صفحة : 199-222  

الفصل الأول: ابن الأصفر يحرج معاوية فيلجأ لعليٍ ..

معاوية وأسئلة ابن الأصفر:

1 ـ روى الأصبغ بن نباتة: أن صاحب الروم كتب إلى معاوية يسأله عن عشر خصال، فارتطم (أي سقط في الوحل) كما يرتطم الحمار في الطين، فبعث راكبا إلى علي الخ..

وفي نص آخر: عن علي، عن أبيه، عن ابن أبي نجران، عن عاصم بن حميد، عن محمد بن قيس، عن أبي جعفر «عليه السلام» قال: بينا أمير المؤمنين «عليه السلام» في الرحبة والناس عليه متراكمون، فمن بين مستفت، ومن بين مستعد، إذ قام إليه رجل، فقال: السلام عليك يا أمير المؤمنين ورحمة الله وبركاته.

فنظر إليه أمير المؤمنين «عليه السلام» بعينيه تينك العظيمتين، ثم قال: وعليك السلام ورحمة الله وبركاته من أنت؟!

فقال: أنا رجل من أهل رعيتك وبلادك.

قال: ما أنت من رعيتي ولا من أهل بلادي. ولو سلمت علي يوماً واحداً ما خفيت علي.

فقال: الأمان يا أمير المؤمنين.

فقال أمير المؤمنين «عليه السلام»: ما أحدثت في مصري هذا حدثاً منذ دخلته؟!

قال: لا.

قال: فلعلك من رجال الحرب.

قال: نعم.

قال: إذا وضعت الحرب أوزارها، فلا بأس.

قال: أنا رجل بعثني إليك معاوية متغفلاً لك، أسألك عن شيء بعث فيه ابن الأصفر وقال له: إن كنت أحق بهذا الأمر والخليفة بعد محمد «صلى الله عليه وآله»، فأجبني عما أسألك، فإنك إذا فعلت ذلك اتبعتك وبعثت إليك بالجائزة، [وفي نص آخر: إن أجبتني فيها حملت إليك الخراج، وإلا حملت إلي أنت خراجك] فلم يكن عنده جواب وقد أقلقه ذلك، فبعثني إليك لأسألك عنها.

فقال أمير المؤمنين «عليه السلام»: قاتل الله ابن آكلة الأكباد ما أضله وأعماه ومن معه! والله لقد أعتق جارية فما أحسن أن يتزوج بها.

حكم الله بيني وبين هذه الأمة، قطعوا رحمي، وأضاعوا أيامي، ودفعوا حقي، وصغروا عظيم منزلتي، وأجمعوا على منازعتي. علي بالحسن والحسين، ومحمد.

فأحضروا.

فقال: يا شامي هذان ابنا رسول الله وهذا ابني، فاسأل أيهم أحببت.

فقال: أسأل ذا الوفرة ـ يعني الحسن «عليه السلام» ـ وكان صبياً.

فقال له الحسن «عليه السلام»: سلني عما بدا لك.

فقال الشامي: كم بين الحق والباطل؟!

وكم بين السماء والأرض؟!

وكم بين المشرق والمغرب؟!

وأول شيء ضج على وجه الأرض؟!

[وعن هذه المجرة].

[وعن هذا المحو الذي في القمر].

وما قوس قزح.

وعن أول شيء انفتح على وجه الأرض.

وعن أول شيء اهتز عليها].

وأين تأوي أرواح المسلمين؟!

وما العين التي تأوي إليها أرواح المشركين؟!

وما المؤنث؟!

وما عشرة أشياء بعضها أشد من بعض؟!

فقال الحسن بن علي «عليه السلام»: بين الحق والباطل أربعة أصابع، فما رأيته بعينك فهو الحق وقد تسمع بأذنيك باطلاً كثيراً.

قال الشامي: صدقت.

قال: وبين السماء والأرض دعوة المظلوم ومد البصر، فمن قال غير هذا فكذبه.

قال: صدقت يا ابن رسول الله.

[وبين المشرق والمغرب يوم طراد للشمس].

[وأول شيء ضج على وجه الأرض، وادٍ باليمن. وهو أول فار منه الماء].

[وأما هذه المجرة فهي أشراج السماء، ومنها هبط الماء المنهمر].

