وجاءت امرأة إلى علي «عليه السلام»، فذكرت أن زوجها
يأتي جاريتها.
فقال «عليه السلام»:
إن كنت صادقة رجمناه، وإن كنت كاذبة جلدناك.
فقالت:
ردوني إلى أهلي، غيرى نغرة.
معناه:
أن جوفها يغلي من الغيظ والغيرة([1]).
نغرت القدر تنغر، إذا غلت.
ونقول:
لم يبحث
عن صحة الدعوى:
نلاحظ هنا:
أنه «عليه السلام» لم يتابع القضية، ليكشف صدق أو كذب
تلك المرأة. مع أن أحد الحدين اللذين ذكرهما لها قد حدث موجبه، لأن
اتهامها لزوجها بالزنا قد تحقق، والخبر إما صادق، فيجب رجم الزوج، أو
كاذب، فيجب جلدها، فكيف تركها تذهب؟!
ونجيب:
أولاً:
إن الحد إذا كان يتعلق بحق الغير فلا يجب إقامته إلا
إذا طالب به صاحب الحق. وزوج المرأة لم يطالب بإقامة الحد عليها.
ثانياً:
قد عرفنا أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يكن يتتبع أطراف التهمة، بل
كان يكتفي بمتابعة حال الطرف الذي توجهت التهمة إليه، ويجري في حقه ما
يجب أن يجريه، فيرجمه، أو يجلده، أو يعزره، ولا يسأل عن غيره من
الأطراف الأخرى.
إن مقصوده «عليه السلام» بقوله:
«إن كانت صادقة»: أنه إذا شهدت البينة العادلة عليه
بذلك، أو أقر هو بالزنا المرات المطلوبة رجمناه. وليس المقصود أنه يأخذ
بقولها على كل حال.
أخبرنا معين الدين محمد بن الحسن بن أحمد السمرقندي، في
مدينة السلطان طغرل بيك، يوم الاثنين ثاني شعبان، عن جماعة من
الصادقين، يرفعونه بالأسانيد الصحيحة إلى زيد بن أرقم، عن عمار بن ياسر
رضي الله عنه أنهما قالا:
كنا بين يدي ابن عم رسول الله «عليه السلام» يوم
الإثنين من سبع عشرة خلت من صفر، فإذا برجفة وزعقة قد ملأت المسامع.
وكان علي «عليه السلام» على دكة [القضاء] عالية له، فقال: يا عمار،
ائتني بذي الفقار ـ وكان وزنه سبعة أمنان وثلثي منٍ مكيٍ ـ فجذبه فنضاه
من غمده، وتركه على ركبتيه، وقال: يا عمار، هذا يوم أكشف فيه لأهل
الكوفة الغمة، ليزداد المؤمن وفاقاً والكافر نفاقاً، ائتني بمن على
الباب.
قال عمار:
فذا على الباب امرأة على جمل لها، وهي تصيح: يا غياث
المستغيثين، ويا غاية الطالبين، ويا كنز الراغبين، ويا ذا القوة
المتين، ويا مطعم اليتيم، ويا رازق العديم، ويا محيي كل عظم رميم، ويا
قديماً سبق قدمه كل قديم، ويا عون من لا عون له، ويا طود من لا طود له،
ويا كنز من لا كنز له، إليك توجهت، وبوليك تقربت، بيَّض الآن وجهي،
وفرج عني كربتي.
قال:
وحولها ألف فارس، بسيوفٍ مسلولةٍ، قوم لها، وقوم عليها.
فقلت: أجيبوا أمير المؤمنين.
فنزلت عن الجمل ونزل القوم معها، ودخلوا المسجد، فوقفت
المرأة بين يدي أمير المؤمنين «عليه السلام» وقالت: يا إمام المتقين،
لك قصدت، وإليك توجهت، فاكشف ما بي من غمة، إنك ولي ذلك، والقادر عليه،
وعالم بما كان وبما يكون إلى يوم القيامة.
فقال علي «عليه السلام»:
يا عمار، ناد في الكوفة، وفي أسواقها ومحالها: أقبلوا
يا أهل الكوفة، فانظروا إلى قضاء علي بن أبي طالب.
قال عمار:
فناديت. واجتمع الناس حتى صار القدم على عشرة أقدام.
قال أمير المؤمنين «عليه السلام»:
سلوا عما بدا لكم يا أهل الشام.
