روى الصدوق والشيخ مسنداً عن السكوني عن الصادق «عليه
السلام» عن آبائه عنه «عليه السلام» في رجل استودع رجلاً دينارين،
واستودعه آخر ديناراً، فضاع دينار منها، فقضى: أن لصاحب الدينارين
ديناراً، ويقسمان الدينار الباقي بينهما نصفين([1]).
ونقول:
من الواضح:
أن ذلك الرجل المستودع أمين، وليس على أمين ضمان.
1 ـ
إن مجموع الدنانير هو ثلاثة، اثنان منها لأحد الرجلين. وقد ضاع دينار
واحد، فهو إما الدينار الثاني لصاحب الدينارين أو هو دينار الرجل
الآخر.. فأخذ الدينارين الباقيين هو للذي له ديناران، ويبقى دينار
واحد. يحتمل أن يكون له أيضاً، ويحتمل أن يكون لذاك، ولا يحتمل أن يكون
لهما معاً، لأن الذي ضاع هو قطعة واحدة، لا يمكن أن تكون إلا لأحدهما..
ولكنه «عليه السلام» قسمه بينهما نصفين، ولم يعمل
بالقرعة، لعله لأجل حفظ حقهما معاً. لأن إعطاء الدينار لأحدهما
استناداً إلى القرعة لا بنفي احتمال أن يكون قد أعطاه حق رفيقه الآخر،
وكذلك العكس.
كما أن إعطاء نصف دينار لكل منهما
معناه:
أن أحدهما قد أخذ ما ليس له قطعاً.
ولكن لو نظرنا إلى كل منهما بمفرده فلا نقطع بأنه قد
أخذ حق غيره بل نحتمل ذلك.
2 ـ
بناءً على ما تقدم نقول:
يحتمل أن يكون هذا الحل قد جاء على سبيل المصالحة
الحبيَّة بينهما من حيث أنه «عليه السلام» كان يعلم أن الطرفين
يرجحانها ويقبلان بها.. لأنهما يرضيان بنصف حقهما، ولا يلجآن إلى خيارٍ
يَحتَمِلُ كل واحد منهما أنه قد يخسر فيه كل شيء..
فتكون هذه قضية في واقعة، ولا يمكن القياس عليها، ولا
يستفاد منها حكم شرعي مطرد، بل هو حكم مرهون بالتراضي.
فإذا أصرا على رفض هذا الصلح، فالسؤال باق، وهو أنه هل
يعمل بالقرعة؟! أم ماذا؟!
ويحتمل أن تكون هذه مصالحة إلزامية من الشارع، أي أن
الحكم فيها تعبدي لازم الإجراء، لا سيما وأنه «عليه السلام» لم يطلب
رضاهما بما قرره، ولا علل حكمه بشيء.
والشاهد على رجحان هذا الوجه:
أنه «عليه السلام» قد عمل بهذه القاعدة في موارد أخرى.
منها:
ما روي عن الصادق «عليه السلام» في رجلين كان معهم
[معهما] درهمان، فقال أحدهما: الدرهمان لي.
وقال الآخر:
هما بيني وبينك.
فقال أبو عبد الله «عليه السلام»:
أما الذي قال: هما بيني وبينك، فقد أقر بأن أحد
الدرهمين ليس له فيه شيء وأنه صاحبه، ويقسم الدرهم الباقي بينهما نصفين([2]).
إن مسألة الدرهمين إنما تفرض لو لم يكن الدرهمان بيد من
يدعيهما معاً لنفسه، إذ لو كانا بيده، فإن اليد أمارة على الملكية.
فلا بد أن يكون الدرهمان معهما معاً، كما لو كانا
يسكنان في بيت واحد، وكان الدرهمان فيه، وهما تحت يد كل منهما. ويمكن
لكل منهما التصرف فيهما..
وهناك شاهد آخر، مروي عن الإمام الباقر «عليه السلام»
في رجلٍ اشترى من رجلٍ عبداً وأقبضه فلما أراد أن يُقْبِضَه العبدُ
ثَمَنَه وكان عنده عبدان قال للمشتري اذهب بهما فاختر أيهما شئت، ورد
الآخر.
فذهب بهما المشتري، فأبق أحدهما من عنده.
فقال «عليه السلام» ليرد الذي عنده بينهما، ويقبض نصف
الثمن مما أعطى من البيع. ويذهب في طلب الغلام، فإن وجده اختار أيهما
شاء، ورد النصف الذي أخذه، وإن لم يجد العبد كان العبد بينهما: نصفه
للبائع، ونصفه للمبتاع([3]).
لكن الحر العاملي «رحمه الله» قال:
«وجهه بعض علمائنا بوقوع البيع على نصف العبدين»([4]).
وروى الطوسي «رحمه الله» بإسناده إلى قضايا أمير
المؤمنين «عليه السلام»، قال: قال أبو جعفر «عليه السلام»:
توفي رجل على عهد أمير المؤمنين «عليه السلام»، وخلف
ابناً وعبداً، فادعى كل واحد منهما أنه الابن، وأن الآخر عبد له.
فأتيا أمير المؤمنين «عليه السلام»، فتحاكما إليه، فأمر
أن يثقب في حائط المسجد ثقبين، ثم أمر كل واحد منهما أن يدخل رأسه في
ثقب. ففعلا.
ثم قال «عليه السلام»:
يا قنبر، جرد السيف ـ وأشار إليه، لا تفعل ما آمرك به ـ
ثم قال: اضرب عنق العبد.
فنحى العبد رأسه.
فأخذه أمير المؤمنين «عليه السلام». وقال للآخر: أنت
الابن. وقد أعتقت هذا، وجعلته مولى لك([5]).
عن أبي عبد الله الصادق «عليه
السلام»:
أن رجلاً أقبل على عهد علي «عليه السلام» من الجبل
حاجاً ومعه غلام له، فأذنب، فضربه مولاه، فقال: ما أنت مولاي بل أنا
مولاك؟!
قال:
فما زال ذا يتوعد ذا، وذا يتوعد ذا، ويقول: كما أنت حتى
نأتي الكوفة يا عدو الله فأذهب بك إلى أمير المؤمنين «عليه السلام»،
فلما أتيا الكوفة أتيا أمير المؤمنين «عليه السلام»، فقال الذي ضرب
الغلام: أصلحك الله هذا غلام لي وإنه أذنب فضربته فوثب علي.
وقال الآخر:
هو والله غلام لي، إن أبي أرسلني معه ليعلمني، وإنه وثب
علي يدَّعيني ليذهب بمالي.
قال:
فأخذ هذا يحلف وهذا يحلف، وهذا يكذب هذا، وهذا يكذب هذا.
قال:
فقال: انطلقا فتصادقا في ليلتكما هذه ولا تجيئاني إلا
بحق.
قال:
فلما أصبح أمير المؤمنين «عليه السلام» قال لقنبر: أثقب
في الحائط ثقبين.
قال:
وكان إذا أصبح عقب حتى تصير الشمس على رمح يسبح، فجاء
الرجلان واجتمع الناس، فقالوا: لقد وردت عليه قضية ما ورد عليه مثلها
لا يخرج منها.
فقال لهما:
ما تقولان؟!
فحلف هذا:
أن هذا عبده.
وحلف هذا:
أن هذا عبده.
فقال لهما:
قوما فإني لست أراكما تصدقان.
ثم قال لأحدهما:
ادخل رأسك في هذا الثقب.
ثم قال للآخر:
ادخل رأسك في هذا الثقب.
ثم قال:
يا قنبر، عليَّ بسيف رسول الله «صلى الله عليه وآله»،
عجل اضرب رقبة العبد منهما.
قال:
فأخرج الغلام رأسه مبادراً، فقال علي «عليه السلام»
للغلام: ألست تزعم أنك لست بعبد؟!
ومكث الآخر في الثقب، فقال:
بلى، ولكنه ضربني وتعدى علي.
قال:
فتوثق له أمير المؤمنين «عليه السلام» ودفعه إليه([6]).
ونقول:
لا حاجة إلى التذكير:
بأنه «عليه السلام» جعل من عنصر المفاجأة وسيلة لصدم
الارتكاز العفوي لدفع العبد إلى الحركة المعبرة عن هذا الارتكاز، حين
وضع رأسي الرجلين في ثقب في الحائط، وأمر بضرب عنق العبد منهما.
1 ـ
إنه «عليه السلام» بمفاجأته هذه، وتمهيده لها؛ بإحداث
ثقب في حائط المسجد، ثم بوضع رأسي الرجلين في الثقبين قد أخرج الرجلين
من حالة التركيز على نقطة بعينها والتشبث بها، إلى إشغالهم بحركات
متباينة أوفدت صوراً مختلفة، لتختلط مع الصور التي كان يتم التركيز
عليها، فزاحمتها وأزالتها عن مواقعها، ولم يعد بالإمكان العودة إليها
إلا بالتخلص من مجموع هذه الصور، التي تمازجت بالمشاعر العنيفة
والمتزاحمة في آن واحد.
2 ـ
إنه «عليه السلام» قد أعطاهما المهلة لكي تعود النفوس
إلى هدوئها، ويراجع الكاذب منهما نفسه حتى لا يفتضح أمام الملأ. وإن لم
يكن ذلك كان لا بد من معالجة الأمر بطريقة تكشف كذب الكاذب، وليكون ـ
من ثم ـ جديراً بالفضيحة التي ستلحق به.
إن أمير المؤمنين «عليه السلام» حين
كشف مكيدة العبد كان يعلم:
أن إبقاءه على الرقية لذلك الشخص، ليس بالأمر الصواب.
لأن نفسه قد تسول له اللجوء إلى حركات أخرى أسوأ، بل قد يفكر بالتعاون
مع أعداء علي «عليه السلام»، لينقضوا حكم علي «عليه السلام» بادعاء: أن
هذا الذي جرى لا يثبت رقيته.
فبادر «عليه السلام» إلى فعل يرضي ذلك العبد، ويدعوه
إلى التمسك بحكم الرقية، لأنه أصبح طريقاً إلى الحرية الحقيقية، ألا
وهو عتقه، واعتباره مولى لذلك الرجل، فيكون ولاؤه له، وربما يرثه
بالولاء: كما أن هذا الإجراء يؤكد سبق عبوديته له.
علي
لم يعزر العبد على كذبه:
ويلاحظ:
أن الرواية لم تصرح بأنه «عليه السلام» قد عزر العبد
على كذبته، ولعل السبب هو أن هذا يستلزم البحث عن مدى ما فعله سيده به،
ولعل ذلك ينجر إلى عقوبة سيده، فكان الأولى والأصلح هو الستر على
الناس، وإبقاء حالة الوئام بين السيد وعبده، حتى لا يفسد الأمر بينهما،
هذا إن لم يكن ضرب عبده بغير حق، فأعتق العبد عقوبة على ذلك.
وللإمام أن يعفو عن الحد الذي يثبت بالإقرار، لا سيما
إذا رأى مصلحة في هذا العفو.
وبعد..
فلعل الروايتين المتقدمتين تتحدثان عن واقعتين، ويحتمل
أن تكون واقعة واحدة.
ويلاحظ أيضاً:
أن العبد أقر بعد أن رأى البأس، ولم يقر مختاراً.
ثم في إحدى الروايتين لم يطلق أو يعتق العبد، بل سلمه
إلى سيده بعد أن استوثق له.
غير أننا لا ندري إن كان علي «عليه السلام» حين أعتق
العبد قد ضمن قيمته لسيده، أم أنه أعتقه برضا ذلك السيد. فإن كان قد
أعتقه بدون رضاه، فيكون قد استفاد من موقع ولايته، وإمامته.. ولعله
أراد بذلك عقوبته على ضربه لعبده بغير حق، إن كان قد ضربه بغير حق، أو
أكثر مما ينبغي.. أو أنه عالج الموضوع بالتعويض عليه من ماله، أو من
بيت المال. وهذا ما عجزت الراوية عن بيانه..
ولكن الرواية الأخرى تذكر:
أنه «عليه
السلام» توثق للعبد، ودفعه إلى سيده.
عن صفوة الأخبار:
أن علياً «عليه السلام» قضى بالبصرة لقوم حدادين اشتروا
باب حديد من قوم.
فقال أصحابه:
الباب كذا وكذا منا، فصدقوهم وابتاعوا، فلما حملوا
الباب على أعناقهم قالوا للمشترين: ما فيه ما ذكروه من الوزن، فسألوهم
الحطيطة، فأبوا، فارتجعوا عليهم، فصاروا إلى أمير المؤمنين «عليه
السلام» فقال: أدلكم احملوه إلى الماء.
فحمل فطرح في زورق صغير، وعلم على الموضع الذي بلغه
الماء. ثم قال: ارجعوا مكانه تمراً موزوناً.
فما زالوا يطرحونه شيئاً بعد شيء موزوناً حتى بلغ
الغاية.
فقال:
كم طرحتم.
قالوا:
كذا وكذا مناً ورطلاً.
فقال «عليه السلام»:
هذا وزنه([7]).
روى الشيخ، عن الحسين بن سعيد، عن بعض أصحابنا، رفعه
إلى أمير المؤمنين «عليه السلام» في رجل حلف أن يزن الفيل.
فأتوا به إلى أمير المؤمنين «عليه السلام»، فقال:
ولمَ تحلفون بما لا تطيقون؟!
فقال:
قد ابتليت.
فأمر بقرقور فيه قصب، فأخرج منه قصب كثير، ثم علم صبغ
الماء بعدما عرف صبغ الماء قبل أن يخرج القصب، ثم صير الفيل إلى مقداره
الذي كان انتهى إليه صبغ الماء أولاً.
ثم أمر بوزن القصب الذي أخرج، فلما
وزن قال:
هذا وزن الفيل([8]).
ونقول:
1ـ
قال التستري:
«قلت: هو نظير ما رواه
الفقيه عن النضر بن سويد يرفعه: أن رجلاً حلف أن يزن فيلاً.
فقال النبي «صلى الله عليه وآله»:
يدخل الفيل سفينة، ثم ينظر إلى موضع مبلغ الماء من
السفينة، فيُعَلَّم عليه، ثم يخرج الفيل، ويلقى في السفينة حديد، أو
صفر، أو ما شاء، فإذا بلغ الموضع الذي علم عليه أخرجه ووزنه.
نقل المجلسي والعاملي هذا الخبر في باب قضايا أمير
المؤمنين «عليه السلام» مع أن الخبر عن النبي «صلى الله عليه وآله»([9]).
2 ـ
قال الحر العاملي «رحمه الله»: «هذا محمول على الاستحباب، بل التقية
لما مر. أشار إليه الصدوق وغيره»([10]).
في الرواية:
أن علياً «عليه السلام» قد لام من يحلف بما لا يطيق.
فإن كان المراد: أنهم لا يطيقون ذلك حقيقة، فينبغي أن يحكم ببطلان هذا
الحلف، لأن صحته تتوقف على كون المحلوف عليه مقدوراً. ولا يحتاج بعد
هذا إلى أن يتولى هو أو غيره وزن الفيل.
وإن كان المراد أنهم لا يطيقون وزن الفيل. لأنهم لا
يملكون بالفعل معرفة طريقة وزنه، فلا يضر ذلك بصحة الحلف، لأنهم وإن لم
يعرفوا طريقة وزنه مباشرة، ولكنهم قادرون على معرفة هذه الكيفية بسؤال
العالمين بها، كأمير المؤمنين «عليه السلام»، ولا يشترط في صحة الحلف
أكثر من هذا.
فلومه «عليه السلام» لهم إنما هو على تسرعهم في الحلف
على أمر لا يجدون لهم حيلة فيه ساعة حلفهم، أو يتعسر عليهم، أو من غير
الميسور لهم عادة.
يبدو لنا:
أن ثمة خلطاً في نص الرواية.. فإن التصرف الطبيعي
الموصل إلى النتيجة المتوخاة، هو أن يضع الفيل أولاً في السفينة، ثم
يعلِّم موضع وصول الماء فيها..
ثم يخرج الفيل ويجعل مكانه قصباً إلى أن يبلغ الماء إلى
نفس تلك العلامة، ثم يوزن القصب، فيكون الحاصل من وزنه هو وزن الفيل.
ولكن الرواية عكست الأمر، وأصبحت تحتاج إلى أن نعلم
بوزن الفيل قبل وضع القصب فيه. إذ لا معنى لوزن القصب أولاً.
ثم جعل الفيل بعده إلا إذا كان يعلم بأن الماء سيبلغ
إلى نفس الموضع الذي بلغه القصب، ولو كان يعلم بذلك لم تكن حاجة إلى
وضع الفيل في السفينة أصلاً.
فتلخص:
أنه لا بد من وضع الفيل أولاً، ثم وضع علامة على
السفينة تبين موضع بلوغ الماء حال كون الفيل فيها. ثم يوضع القصب، حتى
يبلغ الماء إلى تلك العلامة كما قلنا. ثم يوزن القصب.. فيعرف بذلك وزن
الفيل.
وروي:
أن أعرابياً سأل علياً «عليه السلام»، فقال: إني رأيت
كلباً وطأ شاةً، فأولدها ولدا، فما حكم ذلك في الحل؟!
فقال «عليه السلام»:
اعتبره في الأكل، فإن أكل لحماً فكلب، وإن أكل علفاً
فشاة.
فقال الأعرابي:
رأيته يأكل هذا تارة، وهذا أخرى.
فقال «عليه السلام»:
اعتبره في الشرب، فإن كرع فهو شاة، وإن ولغ فكلب.
فقال الأعرابي:
وجدته ولغ مرة ويكرع أخرى.
فقال:
اعتبره في المشي مع الماشية، فإن تأخر عنها فكلب، وإن
تقدم أو توسط فهو شاة.
فقال:
وجدته مرة هكذا ومرة هكذا.
قال:
اعتبر في الجلوس، فإن برك فشاة، وإن أقعى فكلب.
قال:
إنه يفعل هذا مرة وهذا أخرى.
قال:
اذبحه، فإن وجدته له كرشاً فهو شاة، وإن وجدت أمعاء
فكلب.
فبهت الأعرابي عند ذلك من علم أمير المؤمنين «عليه
السلام»([11]).
ونقول:
إن
هذه الرواية أوضحت:
معرفته «عليه السلام» بخصائص الحيوانات، وطباعها. وأيها له علاقة
بتكوينه الذي يميزه عن غيره.. فإننا نعلم أن بعض الحيوانات قد تتعلم
أموراً تشبه فيها بعض الفصائل الأخرى. ولكن ذلك يكون عارضاً وطارئاً،
ولا يكون من خصوصيات خلقتها.
وقد ذكر «عليه السلام» هنا أربعة أمور تميز الكلب
تمييزاً حقيقياً في أخلاقه وسلوكياته عن الشاة. فلما وجد أنها قد
اختلطت، أو أن السائل أراد أن يتعنت عليه فيها، بما رآه مفيداً له في
ذلك.. بادره بما حسم الأمر نهائياً، وبهته حين ذكر له أمراً خَلقياً،
إما أن يكون أو لا يكون. فكان لا بد له من أن يرفع اليد عن هذا التعنت
رغماً عنه.
وقد ظهر بذلك شمولية علم علي «عليه السلام» لمختلف
المجالات والحالات.
كما أن ذيل الرواية قد ألمح إلى أن مطلوب ذلك السائل هو
متابعة الأسئلة إلى أن ينتهي إلى قطع أمير المؤمنين «عليه السلام» عن
الجواب، فجاءت الأمور على عكس ما أراد، وظهر بذلك فضله «عليه السلام»
بما لا مزيد عليه، وما لا سبيل لأحد غيره إلى الوصول إليه..
عن أبي يحيى الواسطي، قال:
مرَّ أمير المؤمنين «عليه السلام» بالقصابين، فنهاهم عن
بيع سبعة أشياء من الشاة، نهاهم عن بيع: الدم والغدد وآذان الفؤاد
والطحال والنخاع والخصي والقضيب، فقال له بعض القصابين: يا أمير
المؤمنين، ما الكبد والطحال إلا سواء.
فقال له:
كذبت يا لكع، ائتني بتورين من ماء، أنبئك بخلاف ما
بينهما.
فأتى بكبد وطحال، وتورين من ماء.
فقال:
شقوا الكبد من وسطه، والطحال من وسطه، ثم رماهما في
الماء جميعاً، فابيضت الكبد، ولم ينقص منها شيء، ولم يبيض الطحال، وخرج
ما فيه كله، وصار دماً كله. وبقى جلد وعروق.
فقال له:
هذا خلاف ما بينهما، هذا لحم، وهذا دم([12]).
ونقول:
إن ذلك القصاب قد اخطا مرتين:
إحداهما:
في تسويته بين الطحال والكبد، مع أنه إن لم يكن لديه اية معرفة
بالعلوم، فقد كان عليه أن يعرف حده، فيقف عنده.. وإلا فقد كان ينبغي له
أن يعرف أن مقولته لو صحت، لكانت بمثابة نسبة العبث إلى الله سبحانه
حين خلقهما في جسد واحد.
الثانية:
أنه اعترض على التشريع الإلهي، من دون أن يكون لديه أي اطلاع على علل
التشريع، وعلى أسرار الخلقة. ومن الواضح: أن دين الله تعالى لا يصاب
بالعقول.
كما أن هذا الاعتراض يستبطن الاستهانة بأحكام الله
تعالى، وتسهيل مخالفتها، والعبث بها على الناس.
والثالثة:
أنه يقول بغير علم، ولا هدى ولا كتاب منير، مستنداً إلى حدسه. وهذا
مرفوض جملة وتفصيلاً، فكيف إذا أراد أن يبرر به اعتراضه على التشريع
الإلهي؟!
1 ـ
لعل ما ذكرناه يوضح السبب في هذه الشدة التي أظهرها
«عليه السلام» مع ذلك الرجل، حيث وصفه بالكذب. وهو كاذب بالفعل، فإنه
يخبر بخلاف الواقع، وهو يدعي معرفته بأمر ظهر أنه يجهله جهلاً تاماً.
وهو أيضاً لكع، لأنه أحمق يتدخل فيما لا يعنيه، ويتصرف
بما لا يحمد عليه، بلا روية ولا تعقل.
2 ـ
إنه «عليه السلام» قد اثبت عملياً كذب ذلك القصاب، وقد
ظهر أن التفاوت بين الطحال والكبد عظيم.. فقد بينت التجربة الحسية كيف
أن أحدهما دم، والآخر لحم..
ولم يكتف «عليه السلام» بمجرد إخباره بهذا الأمر، بل
جعله يتلمسه بنفسه، ليزيل كل وهم يمكن أن يراود خياله، أو خيال أي كان
من الناس.
3 ـ
إن ذلك القصاب قد أفتى بغير علم، بل استند إلى الحدس، والتخمين،
والإستحسان، فحاله حال الذين ﴿قَالُوا
إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبَا﴾([13]).
ورد:
أن أمير المؤمنين قال للوشاء: ادن مني.
قال:
فدنوت منه، فقال: امض إلى محلتكم، ستجد على باب المسجد
رجلاً وامرأة يتنازعان، فائتني بهما.
قال:
فمضيت فوجدتهما يختصمان، فقلت: إن أمير المؤمنين
يدعوكما. فسرنا حتى دخلنا عليه، فقال: يا فتى، ما شأنك وهذه الإمرأة؟!
قال:
يا أمير المؤمنين، إني تزوجتها، وأمهرت، وأملكت، وزففت،
فلما قربت منها رأت الدم، وقد حرت في أمري.
فقال «عليه السلام»:
هي عليك حرام ولست لها بأهل.
فماج الناس في ذلك، فقال لها:
هل تعرفيني؟!
فقالت:
سماع أسمع بذكرك، ولم أرك.
فقال:
ما أنت فلانة بنت فلان من آل فلان؟!
فقالت:
بلى والله.
فقال:
ألم تتزوجي بفلان بن فلان متعة سراً من أهلك؟! ألم
تحملي منه حملاً ثم وضعتيه غلاماً ذكراً سوياً، ثم خشيت قومك وأهلك،
فأخذتيه وخرجت ليلاً، حتى إذا صرت في موضع خال وضعتيه على الأرض، ثم
وقفت مقابلته، فحننت عليه، فعدت أخذتيه، ثم عدت طرحتيه حتى بكى وخشيت
الفضيحة، فجاءت الكلاب فأنبحت عليك، فخفت فهرولت فانفرد من الكلاب كلب
فجاء إلى ولدك فشمه، ثم نهشه لأجل رايحة الزهومة، فرميت الكلب إشفاقاً،
فشججتيه فصاح، فخشيت أن يدركك الصباح فيشعر بك، فوليت منصرفة وفي قلبك
من البلابل، فرفعت يديك نحو السماء وقلت: اللهم احفظه يا حافظ الودايع؟!
قالت:
بلى والله، كان هذا جميعه، وقد تحيرت في مقالتك.
فقال:
هائم الرجل، فجاء.
فقال «عليه السلام» للفتى:
اكشف عن جبينك، فكشف فقال للمرأة: ها الشجة في قرن
ولدك، وهذا الولد ولدك، والله تعالى منعه من وطيك بما أراه منك من
الآية التي صدته، والله قد حفظ عليك كما سألتيه، فاشكري الله على ما
أولاك وحباك([14]).
ونقول:
1 ـ
لم يظهر من الرواية المذكورة أن أحداً أخبر علياً «عليه
السلام» بوجود امرأة ورجل يختصمان عند باب المسجد.
فإن كان علي «عليه السلام» قد عرف بالأمر بعلم الإمامة،
فلماذا لم يخبر «عليه السلام» هذه المرأة بحقيقة أمر هذا الرجل، وأنه
ابنها قبل أن يتزوجها، وتحصل هذه الفضيحة لها وله؟!
ويمكن أن يجاب:
بأن هذا الإخبار لم يكن مطلوباً، بل لعل المطلوب هو
إظهار علم الإمامة، الذي سيكون له أثر كبير في هداية الكثيرين إلى هذا
الدين، ثم في تعميق وترسيخ إيمان من كان قد آمن منهم، فإن ذلك يستتبع
توفيقات وألطاف إلهية، ما أحوجهم إليها.
على أن هذا الذي جرى للأم ولابنها من شأنه أن يزيد في
درجات إيمانهما، ويرسخ قدمهما في معنى الإمامة، ويعمق علاقتهما القلبية
بالإمام «عليه السلام». وهذا أيضاً من لطف الله تعالى بهما، ومحبته
لهما.
ويتأكد ذلك:
إذا كانت تلك المرأة ستشاهد ويشاهد الناس لطف الله بها وبولدها..
باستجابة دعائها، وحفظ ولدها، حتى من الكلاب التي كانت تتأهب لنهش
لحمه، وكسر عظمه.
وقد حفظه الله تعالى لها، ليدرك أصحاب الغيرة الحمقاء،
التي تعبر عن أنانيتهم وخزيهم وظلمهم، الذين كانوا السبب في تعريض هذا
الطفل لما تعرض له: أنهم بعيدون عن رحمة الله تعالى، وأن هذه الأم هي
التي يحبها الله إلى حد أنه يحفظ لها ولدها الذي يريدون بظلمهم وبغيهم
أن يجري عليه ما جرى.
3 ـ
إن هذه الحادثة تشير إلى مدى الظلم الاجتماعي الذي كان
يمارس ضد الناس. حتى إن البعض ليضطر إلى تحمل أقسى أنواع الآلام، ولا
يعرض نفسه لهذا الظلم الفاحش. كما فعلته هذه المرأة التي تتخلى عن فلذة
كبدها، وهو نفس بريئة رغم أنها لم تفعل إلا ما أحله الله تعالى لها.
4 ـ
إن لنا أن نطلق العنان لتصوراتنا عن الحالة التي انتابت تلك المرأة،
وهي ترى الكلاب تحاول الفتك بولدها الرضيع، العاجز عن الدفع عن نفسه.
ولا ندري حقيقة المعاناة التي مرت بها، وهي تفارق ذلك
الطفل، الذي تحتوشه الكلاب لافتراسه، وما هي المشاعر التي كانت تنتابها
حين كانت تراودها تلك الصورة المؤلمة أعني صورة الكلب وهو ينهش ولدها..
وأية نار كانت تضطرم في قلب تلك الأم المفجوعة..
وهل كانت تتردد تلك الصيحة وترن في مسامعها في كل حين..
فتدك بهولها حصون الصبر، في وجودها كله. لتعيش الألم والحرقة والمرارة،
وعقدة الذنب، وتلقي بها في مهامه الحيرة والضياع، والشرود؟!
5 ـ
والأشد ألماً، والأمض حرقةً، والأكثر مرارة، أنها رأت
نفسها تشارك الكلاب في قتل ولدها، بل كانت السباقة إلى ذلك، وترى
حَجَرها وهو يشج رأس ذلك الطفل، وتتفجر الدماء من رأسه، الذي كانت
تتمنى أن تغمره بقبلاتها، وأن تسكنه بلمسات الحب والرضا، والأنس
والحنان في كل وقت وآن..
([1])
قضاء أمير المؤمنين «عليه السلام» للتستري (ط مؤسسة الأعلمي)
ص38 وعن من لا يحضره الفقيه ج2 ص171 و (ط مؤسسة النشر
الإسلامي) ج3 ص37 وراجع: تهذيب الأحكام ج6 ص208 وج7 ص181
والمقنع ص33 و (ط سنة 1415 هـ) ص398 والنهاية للطوسي ص314
والسرائر ج2 ص69 وجامع أحاديث الشيعة ج18 ص402.
([2])
وسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج18 ص450 و (ط الإسلامية) ج13
ص169 و 170 ومن لا يحضره الفقيه ج2 ص13 و (ط مؤسسة النشر
الإسلامي) ج3 ص35 وتهذيب الأحكام ج6 ص208 و 292 وقضاء أمير
المؤمنين «عليه السلام» للتستري (ط مؤسسة الأعلمي) ص38 ومستدرك
الوسائل ج13 ص444.
([3])
الكافي ج5 ص217 وسائل الشيعة (ط آل البيت) ج18 ص268 و (ط
الإسلامية) ج13 ص44 و 45 ومن لا يحضره الفقيه ج3 ص148 وتهذيب
الأحكام ج7 ص72 و 82 وعوالي اللآلي ج3 ص229 وجامع أحاديث
الشيعة ج18 ص245.
([4])
وسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج18 ص269 و (ط الإسلامية) ج13
و 45.
([5])
من لا يحضره الفقيه ج3 ص14 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت)
ج27 ص287 و 288 و (ط الإسلامية) ج18 ص211 و 208 و 209 وراجع:
مناقب آل أبي طالب ج2 ص380 والكافي ج7 ص425 وتهذيب الأحكام ج6
ص307.
([6])
الكافي ج7 ص425 وتهذيب الأحكام ج6 ص307 وبحار الأنوار ج40 ص308
ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج27 ص284 و (ط الإسلامية)
ج18 ص208 وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص129.
([7])
قضاء أمير المؤمنين «عليه السلام» للتستري(ط مؤسسة الأعلمي)
ص182 ومستدرك الوسائل ج17 ص394 وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص137
وبحار الأنوار ج40 ص286 عن كتاب صفوة الأخبار.
([8])
وسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج23 ص284 و (ط دار الإسلامية)
ج16 ص177 و 178 وتهذيب الأحكام ج8 ص318 وبحار الأنوار ج40 ص166
وجامع أحاديث الشيعة ج19 ص520 ونهج الإيمان ص280 وقضاء أمير
المؤمنين «عليه السلام» للتستري (ط مؤسسة الأعلمي) ص183 ومناقب
آل أبي طالب ج1 ص328 والصراط المستقيم ج1 ص223 .
([9])
قضاء أمير المؤمنين «عليه السلام» للتستري (ط مؤسسة الأعلمي)
ص183.
([10])
قضاء أمير المؤمنين «عليه السلام» للتستري (ط مؤسسة الأعلمي)
ص183 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج23 ص284 و (ط دار
الإسلامية) ج16 ص178.
([11])
قضاء أمير المؤمنين «عليه السلام» للتستري (ط مؤسسة الأعلمي)
ص58 عن كشكول البهائي. وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج17 ص491 عن
حديقة الأفراح لإزالة الأتراح، لليماني الشيرواني (ط المطبعة
الميمنية بالقاهرة) ص51 عن البهائي، وشجرة طوبى ج1 ص67 و 68.
([12])
مناقب آل أبي طالب ج2 ص377 و (ط المكتبة الحيدرية) ج2 ص197
وتهذيب = = الأحكام ج9 ص74 وفقه القرآن للراوندي ج2 ص259 و 260
والكافي ج6 ص253 والخصال ص341 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل
البيت) ج24 ص171 و (ط دار الإسلامية) ج16 ص360 وبحار الأنوار
ج63 ص34 وجامع أحاديث الشيعة ج23 ص159.
([13])
الآية 275 من سورة البقرة.
([14])
مناقب آل أبي طالب (ط المكتبة الحيدرية ـ النجف) ج2 ص101 وقضاء
أمير المؤمنين للتستري ص237 و 238 وبحار الأنوار ج40 ص219.
|