1 ـ
روى بسند صحيح عن زرارة، قال: كان علي يقول: لا يحبس في
السجن إلا ثلاثة: الغاصب، ومن أكل مال اليتيم ظلماً، ومن اؤتمن على
أمانة، فذهب بها، فإن وجد له شيئاً باعه، غائباً كان أو شاهداً([1]).
2 ـ
وفي معتبرة السكوني، عن جعفر، عن أبيه: أن علياً «عليه
السلام» كان يحبس في الدين، ثم ينظر، فإن كان له مال أعطى الغرماء، وإن
لم يكن له مال دفعه إلى الغرماء، فيقول لهم: اصنعوا به ما شئتم، إن
شئتم واجروه، وإن شئتم استعملوه([2]).
3 ـ
وفي معتبرة غياث بن إبراهيم، عن جعفر، عن أبيه: أن
علياً «عليه السلام» كان يحبس في الدين، فإذا تبين له حاجة وإفلاس خلى
سبيله، حتى يستفيد مالاً([3]).
ونقول:
لاحظ ما يلي:
ألف:
إن حصر الرواية المذكورة الحبس في السجن بالثلاثة المذكورين فيها، ناظر
إلى قضايا المال.. وإلا فإن الحبس ثابت في أمور كثيرة أخرى، بل في
بعضها الحكم بالحبس المؤبد..
ب:
إن الرواية الأولى لم تتحدث عن الحبس في الدين بصورة
مباشرة. بل ذكرت الدين الذي يثبت بسبب العدوان، والتصرف غير المأذون
فيه، كالغاصب وآكل مال اليتيم ظلماً، والذي يتصرف بالأمانة المالية،
فحكم بأنه يحبس، ثم ينظر إن كان له مال فإن ذلك المال يباع، فتؤدى
الأمانة عنه.
ج:
إن المتصرف بالأمانة، لا ينظر به اليسار، بل يؤخذ ماله
الحاضر ويباع، وترجع الأمانة إلى أصحابها.
د:
هذا كله إذا
كان قوله:
«فإن
وجد له شيئاً باعه إلخ..» قيداً للفقرة الأخيرة من الرواية.. وإن كانت
عائدة لجميع فقراتها، فتكون حكماً ثابتاً في حق الغاصب، وآكل مال
اليتيم، والذي يذهب بالأمانة..
هـ:
إن الرواية الثانية والثالثة صرحت بالحبس في الدين، وهي
ناظرة للدين بسببٍ مشروع، جمعاً بينها وبين صحيحة زرارة. ولكنها ذكرت
ما يفهم منه: أن هذا الحبس احتياطي لصالح الغرماء، لاحتمال أن يكون
غنياً ويلتوي على غرمائه.. لأنها قالت: إنه يحبس ثم ينظر إن كان له مال
دفعه إلى الغرماء، فإذا دفعه لهم، فلا يبقى مبرر لحبسه.
وإن لم يكن له مال.. فإن كان متهاوناً في السعي لتحصيل
المال لأداء دينه، فحكم «عليه السلام» بأن تصادر حريته جزئياً، حيث
أبقاه في يد غرمائه، ليحصلوا على مالهم، ولو بان يعمل لهم، أو أن
يؤاجروه ليعمل عند غيرهم إلى أن يحصل لهم مقدار الدين، ثم يخلون
سبيله..
وكذلك الحال بالنسبة للرواية الثالثة، فإنه «عليه
السلام» حكم بتخلية سبيله ليستفيد مالاً، فإن ظهر تراخيه في ذلك، فلا
مجال لإخلاء سبيله
و:
وبذلك يظهر: أن القول بعدم جواز مطالبة المعسر ليس على إطلاقه..
عن السكوني، عن جعفر، عن أبيه، عن
علي «عليه السلام»:
أن امرأةً
استعدت على زوجها أنه لا ينفق عليها، وكان زوجها معسراً. فأبى أن
يحبسه، وقال: ﴿إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ
يُسْراً﴾([4])»([5]).
ونقول:
1 ـ
قد يستدل بهذه الرواية على لزوم إنظار المعسر أيضاً.
فقد أبى «عليه السلام» أن يحبس الزوج المعسر..
وقد يناقش في ذلك باحتمال أن يكون للزوجية خصوصية، إذ
لعل عدم حبس الزوج لأجل النفقة قد روعيت فيه مصلحة الإبقاء على سلامة
العلاقة الزوجية.