فنهض من بينهم رجل شيخ مشيب، عليه بردة نجمية، وحلة
عربية، وعلى رأسه عمامة خراسانية فقال: السلام عليك يا كنز الضعفاء،
وملجأ اللهفاء، ويا مجيب الداعي إذا دعاه. هذه الجارية ابنتي، وما
قرعها رجل قط. وهي عاتق حامل، وقد فضحتني في عشيرتي وقومي.
وأنا معروف بالشدة والبأس، وصعوبة المراس، لا تخمد لي
نار، ولا يضام لي جار. عزيز عند العرب ببأسي ونجدتي وسطوتي. وأنا من
بيت وإنهم من بيت. وأنا لا يروعني أحد في الحرب في شجاعتي.
وقد بقيت حايراً يا علي يا أبا الحسن، اكشف هذه الغمة،
والأمور العظام، وهذه عظيمة لا أجد أعظم منها.
فقال أمير المؤمنين «عليه السلام»:
ما تقولين يا هذه فيما يقول أبوك؟!
فقالت:
أما قول أبي: عاتق فقد صدق، وقد صدق أيضاً فيما قال:
إني، حامل فوالله يا مولاي ما أعلم من نفسي جناية أبداً.
يا أمير المؤمنين فرج عني غمي وكربتي، يا أبا الحسن يا
أمير المؤمنين.
فصعد المنبر وقال:
الله أكبر،
الله أكبر، الله أكبر،
﴿جَاءَ
الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقاً﴾([2]).
ثم قال «عليه السلام»:
عَلَيَّ بداية الكوفة.
فجاءت امرأة يقال لها:
السا، وكانت قابلة نساء أهل الكوفة فقال لها: يا داية،
اضربي بينك وبين الناس حجاباً، وانظري هذه الجارية، عاتق هي؟!
ففعلت كما أمرها علي «عليه السلام»
فقالت:
إنها عاتق حامل.
فقال لأبيها:
يا أبا الفضل المقطب، ألست من قرية يقال لها: أسعار من
أعمال الشام في طريق بايناس [لعل الصحيح: بانياس]؟!
فقال:
بلى يا أمير المؤمنين.
فقال له:
هل فيكم أحد يقدر على قطعة من الثلج؟!
فقال الشيخ:
الثلج في بلادنا كثير.
فقال أمير المؤمنين «عليه السلام»:
بيننا وبين بلدتكم مائتان وخمسون فرسخاً.
قال:
نعم يا أمير المؤمنين.
قال عمار بن ياسر رضي الله عنه:
فمد علي «عليه السلام» يده، وهو على منبر جامع الكوفة،
ثم ردها. وفيها قطعة ثلج.
[يقطر الماء منها، فعند ذلك ضج الناس، وماج الجامع
بأهله.
فقال «عليه السلام»:
اسكتوا، فلو شئت أتيت بجبالها].
ثم قال للداية الكوفية:
ضعي هذه القطعة الثلج مما يلي فرج المرأة، فإنها سترمي
علقة، ووزنها سبع وخمسون درهماً ودانقان.
قال:
فأخذتها وخرجت بها من الجامع، وجاءت بطشت، ثم وضعت قطعة
الثلج على الموضع منها، فرمت علقة كبيرة، فوزنتها الداية، فوجدتها كما
قال لها أمير المؤمنين «عليه السلام».
فأقبلت الداية مع الجارية، فوضعت العلقة بين يدي أمير
المؤمنين «عليه السلام».
فالتفت أمير المؤمنين إلى أبيها
وقال له:
خذ ابنتك، فوالله ما زنت قط، وإنما كان قد دخلت في موضع
ماء، فسبحت فيه، فدخلت العلقة فيها، وهي صبية بنت عشر سنين، وربت في
جوفها إلى يومنا هذا..
فنهض
أبوها وهو يقول لأمير المؤمنين «عليه السلام»:
أشهد أنك تعلم ما في الأرحام وما في الضمائر، وأنت علام
الغيوب، لعن الله مشنيك ومبغضيك([3]).
ونقول:
علينا أن نشير إلى ما يلي:
ذكرت الرواية:
أنهم كانوا بين يدي أمير المؤمنين «عليه السلام»، وإذا
برجفةٍ وزعقة. ولم نستطع أن نعرف السبب في حصول الرجفة، فإن مجيء ألف
فارس لا يوجب ذلك. إلا إذا كان الفرسان قد تجمعوا حول المسجد، في الجهة
التي كان علي «عليه السلام» ومن معه جالسين فيها، وكانوا يسمعون صوتاً
ويشعرون بضربات حوافر الخيل، التي أوجبت بعض الاهتزاز بسبب قربها..
وذكرت الرواية وزن ذي الفقار، الذي كان «عليه السلام»
يقدُّ به فرسان العرب ويقطُّهم، وكان يورد السيف ويصدر، ولا يرى الناس
فيه دماً، لسرعة حركته.. وهو وزن لا يطيقه إلا من أيده الله بلطفه
وبمنه، وادخره لمهمات الأمور..
علي
يجمع الناس:
وقد لا حظنا:
أنه «عليه السلام» يأمر بجمع أهل الكوفة ليريهم ويسمعهم قوله وفعله،
لكي تقوم بذلك الحجة عليهم، فإنهم هم الذين ملأوا قلبه قيحاً، وجرعوه
الغيظ، بسبب مخالفاتهم، واضطراب أمورهم عليه، رغم ما يرونه من الآيات
والبينات، والشواهد والدلالات.
علي
عالم بما كان وما يكون:
وقد صرحت تلك المرأة الشامية بتوصيف
علي «عليه السلام»:
بأنه عالم بما كان وما يكون. وهذا يدل على مزيد معرفة
لها به «عليه السلام»، مع أن الشام إنما فتحت في أول عهد عمر، وكان
حكامها أبناء بني سفيان، ولا سيما معاوية، ولم يكن معاوية من محبي علي
«عليه السلام»، ولا كان يسمح لمحبيه «عليه السلام» بالقيام بأي نشاط
يعرِّف الناس بعلي «عليه السلام» وبفضائله..
فهل كان أصحاب علي «عليه السلام» الذين نفاهم الحكام من
العراق إلى الشام هم الذين نشروا فضائل علي «عليه السلام» بينهم، حتى
بلغت معرفتهم به «عليه السلام» إلى هذا الحد؟!
أم أن صيت علم علي «عليه السلام»، قد بلغ أقاصي البلاد،
وعرفه القاصي والداني من العباد. بسبب ما كان يتصدى له من عويصات
المسائل في عهد الخلفاء قبله، فكان يحلها بثاقب فكره، ويكشف معمياتها
ببصيرته؟!
وقد لفت نظرنا توصيفها له «عليه
السلام»:
بأنه عالم بما كان وبما يكون إلى يوم القيامة، ثم قولها
بعد ذلك: «إني أعلم أنك أعلم بي مني». ولعله لكثرة ما كان «عليه
السلام» يخبر به عن الغيوب، ليعرف الناس بأنه هو الذي يملك علم الإمامة
دون سواه..
وقول أبي الجارية:
«فإن الإمام خبير في الأمر» يشير إلى ما نبهنا عليه
أكثر من مرة أيضاً، من أن الناس يرون أن النبي والإمام يعلم الغيب،
ويشفي المرضى، ويكشف الغوامض.
فهو شخص لا يشبه غيره من الناس العاديين، فإذا عجز عن
ذلك عرفوا أنه ليس نبياً، أو ليس هو الإمام الحق، وأنه مدع لمقامه،
متغلب عليه.
ولا شك في أنه «عليه السلام» يريد بقوله أنه قادر على
الإتيان بجبالها ـ أي بجبال الشام ـ بإذن الله، وأنه إنما يفعل ذلك حين
يكون ذلك مفيداً للدين، ويوجب حفظ شريعة سيد المرسلين، وليس له أن يأتي
به لمجرد التشهي، وعرض العضلات، فإن الله سبحانه لا يأذن للجبال بأن
تطيعه إن كانت له هذه المقاصد غير المرضية.
وقد أكدت هذه الحادثة صحة ما عرف عن الأنبياء والأوصياء
بأن لهم قدرة على التصرفات في الأمور الكونية، إلى حد أنهم يقدرون على
نقل الجبال، والإتيان بالثلج من الشام إلى الكوفة في لحظة..
وهذا تصديق للحديث الشريف:
الذي يَعِدُ
هذه الأمة بأن يحصل فيها نظير ما حصل في الأمم السالفة، فكما جيء بعرش
بلقيس في عهد سليمان عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام من اليمن إلى
بيت المقدس قبل ارتداد الطرف، فليكن مجيء علي «عليه السلام» بالثلج من
بلاد الشام إلى الكوفة بالعراق قبل ارتداد الطرف هو هذا النظير لما حصل
في عهد سليمان، حيث جاء به من
﴿عِنْدَهُ
عِلْمٌ مِنَ الْكِتَابِ﴾([4])..
فكما جاء من عنده علم من الكتاب بعرش بلقيس، فليكن مجيء
علي «عليه السلام» الذي عنده علم الكتاب بالثلج من بلاد الشام.
وليكن إخباره «عليه السلام» بوزن تلك العلقة التي خرجت
من تلك الفتاة دليلاً آخر على علم علي «عليه السلام» بما كان، لأن هو
الذي
﴿عِنْدَهُ
عِلْمُ الْكِتَابِ﴾([5])..
هذا كله عدا عن معرفته «عليه السلام» بكيفية إخراج تلك
العلقة، من دون حاجة إلى عملية جراحية يشق فيها بطن تلك الفتاة،
وتعرضها للآلام والأخطار.
عن الإمام الصادق «عليه السلام»
قال:
جيء إلى أمير المؤمنين علي «عليه السلام» بامرأة بكر،
زعموا أنها فاحشت، فأمر «عليه السلام» النساء فنظرن إليها، فقلن: إنها
عذراء.
فخلى
الإمام «عليه السلام» سبيلها قائلاً:
ما كنت لأضرب امرأة عليها من الله عز وجل خاتم. وكان «عليه السلام»
يجيز شهادة النساء في مثل هذا([6]).
ونقول:
1 ـ
إنه «عليه السلام» هنا يقدم الدليل الحسي على شهادة الشهود.
2 ـ
كما أنه «عليه السلام» حين أسقط شهادة البينة في الزنا الموجب للحد
استناداً إلى وجود البكارة ولم يلتفت إلى الاحتمالات التالية:
ألف:
احتمال أن يكون غشاء البكارة عميقاً، بحيث يمكن أن تغيب الحشفة، قبل أن
يصل القضيب إليه، ومن دون أن يتمزق.
ب:
احتمال أن يكون سميكاً ومطاطاً.
ج:
احتمال أن تكون البينة قد رأت الفاحشة، ولم تر الإدخال
التام.
د:
احتمال صدق البينة في أن تكون قد انكشفت هذه المرأة على
أجنبي، وجرى بينهما تفخيذ، ونحوه، وذلك يوجب التعزير ولا يوجب الحد..
فنرى:
أنه «عليه السلام» لم يثبت على تلك المرأة حتى عقوبة التعزير، رغم وجود
هذه الاحتمالات، لأن في مقابل هذه الإحتمالات، احتمال آخر، وهو أن لا
يكون قد حصل شيء من الأساس..
والشهادة إذا سقطت، فلا تسقط في جهة دون أخرى.. بل تسقط
من أساسها.
3 ـ
إنه «عليه السلام» لم يلاحق الشهود بتهمة شهادة الزور، لأن هذه
الاحتمالات نفسها شبهة توجب درء ما توجبه شهادة الزور عنهم..
ومن أقضيته «عليه السلام»:
ما ورد في معتبرة السكوني عن أبي عبد الله «عليه
السلام»: أن جاريتين دخلتا الى حمام فافتضت إحداهما أخرى بإصبعها، فلما
رفع الأمر إلى علي «عليه السلام» قضى على التي فعلت ذلك بدية البكارة
للمجني عليها([7]).
وفي نص آخر:
«فقضى على التي فعلت عقلها»([8]).
والمراد بالعقل:
هو الصداق المترتب على ذهاب العذرة بغير جماع، ويشهد لذلك ما رواه
الكليني في الصحيح عن محمد بن مسلم قال: سمعت أبا جعفر وأبا عبد الله
«عليهما السلام» يقولان: بينما الحسن بن علي في مجلس أمير المؤمنين
«عليه السلام» إذ أقبل قوم قالوا: يا أبا محمد أردنا أمير المؤمنين.
قال:
وما حاجتكم؟!
قالوا:
أردنا أن نسأله عن مسألة.
قال:
وما هي تخبرونا بها؟!
قالوا:
امرأة جامعها زوجها، فلما قام عنها قامت بحموتها فوقعت
على جارية بكر، فساحقتها فوقعت النطفة فيها فحملت، فما تقول في هذا؟!
فقال الحسن:
معضلة وأبو الحسن لها، وأقول: فإن أصبت فمن الله، ومن
أمير المؤمنين، وإن أخطأت فمن نفسي، فأرجو أن لا أخطئ إن شاء الله:
يعمد إلى المرأة، فيؤخذ منها مهر الجارية البكر في أول وهلة، لأن الولد
لا يخرج منها حتى تشق فتذهب عذرتها، ثم ترجم المرأة لأنها محصنة،
وينتظر بالجارية حتى تضع ما في بطنها ويرد الولد إلى أبيه صاحب النطفة،
ثم تجلد الجارية الحد.
قال:
فانصرف القوم من عند الحسن «عليه السلام»، فلقوا أمير
المؤمنين «عليه السلام»، فقال: ما قلتم لأبي محمد؟! وما قال لكم؟!
فأخبروه، فقال:
لو أنني المسؤول ما كان عندي فيها أكثر مما قال ابني([9]).
وهذه الرواية واضحة، ولا تحتاج إلى مزيد بيان..
وفي صحيحة معاوية بن وهب عن أبيه عن أبي عبد الله «عليه
السلام» في حديث طويل: إن امرأة دعت نسوة، فأمسكن صبية يتيمة بعدما
رمتها بالزنا، وأخذت عذرتها بإصبعها. فقضي أمير المؤمنين «عليه
السلام»: أن تضرب المرأة حد القاذف، وألزمهن جميعاً العقر، وجعل عقرها
أربعمائة درهم([10]).
ونقول:
دلتنا هذه الروايات على ما يلي:
1 ـ
أن الإمام الحسن «عليه السلام» قد تعرض لمسألتهم قبل أن
يوصلهم إلى أمير المؤمنين «عليه السلام». ربما ليفهمهم أمراً كانوا
غافلين عنه، وهو أنه «عليه السلام» يملك علم الإمامة أيضاً.
2 ـ
إنه «عليه السلام» أكد على أن هذه المسألة من المعضلات.
3 ـ
إنه «عليه السلام» قال: إن أبا الحسن هو حلال أمثالها.
إن قوله «عليه السلام»:
إن أصبت فمن الله، ثم من أمير المؤمنين، وإن أخطأت فمن
نفسي، لا يدل على أنه «عليه السلام» يقول برأيه، ويطلق كلامه على سبيل
الحدس والظن، بل يدل على أن هذه المسألة من موارد تطبيق القواعد التي
جاء بها الشرع الشريف.
ويدل على ذلك:
قوله «عليه السلام»: إن أصبت فمن الله، ثم من أمير
المؤمنين «عليه السلام»، إذ لا معنى لكون ذلك من أمير المؤمنين، إلا
بتقدير أن يكون قد أخذ القاعدة منه «عليه السلام»، وأمير المؤمنين
«عليه السلام» قد أخذها عن الله، من خلال الرسول الأعظم «صلى الله عليه
وآله».
حكم المساحقة للمحصن هو الرجم كما دلت عليه الرواية
الصحيحة المتقدمة.
وأما جلد الجارية الحد، وهو مئة جلدة، فلأنها لم تكن
محصنة. بدليل أن عذرتها كانت باقية، وإنما تذهب بالولادة..
هناك الرواية التي تتحدث عن اتهام امرأة وليدة عندها
بالزنا. ثم جمعت نساء جيرانها، وافتضتها بإصبعها، ثم كشف أمير المؤمنين
«عليه السلام» للأمر بواسطة التفريق بين النسوة. إنما حصلت في عهد عمر
بن الخطاب، ولم يتمكن من حل هذه المعضلة، فاستعان بأمير المؤمنين «عليه
السلام»، ثم حدثهم «عليه السلام» بحديث دانيال حين فرق بين الشهود.
وقد تقدمت هذه القضية حين الحديث عن قضاء أمير المؤمنين
«عليه السلام» في عهد عمر. فراجع.
في الخرائج:
روي أن تسعة (سبعة) إخوة أو عشرة في حي من أحياء العرب
كانت لهم أخت واحدة، فقالوا لها: كل ما يرزقنا الله نطرحه بين يديك،
فلا ترغبي في التزويج، فحميتنا لا تحمل ذلك.
فوافقتهم في ذلك، ورضيت به، وقعدت في خدمتهم، وهم
يكرمونها، فحاضت يوماً، فلما طهرت أرادت الإغتسال وخرجت إلى عين ماء
كان بقرب حيهم، فخرجت من الماء علقة، فدخلت في جوفها وقد جلست في
الماء، فمضت عليها الأيام والعلقة تكبر حتى علت بطنها، وظن الأخوة أنها
حبلى وقد خانت، فأرادوا قتلها.
فقال بعضهم:
نرفع أمرها إلى أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه
السلام»، فإنه يتولى ذلك.
فأخرجوها إلى حضرته، وقالوا فيها ما ظنوا بها.
فاستحضر «عليه السلام» طشتاً مملوءاً بالحمأة([11])،
وأمرها أن تقعد عليه.
فلما أحست العلقة برائحة الحمأة نزلت من جوفها، فقالوا:
يا علي أنت ربنا العلي، فإنك تعلم الغيب!
فزبرهم وقال:
إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» أخبرنا بذلك عن
الله: بأن هذه الحادثة تقع في هذا اليوم، في هذا الشهر، في هذه الساعة([12]).
ونلاحظ هنا مايلي:
لعل هؤلاء الإخوة قد نسوا:
أن امرأة هي التي أنجبتهم، فلماذا لا يغارون على امهم
من أبيهم؟! ونسوا أيضاً: أن لهم زوجات يلدن لهم أبناء وبنات. وأن
بناتهم يحتجن إلى الزواج، فهل سيمنعونهن أيضاً من ذلك، وسيتعهدون لهنَّ
بالمال؟!
1 ـ
ماذا سيفعل هؤلاء بأختهم، وببناتهم لو أنهن رفضن طلبهم، واخترن دخول
القفص الذهبي، لإنشاء اسرة تقر بها أعينهن؟!
2 ـ
لو أن سائر الرجال استيقظت الغيرة فيهم، وطلبوا من أخواتهم وبناتهم نفس
هذا الطلب، هل سيدخل الناس مع اهليهم في مذابح تنتهي باستئصال اللواتي
يرفضن هذا الطلب؟! ومن تبقَّى منهن ورضين بعدم الزواج، إنما ينتظرن
الموت، ويفنى البشر، وتنتهي الحياة؟!
لا أدري إن كان هؤلاء الناس يرون أنفسهم أغير وأكثر
حمية من الله ورسوله «صلى الله عليه وآله»، ومن أوصيائه، وكل مؤمن
وعاقل؟!
1 ـ
ولماذا لا يفكر هؤلاء أن حاجة أختهن إلى الزواج لا تقل عن حاجتهم
إليه؟! فبماذا سيجيبونها إذا طلبت منهم الامتناع عن الزواج؟!
2 ـ
ولو أنهم أعطوها عهداً بذلك، فهل سيفون لها به؟! أم أنهم سيختانون
أنفسهم، ويلجأون إلى وسائل غير لائقة ينفِّسون بها عن غريزتهم؟! ولعلهم
يتجاوزون ذلك إلى ارتكاب جريمة الزنا، أو ما هو أقبح منه؟!
فإذا أجازوا لأنفسهم ذلك، فهل يرضون لأختهم بمثل ما
يجيزونه لأنفسهم؟!
إن الرواية تقول:
إن بطن تلك البنت قد علت خلال أيام، وهذا دليل براءة
لها، فإن الحبلى تحتاج إلى عدة أشهر لكي تعلو بطنها.. إلا إذا قيل:
إنهم ظنوا أن بطنها قد علت تدريجاً، دون أن يلتفتوا إلى ذلك.. أو أن
المقصود بالأيام ما يشمل حتى الشهور!!
وحين أرادوا قتلها ألم يخطر في بالهم أنه لو وقع أحدهم
بمثل ما وقعت به، بأن ارتكب جريمة زناً ـ والعياذ بالله ـ هل يقتل
نفسه؟! أو هل يقتله إخوته؟! أم يشجعونه، ويطلبون منه أن يهديهم إلى ما
اهتدى إليه؟!
أو هل سيرفعونه إلى علي «عليه السلام» ليقيم عليه الحد.
هل سألوها عن حالها، وطلبوا منها تفسير هذه الحالة التي
عرضت لها، قبل أن يفكروا في قتلها؟! فلعل لها عذراً وأنت تلوم، ولعلها
حملت بزواج شرعي صحيح، إما بالزواج الدائم، أو بالمنقطع!!
ولنفترض:
أن لهم سبيلاً عليها، فهل لهم سبيل على ما في بطنها إذا
كانت حبلى بطفل حقاً؟!
واللافت:
أنهم أرجعوا الأمر إلى علي «عليه السلام»، لا بدافع الإحتياط للدين،
وليكون هو الذي ينظر في أمرها من حيث أنه هو المرجع لهم في كل شيء، ومن
حيث أنه إمام.. بل ليتولى هو قتلها نيابة عنهم، ربما ليتفادوا
المساءلة، أو ما يتعدى المساءلة إلى المؤاخذة والعقوبة لو فعلوا هم
ذلك..
لم تذكر لنا الرواية إلى ما انتهى أمرهم في غلوهم، هل
تراجعوا عنه؟! أم أصروا عليه؟! وإذا كانوا قد اصروا على ضلالهم، ماذا
كان موقف علي «عليه السلام» منهم؟! هل أحرقهم؟! أم تركهم؟! فإن كان قد
تركهم، فلماذا لم يترك غيرهم، ممن كان حاله حالهم؟!
([1])
مناقب آل أبي طالب ج2 ص381 و (ط المكتبة الحيدرية) ج2 ص201 عن
غريب الحديث لأبي عبيد، وبحار الأنوار ج40 ص240 ومستدرك سفينة
البحار ج8 ص98 والفايق في غريب الحديث ج3 ص316 والجامع لأحكام
القرآن ج12 ص175 وغريب الحديث لابن سلام ج3 ص446 والصحاح
للجوهري ج2 ص833 والنهاية في غريب الحديث لابن الأثير (نشر
مؤسسة إسماعيليان) و (المكتبة الإسلامية لرياض الشيخ) ج5 ص86.
([2])
الآية 81 من سورة الإسراء.
([3])
إحقاق الحق (الملحقات) ج32 ص712 ـ 714 وبحار الأنوار ج40 ص277
ـ 280 ونوادر المعجزات للطبري ص26 ـ 30 والروضة في فضائل أمير
المؤمنين «عليه السلام» لشاذان ص163 ـ 166 و (ط مؤسسة الوفاء)
ص182.
([4])
الآية 40 من سورة النمل.
([5])
الآية 43 من سورة الرعد.
([6])
تهذيب الأحكام ج6 ص278 وج10 ص19 وعيون أخبار الرضا «عليه
السلام» ج2 ص39 والكافي ج7 ص404 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل
البيت) ج27 ص354 و 365 وج28 ص124 و (ط دار الإسلامية) ج18 ص261
و 268 و 394 ومستدرك الوسائل ج17 ص425 وج18 ص63 وجامع أحاديث
الشيعة ج25 ص203 و 416 و 417 وإحقاق الحق (الملحقات) ج32 ص167.
([7])
إحقاق الحق (الملحقات) ج32 ص160 ومستدرك الوسائل ج18 ص384
وبحار الأنوار ج101 ص422 وجامع أحاديث الشيعة ج26 ص464 وعجائب
أحكام أمير المؤمنين للسيد محسن الأمين ص97 .
([8])
وسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج29 ص354 و (ط دار الإسلامية)
ج19 ص270 ومستدرك الوسائل ج14 ص335 وج18 ص70 و 87 و 383 وجامع
أحاديث الشيعة ج25 ص449 وج26 ص464 وتهذيب الأحكام ج10 ص249.
([9])
قضاء أمير المؤمنين «عليه السلام» للتستري (ط مؤسسة الأعلمي)
ص56 والكافي ج7 ص202 و بحار الأنوار ج43 ص352 و 353 ووسائل
الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج28 ص167 و 169 و (ط دار الإسلامية)
ج18 ص426 وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص445.
([10])
وسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج20 ص317 وج27 ص277 و 278 و
(ط دار الإسلامية) ج14 ص239 وج18 ص202 و 203 وبحار الأنـوار =
= ج40 ص309 والكافي ج7 ص426 وتهذيب الأحكام ج6 ص308 ومناقب آل
أبي طالب ج2 ص193 وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص450 وشرح إحقاق
الحق (الملحقات) ج17 ص510 و 511 وج31 ص479 و 480 وج32 ص137 و
138.
([11])
الحمأة: طين أسود منتن. المفردات للراغب الأصفهاني (ط سنة 1381
هـ) ص133.
([12])
الخرائج والجرائح ج1 ص210 وبحار الأنوار ج40 ص242 وج59 ص166
وقضاء أمير المؤمنين «عليه السلام» للتستري (ط مؤسسة الأعلمي)
ص242 عنه.
|