صفحة :45-62   

الفصل الثاني: من أساليب كشف الجرائم..

مات الدين.. عاش الدين:

عن الإمام الباقر «عليه السلام» قال: دخل أمير المؤمنين «عليه السلام» المسجد، فاستقبله شاب يبكي وحوله قوم يسكنونه، فقال علي «عليه السلام»: ما أبكاك؟!

فقال: يا أمير المؤمنين، إن شريحاً قضى علي بقضية ما أدري ما هي، إن هؤلاء النفر خرجوا بأبي معهم في سفر، فرجعوا ولم يرجع أبي، فسألتهم عنه، فقالوا: مات.

فسألتهم عن ماله، فقالوا: ما ترك مالاً.

فقدمتهم إلى شريح، فاستحلفهم.

وقد علمت يا أمير المؤمنين: أن أبي خرج ومعه مال كثير.

فقال لهم أمير المؤمنين: ارجعوا، فرجعوا والفتى معهم إلى شريح، فقال له أمير المؤمنين: يا شريح كيف قضيت بين هؤلاء؟!

فقال: يا أمير المؤمنين، ادعى هذا الفتى على هؤلاء النفر أنهم خرجوا في سفر وأبوه معهم، فرجعوا ولم يرجع أبوه، فسألتهم عنه، فقالوا: مات.

فسألتهم عن ماله، فقالوا: ما خلف مالاً.

فقلت للفتى: هل لك بينة على ما تدعي؟!

فقال: لا.

فاستحلفتهم.

فقال أمير المؤمنين «عليه السلام»: هيهات يا شريح، هكذا تحكم في مثل هذا؟!!

فقال: فكيف؟!

فقال أمير المؤمنين «عليه السلام»: والله لأحكمن فيهم بحكم ما حكم به قبلي إلا داود النبي.

يا قنبر، ادع لي بشرطة الخميس.

فدعاهم، فوكل لكل رجل منهم رجلاً من الشرطة، ثم نظر إلى وجوههم، فقال: ماذا تقولون؟! أتقولون: إني لا أعلم ما صنعتم بأبي هذا الفتى؟! إني إذاً لجاهل.

ثم قال: فرقوهم، وغطوا رؤوسهم.

ففرق بينهم وأقيم كل رجل منهم إلى أسطوانة من أساطين المسجد ورؤوسهم مغطاة بثيابهم.

ثم دعا عبيد الله بن أبي رافع كاتبه، فقال: هات صحيفة ودواة.

وجلس أمير المؤمنين «عليه السلام» في مجلس القضاة وجلس الناس إليه فقال لهم: إذا أنا كبرت فكبروا.

ثم قال للناس: اخرجوا.

ثم دعا بواحد منهم فأجلسه بين يديه، وكشف عن وجهه، ثم قال لعبيد الله بن أبي رافع: أكتب إقراره وما يقول.

ثم أقبل عليه بالسؤال، فقال له أمير المؤمنين: [أخبرني، ولا ترفع صوتك] في أي يوم خرجتم من منازلكم وأبو هذا الفتى معكم؟!

فقال: الرجل في يوم كذا وكذا

قال: وفي أي شهر؟!

قال: في شهر كذا وكذا

قال: وفي أي سنة؟!

قال: سنة كذا وكذا.

قال: وإلى أين بلغتم في سفركم حتى مات أبو هذا الفتى؟!

قال: إلى موضع كذا وكذا،

قال: وفي منزل من مات؟!

قال: في منزل فلان بن فلان

قال: وما كان مرضه؟!

قال: كذا وكذا.

قال: وكم يوماً مرض؟!

قال: كذا وكذا.

قال: ففي أي يوم مات، ومن غسله ومن كفنه؟! وبم كفنتموه؟! ومن صلى عليه؟! ومن نزل في قبره؟!

فلما سأله عن جميع ما يريد كبر أمير المؤمنين «عليه السلام» وكبر الناس جميعاً، فارتاب أولئك الباقون ولم يشكوا أن صاحبهم أقر عليهم وعلى نفسه، فأمر أن يغطي رأسه وينطلق به إلى السجن.

ثم دعا بآخر، فأجلسه بين يديه، وكشف عن وجهه، وقال: كلا، زعمتم أني لا أعلم ما صنعتم.

فقال: يا أمير المؤمنين، ما أنا إلا واحد من القوم ولقد كنت كارهاً لقتله.

فأقر ثم دعا بواحد بعد واحد كلهم يقر بالقتل وأخذ المال، ثم رد الذي أمر به إلى السجن، فأقر أيضاً، فألزمهم المال والدم.

[وفي نص ابن شهرآشوب: أن الرابع هو الذي تلجلج.

فوعظه وخوفه، فاعترف أنهم قتلوا الرجل، وأخذوا ماله، وأنهم دفنوه في موضع كذا بالقرب من الكوفة.

فكان يستدعي بعد ذلك واحداً واحداً.

ويقول: أصدقني عن حالك، وإلا نكلت بك، فقد وضح لي الحق في قضيتكم، فيعترف الرجل مثل صاحبه.

فأمر برد المال، وإنهاك العقوبة، وعفا الشاب عن دمائهم].

فقال شريح: يا أمير المؤمنين، وكيف حكم داود النبي؟!

فقال «عليه السلام»: إن داود النبي مر بغلمة يلعبون وينادون بعضهم بعضاً بيا مات الدين، فيجيب غلام.

فدعاهم داود، فقال: يا غلام ما اسمك؟!

قال: مات الدين.

فقال له داود: ومن سماك بهذا الإسم؟!

فقال: أبي.

فانطلق داود «عليه السلام» إلى أمه وقال لها: أيتها المرأة ما اسم ابنك هذا؟!

فقالت: مات الدين.

فقال لها: ومن سماه بهذا؟!

قالت: أبوه.

قال: وكيف كان ذاك؟!

قالت: إن أباه خرج في سفر له ومعه قوم، وهذا الصبي حمل في بطني، فانصرف القوم ولم ينصرف زوجي، فسألتهم عنه قالوا: مات.

فقلت لهم: فأين ما ترك؟!

قالوا: لم يخلف شيئاً.

فقلت: هل أوصاكم بوصية؟!

قالوا: نعم، زعم أنك حبلى، فما ولدت من ولد جارية أو غلام فسميه: مات الدين، فسميته.

قال داود «عليه السلام»: وتعرفين القوم الذين كانوا خرجوا مع زوجك؟!

قالت: نعم.

قال: فأحياء هم أم أموات؟!

قالت: بل أحياء.

قال: فانطلقي بنا إليهم.

ثم مضى معها، فاستخرجهم من منازلهم، فحكم بينهم بهذا الحكم بعينه، وأثبت عليهم المال والدم [واستخرج المال].

وقال للمرأة: [يا أمة الله،] سم ابنك عاش الدين.

ثم إن الفتى والقوم اختلفوا في مال الفتى كم كان، فأخذ أمير المؤمنين «عليه السلام» خاتمه وجميع خواتم من عنده.

ثم قال: أجيلوا هذه السهام، فأيكم أخرج خاتمي فهو صادق في دعواه لأنه سهم الله، وسهم الله لا يخيب.

ورواه الصدوق مرفوعاً عن الباقر «عليه السلام» مثله([1]).

ونقول:

لا بأس بملاحظة الأمور التالية:

أهون السقي التشريع:

1 ـ قال ابن شهرآشوب «رحمه الله»: عن ابن سيرين وشريح القاضي: أن أمير المؤمنين رأى شاباً يبكي، فسأل «عليه السلام» عنه، فقال: إن أبي سافر مع هؤلاء فلم يرجع حين رجعوا، وكان ذا مالٍ عظيم، فرفعتهم إلى شريح فحكم علي؟!

فقال «عليه السلام» متمثلاً:

أوردهـا سـعـد وسـعـد مشتمل           يا سـعـد مـا  تروى على هذا الإبل

ثم قال «عليه السلام»: إن أهون السقي التشريع([2]).

2 ـ المراد بالتشريع: إيراد الإبل شريعة لا يحتاج معها إلى الإستسقاء من البئر. يريد «عليه السلام» أن شريحاً لجأ إلى قضاء سهل، ولم يكلف نفسه عناء البحث والتقصي لكشف الحقيقة، فهو نظير من أورد إبله المشرعة، وبقي مشتملاً ثوبه (أي أنه يديره على جسده كله) ولم يحسن القيام على الإبل، ولا الرفق بها، فتزاحمت، واختلت أحوالها..

وقيل: إن الإبل تورد أولاً على المشرعة، ثم يستقى لها، ولكن سعداً أوصلها إلى الماء ولم يستق لها، وهذا وإن كان أهون السقي، ولكنه لا يفي بالغرض، لأنه ليس هو السقي التام.

ويشير إلى هذا قوله:

«يا سعد ما تروى على هذا الإبل»

يا شريح، هكذا تحكم؟!:

وقول أمير المؤمنين «عليه السلام»: «هيهات يا شريح، هكذا تحكم في مثل هذا»؟!([3]).

وفي نص آخر: «ما يغنى قضاؤك يا شريح»!([4]). يدل على أمور:

أحدها: أن مثل هذا القضاء لا يسمن ولا يغني من جوع، بل هو يضيع حقوق الناس، ويشجع أهل الأطماع.

الثاني: إن الإشكال على شريح لم يكن على سوء نيته، وإنما هو على طريقة الحكم، فإنها طريقة خاطئة، لأن لكل واقعة خصوصيتها، ومكوناتها، التي تفرض طريقة التعاطي معها في الحكم والقضاء.

الثالث: إن شريحاً لم يول القضية ما تستحقه من اهتمام، فهو يستحق اللوم على هذا الإهمال الكاشف عن استهانته بحقوق الناس، واستخفافه بدمائهم، تماماً كذلك الذي لا يهتم بإرواء إبله المسؤول عن رعايتها وسلامتها، بل يهمل أمرها، ويكون اهتمامه منصباً على تجنيب نفسه أي تعب وعناء.

الرابع: قال العلامة المجلسي تعليقاً على قوله: «هكذا تحكم في مثل هذا»؟!: «قال والدي العلامة «رحمه الله». أي كان يجب عليك أن تسألني في أمثال تلك الوقائع، حتى أحكم بالواقع، كما اشترطت عليك في القضاء.

أو لما كان موضع التهمة كان يجب عليك السؤال والتفتيش.

أو لما ادعوا موته وأنه ما خلف مالاً كان يمكنك طلب الشهود، والتفريق، حتى يتبين الحق..

أو لما خرج معهم كان يجب عليهم أن يردوه، أو يثبتوا موته، وأنه لم يخلف شيئاً، كما تدل عليه أخبار كثيرة»([5]).

كتابة الأقارير، والمحاضر:

دلت هذه الرواية على أن طبيعة الدعوى قد تقتضي كتابة أقارير المتهمين، ومحاضر الجلسات. لكي يُسَدَّ باب التملص، والجدال بالباطل، ومحاولة تبديل كلمة بأخرى، أو ادعاء الزيادة والنقيصة والنسيان لهذه الكلمة أو تلك..

كما أن الكتابة والتوثيق تسهِّل حتى على المتهمين أنفسهم النظر في الأقارير والمقارنة بينها وتلمس التفاوت والاختلاف واكتشاف الكذب فيها.

كثرة الأسئلة وغرابتها:

وقد لوحظ: أنه «عليه السلام» قد أمطر المتهمين بسيل من الأسئلة التي لا تخطر لهم على بال، وقد اختلطت فيها الأسئلة القريبة إلى الذهن، والتي يسهل توقعها بالأسئلة الكثيرة جداً التي لا يتوقعها أحد، مما يعني صعوبة استعراضها والاتفاق على أجوبتها من قبل المتهمين.

كما أنها أسئلة ذات طبيعة حاسمة، لا يمكن الإجابة عنها بلا أدري، ولا يقبل ادعاء النسيان فيها. بل إن ذلك يساوق وضع النفس في موضع الشبهة والاتهام..

وإذا كانت ستوجه إلى أكثر من شخصين، فسوف تكثر الاحتمالات في أجوبتها، وتكثر الإختلافات فيها، فإذا كانت الأسئلة مئة مثلاً، فاحتمالات أجوبتها من ثلاثة أو أربعة أشخاص سترقي إلى المئات، وحساب الاحتمالات يأبى التوافق في هذا الكم الكبير، إذا كانت أجوبة إقتراحية، ومخترعة. ولا تحكي عن حقيقة وواقع.

إني إذن لجاهل:

إن علياً «عليه السلام» قبل أن يتخذ أي إجراء، أطلق في وجه المتهمين كلمات تثير البلبال والقلق في صدورهم، حين قال لهم: أتقولون: «إني لا أعلم ما صنعتم بأبي هذا الفتى؟! إني إذاً لجاهل».

وقد جاء كلامه هذا بصيغة السؤال، والسؤال إنشاء لا يوصف بصدق ولا كذب، وليس إخباراً. وإن كان موهماً ذلك..

ثم إنه «عليه السلام» بدأ معهم بإجراءات غامضة تزيد في حيرتهم، حين فرق بينهم، وغطى رؤوسهم.. ثم أفهمهم أنه يريد تقرير صاحبهم، ويريد كتابة إقراره، ثم أكد أهمية وحساسية هذا الأمر بجمع الناس حوله، وانتظارهم نتائج ما يجري..

التكبير لإيهام المتهمين:

وليس في التكبير أية دلالة صريحة على إقرار الشخص الذي يستجوبه «عليه السلام» بشيء، بل هو يدل على أمر مبهم صالح للتطبيق على صورتي السلب والإيجاب على حد سواء.

فقد يبادر الناس للتكبير لأدنى سبب رغبة منهم في ثوابه، وقد يكبرون لأجل صرف هذا المتهم، واستدعاء ذاك..

وليس القاضي مسؤولاً عن تصويب أوهام المتهم التي كانت نتيجة سماع تسبيح، أو صوت، أو تفسير خاطئ لحركة تحتمل في حد نفسها أكثر من معنى..

تغطية رؤوس المتهمين، والتفريق بينهم:

ولقد لفت نظرنا: تغطية رأس المتهمين، ثم التفريق بينهم، بجعل كل منهم خلف اسطوانة في المسجد. وربما يكون سبب ذلك ما يلي:

الأول: إنه أراد لهم أن يبقوا على مقربة مما يجري، بحيث يسمعون التكبير، ويشعرون بجريان المحاكمة.

الثاني: أن لا يتمكنوا من سماع إقرارات رفقائهم، لكي لا يطبقوا إقراراتهم عليها، حين تصل النوبة إليهم.

الثالث: أن يمنعهم من الإستفادة من أية إشارة من أي كان ممن حولهم، وأن لا يروا علامات رضا، أو نظرات عطف، أو حالات زجر وغضب، أو نظرات شماتة من أي كان من الناس..

وإخفاء وجوههم عن الناس، يمنع من تمييز الناس لوجوههم، لكي لا يهمس أحد منهم باسم هذا أو ذاك.

الرابع: إن عزل المتهم عن محيطه، ولو بتغطية رأسه من شأنه أن يحدَّ من طموح خياله، وأن يهيئه للتفكير بواقعية أكثر، ويمنع عنه التأثر بسحر المظاهر، ويسهل عليه رؤية القضايا بأحجامها الحقيقية أو ما يقرب منها.

متى هدد علي المتهم؟!:

وقد لوحظ: أنه «عليه السلام» لم يتهدد أياً من المتهمين إلا بعد أن أقر بعضهم بقتل الرجل.. وإنما اكتفى بمجرد إيهامهم بأنه عالم بالحقيقة..

وبذلك صرحت رواية بن شهرآشوب، ففيها، بعد أن ذكر إقرار الرابع بالقتل: «فكان يستدعي بعد ذلك واحداً واحداً، ويقول: أصدقني عن حالك، وإلا نكلت بك، فقد وضح الحق في قضيتكم، فيعترف الرجل مثل صاحبه. فأمر برد المال، وإنهاك العقوبة، وعفا الشاب عن دمائهم».

سهم الله:

قالت الرواية: إن علياً «عليه السلام» أراد أن يحسم النزاع في أمر المال الذي تركه ذلك القتيل، فأخذ خاتمه، وجميع خواتيم من عنده ثم قال: «أجيلوا هذه السهام، فأيكم أخرج خاتمي فهو صادق في دعواه، لأنه سهم الله، وسهم الله لا يخيب».

قال العلامة المجلسي: «قوله: «لأنه سهم الله» أي القرعة، أو خاتمه «عليه السلام» ، ولعله حكم في واقعة لا يتعداه.

وعلى المشهور بين الأصحاب ليس هذا موضع القرعة، بل عندهم أن القول قول المنكر مع اليمين»([6]).

استئناف الدعوى ونقض حكم القاضي:

ربما يقال: إن هذه الرواية دلت على جواز استئناف الدعوى بعد حكم القاضي فيها أمام حاكم آخر، ويجوز للحاكم الآخر نقض حكم الأول، مع أن الفتوى على خلاف ذلك..

غير أننا نقول:

أولاً: إن الرجوع إلى حاكم آخر إنما صح، لأن شريحاً هذا لم يكن جامعاً للشرائط.

إن قلت: إن لم يكن جامعاً للشرائط، فلم نصبه الإمام «عليه السلام»؟!

قلت: إنما قبل علي «عليه السلام» بإبقاء شريح لأجل الضرورة، ولأجل حل مشكلات الناس فيما لا يخالف شرع الله، لإصرار الناس على إبقائه، بحجة أن عمر هو الذي نصبه([7]). فنصب علي «عليه السلام» يحتم إمضاء أحكامه التي لا يعلم مخالفتها للإمام، لا لأن شريحاً جامع للشرائط. فإذا رضي من نصبه باستئناف الحكم، ولم ير محذوراً في ذلك جاز الترافع إلى غيره، لأن عدم أهليته في نفسه، يجعل نفوذ أحكامه مرهونة بنظر الإمام الذي نصبه، بالمصلحة التي يراها الإمام، وتحتاج إلى إمضائه وإحراز رضاه بها.

ثانياً: إذا علم أن القاضي قد حكم بغير الواقع، وبغير ما أنزل الله، فيصح نقضه من قاض مثله.

ثالثاً: إن مورد الرواية هو الرجوع إلى الإمام المعصوم، وهو الذي ينقض الحكم، وجواز استئناف الحكم إلى المعصوم لا يعني جواز استئنافه إلى قاضٍ مثله.

إحضار الشرطة:

وقد رأينا: أنه «عليه السلام» قد احتاط للأمر بإحضاره الشرطة ليكونوا هم الحفظة للمتهمين، ومنع أي منهم من الفرار، وللسيطرة على الأمور، فلا تفاجئه أية تصرفات رعناء تضر بتحقيق المراد..

إرجاع المدعي إلى شريح:

وقد تعمد «عليه السلام»: أن يرجع المدعي إلى شريح، وأن يسأل شريحاً عن الطريقة التي اتبعها في معالجة هذه القضية، مع أنه كان يستطيع أن يحكم بالقضية من دون علم شريح.

فلعله أراد من ذلك: أن يبين لشريح خطأه، وأن يريه الطريقة الصحيحة، ليتلمس بنفسه النتائج التي ستنتهي إليها. فإنه «عليه السلام» كان مهتماً بتعليم الناس كل ما يريد الشارع لهم أن يتعلموه، وبإفهامهم كل ما يريد الشارع لهم أن يفهموه ويعرفهم كل ما يجب أن يعرفوه .

ومن ذلك: أن يعرفوا حدَّهم وقدرهم، ليقفوا عنده، فلا يتجاوزوه ولا يتعدوه. ولو لم يكن إلا إتمام الحجة عليهم لكفى.

وتتأكد ضرورة ذلك حين يكون الأمر مرتبطاً بالقضاء الذي به تحفظ دماء الناس، وأموالهم وكراماتهم.

عليهم مسؤولية الإثبات:

إنه لا ريب في أن الذين رافقوا القتيل في سفره كانوا موضع تهمة، وعليهم تقع مسؤولية تبرئة أنفسهم منها، فإن خروج ذلك الشخص معهم يجعلهم مسؤولين عن رده إلى أهله سالماً، أو إثبات أنه مات حتف أنفه، وإثبات أنه لم يترك مالاً.. وقد دلت بعض الروايات على ذلك.

لأن سهم الله لا يخيب:

إن القرعة لا تقول: إن ما تخرج عليه هو عين الواقع، بل هي حكم تعبدي يجب العمل على طبقه، يقصد به فض النزاع، وحسم مادة الخلاف.

أما ما ذكرته الرواية من أن خاتمه «عليه السلام» سهم الله، وسهم الله لا يخيب، فهو من مختصات الإمام «عليه السلام»، ومن ألطاف الله الغيبية به، حتى إنه إذا جعل خاتمه ضمن القرعة، فالذي يصيب خاتمه يكون هو الصادق ظاهراً وواقعاً.

وأما إذا أجريت القرعة، ولم يكن من بين السهام ما يعود للإمام، فلا يكون من تصيبه القرعة هو الصادق واقعاً.

وقد يقال: إن المقصود بقوله: «سهم الله»: أنه يحكم بصدق القرعة تعبداً وليس واقعاً.

ويرد عليه: أن الذي أمر بالقرعة لم يأمر بها اعتباطاً وتشهياً، بل هناك مصلحة وأمر إلهي يرجى من خلال رعاية إصابة الواقع، ثم تكون العناية والرعاية الإلهية من وراء هذا الأمر..

وبنحو آخر نقول:

إن الرواية قد عللت بالقول: «وسهم الله لا يخيب». وهذا يشير إلى إصابة الواقع.

 

([1]) الكافي ج7 ص371 ـ 373 ومن لا يحضره الفقيه ج3 ص24 ـ 26 وتهذيب الأحكام ج6 ص316 ـ 318 وقضاء أمير المؤمنين «عليه السلام» للتستري (ط مؤسسة الأعلمي) الطبعة العاشرة ص21 ـ 23 ومناقب آل أبي طالب ج2 ص378 و 379 عن نزهة الأبصار لابن مهدي، وعن المستقصى للزمخشري، وعن شرح الأخبار لابن فياض، ومن لا يحضره الفقيه، والكافي، وتهذيب الأحكام، ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج27 ص279 ـ 280 و (ط دار الإسلامية) ج18 ص204 ـ 205 وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص108 ـ 111 وعجائب أحكام أمير المؤمنين للسيد محسن الأمين ص113 ـ 116.

([2]) مناقب آل أبي طالب ج2 ص378 و (ط المكتبة الحيدرية) ج2 ص199 وبحار الأنوار ج40 ص238 ومستدرك سفينة البحار ج5 ص44.

([3]) الكافي ج7 ص371 ودعائم الإسلام ج2 ص405 ومستدرك الوسائل ج17 ص386 وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص112 وموسوعة أحاديث أهل البيت «عليهم السلام» للنجفي ج8 ص298 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج32 ص130.

([4]) الكافي ج7 ص373 وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص114.

([5]) مرآة العقول ج24 ص204 وراجع: من لا يحضره الفقيه ج3 هامش ص26.

([6]) مرآة العقول ج24 ص206 وراجع: من لا يحضره الفقيه ج3 هامش ص27.

([7]) راجع: السنن الكبرى للبيهقي ج5 ص274 والمصنف للصنعاني ج8 ص224 والمصنف لابن أبي شيبة ج8 ص355 والإستيعاب (ط دار الجيل) ج2 ص701 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج14 ص28 ومعرفة السنن والآثار ج4 ص284 وكنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج14 ص24 وبحار الأنوار ج42 ص175 ومستدرك سفينة البحار ج5 ص382 ومستدركات علم رجال الحديث ج4 ص204 والطبقات الكبرى لابن سعد ج6 ص132 والجرح والتعديل للرازي ج4 ص332 وتاريخ مدينة دمشق ج23 ص18 و 27 وتهذيب الكمال ج12 ص439 والمعارف لابن قتيبة ص433 وأخبار القضاة لابن حيان ج2 ص189 ووفيات الأعيان لابن خلكان ج2 ص460 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث) ج9 ص88.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان