روي عن محمد بن الحسين، رفعه، قيل
لأمير المؤمنين:
إنك تزعم: أن شرب الخمر أشد من الزنا والسرقة؟!
فقال:
إن صاحب الزنا لعله لا يعدوه إلى غيره، وإن شارب الخمر
إذا شرب الخمر زنا وسرق، وقتل النفس التي حرم الله عز وجل، وترك الصلاة([1]).
ونقول:
إن هذا النص يبيِّن:
أنه حتى الأمور التي قد تلحق بالبديهيات عند أهل
البصيرة، والهداية الإلهية، يمكن أن يشتبه الأمر فيها على الناس. وأن
يقعوا فيها في الخطأ الفاحش، الذي يصل إلى حد قلب الأمور رأساً على
عقب.
وبذلك تختل المعايير، ويقع الناس في المحذور الكبير،
حيث سينتج هذا الخطأ المعياري خطأ في مجالات كثيرة، لها نوع ارتباط به..
إن هذا يدلنا على أنه لا غنى للمجتمع البشري عن الهادي
وعن الهداية الإلهية المتمثلة بالأشخاص الذين أراد تعالى أن يكون
الضمانة لسلامة المسار، وهم أعلام الهدى، ومصابيح الدجى..
وهذا ما أشار إليه سبحانه وتعالى في قوله:
﴿إِنَّمَا
أَنْتَ مُنْذِرٌ وَلِكُلِّ قَوْمٍ هَادٍ﴾([2]).
ولعل من المصاديق الظاهرة للآية:
الأئمة المعصومون بعد النبي «صلى الله عليه وآله».
إن هذا يسقط تلك الذرائع الواهية التي يتشبث بها بعض
أهل الأهواء، والتي تحولت عندهم إلى قيمة ومعيار وأساس للتعامل
والسلوك. والمتمثلة عندهم بلزوم إطلاق الحريات الفردية، والمنع من
تحديدها بحدود، وتقييدها بقيود.
فتراه يحتج للعب القمار، وللسفور، والعري في الأماكن
العامة، ولممارسة الكثير من المحرمات بحريته الفردية.
وحتى شرب الخمر، فإنهم اعتبروه أيضاً من مظاهر الحرية
الفردية، فلا يحق لأحد المنع منه أو الإعتراض عليه. أو لومه فيه.
مع أن هؤلاء أنفسهم يعرفون، ويعترفون بأن إطلاق الحرية،
وإلى هذا الحد هو بمثابة إطلاق حيوان كاسر ـ كالأسد والنمر والذئب ـ من
القفص على جماعة من الناس، دون أن يكون لدى أحد منهم ما يدفعه به عن
نفسه..
ولكن المفارقة هنا:
هي أنهم يمنعون كل الناس من إطلاق الحيوان الكاسر، الذي
لم يخرج عن طبائعه، بل هو يمارس فطرته، وخلقه، وينسجم مع نفسه، ويطلقون
الحرية لشارب الخمر، الذي يتحول بشربه الخمر إلى مخلوق آخر لا يشبه
الإنسان، بل هو إلى السباع أقرب. وبهم أشبه وأنسب، إن لم نقل أضل
سبيلاً، وأكثر همجية، وأشد عدوانية، وهم يصرون على حفظ حقوقه الإنسانية
له، مع أنه لم يعد إنساناً إلا في الشكل، فهو لا يشبهه، لا في أحواله،
ولا في تصرفاته، ولا في ميزاته. لأنه فقد عقله، الذي هو أغلى، وأخص
خصوصيات الإنسان. وفقد مشاعره وعواطفه الإنسانية، وبعض ما يشترك به مع
الحيوان.
إن هذا البيان العلوي، والمقارنة بين شرب الخمر والزنا
يسقط الحرية الفردية عن صلاحية اعتمادها كقيمة حقيقية في الحياة
الإنسانية..
أظهر النص المنقول عن أمير المؤمنين
«عليه السلام»
آنفاً تنوع الآثار السلبية لشرب الخمر، وبيَّن أنها تتعدى الفرد لتصبح
جريمة اجتماعية بحق الآخرين، لأن شرب الخمر يعرِّض للخطر الأخلاق
الشخصية، وأموال الناس، وأعراض الناس، وأرواحهم.
كما أنه يعرض علاقة الإنسان بربه إلى أشد الأخطار،
ويدعوه إلى قطعها، وإلى التمرد عليه سبحانه.
إن المطلوب للشارع الحكيم:
هو اقتلاع
مادة الفساد من الجذور، ولا يكتفي بالمعالجة الظاهرية. وتصريحه
«عليه
السلام»:
بأن الخمر أشد سوءاً من الزنا، وشيوع ذلك عنه، وبيانه لمنشأ قوله هذا
يدخل في هذا السياق الرامي إلى تعريف الناس بهذه الحقيقة، وإرشادهم إلى
أن المطلوب منهم هو التوجه نحو مناشئ الفساد، لاقتلاعها، والتخلص منها.
وأن لا يكتفوا بإجراءات سطحية، من دون الدخول إلى العمق، وسبر الأغوار.
إن ذلك السائل لأمير المؤمنين «عليه السلام» لم يكن ـ
فيما يبدو ـ من شيعته ومحبيه، ولذلك لم يراع معه قواعد الأدب حين قال
له: «إنك تزعم»..
بل لعل هذا التعبير قد قصد به الإيحاء، بأن صدور هذا
القول منه
«عليه السلام»
يعد منقصة له، ويبرر التشنيع عليه به.. وإذ به
«عليه السلام»
يجيبه بما يقطع كل عذر، ويزيل كل ريب، حيث تبيَّن أن ما قاله
«عليه السلام»
هو عين الصواب، وأنه يصل في وضوحه، وقرب مأخذه من درجة البداهة التي لا
يمكن المراء فيها..