[وفي نص آخر: فأبواب السماء فتحها الله على قوم نوح ثم أغلقها فلم يفتحها].

قال الشامي: صدقت، فما قوس قزح؟!

قال: ويحك لا تقل: قوس قزح، فإن قزح اسم شيطان، وهو قوس الله، وعلامة الخصب، وأمان لأهل الأرض من الغرق. [إذا رأوا ذلك في السماء].

[وأما المحو الذي في القمر، فإن ضوء القمر كان مثل ضوء الشمس فمحاه الله تعالى، وهو قوله: ﴿وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آَيَتَيْنِ فَمَحَوْنَا آَيَةَ اللَّيْلِ وَجَعَلْنَا آَيَةَ النَّهَارِ مُبْصِرَةً([1]). وأما أول شيء انفتح على وجه الأرض فهو وادي داب([2]). وأما أول شيء اهتز على وجه الأرض فهي النخلة].

[ومثلها مثل ابن آدم إذا قطع رأسه هلك، وإذا قطع رأس النخلة إنما هي جذع ملقى].

[وتأوي أرواح المسلمين عيناً في الجنة تسمى سلمى].

وأما العين التي تأوي إليها أرواح المشركين فهي عين [في جب النار] يقال لها: برهوت [سلمى].

وأما المؤنث هو الذي لا يدري أذكر هو، أم أنثى؟! فإنه ينتظر به، فإن كان ذكراً احتلم، وإن كانت أنثى حاضت وبدا ثديها.

وإلا قيل له: بل على الحائط، فإن أصاب بوله الحائط فهو ذكر، وإن انتكص بوله كما ينتكص بول البعير فهي امرأة.

[وفي نص آخر: وأما الخنثى، فإنه يبول، فإن خرج بوله من ذكره فسنته سنة الرجال، وإن خرج من غير ذلك فسنته سنة المرأة].

وأما عشرة أشياء بعضها أشد من بعض: فأشد شيء خلقه الله عز وجل هو الحجر، وأشد من الحجر الحديد، وأشد من الحديد النار تذيب الحديد، وأشد من النار الماء يطفئ النار، وأشد من الماء السحاب يحمل الماء، وأشد من السحاب الريح يحمل السحاب، وأشد من الريح الملك الذي يرسلها، وأشد من الملك ملك الموت الذي يميت الملك،و أشد من ملك الموت الموت الذي يميت ملك الموت، وأشد من الموت أمر الله رب العالمين، الذي يدفع به الموت.

فقال الشامي: أشهد أنك ابن رسول الله حقاً، وأن علياً [وصي محمد، و] أولى بالأمر من معاوية.

ثم كتب هذه الجوابات وذهب بها إلى معاوية فبعثها معاوية إلى ابن الأصفر فكتب إليه ابن الأصفر: يا معاوية لم تكلمني بغير كلامك، وتجيبني بغير جوابك؟! أقسم بالمسيح ما هذا جوابك، وما هو إلا [من] معدن النبوة وموضع الرسالة، وأما أنت فلو سألتني درهماً ما أعطيتك.

2 ـ وحسب نص آخر للراوندي قال: وروي: أن علياً «عليه السلام» كان في الرحبة، فقام إليه رجل، فقال: أنا من رعيتك وأهل بلادك.

قال «عليه السلام»: لست من رعيتي ولا من أهل بلادي، وإن ابن الأصفر بعث بمسائل إلى معاوية فأقلقته، وأرسلك إلي لأجلها.

قال: صدقت يا أمير المؤمنين، إن معاوية أرسلني إليك خفية، وأنت قد اطلعت على ذلك، ولا يعلمها غير الله.

فقال «عليه السلام»: سل أحد ابني هذين.

قال: أسأل ذا الوفرة. يعني الحسن.

فأتاه، فقال له الحسن: جئت تسأل كم بين الحق والباطل؟! وكم بين المشرق والمغرب؟! وما قوس قزح؟! وما المؤنث؟! وما عشرة أشياء بعضها أشد من بعض؟!

قال: نعم.

قال الحسن «عليه السلام»: بين الحق والباطل أربع أصابع، فما رأيته بعينك فهو الحق، وقد تسمع بإذنيك باطلاً كثيرا.

قال الشامي: صدقت.

قال: وبين السماء والأرض دعوة المظلوم، ومد البصر، فمن قال لك غير هذا فكذبه.

قال: صدقت يا ابن رسول الله.

قال: وبين المشرق والمغرب مسيرة يوم للشمس تنظر إليها حين تطلع من مشرقها وحين تغيب من مغربها.

قال الشامي: صدقت، فما قوس قزح؟

قال «عليه السلام»: ويحك، لا تقل قوس قزح فإن قزح اسم شيطان، وهو قوس الله، وعلامة الخصب، وأمان لأهل الأرض من الغرق.

وأما العين التي تأوي إليها أرواح المشركين، فهي عين يقال لها: برهوت.

وأما العين التي تأوي إليها أرواح المؤمنين وهي يقال لها: سلمى.

وأما المؤنث، فهو الذي لا يدري أذكر هو أم أنثى، فإنه ينتظر به، فإن كان ذكراً احتلم، وإن كانت أنثى حاضت وبدا ثديها.

وإلا قيل له: بُل على الحائط، فان أصاب بوله الحائط فهو ذكر، وإن انتكص بوله كما انتكص بول البعير فهي امرأة.

وأما عشرة أشياء بعضها أشد من بعض، فأشد شيء خلقه الله عز وجل الحجر، وأشد من الحجر الحديد الذي يقطع به الحجر، وأشد من الحديد النار تذيب الحديد، وأشد من النار الماء يطفئ النار، وأشد من الماء السحاب يحمل الماء، وأشد من السحاب الريح تحمل السحاب، وأشد من الريح الملك الذي يرسلها، وأشد من الملك ملك الموت الذي يميت الملك، وأشد من ملك الموت الموت الذي يميت ملك الموت، وأشد من الموت أمر الله رب العالمين يميت الموت.

فقال الشامي: أشهد أنك ابن رسول الله «صلى الله عليه وآله» حقاً، وأن علياً أولى بالامر من معاوية، ثم كتب هذه الجوابات وذهب بها إلى معاوية، فبعثها معاوية إلى ابن الأصفر، فكتب إليه ابن الأصفر: يا معاوية، لم تكلمني بغير كلامك وتجيبني بغير جوابك؟! أقسم بالمسيح ما هذا جوابك وما هو إلا من معدن النبوة وموضع الرسالة وأما أنت فلو سألتني درهما ما أعطيتك([3]).

ونقول:

لاحظ ما يلي:

بنو الأصفر:

قال العلامة المجلسي: قوله: بعث فيه ابن الأصفر: أي ملك الروم. وإنما سمي الروم بنو الأصفر، لأن أباهم الأول كان أصفر اللون، وهو روم بن عيص، بن إسحاق، بن إبراهيم. كذا ذكره الجزري([4]).

وقال الفيروزآبادي في القاموس: وبنو الأصفر ملوك الروم أولاد الأصفر بن روم بن يعصو.

أو لأن جيشاً من الحبش غلب عليهم فوطأ نساءهم، فولد لهم أولاد صفر([5]).

معاوية أرسلك؟!:

وقد ذكرت الرواية المتقدمة برقم (1): أن ذلك الشامي بادر إلى الإعتراف بأن معاوية أرسله بمسائل إلى علي «عليه السلام»، ولكن رواية الخرائج تقول: إن أمير المؤمنين «عليه السلام» قال له: «ولكن ابن الأصفر بعث إلى معاوية بمسائل أقلقته، وأرسلك إلي بها.

قال: صدقت يا أمير المؤمنين، إن معاوية أرسلني إليك في خفية، وأنت قد اطلعت على ذلك، ولا يعلمه غير الله».

وهذا الإخبار العلوي عن أمر غيبي من شأنه أن يظهر للناس: أن علياً «عليه السلام» لم يكن مجرد عالم كسائر العلماء الذين عرفوهم، وأنه لم يحصل على معارفه بجهد شخصي، لو أن غيره بذل من الجهد مثل ما بذل لنال ما نال. بل هو عالم مسدد من قبل الله تبارك وتعالى، ولديه علوم لا تنال بالجهد، لأنها علوم توقيفية تحتاج إلى توفيق ورعاية ربانية. وهي لا تنال إلا بالطهارة التامة، وبالطاعة المطلقة المحققة لرضاه تبارك وتعالى..

الإمام الحسن يخبر بالغيب أيضاً:

وقد أكد هذه الخصوصية ما ذكره نص الخرائج أيضاً، من أن الإمام الحسن «عليه السلام» قد بادر إلى إخبار الشامي بالمسائل التي جاء بها من الشام، فبيَّن لهم بذلك: أن الإخبار بالغيوب لا يختص بعلي «عليه السلام»، بل هو سمة الأئمة الأوصياء صلوات الله وسلامه عليهم. فقد تقدم: أن الشامي حين أتى الإمام الحسن «عليه السلام» ليسأله، قال له «عليه السلام»: «جئت تسأل: كم بين الحق والباطل، وكم بين الأرض والسماء إلخ..».

من أنت؟!:

إن الإمام «عليه السلام» بادر إلى سؤال ذلك الرجل عن نفسه، قبل أن يسأله عن حاجته، فإنه «عليه السلام» قد أنكره، وعرف أنه غريب عن بلاده بمجرد رؤيته له. وبما أنه مسؤول عن رعيته، في أمنها وفي جميع شؤونها، فالمسؤولية ـ مع غض النظر عن الإمامة ـ تفرض أن يُعْرَف هذا الشخص الغريب بصورة دقيقة، لكي يؤمن شره ومكره، إن كان قد كلف بمهمة شريرة وماكرة..

فإذا عرف ذلك الشخص نفسه بما يزيل الشبهة عنه، أمكن السماح له بالدخول في سائر المجالات..

وحين كذب عليه ذلك الشخص، واجهه «عليه السلام» بالتكذيب الصريح فإن من كذب علناً لا بد أن يتم فضحه علناً أيضاً.

وقد جاء هذا التكذيب له مدعماً بالدليل والشاهد، فقد أخبره علي «عليه السلام» أنه لو كان من رعيته ومن بلده لكان رآه، والتقى به، ولو رآه مرة واحدة لم يغب عنه، فإن علياً لا ينسى من يمر عليه..

فعرف ذلك الرجل أن استمراره بالمكايدة سيؤكد الشبهة عليه، وقد يؤخذ على أنه مدسوس من قبل عدو، فإذا فحص علي «عليه السلام» عن ذلك، ووجد أنه من مناطق سيطرة معاوية، فذلك يعني تكريس هذه التهمة فيه، ولم يكن ذلك الشامي يريد ذلك، فاعترف بأنه غريب عن تلك البلاد..

الأمن قبل كل شيء:

وأول سؤال وجهه «عليه السلام» إلى ذلك الغريب كان عما يحفظ أمن الناس، الذي هو من أوجب الواجبات، ومن الأولويات عنده.

ولم يعطه الإمام «عليه السلام» الأمان إلا بعد أن أجابه على السؤال المرتبط بأمن أهل مصره..

بل إنه حتى بعد أن أجابه بنفي أن يكون قد أحدث في مصره حدثاً لم يصرح بإعطائه الأمان. بل اكتفى بإظهار القبول بدخوله إلى مصره بعد أن تضع الحرب أوزارها. مما يعني: أن دخوله لو حصل في حال كانت الحرب قائمة سيكون غير مقبول. كما أنه لو أحدث حدثاً في بلاد المسلمين فلابد من ملاحقته، في زمن الحرب أو في غيره.

حكم الله بيني وبين الأمة:

وقد صرح «عليه السلام»: بما دل على أن الأمة هي المسؤولة عما حاق به من ظلم وحيف، ومن تعديات على الدين وأهله.. إذ لولا انقيادهم لمن غصبوه حقه، وقبولهم بأن يكونوا سيفهم وسوطهم، لم يتمكنوا من العبث بتوجيهات وأوامر الله ورسوله، ولا بد أن تحاسب الأمة على هذا التقصير، بل على هذا العدوان الذي اختارت أن تشارك فيه.

قطعوا رحمي، كيف؟!:

وحين ذكر «عليه السلام»: أن هذه الأمة قد قطعت رحمه، فالمراد: أنهم لم يراعوا رحمه من رسول الله «صلى الله عليه وآله». فيكونون بعملهم هذا قد أساؤا إليه وإلى الرسول في آن واحد. أو المراد أنهم لم يراعوا حقه الذي أوجبه الله عليهم، فقطعوا صلتهم معه، وهي صلة الآخرة، والإيمان، والولاية.

أضاعوا أيامي، كيف؟!:

وأما إضاعة الأمة أيامه فلأنهم لم يقدِّروا له جهاده في سبيل إقامة هذا الدين، وتأييده وحفظه من كيد الكافرين والمشركين، وقد كانت له وقائع عظيمة وأيام هائلة في نصرة الله ورسوله، فقد أضاعوها، وأبطلوا الأثر المتوخى منها، وكان حفظها سيعود عليهم، وعلى الإسلام والإيمان، بأفضل العوائد وأسنى الفوائد.. أو أضاعوا أيامي، بمعنى: أنهم بتركهم الآخرين يغتصبون الخلافة قد أضاعوا الكثير من الفوائد والعوائد والبركات الدنيوية والأخروية التي كانت ستحصل لهم.

هل كان الإمام الحسن صبياً؟!:

وتقدم قول الرواية: «اسأل ذا الوفرة ـ يعني الحسن «عليه السلام» ـ وكان صبياً».

وهو كلام غير دقيق، فإنه «عليه السلام» قد ولد في السنة الثالثة من الهجرة، وقد بدأت خلافة أمير المؤمنين «عليه السلام» في سنة خمس وثلاثين للهجرة، فلو أن هذه القضية قد حصلت في أول سني خلافته «عليه السلام» لكان عمر الإمام الحسن «عليه السلام» اثنين وثلاثين سنة([6]). فكيف تقول الرواية: إنه «عليه السلام» كان صبياً؟!

ونظن: أن هذه الكلمة قد صحفت عن كلمة أخرى، ولعل الصحيح: «وكان ملياً»، أي من العلم، أو «وكان فتياً»، على حد ما ورد في نداء جبرئيل بين السماء والأرض:

لا   فتــى   إلا   عـــلي                     لا  سيف   إلا   ذو   الفقار

فلاح علي وخذلان معاوية:

وقد بينت هذه الواقعة ـ بغض النظر عن علم الإمامة، وصفاتها وحالاتها ـ شدة يقظة أمير المؤمنين «عليه السلام»، وسهره على رعيته، ومدى ضبطه لأمر الأمن فيها، فإنه «عليه السلام» يميز الدخيل من الأصيل من أول نظرة، كما أنه «عليه السلام» لا تخطئ فراسته، ولا يقع أحد في مأزق، ولا يضيع له حق نتيجة ضعف ذاكرة الحاكم، أو غلطه، لأنه «عليه السلام» لا ينسى من يراه، ولو لمرة واحدة.

ولا يستطيع أحد أن يدلس نفسه عليه، ويخلط نفسه بأصحابه مستغلاً غفلته، أو عدم معرفته به.

وهذه اليقظة البالغة هي التي سهلت له «عليه السلام» كشف حقيقة ذلك الرجل من أول نظرة..

أما معاوية فقد باء بالفضيحة المخزية، حيث عرف الناس كلهم أنه عاجز عن حفظ ماء وجهه أمام ملك الروم، فلجأ إلى المكر والحيلة، ليستخرج الأجوبة من سيد الوصيين عليه رغم شدة عدائه، وحربه له. ورغم أن معاوية يدَّعي لنفسه الخلافة والزعامة للأمة، مع أنه مقام إلهي، لا سبيل إليه إلا بالنص من الله ورسوله، وعماده عصمة الإمام عن الخطأ وعن السهو والنسيان، والعلم الخاص الذي يختصه الله تعالى به، بالإضافة إلى معرفته التامة بكل ما تحتاج إليه الأمة، وعمق الصلة بالله تبارك وتعالى..

وكان هذا الذي جرى من موجبات إظهار مدى الخواء لديه من أي مؤهلات لهذا المقام الجليل الذي يدعيه.

ويكون بما أراده من استغفال علي «عليه السلام» قد قدم دليلاً حسياً على شدة ظلمه لأمير المؤمنين «عليه السلام»، ويبين بما لا شك فيه ولا شبهة تعتريه: أنه معتد، ومتوثب على ما ليس له..

كما أن أمير المؤمنين «عليه السلام» قد قدم دليلاً حسياً: على أنه على الضد مما ظهر من حال معاوية، فهو «عليه السلام» الرجل اليقظ والحازم، والمشمول باللطف الإلهي، وهو المعصوم والمسدد، والعالم بكل الأسرار والخفايا التي تحتاج إليه الأمة في قضاياها.

ثم إنه «عليه السلام» أثبت عملياً: أنه متصل بالغيب، حيث أخبر ذلك الرجل بأمره، وما جاء له قبل أن يصرح له به كما في رواية الرواندي.. هذا بالإضافة إلى ما قدمناه من إخبار الإمام الحسن «عليه السلام» لذلك الشامي بعين المسائل التي جاء بها، قبل أن يذكر منها شيئاً كما تقدم..

ملك الروم وشرائط الإمامة:

وقد ظهر أن ملك الروم يرى: أن خليفة النبي يجيب على مختلف الأسئلة الصعبة، وأن عجزه عن ذلك يدل على ادعائه مقاماً ليس له. وأن اختباره في هذا الأمر يكفي للإذعان والانقياد له أو صرف النظر عنه..

ولذلك أعطى ملك الروم عهده بأن يتبع معاوية إن أجابه بنفسه عن تلك الأسئلة التي أراد أن يمتحنه بها.

غير أن الذي ظهر هو أن ملك الروم كان عارفاً بأمر معاوية، وبأنه متغلب ومدع لما ليس له. وأنه كان على درجة دراية بمنطق معاوية، واقفاً على ما ينطوي عليه من خواءٍ علمي، وفراغ مضموني. وأن الأجوبة التي بعث إليه بها لم يكن هو مصدرها، بل هي قد خرجت من معدن النبوة، وموضع الرسالة..

وما نريد أن ننبه إليه الآن هو أن معرفة ابن الأصفر بذلك قد كانت ـ فيما يظهر ـ عن طريق الكتب الدينية التي كانت بحوزته.. وربما كانت هي ما انساق إليه بعقله ووجدانه، حيث إن العقل والوجدان يقضي بأن يكون خلفاء الأنبياء أعلم الناس بما جاؤوا به، وإن علمهم بالأسرار والخفايا هو الذي يميزهم عن غيرهم، بالإضافة إلى تميزهم في ملكاتهم ومزاياهم، وفي سلوكهم الملتزم بخط الشرع والدين إلى حد العصمة عن كل خطأ وخطل، في الفكر، وفي القول والعمل.

يلاحظ: أن ملك الروم قال له: إن كنت أحق بهذا الأمر والخليفة بعد محمد «صلى الله عليه وآله»، فأجبني عما أسألك. ولم يقل له: الخليفة بعد من سبقك من الخلفاء، وهذا يكشف عن مرتكز ذهني ثابت في وجدان الأمم الأخرىن ـ فضلاً عن المسلمين ـ بما فيهم اليهود والنصارى حول مقام خلافة النبي «صلى الله عليه وآله»، ومواصفات الخليفة، ومنها: العلم الخاص، والعصمة، ويظهر: أن ملك الروم كان يعلم: بأن معاوية ليس هو صاحب الحق، لكنه أراد أن يسخر منه ويصغره.

وقد صرح ذلك الشامي بأن أسئلة ابن الأصفر قد أقلقت معاوية، وحق له أن يقلق، لأنه كان يعرف حجم نفسه، وأنه لا يملك ما يدفع به عن نفسه غائلة عجزه وجهله، ولأنه يواجه خطر فضيحة، من شأنها أن تضعف موقفه الظالم ضد أمير المؤمنين، وسيد الوصيين عليه الصلاة والسلام..

معاوية بنظر علي :

وقد صرح علي «عليه السلام» بما دل على نظرته الثاقبة إلى واقع معاوية، فدلنا بكلامه على الأمور التالية:

1 ـ إن معاوية ليس فقط كان ضالاً كسائر الناس الضالين، بل هو ممعن في الضلال إلى حد يثير العجب والإستهجان..

كما أنه ليس فقط لا يبصر حتى ما هو ماثل أمام عينيه، بل هو شديد العمى عنه.. ولذلك قال «عليه السلام» على سبيل التعجب: «ما أضله وأعماه»!.

2 ـ إن هذه الحالة لا تختص بمعاوية، بل هي حال أصحابه معه، الأمر الذي يدعو إلى اليأس عن أن يجد من يرشده إلى طريق الحق والهدى والصلاح..