ويجاب:
أولاً:
بأن هذا الاحتمال لا شاهد له.. وقد كان يمكن أن يبين «عليه السلام» لنا
قاعدة كلية في ذلك، ولو بأن يقول: لا يحبس الزوج في نفقة زوجته..
ثانياً:
إن استشهاده
«عليه السلام» بقوله تعالى: ﴿إِنَّ مَعَ
الْعُسْرِ يُسْراً﴾([6]).
يشير إلى أن السبب في عدم الحبس، هو إعسار الزوج وليس السبب هو
الزوجية.. وذلك ظاهر..
روي عن أبي عبد الله «عليه السلام»
بسند صحيح قال:
«كان
أمير المؤمنين «عليه السلام» يضمن القصار والصائغ، احتياطاً للناس.
وكان أبي يتطول [يتفضل] عليه، إذا كان مأموناً»([7]).
زاد في نص آخر قوله:
وكان لا يضمن من الغرق، والحرق، والشيء الغالب([8]).
ونقول:
1 ـ
إن الدعوى لا تسمع إلا إذا كانت على نحو الجزم، وهناك
قاعدة تقول: ما على الأمين ضمان، ويستثنى من ذلك، ما إذا كان صاحب
المال قد أودع ماله عند شخص، فادعى من بيده المال تلفه، فلصاحب المال
أن يطالبه بالبينة، فإن لم يقم البينة على التلف فهو ضامن للمال. وهذه
الرواية تدل على ذلك.
2 ـ
إن التفضل على المأمون القصار والصائغ يعطي: أن الحكم
بتضمينه لا يدور مدار الاحتياط للمال، ليقال إنه إذا كان مأموناً لا
يضمن من الأساس.. بل هو يضمن على كل حال.. أي سواء أكان مأموناً أم لم
يكن، وعدم تضمين الإمام للمأمون إنما هو على سبيل التفضل والتكرم، أي
أنه «عليه السلام» يتنازل عما هو حق له..
3 ـ
وبذلك يعلم: المراد بقوله «عليه السلام»: «احتياطاً
للناس» هو حكمة واردة مورد الغالب، وليست علة يدور الحكم بالضمان
مدارها وجوداً وعدماً.
أو فقل:
إن حفظ مصالح الناس يقتضي جعل الضمان على القصار
والصائغ مطلقاً، أي سواء أكان مأموناً أم لم يكن. فهو نظير جعل العدة
لكل مطلقة قبل سن اليأس، فإن حفظ الناس من إختلاط المياه فيما بينهم
اقتضى جعل الحكم عاماً لكل امرأة، حتى لو كان رحمها قد استؤصل.
أو يقال:
إن علياً «عليه السلام» كان حاكماً، فكان عليه في مورد
الخصومة، والتنازع فصل الخصومة، فكان يضمن القصار والصائغ، لأنهم كانوا
غالباً غير مأمونين. أما الإمام الباقر «عليه السلام» فكان يتنازل عن
حقه الشخصي، حين يرى أن من له مشكلة معه مأموناً.
فلا تنافي بين الأمرين.
1 ـ
عن أبي عبد الله «عليه السلام»: أن أمير المؤمنين «عليه
السلام» أتي بصاحب حمام، وضعت عنده الثياب فضاعت، فلم يضمنه. وقال:
إنما هو أمين([9]).
2 ـ
عن علي «عليه السلام»: أنه كان لا يضمن صاحب الحمام،
وقال: إنما يأخذ الأجر على الدخول إلى الحمام([10]).
3 ـ
وعنه «عليه السلام»: لا ضمان على صاحب الحمام فيما ذهب
من الثياب، لأنه إنما أخذ الجعل على الحمام، ولم يأخذ على الثياب([11]).
ونقول:
ألف:
إن صاحب الحمام يأخذ الأجرة على دخول الناس لحمامه، والتصرف فيه على
النحو المعهود. وليس مسؤولاً عن ثياب الناس، ولم يأخذ الأجرة منهم على
حفظها، فيمكن لهم أن يأخذوها معهم، أو أن يودعوها عند جار، أو أن
يتركوا من يحرسها لهم او غير ذلك..
ب:
إذا أبقى المستأجرون ثيابهم عند صاحب الحمام، فقد استأمنوه عليها، فإذا
ضاعت فليس على الأمين ضمان..
ج:
هذه الروايات إنما تتحدث عن ضمان الضائع من الثياب، مع الجزم بضياعه
أما الرواية السابقة التي ذكرت أن أمير المؤمنين «عليه السلام» كان
يضمن القصار والصائغ، فموردها الشك في صحة دعواهما التلف. والروايات
تتحدث هنا عن العلم بالتلف. ولكنها لا تحكم بضمان صاحب الحمام للتالف،
لأنه أمين، كما قلنا.
ورووا:
أن رجلاً شرد له بعيران، فأخذهما رجل، فقرنهما في حبل،
فاختنق أحدهما ومات، فرفع ذلك إلى علي «عليه السلام»، فلم يضمَّنه
وقال: إنما أراد الإصلاح([12]).
ونقول:
إن الرواية ظاهرة الدلالة، صريحة بالمراد، فإن يد هذا
الرجل لم تكن عدوانية، بل كان يعمل ليحفظ المال لصاحبه، ولم يظهر منه
تفريط في ذلك. وقد قال الله تعالى:
﴿مَا
عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ﴾([13]).
قالوا:
1 ـ
من أقضية الإمام علي «عليه السلام»: تضمينه من أخرج
طاحونة من ركن داره إلى الطريق العام، فأصابت رجلاً، وتسببت بقتله([14]).
2 ـ
ومن أقضيته
«عليه السلام» أيضاً: تضمينه رجلاً حفر بئراً
في غير ملكه،
فوقع فيها رجل ومات([15]).
ونقول:
ألف:
في هذين الموردين قاسم مشترك: هو تعدي الإنسان على ما ليس له. غير أن
الفرق هو أن التعدي في المورد الأول كان على ما هو مشترك بين الناس
كلهم، مما جعلوه طريقاً لهم، ويريد هذا الرجل أن يحجزه لنفسه في عمل
آخر، هو إخراج الطاحونة إليه..
وفي المورد الثاني كان التعدي على ملك غيره بحفر بئر
فيه..
ب:
إنه لا يفرق في الضمان بين أن يكون القتل الحاصل، قد أعقب حركة المقتول
باتجاه مورد التعدي، أو أعقب حركة المتعدي باتجاه المقتول، كما لو خرجت
الطاحونة من ركن البيت، فصادفت المقتول الغافل عنها.
وإنما لا يفرق بينهما، لأن القتل قد حصل نتيجة التعدي
من قبل صاحب الطاحونة وحافر البئر في كلا الحالتين.
عن الصادق «عليه السلام» قال:
كان علي «عليه السلام» لا يضمن ما أفسدت البهائم نهاراً
ويقول: على صاحب الزرع حفظ زرعه، وكان يضمن ما أفسدت البهائم ليلاً([16]).
وعن زيد بن علي، عن آبائه، عن علي
«عليه السلام»:
أنه كان يضمن صاحب الكلب إذا عقر نهاراً، ولا يضمنه إذا
عقر ليلاً([17]).
ونقول:
1 ـ
إن سبب هذا التفصيل بين الليل والنهار، هو أن التفريط
من صاحب الكلب يكون في النهار غالباً. كما أن تفريط صاحب الزرع في حفظ
زرعة يكون في النهار أيضاً.. وغنى عن البيان: أن المطلوب في الشريعة هو
حفظ حقوق الناس، وأن يصل إلى كل ذي حق حقه.
2 ـ
إن الناس في الليل يأوون إلى بيوتهم، والبهائم تعود إلى
مأواها، ويطمئن بذلك صاحب الزرع إلى أن زرعه لن يتعرض للإفساد من
قِبَلِ تلك البهائم..
فإذا ظهر أن بعض البهائم قد عبثت بزرع أحد، فذلك يعني
أن صاحب البهيمة قد قصر في حفظها وضبط حركتها، فيكون هو المسؤول
والضامن لما تفسده، ويكون صاحب الزرع قد استُغْفِل، واستُغِلَّت
طمأنينته وسكونه إلى ما جرت عليه العادة، وتفرضه الظروف الموضوعية..
3 ـ
إن على صاحب الكلب أن يمنع كلبه نهاراً من التعرض
للناس، لأن المهمة الرئيسية لكلب الحراسة تكون في الليل، حيث يخلد أهل
البيت إلى الراحة، ويغيبون عن مراقبة أحوال ما يجري من حولهم، فيكون
الكلب هو الذي يسهر ويراقب، ويعلمهم بنباحه بكل جديد. ويمنع من
مفاجأتهم بأي طارق.