قالوا:
كان النجاشي شاعر علي «عليه السلام» بصفين، فشرب الخمر بالكوفة، فحده
أمير المؤمنين «عليه السلام»، فغضب، ولحق بمعاوية، وهجا علياً «عليه
السلام»، فقد روي عن عوانة قال:
خرج النجاشي في أول يوم من رمضان، فمر بأبي سمّال
الأسدي، وهو قاعد بفناء داره، فقال له: أين تريد؟!
قال:
أريد الكناسة. (أي كناسة الكوفة).
قال:
هل لك في رؤوسٍ وأليات، قد وضعت في التنور من أول
الليل، فأصبحت قد أينعت وتهرأت؟!
قال:
ويحك، في أول يوم من رمضان؟!
قال:
دعنا مما لا نعرف.
قال:
ثم مه؟!
قال:
ثم أسقيك من شراب كالورس، يطيب النفس، ويجري في العرق،
ويزيد في الطرق، يهضم الطعام، ويسهل للفدم الكلام.
فنزل، فتغديا، ثم أتاه بنبيذٍ، فشرباه.
فلما كان آخر النهار علت أصواتهما، ولهما جار يتشيع من
أصحاب علي «عليه السلام»، فأتى علياً «عليه السلام» فأخبره بقصتهما،
فأرسل إليهما قوماً، فأحاطوا بالدار.
فأما أبو سمّال [فشق الخُصَّ، ونفذ إلى جيرانه فهرب]
فوثب إلى دور بني أسد فأفلت.
وأما النجاشي فأتوا به علياً «عليه السلام»،
فلما أصبح أقامه في سراويل، فضربه ثمانين ثم زاده عشرين
سوطاً [ثم حبسه ليلة حسب رواية الكليني «رحمه الله»]، فقال: يا أمير
المؤمنين [أما الحد فقد عرفته] فما هذه العلاوة التي لا تعرف؟!
قال:
لجرأتك على ربك، وإفطارك في شهر رمضان.
ثم
أقامه في سراويله [في تبان]، فجعل الصبيان يصيحون به:
خري النجاشي.
فجعل يقول:
كلا والله إنها يمانية [وكاؤها شَعْر]
ومر به هند بن عاصم السلولي، فطرح عليه مطرفاً، ثم جعل
الناس يمرون به، فيطرحون عليه المطارف، حتى اجتمعت عليه مطارف كثيرة
[قيل: أربعون مطرفاً]، ثم أنشأ يقول:
إذا الله حيـا صالحــاً من عبـــاده تـقـيـاً
فحيا الله هند بن عاصم
وكـل سـلـولي إذا مـا دعـوتــه سـريـع إلى داعـي العلـم
والمكارم
ثم لحق بمعاوية، وهجا علياً «عليه السلام» فقال:
ألا مــن مـبـلـغ عـنـي عليــاً بـأني قـد أمـنـت
فـلا أخـــاف
عـمـدت لمـسـتـقــر الحــق لمـا رأيـت قـضـيــةً فيـها
اختلاف([3])
وبعد وروده الشام، يقول أبو الزناد:
دخل النجاشي على معاوية، وقد أذن معاوية للناس عامة،
فقال لحاجبه: أدع النجاشي.
قال:
والنجاشي بين يديه، ولكن اقتحمته عينه.
فقال:
ها أنا ذا النجاشي بين يديك يا أمير المؤمنين، إن
الرجال ليست بأجسامها، إنما لك من الرجل أصغراه قلبه ولسانه.
قال:
ويحك أنت القائل:
ونجى ابن حربٍ سابح ذو علالة
أجـش هـزيــم والـرمـــاح دوان
إذا قلت: أطراف الرماح تنوشه مـرتـه لـه السـاقـان
والـقـدمـان
ثم ضرب بيده على ثديه وقال:
ويحك إنما مثلي لا تعدو به الخيل.
فقال:
[يا أمير المؤمنين] إني لم أقل هذا لك، إنما قلته لعتبة
بن أبي سفيان.
([4])
وقد هجا النجاشي أهل الكوفة لأجل ما جرى له، فقال:
إذا سقى الله قـومـاً صوب
غاديـة فـلا سـقى الله أهـل الكـوفة المطرا
التاركـين عــلى طهـر نسـاءهـم والناكحـين بشـطي دجلـة
البـقرا
والسـارقـين إذا ما جن ليلهـم والدارسـين إذا ما أصبحوا
السورا
وقال:
ضـربــوني ثـم قـالــوا:
قــــدر قـــدر الله لـهـم شـر الـقــدر([5])
وقالوا:
إن علياً «عليه السلام» لما حدَّ النجاشي غضب اليمانية،
فدخل طارق بن عبد الله عليه فقال: يا أمير المؤمنين، ما كنا نرى أن أهل
المعصية والطاعة، وأهل الفرقة والجماعة عند ولاة العدل، ومعادن الفضل
سيان في الجزاء، حتى رأينا ما كان من صنيعك بأخي الحارث، فأوغرت
صدورنا، وشتت أمورنا، وحملتنا على الجادة التي كنا نرى أنها سبيل من
ركب النار.
فقال علي «عليه السلام»: ﴿وَإِنَّهَا
لَكَبِيرَةٌ إِلَّا عَلَى الْخَاشِعِينَ﴾([6])
ـ يا أخا نهد ـ وهل هو إلا رجل من المسلمين، إنتهك حرمة
من حرم الله؟! أقمنا عليه حداً كان كفارته؟!
إن الله تعالى يقول:
﴿وَلَا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا
هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾([7]).
قال:
فخرج طارق من عند علي «عليه السلام» وهو مظهر بعذره،
قابل له([8]).
فلقيه الأشتر النخعي «رحمه الله»،
فقال:
يا طارق، أنت القائل لأمير المؤمنين: إنك أوغرت صدورنا،
وشتت أمورنا؟!
قال طارق:
نعم، أنا قائلها
قال له الأشتر:
والله ما ذاك كما قلت، وإن صدورنا له لسامعة، وإن
أمورنا له لجامعة.
قال:
فغضب طارق، وقال: ستعلم يا أشتر أنه غير ما قلت.
فلما جنه الليل همس هو والنجاشي إلى معاوية([9]).
فلما قدما عليه دخل آذنه، فأخبره بقدومهما، وعنده وجوه
أهل الشام، منهم: عمرو بن مرة الجهني، وعمرو بن صيفي، وغيرهما.
قال:
فدخلا عليه.
فلما نظر معاوية إليه قال:
مرحباً
بالمورق غصنه، المعرق أصله، المسود غير المسود، في أرومة لا ترام، ومحل
يقصر عنه الرامي، من رجل كانت منه هفوة ونبوة، باتباعه صاحب الفتنة،
ورأس الضلالة والشبهة. الذي أغرز في ركاب الفتنة حتى استوى على رحلها،
ثم أوجف في عشوة ظلمتها، وتيه ضلالتها، واتبعه رجرجة من الناس، وهنون
من الحثالة، أما والله ما لهم من أفئدة،
﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ
أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾([10]).
فقام طارق، فقال:
يا معاوية، إني متكلم، فلا يسخطك أول دون آخر. ثم قال
وهو متكئ على سيفه:
إن المحمود على كل حالٍ رب علا فوق عباده، فهم منه
بمنظرٍ ومسمعٍ، بعث فيهم رسولاً منهم لم يكن يتلو
﴿مِنْ
قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَارْتَابَ
الْمُبْطِلُونَ﴾([11])،
فعليه السلام من رسولٍ كان بالمؤمنين [براً] رحيماً.
أما بعد، فإنا كنا نوضع [فيما أوضعنا فيه بين يدي إمامٍ
تقي عادل] في رجالٍ من أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله»، أتقياء
مرشدين، ما زالوا مناراً للهدى، ومعلماً للدين، خلفاً عن سلفٍ مهتدين،
أهل دينٍ لا دنيا، وأهل آخرةٍ، كل الخير فيهم، واتبعهم من الناس ملوك
وأقيال، وأهل بيوتاتٍ وشرفٍ، ليسوا بناكثين ولا قاسطين، فلم تكن رغبة
من رغب عنهم وعن صحبتهم إلا لمرارة الحق حيث جُرِّعوها، ولوعورته حيث
سلكوها، وغلبت عليهم دنياً مؤثرة، وهوى متبع، وكان أمر الله قدراً
مقدوراً
[وقد فارق الإسلام من قبلنا جبلة بن الأيهم، فراراً من
الضيم، وأنفاً من الذلة]
فلا تفخرنا يا معاوية أن قد شددنا إليك الرحال، وأوضعنا
نحوك الركاب، فتعلم وتنكر. [أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي
ولجميع المسلمين].
ثم التفت إلى النجاشي وقال:
ليس بعشك فادرجي.
فشق على معاوية ذلك [وغضب، لكنه
أمسك] فقال:
يا عبد الله، ما أردنا أن نوردك مشروع ظماءٍ، ولا أن
نصدرك عن مكرع رواءٍ، ولكن القول قد يجري ألمعيُّه إلى غير الذي ينطوي
عليه من الفعل.
ثم أجلسه معه على السرير، ودعا له بمقطعاتٍ وبرودٍ،
فصبها عليه، ثم أقبل عليه بوجهه يحدثه حتى قام.
فلما قام طارق خرج وخرج معه عمرو بن مرة، وعمرو بن صيفي
الجهنيان، فأقبلا عليه يلومانه في خطبته إياه، وفيما عرض لمعاوية.
فقال طارق لهما:
والله ما قمت [بما سمعتماه] حتى خيل لي أن بطن الأرض
أحب إلي من ظهرها عند إظهاره ما أظهر من البغي والعيب والنقص لأصحاب
محمد «صلى الله عليه وآله»، ولمن هو خير منه في العاجلة والآجلة [وما
زهت به نفسه، وملكه عجبه، وعاب أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله»
واستنقصهم].
ولقد قمت مقاماً عنده أوجب الله علي فيه أن لا أقول إلا
حقاً، وأي خيرٍ فيمن لا ينظر إليه غداً؟! وأنشأ يتمثل بشعر لبيد بن
عطارد التميمي:
لا تكونوا على الخطيب مع
الدهر فـإني فـيــما مـضـــى لخـطـيــب
أصدع الناس في المحافل بالخطبة يـعـيـا بـهـا الخـطـيـب
الأريــب
وإذا قـالـت المـلـوك مـن الحــا سـم لـلـداء؟!
قـيل: ذاك الطبيب
غـير أنـي إذ قـمت كاربني الكر بـــة لا يـسـتـطـيـعـهـا
المكروب
وكـذلك الفجـور يصرعه البغـ ــي وفـي الـنـاس مخطئ ومصيب
وخـطـيـب النـبي أقـول بالحق ومــا فـي مـقـالــه
عـــرقـــوب
إن مـن جـرب الأمـور مـن النا س وقــد يـنـفـع الـفتى التجريب
لحـقـيـق بـأن يـكـــون هـــواه وتـــقـــاه فـيـما
إلـيـــه يــؤوب
فبلغ علياً «عليه السلام» مقالة
طارقٍ، وما قال لمعاوية، فقال:
لو قتل أخو بني نهدٍ يومئذٍ لقتل شهيداً.
وزعم بعض الناس:
أن طارق بن عبد الله رجع إلى علي «عليه السلام»، ومعه النجاشي.
وعمل معاوية في إطراء طارق وتعظيم أمره، حتى تسلل ما
كان في نفسه([12]).
قال أبو الفرج:
«أخبرني إسماعيل بن يونس قال: حدثنا عمر بن شبة قال:
حدثني المدائني، عن شيخ من أهل مكة قال: عرض معاوية على عبد الرحمن بن
الحكم خيله فمر به فرس فقال له: كيف تراه؟!
فقال له:
هذا سابح.
ثم عرض عليه آخر، فقال:
هذا ذو علالة.
ثم مر به آخر، فقال:
وهذا أجش هزيم.
فقال له معاوية:
قد علمت ما أردت؛ إنما عرضت بقول النجاشي في:
ونجى ابن حرب سابح ذو علالة
أجـش هـزيـم والـرمــــاح دوان
سليم الشظا عبل الشوى شنج السنا كـسـيـد الغضا بـاق على
النسلان
أخرج عني فلا تساكنى في بلد.
فلقي عبد الرحمن أخاه مروان، فشكى إليه معاوية، وقال له
عبد الرحمن: حتى متى نستذل ونضام؟!
فقال له مروان:
هذا عملك بنفسك، فأنشأ يقول:
أتـقـطر آفـاق السـماء لــنـا
دمـاً إذا قـلت: هذا الطرف أجرد سابح
فحتى متى لا نرفـع الطـرف ذلـة وحتى متى تـعيـا عـليـك
المنـادح
فدخل مروان على معاوية، فقال له
مروان:
حتى متى هذا الاستخفاف بأبي العاص؟! أما والله إنك
لتعلم قول النبي «صلى الله عليه وآله» فينا، ولقلما بقي من الأجل.
فضحك معاوية وقال:
لقد عفوت لك عنه يا أبا عبد الملك»([13]).
ونقول:
لا بأس بالنظر فيما يلي:
إن النجاشي كان شاعر أهل العراق بصفين. وكان «عليه
السلام» يأمره بمحاربة شعراء أهل الشام، مثل كعب بن جعيل وغيره.
واسم النجاشي:
الحارث بن عبد الله.
وعند ابن عساكر وغيره:
أن اسمه قيس بن عمرو([14]).
إن موقع النجاشي الشاعر، ومهاجاته شعراء أهل الشام،
دفاعاً عن مواقف أهل العراق في صفين لم يشفع له عند علي «عليه السلام»،
ولو بغض النظر عن العشرين سوطاً التي أذاقه علي «عليه السلام» طعمها
بعد الثمانين سوطاً، التي أنهكته.. لأن علياً «عليه السلام» يعتبر: أن
النجاشي يفعل ما يجب عليه، ليأمن بذلك من المؤاخذة الإلهية، ولكن ذلك
لا يبرر السماح له بارتكاب المعاصي، ولا ينبغي مكافأته على طاعة الله
بالسماح له بمعصية الله، فإن ذلك ليس من حق أحد. بل الله كلفنا بإقامة
الحدود، وهو الذي يتولى مكافأة من يقوم ببعض واجباته.
إن النجاشي يخبر علياً «عليه
السلام»:
بأنه آمن عند معاوية، فلا يخاف، وكأنه يتبجح بالأمن من
العقوبة على شرب الخمر، وارتكاب المعاصي، وهذه جرأة عظيمة، وعمل مخزٍ
ومشين، لو كان هذا الرجل يعقل ما يقول.
ونحن لا نتوقع:
أن يكون معاوية هو الذي يصده عن مثل هذا القول غيرة على
الدين، وحباً لله ورسوله، وحباً لمن فرض الله ودهم أجراً للرسول «صلى
الله عليه وآله»، ووفاء للتضحيات الجسام منه «صلى الله عليه وآله».
لكن معاوية المحب للدنيا، والذي يتعامل مع الناس بالمكر
كان يستطيع أن يسجل اعتراضاً شكلياً على هذا الأمر الذي يعتبر سكوته
إدانة له، لأنه يتضمن إثبات أن معاوية يرضى بمعصية الله، وأن العصاة
يأمنون عنده، وهذه إدانة ظاهرة لمعاوية، لو كان ثمة من يفكر ويعي
ويتأمل.
فضلاً عن أنه يحرج بعض محبي معاوية الذين يسوِّقون
لعدالته وخلافته.
ولكن معاوية قد أمن جانب أهل الشام، لأنه كان قد استحوذ
على قلوبهم، وأخذ بأبصارهم وبصائرهم، حتى أصبحوا ألعوبةً بيده، ومطية
لأهوائه، يرون ما يريهم إياه، بل هو الذي يرى لهم ما يحلو له..
قد اعتبر النجاشي:
أن الاختلاف في جانب علي «عليه السلام»، والاتفاق في
طرف معاوية يدل على أن الحق في جانب معاوية وأصحابه.
ونحن لا ندري ماذا قصد النجاشي بحديثه عن الإختلاف في
طرف علي «عليه السلام»، فإن كان يقصد بذلك ما جرى له، حيث جلده علي
«عليه السلام» في الخمر ثمانين، وزاده عشرين أخرى، لانتهاكه حرمة الشهر
الشريف، ولم يراع له موقعه، ولا أخذ بنظر الإعتبار ما قام به في صفين
من مهاجاة شعراء أهل الشام..
إن
كان يقصد هذا، فجوابه:
أنه كان ينبغي أن يوجه اعتراضه هذا إلى الله تعالى وعليه. لأن علياً
«عليه السلام» لم يزد على إجراء حكم الله فيه شيئاً..
وإن كان يقصد بذلك مخالفة أهل الدنيا لعلي «عليه
السلام» ونكثهم بيعته، وتمردهم عليه، وقد أمرهم الله تعالى بطاعته،
وتفرق أصحابه عن حقهم، واجتماع أصحاب معاوية على باطلهم، فهذا من
عيوبهم، ومن موجبات خزيهم، ومن موجبات ظهور فضل علي «عليه السلام»،
لأنه بين صلابته في دين الله تعالى، والتزامه بأحكامه وشرائعه مهما
كلفه ذلك من تضحيات.