3 ـ إن معاوية هو من ذلك البيت الذي يمعن في البعد عن الخير والصلاح، إلى حد أن نساءه يشققن بطون الأخيار، ويأكلن أكباد الشهداء الأطهار. فكيف تكون حال رجال ذلك البيت يا ترى؟!

وهل ينتج محيط كهذا إلا الذين يكرهون الصلاح والصالحين، والحق وأهل الحق..

4 ـ إنه «عليه السلام» أكد ما قاله عن معاوية بتقديم نموذج حي يدلل على مدى بعده عن العلم والفقه، فإنه لم يحسن أن يتزوج بجاريته التي أعتقها. مع أن هذا من أبده البديهات، وأوضح الواضحات..

ويقول بعض الأخوة:

لعل الإمام أراد أن يعبر عن مدى شقاء معاوية، وإمعانه في الغي إلى درجة أن اللقمة لو كانت بيده حلالاً لغمسها بالحرام ليأكلها حراماً، لأنه لا يستسيغ الحلال.

وفي تقديري: أنه كان لمعاوية جارية، فأعتقها، ثم زنا بها. مع أنه كان يستطيع أن يتزوج بها لينال بذاك أجراً، لكنه زهد بالأجر ورغب بما يوجب السخط والعذاب.

هذا ابني، وهذان ابنا الرسول :

وقد قال «عليه السلام» لذلك الشامي، حين حضر الإمامان الحسنان «عليهما السلام»، وابنه محمد: يا شامي، هذان ابنا رسول الله، وهذا ابني، فاسأل أيهم أحببت.

وقد تضمن كلامه هذا الإشارة إلى العديد من الأمور، مثل:

1 ـ أن ولده محمد بن الحنفية كان أيضاً قادراً على أن يجيب على أسئلة ذلك الشامي، التي عجز عنها معاوية وحزبه، ولجأ فيها إلى أمير المؤمنين «عليه السلام»..

2 ـ إن هذا يدل على أن لمحمد أيضاً مقاماً عظيماً في العلم، وأنه كان أهلاً للثقة التي منحه إياها أبوه «عليه السلام».

3 ـ إن هذا يدل على أن أمير المؤمنين «عليه السلام» كان عارفاً بحقيقة المسائل التي يحملها ذلك الشامي. وكان يعرف أن أجوبتها حاضرة لدى محمد بن الحنيفة.

ولم تكن هذه المعرفة ميسورة للناس بالطرق العادية.

فدل ذلك على أنه قد عرف بها من طريق غير عادي، يؤكد أن له خصوصية إطلاعه على الغيوب لم تكن لدى غيره من البشر. ولو من حيث أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» أخبره عن جبرئيل «عليه السلام» عن الله عز وجل بهذا الحدث بكل تفاصيله.. أو أنه علمه بوسائل أخرى ترتبط بعلم الإمامة، وقدرات الإمام.

4 ـ لقد نسب علي «عليه السلام» الإمامين الحسنين «عليهما السلام» إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» تكريماً لهما، وإعظاماً للرسول «صلى الله عليه وآله».. وليدل الشامي على أن عليه أن يتجه بكل وجوده نحو أهل بيت النبوة، ومعدن الرسالة، ومختلف الملائكة.. ويريد أن يضعه أمام موازنة وجدانية ومقارنة واقعية عليه أن يجريها بين أهل هذا البيت، وبين البيت الذي نشأ فيه معاوية، وكانت تديره امرأة ـ هي أم معاوية ـ لم تتورع أن تشق بطون الشهداء لتستخرج أكبادهم، وتأكلها..

5 ـ إن نفس تقديم محمد كعالم بالخفايا والأسرار، قادر على حل معضلات المسائل، مع أنه ليس هو ابن الرسول، بل هو نتاج تربية علي وحسب، يُظْهِر البون الشاسع بين معاوية الذي عرفنا مدى خوائه العلمي، وعدوانيته للحق وأهله، وجرأته على ظلم الأنبياء في أوصيائهم، وفي أهل بيت النبوة، والذي يدعي ما ليس فيه. وبين بيت يربي أمثال محمد، في علمه، وتقواه، واستقامته وهداه والتزامه طريق الحق والخير والسداد.

من قال غير هذا فكذبه؟!:

1 ـ تضمنت الأجوبة قول الإمام الحسن «عليه السلام»: «وبين السماء والأرض دعوة المظلوم، ومد البصر، فمن قال غير هذا، فكذبه».

ولم يطلب الإمام «عليه السلام» تكذيب من يجيب بغير أجوبته إلا في هذا المورد.

ولعله «عليه السلام» أراد أن يسد الطريق على كل مدع للزور والكذب، الذي قد يبادر إلى طرح أرقام خيالية للمسافات، من دون شاهد أو دليل سوى مجرد الادعاء والتحكم، ممن يعلم بأن أحداً لا يستطيع إثبات كذبه، لعدم إمكان قياس المسافات في أمثال هذه الأمور.

فإذا عرف أمثال هؤلاء الدجالين أنهم سيواجهون بالتكذيب، وسيطالبونهم بإقامة البراهين على دعاواهم الجزافية، فإنهم سيضطرون إما إلى الانسحاب الذليل، لعجزهم عن إثبات صحة أقوالهم وتخرصاتهم.

أي أن هذا الموقف من هؤلاء يجعلهم مطالبين إما بإثبات صدقهم، أو بالاعتراف بكذبهم، وتراجعهم، وهم يجرون أذيال الخزي والخيبة..

2 ـ إن إجابة الإمام عن المسافة بين السماء والأرض، قد تضمنت امرين:

أحدهما: تربوي، يفيد في تهذيب الروح، وترويض النفس على طاعة الله، والخشية منه، ويدفعها لمراقبته في كل قول وفعل، في أمر هو من أكثر الأمور حضوراً في حياة الناس، فإن أكثرهم ظالم لنفسه ولغيره، يحتاج إلى أن يشعر بقهارية الله تعالى، وإلى أنه بالمرصاد، وإلى أن عدم معاجلته بالعقوبة لا تعني إفلاته منها، بل هي لطف به، لأنها تدعو إلى التوبة و الإنابة.

الثاني: جواب حسي يرتكز إلى: أن من معاني السماء في اللغة العربية: الفضاء المحيط بالأرض، وهو ما يظهر فوقنا كقبة عظيمة فيها الشمس والقمر وسائر الكواكب([7]).

فرؤية هذه القبة وما فيها معناه أن البصر قد اخترقها، واستمر في امتداده إلى أن بلغ تلك المرئيات، فإذا امتد ليرى أبعد الكواكب، فذلك يعني أنه قد قطع تلك المسافات كلها مهما كانت هائلة، فإنها كلها تقع في مدى هذه القبة التي تحتويها، وقد نالها بصره.

فالنتيجة هي: أن الجواب صحيح من الناحية الحسية.

وقد يقال: إن هذا الجواب لا يصح: لأن مد البصر إنما يكون في داخل السماء، ولكنه لا يخترقها، لأن ما يخترقه البصر في تلك القبة لا يصل إلى القبة نفسها.

ويجاب:

بأن البصر إذا وصل إلى تلك القبة المسماة بالسماء، فذلك يعني أنه قد قطع المسافة كلها.


([1]) الآية 12 من سورة الإسراء.

([2]) لعل الصحيح: دلس.

([3]) الخصال (ط مؤسسة النشر الإسلامي) ص440 ـ 442 و 236 و (ط أخرى) ج2 ص506 وبحار الأنوار ج10 ص129 ـ 131 وراجع: ج33 ص238 ـ 240 وج43 ص325 و 326 وج7 ص199 وج72 ص196 وج101 ص358 وج6 ص284 وج56 ص277 والخرايج والجرايح ج2 ص572 و 573 وقضاء أمير المؤمنين «عليه السلام» للتستري (ط مؤسسة الأعلمي) ص154 والاحتجاج ج2 ص13 ـ 17 وروضة الواعظين ص57 ومدينة المعاجز (ط الحجرية) ص222 وحلية الأبرار ج1 ص503 وإثبات الهداة ج4 ص552 وج5 ص162 ووسائل الشيعة (ط الاسلامية) ج8 ص448 وتحف العقول ص228 والصراط المستقيم ج2 ص178.

([4]) بحار الأنوار ج10 ص131 وراجع النهاية في اللغة، باب الصاد مع الفاء.

([5]) القاموس المحيط ج2 ص71 وراجع وفيات الأعيان ج6 ص126.

([6]) راجع: بحار الأنوار ج10 ص132.

([7]) أقرب المواد (ط سنة 1992م) ج2 ص545.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان