التشريع ليس من الأمور التي تنسخ، ربما لأنه ثابت استجابة لأمر تكويني وواقعي، فإن الأخوة، والأبوة، والبنوة حقائق ثابتة في الواقع، وملازمة للخلق، فيكون حكمها ثابتاً لها كلما وجدت.

وليس الأخوة، والأبوة، والبنوة من الموضوعات المخترعة للشارع، كالصلاة، ولا هو مما يرجع الأمر فيه إلى الناس.. مثل مفهوم التحية المأمور بها، فإن مصاديقها تكون بيد العرف، فقد يحييه برفع قبعته له، وقد يحييه بانحناءة، أو بتحية الجاهلية، أو بالسلام، أو بكلمة مرحباً، أو غير ذلك مما يصطلح عليه الناس..

11 ـ إن حواء خلقت من فاضل طينة آدم لا من ضلعه الأيسر.


([1]) تفسير الميزان ج4 ص144 و 145.

([2]) بحار الأنوار ج11 ص219 والتبيان للشيخ الطوسي ج3 ص493 وتفسير مجمع البيان ج3 ص315 والتفسير الصافي ج2 ص28 وتفسير نور الثقلين ج1 ص609.

([3]) بحار الأنوار ج11 ص225 و 226 والإحتجاج (ط دار النعمان) ج2 ص43 ـ 45 والتفسير الصافي ج1 ص418 وتفسير نور الثقلين ج1 ص435 وتفسير كنز الدقائق ج2 ص344 وتفسير الميزان ج4 ص147 وقصص الأنبياء للجزائري ص65.

([4]) بحار الأنوار ج11 ص226 وقرب الإسناد ص366 ومسند الإمام الرضا للعطاردي ج1 ص51 والتفسير الصافي ج1 ص417 وتفسير نور الثقلين ج1 ص433 وتفسير كنز الدقائق ج2 ص343.

([5]) بحار الأنوار ج11 ص226.

([6]) تاريخ اليعقوبي (ط النجف) ج1 ص2 و (ط دار صادر) ج1 ص6 و 7.

([7]) علل الشرائع ج1 ص17 و 18 وبحار الأنوار ج11 ص220 و 221 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج20 ص365 و 366 و (ط دار الإسلامية) ج14 ص277 وجامع أحاديث الشيعة ج20 ص5 و 394 والتفسير الصافي ج1 ص415 وتفسير نور الثقلين ج1 ص430 وتفسير كنز الدقائق ج2 ص340 وقصص الأنبياء للراوندي ص57 و 58 وقصص الأنبياء للجزائري ص61.

([8]) الغيبة للشيخ الطوسي ص389 و 390 والفصول المهمة للحر العاملي ج1 ص593 وجامع أحاديث الشيعة ج1 ص229 وبحار الأنوار ج2 ص252 وج51 ص358 ومستدرك سفينة البحار ج6 ص42 وج7 ص203.

([9]) علل الشرائع ج1 ص18 ـ 20  وبحار الأنوار ج11 ص223 و 224 وتفسير نور الثقلين ج1 ص431 و 432 وتفسير كنز الدقائق ج2 ص341 و 342 وقصص الأنبياء للجزائري ص63 و 64.

([10]) من لا يحضره الفقيه ج3 ص381 وجامع أحاديث الشيعة ج20 ص391.

([11]) بحار الأنوار ج11 ص225 وج17 ص148 وج33 ص57 والإمامة والتبصرة ص21 والأمالي للصدوق ص486 و 487 وكمال الدين ص211 ومن لا يحضره الفقيه ج4 ص175 والأمالي للشيخ الطوسي ص442 وبشارة المصطفى ص136 وقصص الأنبياء للراوندي ص369 وغاية المرام ج2 ص204.

([12]) الآية 1 من سورة النساء.

([13]) بحار الأنوار ج11 ص226 ـ 228 ومستدرك الوسائل ج14 ص361 و 362 وجامع أحاديث الشيعة ج20 ص393 .

([14]) تفسير العياشي ج1 ص215 وتفسير نور الثقلين ج1 ص433 وتفسير كنز الدقائق ج2 ص344 وبحار الأنوار ج11 ص244 وج60 ص97 وقصص الأنبياء للجزائري ص68.

([15]) تفسير العياشي ج1 ص216 وبحار الأنوار ج11 ص244 وتفسير نور الثقلين ج1 ص433.

([16]) تفسير العياشي ج1 ص312 وتفسير نور الثقلين ج1 ص610 وبحار الأنوار ج11 ص245 و 246.

([17]) الكافي ج5 ص569 وبحار الأنوار ج60 ص96 وجامع أحاديث الشيعة ج20 ص396 والتفسير الصافي ج1 ص416 وتفسير نور الثقلين ج1 ص434 وتفسير كنز الدقائق ج2 ص342.

([18]) علل الشرائع ج1 ص103 وبحار الأنوار ج11 ص236 وج60 ص96 وجامع أحاديث الشيعة ج20 ص392 وتفسير نور الثقلين ج1 ص433 وج5 ص391 وتفسير كنز الدقائق ج2 ص341 ومستدرك الوسائل ج14 ص362 وقصص الأنبياء للجزائري ص67 ومناقب آل أبي طالب ج3 ص334 .

([19]) الآية 1 من سورة النساء.

([20]) تفسير الميزان ج4 ص144 و 145.

([21]) تفسير الميزان ج4 ص145.

([22]) تفسير الميزان ج4 ص145.

([23]) تفسير الميزان ج4 ص145.

([24]) الكافي ج2 ص284 ووسائل الشيعة (ط آل البيت) ج15 ص325 و و (ط الإسلامية) ج11 ص256 و 257 وبحار الأنوار ج66 ص63 وجامع أحاديث الشيعة ج13 ص404 وموسوعة أحاديث أهل البيت ج4 ص54 وج5 ص111.

([25]) الآية 22 من سورة المجادلة.

([26]) بحار الأنوار ج66 ص190 وج76 ص26 وثواب الأعمال ص263 وجامع أحاديث الشيعة ج20 ص334 وتفسير نور الثقلين ج5 ص269 وج1 ص286 وتفسير كنز الدقائق ج1 ص650 وتفسير الميزان ج19 ص198 ومجمع البحرين ج2 ص243 والمحاسن لللبرقي ج1 ص106 والكافي ج2 ص280 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج15 ص323 وج20 ص313 و (ط دار الإسلامية) ج11 ص256 وج14 ص235

([27]) بحار الأنوار ج66 ص192 ومستطرفات السرائر ص18 و (ط مؤسسة النشر الإسلامي) 550 وجامع أحاديث الشيعة ج13 ص404.

([28]) الآية 38 من سورة المائدة.

([29]) الآية 2 من سورة النور.

([30]) الأمالي للشيخ المفيد ص22 وبحار الأنوار ج66 ص193.

([31]) مسند أحمد ج2 ص376 و 479 وصحيح البخاري (ط دار الفكر) ج8 ص21 وصحيح مسلم (ط دار الفكر) ج1 ص55 والمحلى لابن حزم ج11 ص119 = = و 227 وسنن أبي داود ج2 ص410 وشرح مسلم للنووي ج2 ص41 والمصنف للصنعاني ج7 ص416 ومسند ابن الجعد ص120 ومنتخب مسند عبد بن حميد ص288 وصحيح ابن حبان ج10 ص260 وكنز العمال ص1311 و (ط مؤسسة الرسالة) ج1 ص262.

([32]) الكافي ج5 ص542 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج20 ص319 و (ط دار الإسلامية) ج14 ص240 وغوالي اللآلي ج3 ص547 وبحار الأنوار ج14 ص331 وجامع أحاديث الشيعة ج20 ص347 ومستدرك سفينة البحار ج4 ص325.

([33]) الآية 45 من سورة العنكبوت.

([34]) الآية 28 من سورة الأعراف.

([35]) الآية 15 من سورة النساء.

([36]) اللوامع (اللوامع العشر) ص222.

([37]) الآية 64 من سورة الإسراء.

([38]) راجع: تفسير القمي ج2 ص21 و 22 وتفسير العياشي ج2 ص299 و 300 والبرهان للبحراني (ط مؤسسة البعثة) ج3 ص545 و 546 و 547 وتفسير نور الثقلين ج3 ص183 و 185 وتفسير الميزان ج13 ص150 و 151 ومستدرك سفينة البحار ج5 ص396 وبحار الأنوار ج57 ص342 وج101 ص136.

([39]) راجع: الكافي ج5 ص501 ـ 503 وكتاب الزهد ص7 وتفسير العياشي ج2 ص299 و 300 والبرهان للبحراني (ط مؤسسة البعثة) ج3 ص545 ـ 547 وراجع ص542.

([40]) راجع: تفسير العياشي ج2 ص299 والبرهان للبحراني (ط مؤسسة البعثة) ج3 ص547.

([41]) راجع: الكافي ج3 ص502 و 503 والبرهان للبحراني (ط مؤسسة البعثة) ج3 ص546 وراجع ص548.

([42]) الآية 64 من سورة الإسراء.

([43]) بحار الأنوار ج11 ص224 و 225.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان