صفحة :175-208   

الفصل الثالث: المعترفون بالفاحشة: عفو.. أو عقوبة..

التوبة من الزنى أولى من الإقرار:

روى الصدوق بأسناده إلى سعد بن طريف، عن الأصبغ بن نباتة قال: « أتى رجل أمير المؤمنين «عليه السلام»، فقال: يا أمير المؤمنين إني زنيت فطهرني.

فأعرض أمير المؤمنين «عليه السلام» بوجهه عنه، ثم قال له: اجلس فأقبل علي «عليه السلام» على القوم، فقال: أيعجز أحدكم إذا قارف هذه السيئة أن يستر على نفسه كما ستر الله عليه؟!

فقام الرجل فقال: يا أمير المؤمنين إني زنيت فطهرني.

فقال: وما دعاك إلى ما قلت؟!

قال: طلب الطهارة.

قال: وأي طهارة أفضل من التوبة؟!

ثم أقبل على أصحابه يحدثهم، فقام الرجل فقال: يا أمير المؤمنين إني زنيت فطهرني.

فقال له: أتقرأ شيئاً من القرآن؟!

قال: نعم.

فقال: إقرأ.

فقرأ، فأصاب.

فقال له: أتعرف ما يلزمك من حقوق الله عز وجل في صلاتك وزكاتك؟!

فقال: نعم..

فسأله، فأصاب.

فقال له: هل بك من مرض يعروك، أو تجد وجعاً في رأسك، أو شيئاً في بدنك، أو غماً في صدرك؟!

فقال: يا أمير المؤمنين لا.

فقال: ويحك اذهب حتى نسأل عنك في السر، كما سألناك في العلانية، فإن لم تعد إلينا لم نطلبك.

قال: فسأل عنه، فأخبر أنه سالم الحال، وأنه ليس هناك شيء يدخل عليه به الظن.

قال: ثم عاد الرجل إليه، فقال له: يا أمير المؤمنين إني زنيت فطهرني.

فقال له: لو أنك لم تأتنا لم نطلبك، ولسنا بتاركيك إذا لزمك حكم الله عز وجل.

ثم قال: يا معشر الناس، إنه يجزى من حضر منكم رجمه عمن غاب، فنشدت الله رجلا منكم يحضر غداً لما تلثم بعمامته حتى لا يعرف بعضكم بعضاً، وأتوني بغلس حتى لا ينظر بعضكم بعضاً، فإنا لا ننظر في وجه رجل ونحن نرجمه بالحجارة.

قال: فغدا الناس كما أمرهم قبل إسفار الصبح، فأقبل علي «عليه السلام» عليهم، ثم قال: نشدت الله رجلاً منكم لله عليه مثل هذا الحق أن يأخذ لله به، فإنه لا يأخذ لله عز وجل بحق من يطلبه الله بمثله.

قال: فانصرف والله قوم ما ندري من هم حتى الساعة، ثم رماه بأربعة أحجار، ورماه الناس([1]).

ويشبه هذه القضية قضية المعترفة بالزنا، وهي التالية:

قصة المعترفة بالزنا أيضاً:

روى الكليني والشيخ مسنداً عن عمران بن ميثم، أو صالح بن ميثم، عن أبيه قال: أتت امرأة محجَّ أمير المؤمنين «عليه السلام»، فقالت: يا أمير المؤمنين، إني زنيت فطهرني طهرك الله، فإن عذاب الدنيا أيسر من عذاب الآخرة الذي لا ينقطع.

فقال لها: مما أطهرك؟!

فقالت: إني زنيت.

فقال لها: أوذات بعل أنت، أم غير ذلك؟!

فقالت: بل ذات بعل.

فقال لها: أفحاضراً كان بعلك إذ فعلت ما فعلت، أم غائباً كان عنك؟!

فقالت: بل حاضراً.

فقال لها: انطلقي، فضعي ما في بطنك، ثم ائتني أطهرك، فلما ولت عنه المرأة، فصارت حيث لا تسمع كلامه.

قال: اللهم إنها شهادة، فلم يلبث أن أتته فقالت: قد وضعت فطهرني.

قال: فتجاهل عليها.

فقال: أطهرك يا أمة الله مماذا؟!

فقالت: إني زنيت فطهرني.

فقال: وذات بعل أنت إذ فعلت ما فعلت؟!

قالت: نعم.

قال: وكان زوجك حاضراً، أم غائباً؟!

قالت: بل حاضراً

قال: فانطلقي وارضعيه حولين كاملين كما أمرك الله.

قال: فانصرفت المرأة، فلما صارت من حيث لا تسمع كلامه قال: اللهم إنهما شهادتان.

قال: فلما مضى حولان أتت المرأة فقالت: قد أرضعته حولين، فطهرني يا أمير المؤمنين.

فتجاهل عليها وقال: أطهرك مماذا؟!

فقالت: إني زنيت فطهرني.

قال: وذات بعل أنت إذ فعلت ما فعلت؟!

فقالت: نعم.

قال: وبعلك غائب عنك إذ فعلت ما فعلت، أو حاضر؟!

قالت: بل حاضر؟!

قال: فانطلقي فاكفليه حتى يعقل أن يأكل ويشرب، ولا يتردى من سطح، ولا يتهور في بئر.

قال: فانصرفت وهي تبكي.

فلما ولت فصارت حيث لا تسمع كلامه قال: اللهم إنها ثلاث شهادات.

قال: فاستقبلها عمرو بن حريث المخزومي، فقال لها: ما يبكيك يا أمة الله وقد رأيتك تختلفين إلى علي تسألينه أن يطهرك؟!

فقالت: إني أتيت أمير المؤمنين «عليه السلام»، فسألته أن يطهرني، فقال: اكفلي ولدك حتى يعقل أن يأكل ويشرب، ولا يتردى من سطح، ولا يتهور في بئر. وقد خفت أن يأتي علي الموت ولم يطهرني.

فقال لها عمرو بن حريث: ارجعي إليه فأنا أكفله.

فرجعت، فأخبرت أمير المؤمنين «عليه السلام» بقول عمرو، فقال لها أمير المؤمنين «عليه السلام» ـ وهو متجاهل عليها ـ: ولم يكفل عمرو ولدك؟!

فقالت: يا أمير المؤمنين إني زنيت فطهرني.

فقال: وذات بعل أنت إذ فعلت ما فعلت؟!

قالت: نعم.

قال: أفغائباً كان بعلك إذ فعلت ما فعلت، أم حاضراً؟!

فقالت: بل حاضراً.

قال: فرفع رأسه إلى السماء، وقال: اللهم إنه قد ثبت لك عليها أربع شهادات، وإنك قد قلت لنبيك «صلى الله عليه وآله» فيما أخبرته به من دينك: يا محمد، من عطل حداً من حدودي فقد عاندني، وطلب بذلك مضادتي. اللهم فإني غير معطل حدودك ولا طالب مضادتك، ولا مضيع لأحكامك، بل مطيع لك، ومتبع سنة نبيك «صلى الله عليه وآله».

قال: فنظر إليه عمرو بن حريث، وكأنما الرمان يفقأ في وجهه، فلما رأى ذلك عمرو. قال: يا أمير المؤمنين، إنني إنما أردت أكفله إذ ظننت أنك تحب ذلك. فأما إذا كرهته فإني لست أفعل.

فقال أمير المؤمنين «عليه السلام»: أبعد أربع شهادات بالله؟!

لتكفلنه وأنت صاغر.

فصعد أمير المؤمنين «عليه السلام» المنبر فقال : يا قنبر، ناد في الناس الصلاة جامعة.

فنادى قنبر في الناس، فاجتمعوا حتى غص المسجد بأهله، وقام أمير المؤمنين «صلوات الله عليه»، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

أيها الناس، إن إمامكم خارج بهذه المرأة إلى هذا الظهر ليقيم عليها الحد إن شاء الله، فعزم عليكم أمير المؤمنين لما خرجتم وأنتم متنكرون، ومعكم أحجاركم، لا يتعرف أحد منكم إلى أحد حتى تنصرفوا إلى منازلكم إن شاء الله.

قال: ثم نزل.

فلما أصبح الناس بكرة خرج بالمرأة وخرج الناس متنكرين متلثمين بعمايمهم وبأرديتهم، والحجارة في أرديتهم وفي أكمامهم، حتى انتهى بها والناس معه إلى الظهر بالكوفة، فأمر أن يحفر لها حفيرة، ثم دفنها فيها. ثم ركب بغلته وأثبت رجليه في غرز الركاب. ثم وضع إصبعيه السبابتين في أذنيه. ثم نادى بأعلى صوته:

يا أيها الناس، إن الله تبارك وتعالى عهد إلى نبيه «صلى الله عليه وآله» عهداً عهده محمد «صلى الله عليه وآله» إليَّ بأنه لا يقيم الحد من لله عليه حد، فمن كان عليه حد مثل ما عليها فلا يقيم عليها الحد.

قال: فانصرف الناس يومئذ كلهم ما خلا أمير المؤمنين «عليه السلام» والحسن والحسين «عليهما السلام»، فأقام هؤلاء الثلاثة عليها الحد يومئذ وما معهم غيرهم([2]).

ونقول:

لا بأس بملاحظة ما يلي:

ملاحظة إسنادية:

قال التستري معلقاً على هذه الرواية الأخيرة:

وروياه بأسنادهما عن أحمد بن محمد، عن محمد بن خالد، عن خلف بن حماد، عن الصادق «عليه السلام»، لكن في نسخة من الكافي أحمد بن محمد بن خالد، بدل أحمد بن محمد عن ابن خالد، وفي نسخة من التهذيب عن خالد بن حماد، بدل عن خلف بن حماد، وكلاهما تصحيف.

ورواه الصدوق مرفوعاً([3]).

آية التطهير:

إن هذا الحديث خصوصاً حديث المعترفة بالزنا يقدم دليلاً حياً على أن آية التطهير تتجلى في أهل البيت «عليهم السلام» دون سواهم، وفق ما أكده حديث الكساء الشريف..

الإقرار البغيض:

إننا حين نراقب أعمال الذين يتولون التحقيقات مع أهل المعاصي في أيامنا هذه نجد أن لهم طريقة واحدة، يستعملونها في جميع الحالات، ومع سائر المذنبين، ولا يفرقون بين ما هو من حقوق الله، وما هو من حقوق الناس، ولا بين ما هو من موارد القصاص، وما هو من موارد الحدود، أو التعزيرات..

فهم يستعملون العنف ضد المتهم أيّاً كان نوع تهمته قبل إثبات الجرم عليه.. كما أنهم يتحايلون عليه ويتقلبون معه ظهراً لبطن، ويستفيدون من جميع وسائل الخداع لإيقاعه في شرك الاعتراف.

ولكن علياً «عليه السلام» يفرق بشكل كبير بين ما كان من حقوق الله، وما كان من حقوق الناس.

كما أنه «عليه السلام» لا يمارس أي نوع من أنواع العنف مع المتهمين، إلا في حالات استثنائية، كذلك المورد الذي جاءت الدلالة فيه على المجرم من قبل الله تعالى، فإنه في هذه الحال إن عجز عن انتزاع الإقرار يلجأ إلى التهديد بالمقدار المؤثر، كما حصل في قضية تهديده المرأة التي كانت تحمل رسالة حاطب بن أبي بلتعة إلى مشركي قريش، يخبرهم فيها عن تحركات الرسول تجاه مكة، فأخبر الله رسوله بذلك، فأرسل علياً «عليه السلام» ليعترض طريقها، ويأخذ الرسالة منها.

أما في موارد الإقرار بحقوق الله الموجبة للحدود كالزنا ونحوه. فتراه «عليه السلام» مهتماً بصرف المقر عن إقراره، وهو يضع أمامه العقبة تلو الأخرى، ليمنعه منه..

وهذه الواقعة خير شاهد على ما نقول. فإنه «عليه السلام» لم يدع وسيلة يمكن أن يثني بها ذلك الرجل وتلك المرأة عن مواصلة أقاريرهما إلا واستفاد منها.. وهذا يعطينا درساً في التعامل في أمثال هذه الأمور، ويجعلنا أمام خطأ جسيم يرتكب مع أهل المعاصي، فليلاحظ ذلك.

لا يسأل عن الطرف الآخر:

واللافت أيضاً: أنه «عليه السلام» في جميع ما عرض عليه من قضايا ترتبط بحدود الله تعالى، ورغم كثرتها لم نجده. ولو مرة واحدة سأل عن الطرف الآخر، أي أنه لم يسأل هذا المقر ولا سأل غيره عن المرأة التي زنى بها، ولم يسأل المرأة عن ذلك الذي زنا بها أيضاً، بل ستر عليه وعليها، وصرف النظر عنهما، لأن ذكر هذا المعترف أو تلك المعترفة بالزنا للطرف الآخر لا يثبت عليه شيئاً، بل يبقى مجرد تهمة، وتشويه سمعة. ولم يكن «عليه السلام» ليدخل هذه المداخل المبغوضة للشارع، بل هو يستر من ستره الله. ويكتفي بمقدار الضرورة في أمثال هذه المقامات.

إعراض علي :

ثم إن ما نود الإشارة إليه في هذه الواقعة هو إعراض أمير المؤمنين «عليه السلام» عن ذلك المعترف، بمجرد سماعه منه ما سمع.

فهل أعرض عنه استفظاعاً لذنبه، وكأنه لا يريد أن ينظر في وجه من يرتكب مثل هذه المعصية؟!

أو أعرض عنه احتقاراً له؟!

أو أعرض عنه، لأن عقوبة أمثاله مقررة شرعاً، ولا يريد أن يضيف إليها ذل المذنبين، وشعورهم بالحقارة والصغار أمام نظرات الأخيار والأطهار، ليكون هذا التصرف من مفردات الرفق بهذا المذنب الذي استحقه بخلوص نيته في طلب الطهارة، وظهور توبته من هذا الذنب؟!

أم أراد شيئاً آخر لم تهتد إليه عقولنا؟!

ستر الإنسان على نفسه:

لقد أظهرت كلمات أمير المؤمنين «عليه السلام»: أنه قد كان بوسع ذلك الرجل أن يستر على نفسه كما ستر الله عليه..

ولكن ذلك الرجل عجز عن ذلك أمام عظمة من عصاه، وآلمه وخز الضمير، ولعله كان يخشى أن يكون حبه لنفسه هو الذي يغريه بالتخلص من عقوبة الدنيا، وأن هذا المقدار من التوبة المشوبة بحب الذات لا يكفي لدفع عقاب الآخرة، فلذلك عاد وطلب من أمير المؤمنين «عليه السلام» أن يطهره.

وأي طهارة أفضل من التوبة:

وقد ترقى «عليه السلام» مع ذلك الرجل في البيان، والترغيب بالإكتفاء بالتوبة حين أخبره أن التوبة هي أفضل أنواع الطهارة.

وكان «عليه السلام» قد سأله عن الدافع له إلى طلب الطهارة، فلو أنه قال: أحببت التخلص من متاعب الحياة مثلاً، لكان «عليه السلام» قد وجد في ذلك ما يصلح لإسقاط إقراره عن درجة الإعتبار، ويدرأ به الحد عنه..

ولكن جوابه كان سليماً وقويماً، ولا يعطي أية ذريعة لمنع نفوذ إقراره.

إختبار ميداني:

ويتشاغل أمير المؤمنين «عليه السلام» عن ذلك الرجل عله يبدو له أنه ينصرف.، ولكنه عاد للمرة الثالثة ليعترف بالزنا، ويطلب التطهير.

1 ـ فبادر «عليه السلام» إلى إجراء اختبار عملي مباشر، ليظهر بصورة فعلية مدى سلامته العقلية، وسيطرته على نفسه، وانتظام مشاعره، وحواسه الظاهرة والباطنة في عملها، وفي أدائها.

فبدأ بإمتحان الذاكرة، فطلب منه أن يقرأ شيئاً مما يحفظه من القرآن.. فلعله ينسى، أو يظهر عليه بعض الشرود والضياع وعدم التركيز..

فتأتي النتائج دالة على سلامة الذاكرة، والسيطرة على مخزوناتها الذهنية، وانتظام عملها.

2 ـ فعدل عن الذاكرة ليختبره في سلامة ثقافته، وتدبره فيها، وتمييزه بين حالاتها وأحكامها، فسأله إن كان يعرف ما يلزمه من حقوق الله تعالى، من صلاته وزكاته، ثم امتحنه فيها.. ولم يجد في إجابته ما يفسح المجال للتعليل بجهله بالأحكام التي يلزمه رعايتها، أو وقوعه في شبهة فيها، قد تؤسس لدرء الحد عنه في المورد الذي هو بصدده.

3 ـ ثم سأله إن كان يعاني من مشكلات صحية، أو من آلام تؤثر على حالة التوازن لديه، فإن طول المرض قد يدعو الإنسان إلى السَّأم، ثم إلى المغامرة للتخلص من معاناة أعراضه، كما أن شدة الألم، قد تدفع إلى السعي للتخلص منه، ولو بالمجازفة بالحياة..

4 ـ وإذا كان الألم في الرأس، فإنه قد يؤثر على سلامة التفكير، ويتسبب باتخاذ قرارات متسرعة وخاطئة، فإن آلام الرأس تختلف في مناشئها وفي آثارها.

5 ـ وسأله أيضاً إن كان يجد غماً في صدره، ليكتشف بذلك حالته النفسية، فلعله يعاني من اكتئاب، أو من حالة تشاؤمية، أو ما يشبهها دعته إلى زج نفسه في هذا المأزق.

فاذهب حتى نسأل عنك:

وبعد أن لم يجد «عليه السلام» أي مبرر لإبعاد شبح العقوبة عن ذلك الرجل، أعطاه الفرصة الأخيرة التي أراد أن يكون فيها أكثر تشدداً في إظهار الرغبة في درء الحد عنه، ولذلك قال له أولاً: ويحك، ليدله بذلك على شدة تضايقه «عليه السلام» من إصراره على مواجهة العقوبة، وهي كلمة زجر ولوم، وإظهار شدة الكراهة للحالة التي هو فيها.

ثم إنه «عليه السلام» أعطاه فرصاً عديدة:

إحداها: إعطاؤه فسحة للتفكير والتأمل بهدوء فيما سمعه، وشاهده، وشعر به من رغبة أمير المؤمنين «عليه السلام» بأن يجنب نفسه، ما هو مقدم عليه.

الثانية: إنه يريد أن يسأل عن حال ذلك الرجل من أصحابه وجيرانه، أو من يعرفه عله يجد مبرراً يدفع به عنه هذا البلاء.

الثالثة: إنه قد شجعه على أن يذهب عنه ولا يعود إليه، حيث قال له: فإن لم تعد إلينا لم نطلبك، فإنه إذا ضم هذا القرار إلى قوله: «ويحك»، وإلى سائر تصرفاته معه، فسيجد أنه «عليه السلام» كان لا يرغب بعودته إليه.

لو لم تأتنا لم نطلبك:

وقد سأل عنه أمير المؤمنين «عليه السلام»، فلم يجد له ما يعطيه أية فرصة للإفلات من العقوبة سوى أن لا يقر بالذنب للمرة الرابعة.

ولكن ذلك الرجل قد عاد ليعترف للمرة الرابعة، وتظهر هنا مرة أخرى تلك الرغبة التي كانت لدى أمير المؤمنين «عليه السلام» بالعثور على مبرر إعفائه، والتي لم يتمكن من تلبيتها حين قال له:

«لو لم تأتنا لم نطلبك، ولسنا بتاركيك إذا لزمك حكم الله».

لماذا طلب منهم التنكر؟!:

وأما لماذا أراد «عليه السلام» من الناس: أن يأتوه ملثمين، وقبل إسفار الصبح، فلأنه أراد:

أولاً: أن لا يعرف الناس بعضهم بعضاً. لأنه لا يريد أن يتميز من ارتكب مثل هذا الذنب من غيره، ولأن الناس إذا عرفوا من لم يرتكب هذا الذنب، فإنهم سيعرفون من عداهم، وهو يريد الستر على الجميع، لأن الله تعالى يحب ويريد ذلك.

ثانياً: إن إبعاد من كان منهم قد ارتكب مثل هذا الذنب، سيضعه أمام ضميره ووجدانه، وسيعرِّفه أنه ليس بأفضل من ذلك الرجل الذي يقام عليه الحد، بل سيرى: أن ذلك المحدود هو الأفضل، والأقرب إلى الله تعالى، والأصدق مع نفسه، وسيرى أن عليه أن يعيد النظر في كل أحواله، وسيرته وتصرفاته، وفي علاقته مع الله، وفي نظرته للناس، وتعامله معهم..

لماذا قبل إسفار الصبح؟!:

ثم علل «عليه السلام» أمره للناس بأن يأتوا بغلس قبل إسفار الصبح بقوله: فإننا لا ننظر في وجه رجل ونحن نرجمه بالحجارة..

فدل ذلك على رجحان عدم النظر في وجه المرجوم حين رجمه. وقد أورد الكلام بصيغة المتكلم مع غيره، حيث قال: فإننا لا ننظر إلخ.. ولم يقل ولا تنظروا، ولعله من أجل أن يكون كلامه بمثابة القاعدة التي يريد لها أن تشيع وتنتشر، ويعمل بها..

كما أنه قد ألمح لهم: أن علياً «عليه السلام» وأفراداً قليلين هم الذين سيتولون رجم ذلك الرجل، أما الآخرون، فسينصرفون حين يعرفون شرط مشاركتهم في هذا الأمر..

لماذا أرجع المذنبين؟!:

وأخيراً.. فإنه عليه حين حضر الناس قبل إسفار الصبح، طلب من الذين في جنبهم حد كالحد الذي يريد إجراءه على ذلك الرجل أن ينصرفوا، ولا يشاركوا في رجم ذلك الرجل.. ثم قرر «عليه السلام» قاعدة أخرى لهم ولنا حين قال:

نشدت الله رجلاً منكم لله عليه مثل هذا الحق أن يأخذ لله به. فإنه لا يأخذ لله تعالى بحق من يطلبه الله بمثله..

فينبغي مراعاة ذلك كله في إجراء الحدود، وليكون الإجتماع لإجرائها حافزاً على التوبة، والطاعة، ولا يكون الإجتماع لأجل التفرج، والشماتة، والتفكه، والتلذذ بآلام الآخرين..

رجم المعترفة بالزنا:

روى الصدوق بإسناده عن يونس بن يعقوب، عن أبي مريم، عن أبي جعفر «عليه السلام»، قال: أتت امرأة إلى أمير المؤمنين «عليه السلام»، فقالت: إني قد فجرت.

فأعرض بوجهه عنها.

فتحولت حتى استقبلت وجهه، فقالت: إني قد فجرت.

فأعرض عنها.

ثم استقبلته، فقالت: إني قد فجرت.

فأعرض عنها.

ثم استقبلته، فقالت: إني قد فجرت.

فأمر بها فحبست، وكانت حاملاً، فتربص بها حتى وضعت، ثم أمر بها بعد ذلك، فحفر لها حفيرة في الرحبة، وخاط عليها ثوباً جديداً، وأدخلها الحفيرة إلى الحقو، وموضع الثديين، وأغلق باب الرحبة، ورماها بحجر، وقال:

بسم الله، اللهم على تصديق كتابك، وسنة نبيك.

ثم أمر قنبر فرماها بحجر، ثم دخل منزله، ثم قال: يا قنبر، إئذن لأصحاب محمد.

فدخلوا، فرموها بحجر حجر.

ثم قاموا لا يدرون، أيعيدون حجارتهم، أو يرمون بحجارة غيرها، وبها رمق.

فقالوا: يا قنبر، أخبره أنا قد رمينا بحجارتنا وبها رمق، فكيف نصنع؟!

فقال: عودوا في حجارتكم.

فعادوا حتى قضت، فقالوا: قد ماتت، فكيف نصنع بها؟!

قال: فادفعوها إلى أوليائها، ومروهم أن يصنعوا بها كما يصنعون بموتاهم([4]).

ونقول:

إن لنا بعض الإيضاحات هنا، وهي التالية:

لزوم إرضاع الطفل اللباء:

قالوا: إنه «عليه السلام» لا بد ان يكون قد أمرها بإرضاع الطفل اللباء، الذي قيل: إن الطفل لا يعيش بدونه، لأنها ذكرت: أن تلك المرأة قد رجمت بعد وضعها الحمل. ولم تشر إلى الإرضاع أصلاً، ربما لأنه لم يستغرق وقتاً يستحق الذكر.

الرواية معتبرة:

قيل: إن الرواية غير معتبرة، لأن أبا مريم مشترك بين الأنصاري، وهو ثقة، وبين بكر بن حبيب، [الذي لم تثبت وثاقته]،

ويجاب:

بأن يونس بن يعقوب يروي عن أبي مريم الأنصاري لا الكوفي.

كما أن المعروف بين الرواة هو أبو مريم الأنصاري أيضاً، فإذا أطلق هذا اللفظ انصرف إليه..

لعل المراد: إرضاع حولين كاملين:

ولعلك تقول: إن معتبرة الأصبغ بن نباتة تقول: إنه «عليه السلام» أمر المعترفة بالزنا بأن ترضع ولدها حولين كاملين.. فلتكن قرينة على أن المراد بالإرضاع في هذه الرواية هو إرضاع حولين كاملين، لا خصوص اللباء.

ويجاب:

بأنه إنما أمر تلك المرأة بذلك، أي بالإرضاع قبل إقرارها أربع مرات، أي قبل ثبوت الزنا عليها..

وهذه الرواية صرحت: بإقرار هذه المرأة أربع مرات، ولا يؤخّر الحد في مثل هذا الحال إلا لحفظ الولد.. فلعل حفظ الولد لا يحتاج إليها، فلذلك بادر إلى رجمها، وهذا ما صرحت به الرواية التالية:

فقد روي: أنه «عليه السلام» قال لعمر في حامل زنت: «فإذا ولدت، ووجدت لولدها من يكفله، فأقم الحد عليها..»([5]).

تكريم المعترفة بالزنا:

1 ـ ذكرت الرواية: أنه «عليه السلام» حفر لتلك المرأة في الرحبة، وخاط عليها ثوباً جديداً.

فلعل خياطة هذا الثوب الجديد كان تكريماً لها، لأنه «عليه السلام» عرف صدق توبتها، وسلامة طويتها حين اعترفت بهذا الأمر، وأنها آثرت عذاب الدنيا على عذاب الآخرة، وآثرت طاعة الله ورضاه على غضبه وعذابه.

وقد رأينا: أنه «عليه السلام» زاد في رعايته لجانبها حين أغلق باب الرحبة، ولعله أراد أن يفهم الناس أن المطلوب هو الستر عليها، والاعتبار بحالها، وليس التشفي والشماتة بها.

2 ـ ثم زاد في إظهار تكريمه أنه لم يأذن برجمها إلا لصحابة رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ولم يأذن للرعاع بالمشاركة في ذلك، أو حتى بالحضور.

الصحابة لا يدرون ما يصنعون:

أظهر هذا الإجراء منه «عليه السلام»: أنه حتى صحابة الرسول لم يدروا ما يصنعون حين رأوا أنها لم تمت بأحجارهم، بل بقي فيها رمق..

فما بالك بمدى معرفتهم بسائر الأحكام ولا سيما ما كان فيه غموض وإبهام؟!

والقول: بأنهم قد التزموا بحرفية أوامره «عليه السلام» برميها، ظناً منهم: أن له تدبيراً خاصاً يريد أن يمضيه فيها، فلما انتفى لديهم احتمال ذلك أقبلوا على إتمام مهمتهم..

إن هذا القول غير دقيق، فإنه «عليه السلام» قد اكتفى بقوله لقنبر: ائذن لأصحاب محمد، ولم يزد على ذلك.

والحقيقة: هي أن الصحابة لم يدروا هل لهم الحق في استعمال أحجار أخرى غير الأحجار التي في حوزتهم، أو أن عليهم أن يقتصروا عليها فيعيدون رجمها بخصوص هذه الأحجار التي رموها بها أولاً..

مع العلم: بأنهم قد شهدوا رجم الزاني والزانية في عهد رسول الله «صلى الله عليه وآله» وبعده مرات كثيرة.

جلدها بالكتاب، ورجمها بالسنة:

سئل الشعبي: هل رأيت أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام»؟!

قال: رأيته أبيض الرأس واللحية.

قيل: فهل تذكر عنه شيئاً؟!

قال: نعم.. أذكر أنه جلد شراحة [سراجة] يوم الخميس، ورجمها يوم الجمعة.

فقال: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بسنة رسول الله «صلى الله عليه وآله»([6]).

عن عبد الله، قال: ما رأيت رجلاً قط أشد رمية من علي بن أبي طالب رضي الله عنه، أتي بامرأة من همدان، يقال لها: شراحه، فجلدها مائة، ثم أمر برجمها، فأخذ علي آجرَّة فرماها بها، فما أخطأ أصل إذنها منها، فصرعها، فرجمها الناس حتى قتلوها، ثم قال: جلدتها بكتاب الله تعالى، ورجمتها بالسنة([7]).

قال الحاكم: هذا حديث صحيح الاسناد ولم يخرجاه([8]).

ونقول:

روايتان أم رواية واحدة؟!:

لا ندري إن كانت هذه الرواية هي نفس الرواية التي تقول: قضى علي «عليه السلام» في امرأة زنت، فحبلت، فقتلت ولدها سراً، فأمر بها «عليه السلام» فجلدها مئة جلدة، ثم رجمت. وكانت أول من رجمها([9]).

تعارض الرواياتن والجمع بينها:

ولا يعارض هذا ما روي عن يونس، عن إبان، عن أبي العباس، عن أبي عبد الله «عليه السلام»، قال:

رجم رسول الله صلى الله عليه وآله، ولم يجلد.

وذكروا عن زرارة: أن علياً «عليه السلام» رجم بالكوفة وجلد.

فأنكر ذلك أبو عبد الله «عليه السلام» وقال: ما نعرف هذا. أي لم يحد رجلاً حدين: جلد ورجم في ذنب واحد([10]).

أي وكذلك الحال بالنسبة للنبي «صلى الله عليه وآله»، فإنه لم يجمع بين الجلد والرجم لمجرد زنا المحصن.

وحديث الجمع بين الرجم والجلد لعله للزنا وهي محصن، ثم لقتلها ولدها.

ولكن قوله «عليه السلام»: جلدتها بكتاب الله، ورجمتها بالسنة لا ينسجم مع هذا التوجيه كما هو ظاهر. بل هو يناقضه ويعاكسه.

فإن ثبت ذلك، فلعله «عليه السلام» قد جلدها لزنا صدر منها قبل زواجها، ثم رجمها لزنا آخر صدر منها بعد ذلك وهي محصن.

وقد حاول بعض العلماء حل الإشكال بحمل الحديث المروي عن زرارة على أنه «عليه السلام» قد جلد ورجم في البصرة، أو غيرها من البلاد سوى الكوفة. أو يحمل على التقية([11]).

ويمكن أن يقال: لعل المراد: أنه «عليه السلام» قد حكم على تلك المرأة بالجلد ثم بالرجم في عهد أحد الخلفاء الذين سبقوه، لا في أيام خلافته، ويكون المراد بقول الإمام الصادق «عليه السلام»: «ما نعرف هذا». أن جمع الرجم والجلد لم يكونا في أيام خلافته «عليه السلام»..

المراد بالجلد بالكتاب:

إن المراد بالجلد بالكتاب، هو الإستناد إلى قوله تعالى: ﴿فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مِئَةَ جَلْدَةٍ([12]). أما الرجم، فقد روي في السنة: أن الزاني المحصن يجلد أيضاً..

لا يحد معترفاً باللواط:

عن الإمام جعفر الصادق «عليه السلام» قال: بينا أمير المؤمنين علي «عليه السلام» في ملأٍ من أصحابه، إذ جاءه رجل فقال: إني أوقبت على غلام، فجئت إليك أسألك أن تطهرني يا أمير المؤمنين.

إلى أن تقول الرواية:

فقال له: يا هذا عد إلى منزلك، فلعل سوء مزاجك هاج بك، فأوقعك في هذا البلاء المبين. فرجع إلى منزله كما أمر.

ولكنه ما لبث أن عاد إلى أمير المؤمنين يطلب إليه أن يطهره.

فقال له «عليه السلام»: يا هذا إن تطهيرك مما اقترفته يقتضي أحد أمور ثلاثة:

أن يضرب عنقك بالسيف ضربة، بالغة ما بلغت.

أو أن تقذف من شاهق جبل، مشدود اليدين والرجلين.

أو أن تحرق بالنار.

فاختر أيهن شئت..

ولم يشأ الرجل أن يختار حتى أقبل على أمير المؤمنين يسأله: أي الثلاثة أبلغ أذى، وأشد إيلاماً يا أمير المؤمنين؟!

فأجابه «عليه السلام»: الحرق بالنار هو الأبلغ الأشد.

فقال الرجل: فإني قد أخذت هذا على ما سواه، فطهرني به رضي الله عنك.

فأجابه أمير المؤمنين: خذ لذلك أهبتك واستعد.

ولم تكن أهبة الرجل إلا أن يفزع إلى الصلاة، فقام فصلى ركعتين، ثم جلس في تشهده يدعو الله ويقول: اللهم إني قد أتيت من الذنب ما قد علمت، وقد جئت إلى [وصي رسولك و] ابن عم نبيك، أسأله أن يطهرني، فخيرني بين ثلاث شدائد، فاخترت أشدها: الإحراق بالنار، اللهم إني أسألك أن تجعل ذلك كفارة لذنبي، وألا تحرقني بنار الآخرة.

ثم قام يبكي حتى جلس في الحفرة التي حفروها له، وهو يرى النار تتأجج.

ولم يتمالك أمير المؤمنين «عليه السلام» أن بكى، وبكى معه أصحابه جميعاً، ثم قال للرجل: يا هذا، إنك أبكيت ملائكة الله في سمائه وأرضه، وإني أرى بذلك لك توبة، فقم وإياك أن تعاود شيئاً مما فعلت، والله غفور رحيم([13]).

ونقول:

إن لنا هنا وقفات عديدة، هي التالية:

العرب لا يعرفون اللواط:

لقد حاول بعضهم أن يدعي: أن علياً «عليه السلام» قد دهش لهذا الأمر الشنيع، ثم علل ذلك بقوله:

«إن العرب لم تكن تعرف هذا اللون الفاحش من الشذوذ في إرواء الشهوات الحيوانية، حتى إنهم لم يضعوا له كلمة تعبر عنه في لغتهم العربية الشريفة، كما وضعوا للمفاحشة بين الرجل والمرأة كلمة «الزنا»، وللمفاحشة بين المرأة والمرأة كلمة «السحاق».

فإذا ما أرادوا التعبير عن المفاحشة بين الذكور، استخدموا كلمة «اللواط»، يأخذونها عن قوم لوط «عليه السلام». وقد كانوا لعنهم الله أول اللذين ابتكروا هذه الفاحشة، لم يسبقهم إليها أحد من العالمين»([14]).

وهذا الكلام غير مقبول لأسباب كثيرة، نذكر منها ما يلي:

أولاً: إن اللواط هو «الالتصاق». ولاط الشيء أخفاه، وفي الأمر لوطاً ألحَّ فلماذا لا تكون هذه الكلمة كلمة اللواط مأخوذة من هذه المعاني.

كما أن السحاق قد أخذ من معانٍ لها دلالات أخرى، طبقت على المساحقة بالمعنى الخاص، فقالوا امرأة سحاقة: نعت سوء، وهي الضخمة التي طال ثدياها، وتدليا([15])، وسحقه سحقاً دقه أشد الدق، وسحقت الريح الأرض قشرت وجهها بشدة هبوبها.

وكلمة «الفحش» معناها تجاوز الحد، والقبيح، والكثير الغالب، فيكون استعمالها في الزنا وأمثاله للمناسبة الظاهرة بين الزنا وبين هذه المعاني.

ثانياً: لماذا وكيف شاع السحق بين نساء العرب، ولم يشع اللواط فيهم؟! ولماذا التحكم في إصدار هذه الأحكام؟!

ثالثاً: إذا كان اللواط لم يعرف في العرب قبل قوم لوط، فما الدليل على أنه لم يعرف فيهم بعد قوم لوط؟!

ولماذا يريد تصوير هذه الحادثة، وكأنها هي الحادثة الوحيدة التي سمع بها علي «عليه السلام»، أو حدثت في زمانه..

رابعاً: من الذي قال لهذا الرجل: إن دهشة علي «عليه السلام» كانت بسبب عدم شيوع هذا الأمر في العرب؟! ولم لا تكون لأجل استفظاع صدور هذا الأمر الشنيع، ولأجل جرأة هؤلاء الناس على الله في مثل هذه العظائم؟!

خامساً: إن الأحداث التي تضمنت حصول هذا الأمر الشنيع وإجراء العقوبات على الفاعلين كثيرة. فليراجع هذا القائل ما ورد من ذلك، مما كان في زمن الرسول، ثم في عهد أبي بكر وعثمان، وعلي «عليه السلام»، وهلم جرا.

وقد حفلت كتب الحديث عند أهل السنة والشيعة بالكثير من الموارد التي ذكرت هذا الأمر، فراجع تلك الكتب، لا سيما وهم يتحدثون عن الحدود التي كانت تقام على من يفعل هذه الفاحشة..

سادساً: كان في الجاهلية أشخاص عرفوا بالأبنة، ومنهم أبو جهل، الذي عيره بهذا الأمر عتبة بن ربيعة، فقال: يا مصفر استه([16]).

عذاب الضمير:

إن الذي دعا ذلك الرجل إلى الاعتراف بذنبه هو: تأنيب ضميره، ويقظة وجدانه بعد سبات. وكانت تكفية التوبة النصوح ليعفو الله تعالى عن ذنبه، من دون أن يعرض نفسه للفضيحة والعقوبة في الدنيا.. ولكن خوفه من عذاب الآخرة، وعدم شعوره بالأمن أفقده الرضا بمجرد التوبة. ربما لأنه كان يتهم نفسه بأنها تخضع لوسوسة الشيطان، الذي يزين لها حب السلامة من الفضيحة والعقاب، فتدعوه إلى الاكتفاء بالتوبة.

لماذا التأجيل؟!:

ويبقى سؤال يقول: لماذا يسعى علي «عليه السلام» إلى تشكيك ذلك الرجل، ويذكر له وجوهاً، ويؤجله بطريقة إرجاعه إلى منزله، ويكرر  ذلك إلى أن يقر أربع مرات بمحض إرادته؟!

ونقول في الجواب:

إنه «عليه السلام» يريد أن يزيل أية شبهة أو احتمال قد يراود الذهن في حق من يقر بهذا الأمر الشنيع.. إذ ربما يحتمل البعض: أن إقدام هذا الرجل على الإقرار في المرة الأولى قد كان لصدمة قوية تعرض لها ذلك الرجل. فأخرجته عن حالة التوازن، وأفقدته القدرة على التفكير الصحيح، وعلى اتخاذ القرار المناسب، ولعله لو واجه العقوبة في تلك اللحظة لكان ضحية هذا التوتر الذي أخرجه عن حدود المعقول..

وربما يراوده احتمال أن يكونوا قد أخذوه بأمر كان هو قد بالغ في تضخيمه، ولم يكن الأمر قد بلغ إلى الحد الذي يستحق فيه هذا الذي يواجهه بالفعل..

وربما يوسوس له الشيطان بالنقمة على الدين وأهله. وبذلك يكون قد خسر نفسه، ودينه، ودنياه وآخرته..

ولأجل ذلك رده «عليه السلام» مذكراً إياه بنفس هذه الاحتمالات التي ذكرناها، حيث قال له: فلعل مزاجك هاج بك، فأوقعك بهذا البلاء المبين..

ويعود ذلك الرجل إلى بيته، ثم يرجع مرة أخرى إلى علي «عليه السلام» طالباً منه تطهيره. ويبقى احتمال أن يكون لا يزال ذلك الشخص واقعاً تحت وطأة الأجواء الصعبة التي كان يواجهها.. ويعيده «عليه السلام» إلى بيته. وتمر اللحظات ثقيلة، وصعبة، وتهيج به الهواجس من جديد، فيعود إليه «عليه السلام»، طالباً منه أن يطهره..

وتتكرر المحاولة، ويتكرر الرد، فلما أقر على نفسه أربع مرات. كان لا بد من العقاب..

علي الوصي:

وقد لاحظنا: أن ذلك الرجل، يخاطب الله تعالى، ويقول: «وقد جئت إلى وصي رسولك، وابن عم نبيك».

فدل ذلك على أنه «رضوان الله تعالى عليه» من القائلين بإمامة أمير المؤمنين «عليه السلام».

وهذه هي سيرة محبي علي «عليه السلام»، فإنهم هم التائبون العابدون، وهم المعنيون بقوله تعالى: ﴿إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولَئِكَ يَتُوبُ اللهُ عَلَيْهِمْ وَكَانَ اللهُ عَلِيماً حَكِيماً([17]).

العفو عن التائب:

وقد عفا «عليه السلام» عن ذلك التائب إلى الله لأن له أن يعفو عن الذي يثبت عليه الحد بسبب الإقرار ، ولو أن الحد ثبت عليه بالبينة لم يعف عنه.


([1]) قضاء أمير المؤمنين «عليه السلام» للتستري (ط مؤسسة الأعلمي) ص27 و 28 ومن لا يحضره الفقيه ج4 ص31 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج28 ص38 و 56 و (ط دار الإسلامية) ج18 ص328 و 343 وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص302.

([2]) قضاء أمير المؤمنين «عليه السلام» للتستري (ط مؤسسة الأعلمي) ص28 ـ 30 والمحاسن للبرقي ج2 ص309 و 310 والكافي ج7 ص185 ـ 187 وتهذيب الأحـكـام ج10 ص9 ـ 11 ووسـائـل الشيعـة (ط مؤسسة آل البيت) ج28 = = ص103 ـ 105 و (ط دار الإسلامية) ج18 ص378 ـ 379 وبحار الأنوار ج40 ص290 ـ 292 وج76 ص45 وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص267.

([3]) قضاء أمير المؤمنين «عليه السلام» للتستري (ط مؤسسة الأعلمي ـ الطبعة العاشرة) ص30 و 31.

([4]) من لا يحضره الفقيه ج4 ص20 و (ط مؤسسة النشر الإسلامي) ج4 ص30 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج28 ص107 و (ط دار الإسلامية) ج18 ص380 وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص364 وموسوعة أحاديث أهل البيت «عليهم السلام» للنجفي ج3 ص393.

([5]) الإرشاد للمفيد ج1 ص204 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج28 ص108 و (ط دار الإسلامية) ج18 ص381 ومناقب آل أبي طالب (ط المكتبة الحيدرية) ج2 ص184 والمستجاد من الإرشاد (المجموعة) ص118 وبحار الأنوار ج40 ص251 وج76 ص49 ومستدرك سفينة البحار ج4 ص328 وعجائب أحكام أمير المؤمنين للسيد محسن الأمين ص56.

([6]) إحقاق الحق (الملحقات) ج32 ص173 والشريعة الإسلامية أصل أحكام القضاء ( ط دار الأقصر للكتاب ـ مصر) ص80 وغوالي اللآلي ج2 ص152 وج3 ص352 و 353 والسنن الكبرى للبيهقي ج8 ص220 وعمدة القاري ج23 ص291 وتحفة الأحوذي ج4 ص587 ومسند ابن الجعد ص87 وشرح معاني الآثار ج3 ص140 والمعجم الأوسط ج2 ص278 ومسند الشاميين ج4 ص69 وسنن الدارقطني ج3 ص95 وتاريخ مدينة دمشق ج22 ص117 وسير أعلام النبلاء ج4 ص318 وتاريخ الإسلام للذهبي ج7 ص131 ومستدرك الوسائل ج18 ص42 والمستدرك للحاكم ج4 ص364 والمجموع للنووي ج20 ص15 ونيل الأوطار ج7 ص249 وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص335 ومسند أحمد ج1 ص116 و 140 و 141 و153 .

([7]) المستدرك للحاكم ج4 ص365 وتلخيص المستدرك للذهبي (بهامش المستدرك) ج4 ص364.

([8]) المصدران السابقان.

([9]) الكافي ج7 ص261 ومن لا يحضره الفقيه ج4 ص38 والإستبصار ج4 ص201 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج28 ص65 و (ط دار الإسلامية) ج18 ص349 وتهذيب الأحكام ج10 ص5 والإستبصار ج4 ص201 ومستدرك الوسائل ج18 ص40 و 41 و 69 وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص389.

([10]) الكافي ج7 ص177 وتهذيب الأحكام ج10 ص6 والإستبصار ج4 ص202 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج28 ص62 و (ط دار الإسلامية) ج18 ص347 وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص332.

([11]) ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج28 ص63 و (ط دار الإسلامية) ج18 ص348.

([12]) الآية 2 من سورة النور.

([13]) الكافي ج7 ص201 ـ 202 وبحار الأنوار ج40 ص 295 ـ 296 وتهذيب الأحكام ج10 ص53 ـ 54 والإستبصار ج4 ص220 وإحقاق الحق (الملحقات) ج32 ص150 و 151 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج28 ص161 ـ 162 و (ط دار الإسلامية) ج18 ص423 وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص432 ـ 433 ومستدرك سفينة البحار ج9 ص284 ـ 285.

([14]) إحقاق الحق (الملحقات) ج32 ص150 و151 عن كتاب علي إمام المتقين للباقوري (ط مكتبة غريب) ج1 ص74.

([15]) أقرب الموارد ج1 ص500 .

([16]) اليقين لابن طاوس ص27 وبحار الأنوار ج19 ص224 وج34 ص95 وج41 ص333 ومستدرك سفينة البحار ج1 ص40 والإمام علي بن أبي طالب للهمداني ص758 ومسند أحمـد ج1 ص117 ومجمـع الزوائـد ج6 ص76 = = والمصنف لابن أبي شيبة ج8 ص473 والفايق في غريب الحديث ج2 ص288 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج7 ص280 وج14 ص124 وكنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج10 ص396 وتفسير مجمع البيان للطبرسي ج4 ص440 وتفسير الميزان ج9 ص28 وشواهد التنزيل ج1 ص510 وتاريخ مدينة دمشق ج38 ص241 و 249 و 254 وتاريخ الأمم والملوك ج2 ص134 وتاريخ الإسلام للذهبي ج2 ص89 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج3 ص339 والسيرة النبوية لابن كثير ج2 ص423 والنهاية في غريب الحديث ج3 ص36.

([17]) الآية 33 من سورة الأحزاب.

 

   
 
 

العودة إلى موقع الميزان