سعيد بن منصور، عن شيخ من فزارة
قال:
سمعت علياً «عليه السلام» يقول: الحمد لله الذي جعل
عدونا يسألنا عما نزل به من أمر دينه، إن معاوية كتب إلي يسألني عن
الخنثى المشكل، فكتب إليه أن يورثه من قبل مباله([1]).
ونقول:
وقد دلت هذه الرواية على ما يلي:
1 ـ
إن معاوية كان يجهل حكم الخنثى المشكل، ويريد ببغيه أن يقصي الخليفة
المنصوب من قبل الله ورسوله، ليأخذ هو مقام خلافة النبوة الذي يكون من
أبسط مسؤولياته معرفة الأحكام الشرعية. فضلاً عما سوى ذلك من علوم.
2 ـ
لولا أن معاوية كان في أمر الخنثى في غاية الإحراج،
ويخاف من التشنيع عليه في صورة الخطأ في الحكم لم يكتب إلى علي ولا إلى
غيره، ولكان قد أفتاهم بما خطر بباله، وعليهم أن يرضوا به من دون نقاش.
3 ـ
إن ما يهم علياً «عليه السلام» هو إجراء أحكام الشريعة،
ولم يكن يهتم بتسجيل النقاط على أحد، حتى لو كان عدوه.. ولذلك لم يتوان
في الكتابة إلى معاوية بما طلب..
4 ـ
إن علياً «عليه السلام» يحمد الله تعالى على أن ذلك
الباغي عليه، والمكابر يضطر للاعتراف عملياً، وبصورة مكتوبة بمرجعية
علي «عليه السلام» في أمور الدين، ولا يزيد على ذلك.
5 ـ
إن معاوية حين يكتب لعلي «عليه السلام» بأسئلته، فإنه
يكون قد أعطى وثيقة حية وقابلة للتداول تؤكد على انه لا يملك المؤهلات
للمقام الذي يقاتل للحصول عليه..
روى
ابن المسيب:
أنه كتب معاوية إلى أبي موسى الأشعري يسأله أن يسأل علياً عن رجل يجد
مع امرأته رجلاً يفجر بها، فقتله، ما الذي يجب عليه؟!
قال :
إن كان الزاني محصناً فلا شيء على قاتله، لأنه قتل من
يجب عليه القتل([2]).
وفي رواية صاحب الموطأ، فقال «عليه
السلام»:
أنا أبو الحسن، فإن لم يقم أربعة شهداء فليعط برمته([3]).
ونقول:
قلنا:
إن معاوية لم يكن يهتم كثيراً لحفظ الأحكام الشرعية،
ويدل على ذلك الكثير من الأمور، ومنها تحليله الربا، فلما اعترض عليه
أبو الدرداء بنهي رسول الله «صلى الله عليه وآله» عنه.
قال معاوية:
ما أرى بهذا بأساً.
فقال أبو الدرداء:
من يعذرني من معاوية؟! أنا أخبره عن رسول الله «صلى
الله عليه وآله»، ويخبرني عن رأيه!! لا أساكنك بأرض أنت بها.
ثم قدم أبو الدرداء على عمر بن الخطاب، فأخبره. فكتب
عمر بن الخطاب إلى معاوية: أن لا تبيع ذلك. إلا مثلا بمثل، وزناً بوزن([4]).
وكيف يكون معاوية مهتماً بأحكام الشريعة، وكيف يتوقع
منه ذلك وهو من الشجرة الملعونة في القرآن (الكريم). وقد شغل نفسه عن
إجابة النبي «صلى الله عليه وآله» وطاعته، معتذراً بأنه يأكل حتى
استوجب سخط الله ورسوله «صلى الله عليه وآله»: لا أشبع الله له بطناً،
أو لا أشبع الله بطنه. وقال «صلى الله عليه وآله»: إذا رأيتموه على
منبري فاقتلوه.
وهل يمكن أن يكون معاوية مهتماً بأحكام الشريعة، والحال
قد قتل في صفين من أهل بيعة الرضوان 63 رجلاً([5]).
ومن أهل بدر 25 رجلاً([6]).
بل قتل في تلك الحرب التي أثارها معاوية سبعون ألف قتيل، كما رواه
المنقري([7]).
وبناء على هذا يتأكد لزوم الإجابة
على سؤال:
لماذا إذن يكتب إلى أبي موسى الأشعري، ليسأل علياً
«عليه السلام» عن هذا الحكم الشرعي؟!
ونجيب:
بأن استهتار معاوية بالأحكام لا يعني أنه يتجاهر بذلك،
لا سيما إذا كان التجاهر سيتسبب بإلحاق الضرر به، وتقوية شوكة علي
«عليه السلام». الذي لا يمكن أن يسكت على استهتاره هذا لو كان متجاهراً
به.
يضاف إلى ذلك:
أن قوة علي«عليه السلام» في الأمة إنما كانت تترسخ بما يظهره من علوم
وحقائق، وبما يشير إليه من أسرار ودقائق في مختلف الإتجاهات، فلا يصح
من معاوية أن يظهر نفسه بمظهر الجاهل بأبسط المسائل. فإن ذلك سيضعفه
كثيراً في منصبه، خصوصاً أنه (معاوية) جلس في مجلسه باسم الإسلام،
والقرابة المزعومة التي تربطه بالنبي «صلى الله عليه وآله»، فإن بني
أمية كانوا يزعمون أنهم لأقرباء الرسول «صلى الله عليه وآله». كما يدل
عليه: أن عشرة من أمراء أهل الشام وقادتها، وأهل الرياسة فيها حلفوا
للسفاح السياسي بالطلاق والعتاق، وصدقة ما يملكون أنهم ما كانوا يعرفون
لرسول الله «صلى الله عليه وآله» قرابة غير بني أمية([8]).
علي
يسخو بعلمه:
ولذلك نلاحظ:
أن معاوية كان يتحايل على أمير المؤمنين «عليه السلام»
للحصول على أجوبة المسائل منه، وكان «عليه السلام» واقفاً على ذلك، وقد
صرح به حين أجاب عن سؤال ملك الروم.
ولكنه «عليه السلام» لم يكن يبخل بالإجابة حتى لو كان
السائل هو معاوية، الذي كان يبغي له الغوائل ليل نهار، بل حتى لو ورد
عليه السؤال، وهو في ساحات القتال معه.
إن كتابة معاوية لأبي موسى الأشعري ليسأل له علياً
«عليه السلام»، ومبادرة الأشعري إلى تنفيذ طلبه شاهداً آخر على انحراف
هذا الرجل، أعني أبا موسى عن علي «عليه السلام»، وموالاته لأعدائه..
والإنحراف عن علي يساوي الإنحراف والتنكب عن الصراط المستقيم كما قال
الله ورسوله «صلى الله عليه وآله»، والآيات والروايات المصرحة بذلك
كثيرة جداً تفوق حد التواتر.
منها قوله تعالى:
﴿يَا
أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ
وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ﴾([9]).
وقوله تعالى:
﴿الْيَوْمَ
أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي
وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِيناً﴾([10]).
وقوله سبحانه:
﴿إِنَّمَا
وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ
يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ﴾([11]).
وهناك الكثير من الروايات، منها
قوله «صلى الله عليه وآله» لعائشة:
إنها ستحارب علياً «عليه السلام»، وستأتي ناكبة على
الصراط.
وقوله «صلى الله عليه وآله»:
حب علي إيمان، وبغضه كفر.
وقوله «صلى الله عليه وآله» لعلي
«عليه السلام»:
لا يحبك إلا مؤمن ولا يبغضك إلا منافق.
وقوله «صلى الله عليه وآله»:
علي مع الحق والحق مع علي يدور معه حيثما دار.
والروايات في ذلك تفوق التواتر، بل تفوق الحصر.
1 ـ
إن الرواية الثانية التي تقول: إنه «عليه السلام» قال:
فإن لم يقم أربعة شهداء، فليعط برمته.. يحتمل فيها أمران:
أولهما:
أن تكون هناك واقعتان. أجاب علي «عليه السلام» في إحديهما بالجواب
الأول، حيث كان «عليه السلام» متيقناً من صدق القاتل فيما يدعيه.
وأجاب في الأخرى بالجواب الثاني، لاحتمال أن يكون
القاتل غير مأمون فيما يدعيه، إذ لعله قتله بلا ذنب، ويريد أن يتخلص من
القصاص، باتهامه بالفجور.
الثاني:
أن تكون واقعة واحدة ذكر فيها «عليه السلام» كلا
الأمرين، أي أنه اشترط على القاتل أن يشهد أربعة شهداء بحصول الفجور
بزوجته، فإن شهدوا بذلك وكان الزوج هو القاتل، لم يكن عليه شيء لأنه
كان قد قتل من يستحق القتل.
2 ـ
ويحتمل أن تكون الرواية الأولى تتحدث عن جواز قتل الزوج
من يفجر بزوجته وعدمه بغض النظر عن القصاص في الدنيا وعدمه..
وقد يؤيد ذلك:
قول الرواية الأولى: ما الذي يجب عليه، ولم تشر على
الحد ولا إلى غيره..
3 ـ
يلاحظ: أن الرواية لم تذكر صورة ما لم يكن الزاني
محصناً..
فهل يجب عليه الدية؟! أو بعضها؟! أم يقاد به؟! أم
ماذا؟!
ويمكن الجواب عن ذلك:
بأن الرواية ناظرة إلى الجواز وعدمه، بملاحظة العقوبة
في الآخرة وعدمها.
ابن بطة وشريك باسنادهما، عن ابن
أبجر العجلي، قال:
كنت عند معاوية، فاختصم إليه رجلان في ثوب، فقال
أحدهما: ثوبي، وأقام البينة.
وقال الآخر:
ثوبي اشتريته من السوق من رجل لا أعرفه.
فقال معاوية:
لو كان لها علي بن أبي طالب.
فقال ابن أبجر، فقلت له:
قد شهدت علياً قضى في مثل هذا، وذلك أنه قضى بالثوب
للذي أقام البينة.
وقال للآخر:
اطلب البايع، فقضى معاوية بذلك بين الرجلين([12]).
ونقول:
1 ـ
إن هذه الرواية لم تبين لنا تاريخ هذه الواقعة، هل هي
في حياة علي «عليه السلام»؟! أم بعد استشهاده؟!
2 ـ
إن هذه القضية من أعجب القضايا، حيث صرحت بما لا يقبل
الشك: بأن معاوية الذي يحارب علياً «عليه السلام»، ليقصيه عن مقام
خلافة الرسول، ويختص به لنفسه ـ إن معاوية ـ لا يعرف: أن عليه أن يحكم
بالثوب لمن أقام البينة، وأن يصرف الآخر، ويسقط دعواه..
ألم
يبلغه قول رسول الله «صلى الله عليه وآله»:
البينة على المدعي، واليمين على المنكر([13]).
وقوله «صلى الله عليه وآله»:
إنما أقضي بينكم بالبينات والأيمان؟!([14]).
وقال تعالى لداود «عليه السلام»:
﴿إِنَّا
جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ
بِالْحَقِّ﴾([15]).
ولا أدري بماذا كان معاوية يحكم بين الناس طيلة عشرين
سنة قضاها في حكم بلاد الشام من قبل عمر بن الخطاب، وعثمان.. وإلى ذلك
الوقت من حين قتل عثمان.. وإلى أي مستوى انحط الفكر والفقه لدى حكام
الأمة؟! وعلى أي ميزان اعتمد الخلفاء لنصب معاوية حاكماً على الشام
طيلة حوالي عقد ونصف من الزمن؟!
أم يعقل أن لا تكون قد حدثت أية منازعة بين أحد من
الناس طيلة تلك العقود من السنين؟! أو أنه كان يحكم فيها بالهوى،
وكيفما اتفق؟!
ألا يحق لنا أن نقول بعد هذا:
فقوموا على الإسلام نبكي ونلطم. إذ ابتليت الأمة براع
مثل معاوية لا يعرف أن الحق لصاحب البينة، وكيف يمكن تبرير أن ترضى
الأمة بأن يصبح معاوية المتصدي لخلافة النبوة، مدعياً يريد أن يحكم
فيهم بأحكام الله، ويعلمهم شرائعه، ويجري فيهم سياساته، وينشر فيهم
قيمه، وحقائقه، ويربيهم على أخلاقياته؟! ولا نريد أن نقول أكثر من
هذا..
وروى الأصبغ قال:
كتب ملك الروم إلى معاوية: إن أجبتني عن هذه المسائل
حملت إليك الخراج، وإلا حملت أنت.
فلم يدرِ معاوية، فأرسلها إلى أمير المؤمنين «عليه
السلام»، فأجاب عنها، فقال: أول ما اهتز على وجه الأرض النخلة، وأول
شيء صيح عليها واد باليمن. وهو أول واد فار فيه الماء.
والقوس أمان لأهل الأرض كلها عند الغرق ما دام يرى في
السماء.
والمجرة أبواب فتحها الله على قوم، ثم أغلقها فلم
يفتحها.
قال:
فكتب بها معاوية إلى ملك الروم.
فقال:
والله ما خرج هذا إلا من كنز نبوة محمد، فحمل إليه
الخراج([16]).
ونقول:
لاحظ ما يلي:
1 ـ
قلنا فيما سبق: إن الروم كانوا مهتمين بإعادة الاعتبار
لأنفسهم في مقابل المسلمين، لأسباب عديدة منها:
أنهم رأوا في الإسلام خطراً جدياً على مكانتهم الدينية،
والثقافة العلمية.. فكان لا بد لهم من استعادة هذه الهيبة، وكسر شوكة
الإسلام وأهله في هذا المجال..
2 ـ
لو عجز معاوية عن الإجابة، فهل يحق له أن يؤدي الخراج
لملك الروم الكافر والطاغية؟! أم أن عليه أن يعتزل موقعه، ويعيده إلى
أصحابه الشرعيين، الذين نصبهم الله ورسوله، ليكونوا هم الذين يذبون عن
الدين وأهله، ويذودون عن حياضه؟!
3 ـ
إن هذه المسائل كانت تضر كثيراً بحال الغاصبين لمقام
الإمامة، لأنها كانت تثير لديهم الشعور بالعجز وتعيدهم إلى واقعهم،
وتعرفهم بمدى جهلهم، وتذكرهم ببغيهم.. وكانت أيضاً تعرف الناس بأهل
الحق، وبالورثة الحقيقيين للأنبياء.
4 ـ
إن هذا النص يوضح: أن ملك الروم كان يعرف أصحاب الحق
الشرعيين. وقد أخبرنا الله سبحانه وتعالى في محكم كتابه بذلك في آيات
عديدة بما لا يدع مجالاً للشك، ومنها قوله تعالى:
﴿الَّذِينَ
يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ
مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ
بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ﴾([17]).
وقوله سبحانه:
﴿وَإِنَّ
الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ
رَبِّهِمْ﴾([18]).
وقوله عز وجل:
﴿الَّذِينَ
آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ
أَبْنَاءَهُمْ﴾([19]).
وغير ذلك من الآيات كثير.
ولكن ملك الروم لم يستفيد من هذه المعرفة، ولم
يستثمرها، بل كان يتذاكى على الناس، وعلى قومه، لأنه يريد أن يوهمهم
أنه إذا حقق غلبة على معاوية وأمثاله من البغاة والغاصبين، فكأنه انتصر
على الإسلام، وأبطل نبوة النبي محمد «صلى الله عليه وآله»، ويكون من
ثمة قد أعلن نفسه بطلاً قومياً، واتخذ من ذلك ذريعة لترسيخ موقعه، في
الحكم والسيطرة على العباد والبلاد..
5 ـ
لعل من دوافع مبادرة أمير المؤمنين «عليه السلام»
للإجابة على تلك الأسئلة، مع علمه: بأن المطالب بها هو غيره، الذي هو
عدوه هو: أن كل همه «عليه السلام» هو إحقاق الحق، وحفظ الدين وأهله،
والذب عن أنبياء الله، وعن شرائعه وأحكامه.. ولم يكن يهتم بصغائر
الأمور، كما كان الآخرون يهتمون بها.
ليسن هذه هي المرة الأولى التي يرجع فيها معاوية إلى
علي «عليه السلام» ليسأله عن المعضلات من المسائل. ولكن المسألة في هذه
المرة كانت حساسة وخطيرة بالنسبة لمعاوية، فقد قالوا: كتب ملك الروم
إلى معاوية، يسأله عن خصال، فكان فيما سأله: «أخبرني عن لا شيء.
فتحير.
فقال عمرو بن العاص:
وجه فرساً فأرها إلى معسكر علي ليباع، فإذا قيل للذي هو
معه: بكم؟!
يقول:
بلا شيء، فعسى أن تخرج المسألة.
فجاء الرجل إلى عسكر علي، إذ مر به علي ومعه قنبر.
فقال:
يا قنبر ساومه.
فقال:
بكم الفرس.
قال:
بلا شيء.
قال:
يا قنبر، خذ منه.
قال:
أعطني لا شيء.
فأخرجه إلى الصحراء، وأراه السراب،
فقال:
ذلك لا شيء.
قال:
اذهب فخبره.
قال:
وكيف قلت؟!
قال:
أما سمعت بقول
الله تعالى: ﴿يَحْسَبُهُ الظَّمْآَنُ
مَاءً حَتَّى إِذَا جَاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً﴾؟!([20])»([21]).
ونقول:
في هذا النص أمور يحسن لفت النظر إليها، ومنها ما يلي:
1 ـ
إن أمثال هذه الأسئلة، التي كانت تهدف إلى إحراج الطرف
الآخر، بهدف إسقاط موقعه، وبيان جهله. وإظهار التفوق، وتحصيل الغلبة
عليه، كانت تحصل حتى بين الملوك، فضلاً عن غيرهم.
2 ـ
قد لاحظنا اهتماماً خاصاً لدى لملوك الروم بهذا الأمر
في مواجهة المسلمين وحكامهم ولعل عدم ظهور ذلك لدى الفرس بصورة واضحة
يرجع إلى سقوط ملكهم في وقت مبكر، ولم يحدث ذلك لملوك الروم.
كما أن الفرس قد دخلوا في الإسلام، ولم يدخل فيه غيرهم
إلا في أوقات متأخرة، ولذلك نجد وفود علماء النصارى واليهود كانت
تتوالى على البلاد الإسلامية، بهدف السؤال والنقاش في أمور الدين، أما
علماء سائر النحل فلم تكن بتلك الكثرة.
3 ـ
لعل الرومان الذين كانت لديهم حضارات، ومدنيات، وديانات سماوية، كانوا
يرون لأنفسهم موقعاً مميزاً في المجالات العلمية والثقافية، وقد رأوا
في الإسلام تحدياً لموقعهم هذا. فكانوا يسعون إلى تسجيل نجاحات لهم في
المجال الثقافي والديني، ليتباهوا به أمام شعوبهم، وأتباعهم.
ولم يكن يقتصر الأمر على المجالات الثقافية، بل كان
يتعداها إلى غيرها..
وقد رووا:
أن ملك الروم أرسل إلى معاوية يتحدى المسلمين برجلين:
أحدهما:
أقوى رجل في بلاده.
والآخر:
أطول رجل في أرضه...
فلم يجد معاوية سوى رجلين يرد بهما هذا التحدي، وكلاهما
ثقيل عليه، مبغض له، هما محمد بن الحنفية (ابن علي «عليه السلام»)،
والآخر قيس بن سعد بن عبادة، وهو من خيار أصحاب علي «عليه السلام»
أيضاً.
فلما حضرا قال محمد للرومي:
ما تشاء؟!
فقال:
يجلس كل واحد منا ويدفع يده إلى صاحبه، فمن قلع صاحبه
من موضعه، أو رفعه عن مكانه فقد فلح عليه، ومن عجز عن ذلك وقهره صاحبه
قضي بالغلبة له.
فقال محمد:
هذا لك فاختر أينا يبدأ بالجلوس.
فقال له:
اجلس أنت.
فجلس، وأعطاه يديه، فجعل يمارسه، ويجتهد في إزالته عن
موضعه، فلم يتحرك محمد وظهر عجز الرومي لمن حضر.
فقال له محمد:
اجلس الآن.
فجلس، وأخذ بيده، فما لبث أن اقتلعه، ورفعه في الهواء،
ثم ألقاه على الأرض.
فسر معاوية وحاضروه من المسلمين، وقال معاوية لقيس بن
سعد والرومي: الطوال تطاولا.
فقال
قيس:
أنا أخلع سراويلي، ويلبسها هذا العلج، فإن ما بيننا ببين بذلك.
ثم خلع سراويله وألقاها إلى الرومي فلبسها، فبلغت
ثدييه، وانسحب بعضها في الأرض. فاستبشر الناس بذلك.
وجاءت الأنصار إلى قيس، فقالت له:
تبذلت بين يدي معاوية؟! ولو كنت مضيت إلى منزلك وبعثت
بالسراويل إليه؟!
فقال:
أردت لـكـيـما يعلـم النـاس أنهـا سـراويـل قيس
والـوفـود شـهود
وأن لا يقولوا غاب قيـس وهــذه سـراويـل عـادي نـمـتـه
ثـمــود
وإني مـن الـقـوم الـثـمانـين سـيد ومـا الـنـاس إلا
سـيـد ومـســود
وفضلني في الناس أصلي ووالدي وبـاع بـه أعـلـو الـرجال
مديد([22])
1 ـ
وكان لا بد لمعاوية أن يتحير في أمره، إذ من أين يأتيه
العلم، وهو من الطلقاء الذين لم يحسنوا الاستفادة من بركات وجود رسول
الله «صلى الله عليه وآله»، بل نابذوه وحاربوه، وحين قهرهم لم يهتموا
بالإستفادة من توجيهاته، ومما حباه الله به من علوم ومعارف وأسرار؟!
بل نأى وصد عنه وتمنع من الحضور عنده، وقد أرسل من
يطلبه عدة مرات معتذراً بأنه يأكل، فدعا عليه رسول الله «صلى الله عليه
وآله»: أن لا يشبع الله بطنه.
وكان الناس بما فيهم معاوية وعمرو بن العاص، يعلمون أن
علياً «عليه السلام» هو مستودع أسرار النبي «صلى الله عليه وآله»، وباب
مدينة علومه. ولكنهم كانوا يأنفون من الخضوع للحق، ولا يريدون الاعتراف
به، فحاول هو وعمرو بن العاص الالتفاف على أمير المؤمنين «عليه السلام»
ظناً منهم أنه «عليه السلام» سوف لا يكتشف تمويههم وخداعهم. فدبروا هذه
الحيلة لاقتناص الجواب الصحيح منه «عليه السلام»..
2 ـ
ولكن علياً «عليه السلام» ليس فقط قد أجاب على السؤال،
بل وأثبت أنه هو وحده مستودع أسرار رسول الله «صلى الله عليه وآله»
وإنما شفع إجابته بإخبار غيبي يقيم عليهم الحجة التي لا مهرب منها..
حين قال لصاحب الفرس: اذهب فخبره، ليدل على أنه علمه بمكيدتهم كعلمه
بجواب مسألتهم. وذلك لتتلاقى الكرامة مع المعجزة ليعلم الجميع أنه
«عليه السلام» متصل بالغيب دون كل أحد.
ولعلك تقول:
لا دليل على أنها كرامة غيبية، فلعله عرف ذلك من نفس
طلب صاحب الفرس ذلك الثمن الغريب والعجيب، فإنه طلب ينم عما وراءه.
ونجيب:
بأن السؤال وإن كان يشير إلى أن ثمة أمراً غريباً، ولكن لا يشير إلى
معاوية ولا إلى ابن العاص من قريب ولا من بعيد. إذ لعل صاحب الفرس نفسه
قد اخترع هذا السؤال، أو أن أحداً قد طرحه عليه، من أهل الكتاب أو من
غيرهم من أهل التعنت، أو من طلاب المعرفة..
أو لعل جماعة من الناس دبروا هذا الأمر لحاجة في
أنفسهم.
علي
يشتري الخيل للحرب:
إن الرواية أظهرت أنه «عليه السلام» كان مهتماً بشراء
الخيل، التي كانت هي الوسيلة المهمة والمؤثرة في القتال، وكان «عليه
السلام» في ساحة الحرب في صفين، حيث صرحت الرواية أيضاً: بأن معاوية
وابن العاص، إنما أرسلا بائع الفرس إلى معسكر علي «عليه السلام»، وهو
يعرف ما ينتظره من مواجهات فكان يعد له ما يستطيع من قوة، ومن رباط
الخيل، ليرهب به عدو الله وعدو المسلمين.
ويلاحظ هنا:
أنه «عليه السلام» قد أشار إلى معاوية بضمير الغائب،
فقال: اذهب فخبره، ليكون أوضح في الدلالة على اطلاعه «عليه السلام» على
ما جرى، وانه أراد به إقامة الحجة عليه بهذا الإخبار الغيبي.
ولو قال:
اذهب فخبر معاوية، لأمكن القول: بأنه «عليه السلام»
أراد إبلاغ معاوية بهذا الحدث، ليعرف مقامه «عليه السلام»، وأنه إنما
يقاتل من لديه هذه العلوم الخفية، ليدرك سوء ما يأتيه إليه، وإلى
الأمة.. فلا دلالة في هذا التعبير على علم معاوية بما جرى، فضلاً عن أن
يدل على مشاركته في تدبيره.
([1])
كنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج11 ص82 وفلك النجاة لفتح الدين
الحنفي ص175 والعلم والعلماء، تأليف أبي بكر جابر الجزائري (ط
دار الكتب العلمية) ص175 وإحقاق الحق (الملحقات) ج32 ص174 و
175.
([2])
مناقب آل أبي طالب ج2 ص380 و (ط المكتبة الحيدرية) ج2 ص200
وبحار الأنوار ج76 ص53.
([3])
كتاب الموطأ لمالك ج2 ص738 وكتاب المسند للشافعي ص362 والسنن
الكبرى للبيهقي ج8 ص231 و 337 ومعرفة السنن والآثار ج6 ص348 و
479 والإستذكار لابن عبد البر ج7 ص157 والمغني لابن قدامة ج9
ص336 وج10 ص353 ونصب الراية ج4 ص94 وشرح الأخبار ج2 ص323
ومناقب آل أبي طالب ج2 ص380 و (ط المكتبة الحيدرية) ج2 ص200
وبحار الأنوار ج76 ص53 والغدير ج10 ص209 .
([4])
موطأ مالك ج2 ص135 و (ط دار إحياء التراث العربي) ج2 ص634
ومعرفة السنن والآثار ج4 ص293 والتمهيد لابن عبد البر ج4 ص70
والمجموع للنووي ج10 ص30 وخلاصة عبقات الأنوار ج3 ص227 و 230
و 231 و 232 والغدير ج10 ص184 والسنن الكبرى للبيهقي ج5 ص280
وأضواء البيان للشنقيطي ج1 ص180 والإستذكار لابن عبد البر ج6
ص347 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج20 ص27 والنصائح الكافية
ص121.
([5])
الإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج2 ص278 و (ط دار الجيل) ج3
ص1138 والتنبيه والإشراف ص256 وتاريخ الإسلام للذهبي ج3 ص545
والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج2 ص265 وشرح نهج البلاغة
للمعتزلي ج10 ص104 والدرجات الرفيعة ص257 وتاريخ خليفة بن خياط
ص148 وشرح الأخبار ج1 ص492 وج2ص9 ومنـاقـب أهـل البيت
للشـيرواني ص379 = = والجوهرة في نسب الإمام علي وآله ص102
وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج32 ص521.
([6])
مناقب الإمام أمير المؤمنين للكوفي ج2 ص580 وشرح الأخبار ج2
ص14 وعمدة القاري ج16 ص141 ومعجم البلدان ج3 ص414 والتنبيه
والإشراف ص256 وتاريخ الإسلام للذهبي ج3 ص542 والبداية
والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج7 ص304 والفصول المهمة
لابن الصباغ ج1 ص496 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج8 ص403 وج32
ص520.
([7])
وقعة صفين للمنقري ص558 والثقات لابن حبان ج2 ص291 و 292
وتاريخ مدينة دمشق ج43 ص482 وتهذيب الكمال ج21 ص226 وأنساب
الأشراف للبلاذري ص322 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث
العربي) ج7 ص346 وعن مروج الذهب للمسعودي ج2 ص405.
([8])
راجع مصادر ذلك في كتابنا: الحياة السياسية للإمام الرضا «عليه
السلام» في بعض هوامش الفصل الأول.
([9])
الآية 67 من سورة المائدة.
([10])
الآية 3 من سورة المائدة.
([11])
الآية 55 من سورة المائدة.
([12])
مناقب آل أبي طالب ج2 ص377 و (ط المكتبة الحيدرية) ج2 ص197
وبحار الأنوار ج101 ص289 وكنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج5
ص840 وتاريخ مدينة دمشق ج12 ص206 وشرح الأخبار ج2 ص315 .
([13])
نيل الأوطار ج5 ص342 وج7 ص190 وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص120
والإستذكار لابن عبد البر ج6 ص481 وج8 ص209 وفيض القدير ج5
ص425 وكشف الخفاء ج1 ص289 وج2 ص174 والتمهيد لابن عبد البر ج23
ص204 وعمدة القاري ج6 ص223 وج13 ص75 و 246 و 248 وج24 ص59 و 60
وعون المعبود ج10 ص35 وج12 ص157 والكافي لابن عبد البر ص478
والأذكار النووية ص408 ونصب الراية ج5 ص143 وج6 ص462 والدراية
لابن حجر ج2 ص175 وكنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج6 ص187 و 190
والإستغاثة ج1 ص12 والمبسوط للطوسي ج8 ص256 والخلاف للطوسي ج3
ص131 وج3 ص148 وج4 ص435 عن المصادر التالية: الكافي ج7 ص415
حديث1، والتهـذيب ج6 = = ص229 حديث 553، ومن لا يحضره الفقيه
ج3 ص20 حديث 1، والسنن الكبرى ج10 ص252، وصحيح البخاري ج3 ص187
وسنن الدارقطني ج4 ص157 حديث 8 وج4 ص218 حديث 53 و 54 وسنن
الترمذي ج3 ص626 حديث 1341 والسنن الكبرى ج8 ص279 وج10 ص252.
([14])
الكافي ج7 ص414 ودعائم الإسلام ج2 ص518 وتهذيب الأحكام ج6 ص229
ومستدرك الوسائل ج17 ص361 و 366 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل
البيت) ج27 ص232 و (ط دار الإسلامية) ج18 ص169 وجامع أحاديث
الشيعة ج25 ص45 و 46 و 92 و 102.
([15])
الآية 26 من سورة ص.
([16])
مناقب آل أبي طالب ج2 ص383 و (ط المكتبة الحيدرية) ج2 ص203
وبحار الأنوار ج10 ص84.
([17])
الآية 157 من سورة الأعراف.
([18])
الآية 144 من سورة البقرة.
([19])
الآية 146 من سورة البقرة.
([20])
الآية 39 من سورة النور.
([21])
مناقب آل أبي طالب ج2 ص382 و 383 و (ط المكتبة الحيدرية) ج 2 ص
202 وبحار الأنوار ج10 ص84.
([22])
تاريخ مدينة دمشق ج49 ص432 و 433 والكافي ج4 ص167 و وفيات
الأعيان ج4 ص170 و 171 والبداية والنهاية ج8 ص109 وراجع: مروج
الذهب ج4 ص238 وراجع: مختصر تاريخ مدينة دمشق ج21 ص113 و 114.
|