أما في النهار، فالناس حاضرون، وهم يتولون بأنفسهم
الرقابة والحفظ، فعليهم أن يمنعوا كلبهم من التعرض للناس في النهار
4 ـ
ظهر: أن على الناس أن يحرسوا زرعهم نهاراً وليس بالليل.
كما أن على كلب الحراسة أن يحرس ليلاً، لا نهاراً.. هذا إذا كان
المطلوب هو المنع من الإقتراب. أما بالنسبة للدخول إلى حريم الدار أو
البيت، فهو ممنوع مطلقاً، سواء في الليل أو في النهار كما أظهر النص
التالي:
عن السكوني، عن الصادق عن علي
«عليهما السلام» قال:
وإذا دخلت دار قوم بإذنهم فعقرك كلبهم فهم ضامنون، وإذا
دخلت بغير إذن فلا ضمان عليهم([18]).
ونقول:
1 ـ
دل هذا النص على أن دخول دار قوم يحتاج إلى إذن منهم
على كل حال، وفي جميع الأوقات..
2 ـ
دل على أن هذا الإذن بمثابة ضمان وإعطاء الأمان منهم
لكل ضرر يلحق بالمستأذن، إذا جاء من قبلهم. وعقر كلبهم له هو أحد
مفردات هذا الضرر المضمون، لأن عقر الكلب بعد استئذانهم بالدخول هو في
الغالب بسبب تهاونهم في الحد من حركة كلبهم، فهم ضامنون لما يفعله
الكلب بمن دخل إلى بيتهم بإذنهم.
3 ـ
إذا دخل بغير إذن، فالرواية تقول: إنهم لا يضمنون عقر كلبهم له.
والظاهر: أن المقصود هو صورة ما لو عقره الكلب في حال غفلتهم، أما إذا
كانوا بمرأى ومسمع بما يجري، وكان بإمكانهم منع الكلب من عقره، ولم
يفعلوا فربما يصعب الحكم بإعفائهم من الضمان مع ظهور تقصيرهم وتعمدهم..
وروي عن مسمع عن علي «عليه السلام»:
أن أمير المؤمنين «عليه السلام» كان إذا صال الفحل أول
مرة لم يضمِّن صاحبه. وإذا ثنى ضمَّن صاحبه([19]).
ونقول:
ولعل الوجه في ذلك:
أن صولة الفحل في المرة الأولى تأتي على حين غفلة من
صاحبه، فلا يكون مسؤولاً عنها، لأنه لم يقصر في حفظه..
وأما في المرة الثانية، فإن المرة الأولى كانت إنذاراً
يفرض عليه أن يحتاط للأمر بعدها، فإذا قصر في ذلك ضمن.
روي بسند معتبر، عن أبي مريم وعن غياث بن إبراهيم، عن
الإمام الباقر «عليه السلام»، قال: قضى أمير المؤمنين في صاحب الدابة:
أنه يضمن ما وطأته بيدها ورجلها. وما نفحت برجلها فلا ضمان عليه، إلا
أن يضربها إنسان([20]).
وفي رواية إسحاق بن عمار قال:
«إلا أن يعبث بها أحد، فيكون الضمان على الذي عبث بها»
([21]).
وعنه «عليه السلام»:
كان يضمن الراكب ما وطئت الدابة بيدها، ويضمن القائد ما
أوطأت الدابة، ويبرئها من الرِّجل([22]).
وفي معتبرة السكوني:
أن علياً «عليه السلام» كان يضمِّن القائد، والسائق،
والراكب([23]).
وروى الصدوق بسند صحيح عن علي «عليه
السلام»:
«في دابة عليها رديفان، فقتلت الدابة رجلاً، أو نفحته
(أو جرحت)، فقضى بالغرامة بين الردفين بالسوية»
([24]).
ونقول:
1 ـ
قال المحقق
الخوئي «قدس سره»: إن كلمة
«ورجلها»
لم تثبت، فإن الشيخ رواها بعينها خالية عن كلمة
«ورجلها».
بل يظهر من الوافي:
أن هذه الكلمة لم تكن موجودة في الكافي أيضاً. فيظهر من ذلك: أن نسخ
الكافي كانت مختلفة»([25]).
2 ـ
وقال «قدس سره» بالنسبة لمعتبرة غياث بن إبراهيم: «لكن
هذه الرواية أيضاً لم تثبت، فإن الصدوق رواها في الفقيه خالية عن كلمة
«ورجليها» وفيه جملة: «ما نفحت» بل جملة: «وما بعجت».
ويظهر من الوافي أيضاً:
أن هذه الكلمة لم تكن موجودة في التهذيب أيضاً. ومن ذلك يتبين: أن نسخ
التهذيب كانت مختلفة»([26]).
1 ـ
إن كلمة «ورجليها» تفسد معنى الرواية، لأن المقصود بها
هو: أن الضمان يكون حين تتشارك اليدان والرجلان معاً بالوطء. فمعنى
ذلك: أنه لا ضمان لما وطأته بيديها فقط.
ولا يلتزم العلماء بهذا..
وإن كان المقصود:
هو أن صاحب الدابة يضمن ما أتلفته الدابة برجليها، كما
يضمن ما أتلفته بيديها، فيرد عليه: إن هذا الحكم ليس على إطلاقه، فإن
صاحب الدابة إذا كان يسوقها، فلا بد أن يحفظها من خلفها، فإذا وطأت
شيئاً دل ذلك على تقصيره.
أما القائد لها، فيستطيع أن يحفظها من الأمام أي من جهة
ما تطأه بيدها فقط..
وأما الراكب فيمكن أن يحفظ الدابة من الأمام أيضاً. وقد
يتمكن من حفظها من الخلف، فإن قصَّر في ذلك ضمن.
يضاف إلى ذلك:
أن كلمة «ورجليها» لو صحت لتعارضت مع الرواية التي تقول
«ويبرئها من الرجل».
إلا أن يقال:
هناك فرق بين ما نفحته الدابة، وما وطأته.. فإن ما تطؤه
إنما تطؤه بسبب تقصير قائدها وراكبها في حفظها. أما من الخلف فعلى
الناس أن يحذروا من الاقتراب منها، فإن اقتربوا منها وضربتهم، فلا يضمن
راكبها ولا صاحبها ولا قائدها..
كما أنها إن عبث بها عابث، فهو الذي يتحمل المسؤولية،
ولا ضمان في ذلك على أحد..
2 ـ
هناك فرق بين الراكب وصاحب الدابة، فقد يكون صاحب
الدابة هو الراكب، وقد يكون الراكب غيره. ولعل تعبير المعتبرة بعبارة
صاحب الدابة وارد مورد الغالب، لأنه هو الذي يركبها عادة.
3 ـ
إن رواية تضمين السائق والراكب والقائد.. ناظرة إلى
التضمين في بعض الحالات، لا في جميع الأحوال..
4 ـ
أما تضمين الرديفين على الدابة بالسوية فإنما هو في
صورة توليهما معاً قيادة الدابة، وإذا قصرا في ذلك. أما لو كان الرديف
ليس له أي دور في قيادتها والسيطرة عليها فلا ضمان عليه..
ورواية الصدوق ناظرة إلى صورة ما لو علم اشتراكهما في
قيادتها، والسيطرة عليها.
ومن أقضية أمير المؤمنين «عليه السلام»، ما روي عن
الباقر «عليه السلام» من قوله: قضى أمير المؤمنين علي في رجل شهد عليه
رجلان بأنه سرق، فأمر بقطع يده، حتى إذا كان بعد ذلك جاء الشاهدان برجل
آخر، زعما: أنه هو الذي سرق، وأنهما أخطأا في نسبتهما السرقة إلى الذي
قطعت يده.
فغضب الإمام «عليه السلام» أشد الغضب، ثم غرم الشاهدين
نصف الدية، ولم يجز شهادتهما على الآخر([27]).
ونقول:
1 ـ
إن هذا النص يشير إلى أن على المعصوم أن يقضي بالأيمان والبينات، وأن
عصمته «عليه السلام» في نفسه لا تمنع من الوقوع في خلاف الواقع، لأن
الوقوع في خلاف الواقع إنما استند إلى البينة، لا إلى خطأ المعصوم في
حكمه. لأن حكم الإمام وفق البينة حق وصواب على كل حال.
2 ـ
إن الإمام والنبي مأمور من قبل الله بأن يحكم بين الناس
بالبينات والأيمان، لا بالواقع، الذي يعلمه بالطرق غير العادية، التي
لا يقدر عليها البشر، كما لو علمه عن طريق جبرئيل، أو بعلم الشاهدية،
الذي أعطاه الله إياه لاقتضاء مقام النبوة أو مقام الإمامة له.. وقد
أوضحنا هذا الأمر في موضع آخر من هذا الكتاب.
3 ـ
إن حكم النبي والإمام استناداً إلى الغيب، يمكن أن
يتخذه حكام الجور ذريعة لظلم الناس، والتنكيل بهم، حيث يدَّعون لأنفسهم
نفس مقام النبي، وسيجدون من علماء السوء من يسوِّق لأباطيلهم
وأضاليلهم، فتنتهك الحرمات، وترتكب الجنايات باسم الدين.
4 ـ
إن هذه الحادثة تدل على أن البينات والأيمان، وغير ذلك
من أمارات ودلائل، مثل قاعدة اليد، وسوق المسلمين، وحمل فعل المسلم على
الصحة ونحوها، إنما جعلت لأنها تؤدي غالباً إلى الواقع، وليس دائماً.
5 ـ
إنه «عليه السلام» لم يعاقب الشاهدين، بمثل ما أدت إليه
شهادتهما، وهو قطع أيديهما، لأنه لم يثبت له أنهما قد تعمدا الشهادة
بالباطل، وقيام احتمال أن يكونا صادقين في ادعائهما الغلط والإشتباه.
فإن الحدود تدرأ بالشبهات([28]).
6 ـ
وإنما غرم «عليه السلام» الشاهدين نصف دية الرجل، لأن
في قطع اليد الواحدة نصف الدية، وفي قطع اليدين دية كاملة([29]).
7 ـ
إن عدم إجازة شهادتهما على الشخص الآخر، الذي جاءا به
هذه المرة. قد يكون لأجل عدم الاطمينان لعدالتهما، لاحتمال تعمُّدهما
شهادة الزور، إما في الشهادة على السابق، أو في الشهادة على هذا
اللاحق.
وقد يكون لأجل ظهور عدم رعايتهما للدقة المطلوبة في
الشهادة، واستسهالهما الشهادة على الناس. وعدم رعاية الإحتياط المطلوب.
8 ـ
إن الإمام «عليه السلام»، وإن كان لم يعاقب الشاهدين
المدعين للخطأ بقطع اليد، لاحتمال أن يكونا قد أخطأا في الشهادة عن غير
قصد، إلا أنه لم يعفهما من دفع الدية، لأن التسبب في اتلاف ما يعود
للغير، في ماله أو في بدنه، يوجب الضمان، سواء كان ذلك عن عمد، أو عن
غير عمد، في حال النوم أو في حال اليقظة، في حركة إرادية أو غير
إرادية، في حال الالتفات أو في حال الغفلة. أي أن التلف نفسه موجب
للضمان، وهذا ما حصل في هذه الواقعة بالفعل، ولذلك ضمنهما «عليه
السلام» نصف الدية.
9 ـ
ولعلك تقول: لماذا لم يفرق «عليه السلام» بين الشهود،
ويتحقق من صحة الشهادة، قبل أن يقطع يد المتهم؟!
ويجاب:
بأنه لم تظهر له اية أمارة أو شبهة توجب الشك في صدق
الشهود ـ بحسب العادة ـ ليصار إلى التحقيق في الأمر.. إذ ليس من حق أحد
التشكيك في صدق أحد ما دام متصفاً بصفة العدالة الظاهرية..
واعترافهما بالخطأ لا يلزم منه الحكم بفسقهما، لأنهما
لم يعترفا بالكذب، ولا يلزم من الخطأ في الشهادة كذب الشاهدين..
([1])
تهذيب الأحكام ج6 ص299 والاستبصار ج3 ص47 و وسائل الشيعة (ط
مؤسسة آل البيت) ج27 ص295 و (ط دار الإسلامية) ج18 ص217
وموسوعة أحاديث أهل البيت «عليهم السلام» للنجفي ج5 ص45.
([2])
الإستبصار ج3 ص47 وتهذيب الأحكام ج6 ص300 ووسائل الشيعة (ط
مؤسسة آل البيت) ج18 ص419 و (ط الإسلامية) ج13 ص148 وعوالي
اللآلي ج3 ص520 والفصول المهمة للحر العـامـلي ج2 ص274 وجـامـع
= = أحاديث الشيعة ج18 ص379 و 380 وموسوعة أحاديث أهل البيت
«عليهم السلام» للنجفي ج5 ص45.
([3])
الإستبصار ج3 ص47 وتهذيب الأحكام ج6 ص196 و 299 ووسائل الشيعة
(ط مؤسسة آل البيت) ج18 ص418 و (ط دار الإسلامية) ج13 ص148 ومن
لا يحضره الفقيه ج2 ص11 والفصول المهمة للحر العاملي ج2 ص274
وجامع أحاديث الشيعة ج18 ص380 وموسوعة أحاديث أهل البيت «عليهم
السلام» للنجفي ج5 ص46.
([4])
الآية 6 من سورة الشرح.
([5])
تهذيب الأحكام ج6 ص299 وج7 ص454 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل
البيت) ج18 ص418 و (ط دار الإسلامية) ج13 ص148 وجامع أحاديث
الشيعة ج18 ص380 وموسوعة أحاديث أهل البيت «عليهم السلام»
للنجفي ج12 ص317 وتفسير نور الثقلين ج5 ص604.
([6])
الآية 6 من سورة الشرح.
([7])
الكافي ج5 ص242 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج19 ص142 و
144 و 145 و 147 و (ط الإسلامية) ج13 ص272 و 274 و 276 وتهذيب
الأحكام ج7 ص220 وجامع أحاديث الشيعة ج19 ص52 و 54 ومستدرك
سفينة البحار ج8 ص332 والإستبصار ج3 ص133 وعن المقنع ص32.
([8])
الكافي ج5 ص242 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج19 ص143 و
(ط دار الإسلامية) ج13 ص272 وتهذيب الأحكام ج7 ص219 ومن ما لا
يحضره الفقيه ج3 ص257 والسرائر ص 470 والإستبصار ج3 ص131
ومستطرفات السرائر ص580 وبحار الأنوار ج100 ص168 ومستدرك سفينة
البحار ج6 ص481 وجامع أحاديث الشيعة ج18 ص504 وج19 ص57.
([9])
والكافي ج5 ص242 و 243 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج19
ص140 و (ط دار الإسلامية) ج13 ص270 وتهذيب الأحكام ج7 ص219 ومن
لا يحضره الفقيه ج3 ص257 وجامع أحاديث الشيعة ج19 ص46 وموسوعة
أحاديث أهل البيت «عليهم السلام» للنجفي ج2 ص316.
([10])
قرب الإسناد 71 و (ط مؤسسة آل البيت) ص152 ووسائل الشيعة (ط
مؤسسة آل البيت) ج19 ص140 و (ط دار الإسلامية) ج13 ص271 وبحار
الأنوار ج100 ص167 وجامع أحاديث الشيعة ج19 ص46 ومستدرك سفينة
البحار ج1 ص60 وج6 ص481.
([11])
تهذيب الأحكام ج6 ص314 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج19
ص140 وج27 ص299 و (ط دار الإسلامية) ج13 ص271 وج18 ص220 وجامع
أحاديث الشيعة ج19 ص46.
([12])
قضاء أمير المؤمنين «عليه السلام» للتستري (ط مؤسسة الأعلمي)
ص188 وتهذيب الأحكام ج10 ص315 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل
البيت) ج29 ص274 و (ط دار الإسلامية) ج19 ص206 وجامع أحاديث
الشيعة ج26 ص376.
([13])
الآية 91 من سورة التوبة.
([14])
إحقاق الحق (الملحقات) ج32 ص182 والمحلى لابن حزم ج10 ص526.
([15])
إحقاق الحق (الملحقات) ج32 ص182 والكافي ج7 ص350 وتهذيب
الأحكام ج10 ص230 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج29 ص241 و
(ط دار الإسلامية) ج19 ص179 وجامع أحاديث الشيعة ج26 ص335
وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج6 ص236.
([16])
وسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج29 ص276 و (ط دار الإسلامية)
ج19 ص208 وتهذيب الأحكام ج10 ص310 وقضاء أمير المؤمنين «عليه
السلام» للتستري (ط مؤسسة الأعلمي) ص192 عن الشيخ، والصدوق،
وغوالي اللآلي ج2 ص367 وج3 ص662 وجامع أحاديث الشيعة ج26 ص349
وعجائب أحكام أمير المؤمنين للسيد محسن الأمين ص159.
([17])
قضاء أمير المؤمنين «عليه السلام» للتستري (ط مؤسسة الأعلمي)
ص193 عن الشيخ، والصدوق. وتهذيب الأحكام ج10 ص228 ومن لا يحضره
الفقيه ج4 ص120 و (ط مؤسسة النشر الإسلامي) ج4 ص161 ووسائل
الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج29 ص255 و (ط دار الإسلامية) ج19
ص190 وجامع أحاديث الشيعة ج26 ص337.
([18])
قضاء أمير المؤمنين «عليه السلام» للتستري (ط مؤسسة الأعلمي)
ص193 ومن لا يحضره الفقيه ج4 ص162 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل
البيت) ج29 ص255 و (ط دار الإسلامية) ج19 ص190 والكافي ج7 ص353
وتهذيب الأحكام ج10 ص228 وجامع أحاديث الشيعة ج26 ص337.
([19])
الكافي ج7 ص353 وتهذيب الأحكام ج10 ص227 ووسائل الشيعة (ط
مؤسسة آل البيت) ج29 ص251 و (ط دار الإسلامية) ج19 ص187 وقضاء
أمير المؤمنين «عليه السلام» للتستري (ط مؤسسة الأعلمي) ص193
وجامع أحاديث الشيعة ج26 ص341.
([20])
الكافي ج7 ص353 وتهذيب الأحكام ج10 ص227 والإستبصار ج4 ص285
ومن لا يحضره الفقيه ج4 ص116 ووسائل الشيعة (ط دار الإسلامية)
ج19 ص184 و 185 و (ط مؤسسة آل البيت) ج29 ص247 وقضاء أمير
المؤمنين «عليه السلام» للتستري (ط مؤسسة الأعلمي) ص193
والوافي ج16 ص842.
([21])
الكافي ج7 ص353 وتهذيب الأحكام ج10 ص226 ومن لا يحضره الفقيه
ج4 ص156 والإستبصار ج4 ص284 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت)
ج29 ص248 و (ط دار الإسلامية) ج19 ص185.
([22])
قرب الإسناد ص68 و (ط مؤسسة آل البيت) ص147 ووسائل الشيعة (ط
مؤسسة آل البيت) ج29 ص250 و (ط دار الإسلامية) ج19 ص186 وبحار
الأنوار ج101 ص390 وجامع أحاديث الشيعة ج26 ص347.
([23])
من لا يحضره الفقيه ج4 ص116 و (ط مؤسسة النشر الإسلامي) ج4
ص156 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج29 ص249 و 250 و (ط
دار الإسلامية) ج19 ص186 وجامع أحاديث الشيعة ج26 ص346 وراجع:
المصنف لابن أبي شيبة ج6 ص343.
([24])
تهذيب الأحكام ج10 ص234 ومن لا يحضره الفقيه ج4 ص116 و (ط
مؤسسة النشر الإسلامي) ج4 ص156 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل
البيت) ج29 ص281 و (ط دار الإسلامية) ج19 ص211 و 212 وجامع
أحاديث الشيعة ج26 ص352.
([25])
مباني تكملة المنهاج (ط مؤسسة إحياء آثار الخوئي) ج2 ص313.
([26])
مباني تكملة المنهاج (ط مؤسسة إحياء آثار الخوئي) ج2 ص313.
([27])
شرح إحقاق الحق (الملحقات) ج32 ص153 ومسند محمد بن قيس البجلي
(تحقيق بشير المازندراني) ص109 وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص170
ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج27 ص332 و (ط دار
الإسلامية) ج18 ص243 وتهذيب الأحكام ج6 ص261 والكافي ج7 ص384.
([28])
راجع باب أنه لا يمين في حد، وأن الحدود تدرأ بالشبهات في:
وسائل الشيعة = = (ط مؤسسة آل البيت) ج28 ص46 ـ 47 و (ط دار
الإسلامية) ج18 ص335 ـ 336 ومستدرك الوسائل ج18 ص26 وجامع
أحاديث الشيعة ج25 ص327 ـ 328. وراجع: معرفة السنن والآثار ج6
ص356 وتحفة الأحوذي ج4 ص573 والجامع الصغير للسيوطي ج1 ص52
وشرح مسند أبي حنيفة ص186 والتبيان للطوسي ج5 ص352 والتفسير
الكبير للرازي ج23 ص152 ووفيات الأعيان ج2 ص492 وج6 ص381 ومجمع
البحرين ج2 ص19 ونهج الحق ص282.
([29])
راجع: المبسوط للطوسي ج7 ص143 والخلاف للطوسي ج5 ص250 والمجموع
للنووي ج19 ص105 وعمدة القاري ج24 ص54 وكنز العمال ج15 ص132.
|