وهذا كان حال الأنبياء مع قومهم في كل زمان، وقد قال
تعالى:
﴿وَكَذَلِكَ
جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ
يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً﴾([15]).
أما إن كان مراد النجاشي هو الاختلاف الذي ينشأ عن
إعطاء الحرية للناس في أن يدلوا بآرائهم، ويعبروا عن ميولهم.
فالجواب هو:
أن هذا حق جعله الله تعالى لهم، وهو من مفاخر معسكر أهل
الحق والدين، الملتزمين بأحكام الشريعة..
وقد يقال:
إنه يريد ذلك الاختلاف الذي ظهر في خلاف الخوارج على
علي «عليه السلام»..
ويجاب:
بأنه كان عليه أيضاً أن يؤاخذ الله ورسوله، حيث أخبرا
عن المارقين الذين يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية، ويقرؤون
القرآن لا يجاوز تراقيهم، وهم شر الخلق والخليقة بالإضافة على الأخبار
عن الناكثين والقاسطين.
وإن ظهور صدق ما أخبر به الرسول «صلى الله عليه وآله»
عن هؤلاء، ومحاربتهم لأمير المؤمنين «عليه السلام»، لهو من دلائل
الصدق، وشواهد صحة موقف أمير المؤمنين «عليه السلام» ومن تابعه، ومن
شواهد باطل معاوية وحزبه.
هذا فضلاً عن أقواله التي لا تحصى ولا تعد في حق علي
«عليه السلام»، ولو لم يكن إلا قوله «صلى الله عليه وآله»: «علي مع
الحق والحق مع علي يدور معه كيفما دار».
وهذا أدحض لحجة جميع أعدائه ومناوئيه «عليه السلام»،
ومن دلائل كذب النجاشي وزيف أقواله..
وبعد ما تقدم نقول:
متى كان اتفاق قوم على رأي دليلاً على صوابية ذلك
الرأي.
فقد اتفقت كلمة قريش والمشركين واليهود والنصارى،
وقبائل العرب والعجم على رد دعوة رسول الله «صلى الله عليه وآله». وقد
حاربوه سنين طويلة، فهل يثبت ذلك أنهم محقون، وأنه «صلى الله عليه
وآله» كان هو المبطل؟! وقد قال تعالى:
﴿وَإِنْ
تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ﴾([16]).
إن للحق موازين، وله دلالات وعلامات، وكذلك للباطل. فلا
بد من التمييز بينهما على اساسها ومن خلالها. وقد قال علي «عليه
السلام»: «اعرف الحق تعرف أهله».
وأما مجرد اتفاق جماعة أو جماعات على أمر فهو لا يدل
بذاته على ذلك.
فلعل المصلحة هي التي جمعتهم عليه، أو لعل جهلهم مكَّن
أهل الأطماع من تزيين الباطل لهم.. ولعل.. ولعل..
كما أن من الجائز:
أن تكون المعرفة الصحيحة لدى شطر من الناس، وجهل شطر آخر منهم، قد مهد
للإختلاف بين الجهلاء والعلماء.. بسبب تسويلات الشياطين للجاهلين، أو
استغلال أهل الباطل، وطلاب اللبانات جهلهم هذا لمواجهة الحق الذي علمه
العالمون منهم..
وقد
لفت نظرنا:
قول أبي سمَّال للنجاشي، وهو يزين له مشاركته في ارتكاب تلك المعصية
الكبيرة: «دعنا مما لا نعرف»، فدل على أن مما جرأهما على ارتكاب ذلك
الجرم الكبير، ليس مجرد طاعة النفس الأمارة، والاستجابة للهوى.
بل يضاف إلى ذلك:
فقدان الإيمان بحقائق الدين، وتنكرهم لنعم الله عليهم،
وانغماسهم في الآثام، ومعصية النبي «صلى الله عليه وآله»، والإمام
«عليه السلام»، واختيارهم العيش في كنف الشرك والجهل.. وحالة من النفاق
كانت هي المهيمنة على هؤلاء الناس آنئذٍ.
وهذا أخطر بكثيرٍ مما لو انحصر الأمر بمجرد طاعة الهوى،
مع الاحتفاظ باليقين بحقائق الدين..
وبعد.. فإن من الواضح:
أن الذي يهتك حرمة شهر رمضان ـ ولا سيما في أول يومٍ
منه ـ إنما يعبر عن عبوديةٍ مطلقة لهواه، وعن أنه لم يكن يؤمن بالشرع
الإلهي، بعد أن وافق عملياً، ومن دون أي اعتراضٍ على قول صاحبه أبي
سمال: «دعنا مما لا نعرف»!!
وهذا يعني:
أنه كان يدلس على المسلمين، ويتخذ معهم سبيل أهل
النفاق. الذين يظهرون الإيمان، ويبطنون الشك والريب.
ولا بد من التنكيل بهذا النوع من العصاة، الذين يجب أن
يعرف الناس حقيقتهم، وأنهم لا يستحقون الكرامة والثقة، التي منحهم
إياها أهل الدين.. لأنهم مراؤون خداعون. ساقطون من الناحية الأخلاقية،
متجرؤون على حرمات الله سبحانه.
وهذا وسواه هو الذي دعا علياً «عليه السلام» إلى إيقاف
النجاشي بعد جلده الحد ـ في سراويل، أو في تبان [وهو لباس أهل الذلة
كما قال الإمام الحسين «عليه السلام»([17])]
ـ لتظهر مهانة من يستهين بحرمات الله في أول يومٍ من شهر رمضان، ويتأكد
خزي من يتخذ سبيل النفاق مع عباد الله تعالى، مستخفاً بعقولهم ومدلساً
عليه.
وقد تأكدت هذه المهانة بجرأة الصبيان على النجاشي إلى
حد أنهم صاروا يصيحون به بتلك الكلمات اللاذعة..
واللافت:
أن النجاشي لم يترفع عن مواجهة أولئك الصبيان، بل هو قد وجد نفسه بحاجة
للدفاع عن نفسه أمام شعاراتهم المهينة له. بنفس الأسلوب، مستفيداً من
نفس التعابير، ونفس المفاهيم، والأساليب المنحطة والمشينة له هو قبل أن
تكون رداً عليهم، أو من موجبات ردعهم..
وكان فرار النجاشي إلى معاوية مذلة أخرى لهذا الذي
انتهك حرمات الله وحرمات عباده، حيث سيجد نفسه ذليلاً عند معاوية،
محتاجاً إلى عفوه، وإلى الفتات الذي يرميه إليه، مضطراً إلى تكذيب نفسه
فيما هجاه به في أيام صفين، زاعماً له ـ كذباً ـ: أنه لم يكن يقصده في
قوله:
ونجَّى ابن هند سابح ذو
غلالـة أجـش هـزيـم والـرمــــاح دواني
إذا قلت: أطراف الرماح تنوشه مرتـــه لـه السـاقـان
والـقـدمـان
زاعماً أنه كان يقصد به:
عتبة بن أبي سفيان.
ثم أصبح مضطراً لمخاطبته بـ «أمير المؤمنين».
والأشد إيلاماً له:
أن يدخل مجلس معاوية، ويجلس بين يديه، ثم لا يعرفه معاوية، وتقتحمه
عينه، وكأنه إحدى النكرات، بسبب صغر حجمه..
ولا نستطيع أن نبرئ معاوية من اتهامه بأن هذا التحقير
للنجاشي كان مقصوداً، ليس فقط ليشفي غليل صدره منه، بسبب هجائه له في
صفين. بل لسبب آخر دل عليه نفس مطالبته له بشعره في تلك اللحظة
الحساسة، حتى اضطره للإعتذار عن ذلك الشعر اللاذع بكذبة لا يرضاها الله
سبحانه لعباده..
فحصل معاوية بذلك على ما أراد، وهو أن يزيح عن نفسه هذا
الكابوس الثقيل، وهو أن يبطل مفعول وتأثير هذا الهجاء على ألسنة الناس
يتندرون به. وللشعر أثره البالغ في النفوس. ومن موجبات سقوط محل من لا
يملك مقومات حقيقية، تؤهله للمواقع التي يغتصبها ويضع نفسه فيها.
وزعم بعض الناس:
«أن
طارق بن عبد الله رجع إلى علي «عليه السلام» ومعه النجاشي»([18]).
ونقول:
إن هذا موضع شك كبير، بل إن مدحه ابن ملجم والتعريض
بهجاء علي «عليه السلام» يدل على أنه لم يرجع إلى الكوفة قبل استشهاد
أمير المؤمنين، فقد تقدم أنه قال:
إذا حـيـة
أعـيـا
الـرقـاة
دواؤهـا
بـعثنا
لها تحت الظلام ابن ملجم([19])
إلا أن يقال:
إن هذا لا يمنع من أن يكون قد عاد إلى الكوفة، ثم لما
استشهد أمير المؤمنين «عليه السلام»، وعاد الإمام الحسن «عليه السلام»
إلى المدينة أراد أن يتشفى من علي «عليه السلام»، ويتزلف لمعاوية
بأمثال هذه الأقوال الحاقدة. والدالة على نذالة وسقوط قائلها في حمأة
الحقد..
واللافت هنا:
أن اليمانية غضبوا لما حد النجاشي.. والسؤال هو: لماذا لم يغضب غير
اليمانية كما غضب اليمانية؟!
ولماذا يغضبون من إجراء حد من حدود الله تعالى؟!
وهل غضبوا من الله لأنه شرع الحدود؟! أم غضبوا من علي
«عليه السلام» لأنه أجراها؟!
وألم يسمع اليمانية بذم رسول الله «صلى الله عليه وآله»
من دعا بدعوة الجاهلية، وعنى به دعاء العشيرة لنصرة الظالم، والمجافي
للحق، والخائض في معصية الله سبحانه؟! كما ورد في الروايات.
وألم يسمعوا ذمه للمتعصب لقومه من دون حق؟!
وألم يسمعوا قوله تعالى:
﴿إِنَّ
أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾؟!([20]).
وألم؟! وألم؟!
وقد استوقفنا عتب طارق بن عبد الله على أمير المؤمنين
«عليه السلام»، والمبررات التي ساقها لعتبه هذا. ومن ذلك قوله:
«ما كنا نرى أن أهل المعصية والطاعة، وأهل الفرقة
والجماعة عند ولاة العدل، ومعادن الفضل سيان في الجزاء».
وهو كلام عجيب وغريب. فهل الطاعة للحاكم تعني السماح
لمن يطيعه بأن يعصي الله، وبأن ينتهك الحرمات؟!
وهل كون إنسان من جماعة الحاكم يبرر للحاكم عدم عقوبته
على ما يرتكبه من جرائم، ويسقط عنه حدود الله تبارك وتعالى؟!
ولماذا لا يكون مخالفة هؤلاء لأحكام الشريعة مؤكداً
للزوم عقوبتهم على مخالفاتهم، من حيثيات مختلفة؟!
وإذا كان طارق يتكلم عن ولاة العدل، ويخاطب سيدهم
وإمامهم، فلماذا لم يكن يظن أن الناس أمام الحاكم العادل سيان؟!
وألا يتناقض هذا التمييز مع العدل الذي يلتزم به ذلك
الحاكم؟!
وهل يمكن أن يكون الذي يميز بين الناس في العقوبة على
الجرائم ـ هل يمكن أن يكون ـ حاكماً عادلاً؟!
وقد
قرر «عليه السلام» لطارق هذه الحقيقة، وبين له:
أن التفرقة التي يطلبها تتناقض مع سنة العدل التي فرضها الله تعالى..
مستشهداً بالآية الكريمة:
﴿وَلَا
يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآَنُ قَوْمٍ عَلَى أَلَّا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا
هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى﴾([21]).
بل هو قد أفهمه:
أنه «عليه السلام» قد أحسن إلى أخيه النجاشي بنفس عقوبته له، وإقامة حد
الله عليه، حيث إن هذا الحد كان كفارة لما انتهكه من حرمات. وتخليصاً
له من الهلكات..
والأسوأ من هذا وذاك:
هو أن يعتبر طارق أن إقامة حدود الله قد أوغر صدورهم، وشتت أمورهم!! مع
أن المتوقع: هو أن يكون من موجبات زيادة حبهم له، وتعلقهم به «عليه
السلام»، ومن أسباب فرحهم بهذا العدل الظاهر الذي يكفر عنهم ذنوبهم،
ويصونهم من الوقوع في الهلكات، ويكرس في مجتمعهم الطهر والنزاهة
والإستقامة على طريق الحق والخير، والهدى والصلاح..
وبهذا تحفظ وحدتهم، وتستقيم أمورهم، وتقوى شوكتهم وتجمع
به فرقتهم.. ولذلك قال الأشتر لطارق: إن صدورنا له لسامعة، وإن أمورنا
له لجامعة.
فما معنى اتهام طارق علياً «عليه
السلام»:
بأنه بإقامته الحد على أخيه قد أوغر صدورهم وشتت
أمورهم؟!
وأغرب من هذا:
أن يكون رد طارق على الأشتر حين عاتبه على قوله هذا بالفرار مع أخيه
النجاشي إلى معاوية.. فهل كان طارق يحسب أن هذا الفرار يفت في عضد علي
«عليه السلام»؟! أو أنه يوجب خلاف الناس عليه؟! أو أنه انتقام منه
«عليه السلام»؟!
فإن كان هذا ما ظنه، فقد خاب فيما ظن، فإنه «عليه
السلام» يزداد بذلك قوةً ونفوذاً، ويزيد فريقه تلاحماً وتماسكاً، وقوة،
وسلاماً، واطميناناً، وسكينةً في ظل عدله وفضله. تماماً كما قرر الأشتر
له «رحمه الله».
وكان الخاسر فقط هو طارق، والنجاشي الفاسق.
ولا نستغرب إذا رأينا معاوية يتحامل على أمير المؤمنين
«عليه السلام» بالباطل والبهتان، وبأنواع التزوير المغموس بالعجرفة
والطغيان.. وكلامه مع النجاشي وأخيه من أوضح الشواهد على ما نقول..
غير أن المضحك المبكي:
أن نرى معاوية يعدّ اتِّباع وصي الرسول، وباب مدينة علمه، والصديق
الأكبر، والفاروق الأعظم ـ يعدّ اتَّباعه ـ هفوة ونبوة من النجاشي، ولا
يعد شرب النجاشي للخمر في نهار شهر رمضان هفوة ولا نبوة..
والأنكى من ذلك:
أنه يصف عصاة
الله، والمتجرئين عليه بأحمد الأوصاف وأسناها، وأجلها وأبهاها، جرأة
منه على الله، وقلباً للمفاهيم، وتزويراً للحقائق، ثم هو يصف سيد
الأوصياء، بأنه صاحب الفتنة ورأس الضلالة والشبهة.. وهل هذا إلا من
قبيل: رمتني بدائها وانسلت؟! أو من قبيل قوله تعالى:
﴿أَفَمَنْ
زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآَهُ حَسَناً فَإِنَّ اللهَ يُضِلُّ
مَنْ يَشَاءُ﴾([22]).
أو من قبيل قوله تعالى:
﴿قُلْ
هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالاً الَّذِينَ ضَلَّ
سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ
يُحْسِنُونَ صُنْعاً أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِ رَبِّهِمْ
وَلِقَائِهِ﴾([23]).
ثم أوغل في نسبة الأباطيل إلى علي «عليه السلام»، حتى
انتهى إلى الإستهانة بأصحابه، واعتبرهم رجرجة من الناس، وهنون من
الحثالة، أما والله ما لهم أفئدة:
﴿أَفَلَا
يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآَنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾؟!([24]).
يريد بذلك:
أنهم رذالة الناس ورعاعهم الذين لا عقول لهم. وهل هذا إلا منطق الطغاة
المتجبرين، والعتاة الكافرين، الذين كانوا يواجهون به الأنبياء، ونفس
الأوصاف التي كانوا يرمون بها أتباع الأنبياء كما حكى عنهم تعالى في
كتابه الكريم حيث يقول:
﴿وَمَا
نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ
الرَّأْيِ﴾([25]).
فاستفز بكلامه هذا حفيظة طارق. وثارت فيه حميته، ولا نبعد إذا قلنا:
إننا نرى فيها نفحة علوية، زرعها فيهم ما شاهدوه من تقواه، وعدله «عليه
السلام»، وما رأوه من خصال أحبوها، وإن لم يمارسوها، بسبب غلبة
أهوائهم، وطغيان شهواتهم، التي أوردتهم موارد الهلكات، ثم لم تصدرهم
عنها.
فواجهه طارق بما لم يكن قد حسب له حسباناً، فاضطر إلى
المراوغة، لاحتواء طارق من جديد..
لعل علياً «عليه السلام» كان يعرف من معاوية أنه لا
يتحمل أمثال هذه المواقف، بل هو يبطش بطش الجبارين، ويفتك بمن تناله
براثنه من الضعفاء. إلا أن يحجزه عن ذلك حاجز من حب السلامة في الدنيا،
ومن الشغف بالتقلب في زبارجها وبهارجها، فيتظاهر ـ زوراً ومكراً
للآخرين ـ بسلامة النية، وحسن الطوية، ويخضع للأمر الواقع الذي لا يرى
له محيصاً عنه.
وهكذا كان.. فقد ذكرت الرواية:
أنه غضب من كلام طارق، ولكنه تماسك.. لأن بطشه بطارق
سوف يفضحه في الشام والعراق على حد سواء. وسيلحق ذلك به ضرراً بالغاً.
فآثر أن ينحني أمام العاصفة، وأن يداوي جرحه بما هو آلم منه، على
قاعدة:
«والجرح يسكنه الذي هو آلم»..
ولكن صحوة طارق وحميته للحق لم تدم، بل كانت بمثابة
فورة أعقبها هدأة وسكون، ثم تبعها استسلام وركون..
ولأجل ذلك يقول علي «عليه السلام»:
«لو قتل أخو بني نهد يومئذٍ لقتل شهيداً».
فألمح «عليه السلام» بكلمته هذه إلى أمور:
أحدها:
أن طارقاً كان في موقفه ذاك صادقاً، منساقاً مع وجدانه، ومع فطرته.
الثاني:
أنه لم يحفظ لنفسه هذه الصحوة، ولا استمرت له هذه اليقظة سوى «ذلك
اليوم»، ثم استماله معاوية بأساليبه، فأخلد إلى الأرض من جديد. فكان
مثله مصداقاً لقوله تعالى: ﴿كَالَّتِي
نَقَضَتْ غَزْلَهَا مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكَاثاً﴾([26]).
الثالث:
أن معاوية كان يود لو يبطش بطارق في تلك اللحظة، وأن هذا هو خلق
معاوية، ولو أمكنته الفرصة لما فوَّتها.. وما فعله بحجر بن عدي وأصحابه
خير شاهد على ما نقول..
1 ـ
وعن كلام طارق في مجلس معاوية نقول:
إن التأمل فيه يعطي ما يلي:
أن كل اهتمامه كان منصبّاً على إطراء أصحاب أمير
المؤمنين «عليه السلام» وإنما أشار إلى علي «عليه السلام» بكلمتين هما
قوله: «تقي عادل».
وهذا عكس ما فعله معاوية، فإنه أكثر من الطعن على أمير
المؤمنين «عليه السلام»، وأشار إلى أصحابه ببضع كلمات، هي: «إنهم رجرجة
من الناس، وهنون من الحثالة، أما والله ما لهم أفئدة».
وكأن هذا التحقير الذي نال طارق وقومه قسط منه هو الذي
أطلق شرارة غضبه، والتمعت الحقائق أمام بصيرته في ذلك اليوم، لبرهة
وجيزة، لا سيما وأن معاوية أدانه بشخصه أيضاً حين عيره باتباعه علياً،
فوجد نفسه مضطراً لوصف علي «عليه السلام» أيضاً بما هو فيه. ولكنه
اكتفى بهاتين الكلمتين: تقي وعادل. ليقابل ذلك بالتعريض القاسي بمعاوية
وحزبه. وبكل من خالف علياً «عليه السلام» بالتذكير بالتوصيف النبوي لهم
بالناكثين والقاسطين..
2 ـ
لعل استذكار هذا القول المأثور عن رسول الله «صلى الله
عليه وآله»، كان وحده كافياً لانتقام معاوية من طارق.
ولكن معاوية الذي يجهد لإقصاء هذه الحقيقة عن الناس،
وطمسها، أو على الأقل منعها من التداول قد اتبع أسلوباً آخر، حيث رأينا
أنه لم ينكر هذا الحديث، ولا ناقش فيه بشيء، ربما لأنه خشي من أن يساعد
ذلك على انتشاره وتداوله بين الناس، فآثر المبادرة إلى احتواء الموضوع
باسترضاء طارق. وصرف الأنظار عما جرى، وكأن شيئاً لم يكن..
غير أن ذلك لا يعني أن طارقاً كان موفقاً في جميع ما
قاله، بل الأمر على العكس من ذلك. فإن كلامه قد تضمن اعترافاتٍ وسقطات،
نشير إلى بعضها فنقول:
1 ـ
لقد تضمن كلام طارق: أن ما جرى لأخيه كان حقاً، ولكنه
كان مراً صَعُبَ عليه تجرعه، وطريقاً وعراً صعب عليهم سلوكه. وقد
غلبتهم الدنيا، واتبعوا الهوى، بفرارهم من الحق، ومن سلوك طريقه الصعب.
2 ـ
غير أن طارقاً حين أراد تبرير هذا العمل منه ومن أخيه، والتخفيف من قبح
تمرده على الحق، وإن كان مراً، ورفضه سلوك الطريق الوعر قد لجأ إلى
اتهام القضاء والقدر في ذلك. مع أنه اعترف بأن السبب الحقيقي: هو غلبة
الدنيا واتباع الهوى!! فما هذا التناقض الذي أوقع نفسه فيه؟!
3 ـ
الأغرب والأعجب من ذلك: أن نرى طارقاً يتأسى بجبلة بن الأيهم، الذي
فارق الإسلام فراراً من الضيم، وأنفاً من الذلة حسب زعمه!!
وقد فات طارقاً وابن الأيهم قبله:
أن الذلة والضيم، لم يفرضهما عليهما أحد، بل كان كل
واحد منهما هو الذي أذل نفسه لهواه، ولشهواته، وانساق وراء غرائزه،
واستجاب لتسويلات الشيطان أولاً. وانتهك حرمات الله، واعتدى على عباده،
حتى إذا أريد أخذ الحق منه، وتطهيره من ذلك الذنب العظيم، وتكفير ذنبه
بذلك، وتخليصه من ذل الآخرة، ومن عذاب النار زعم: أن في ذلك الذلة
والضيم!! وسولت له نفسه: أن يرضى بذل الكفر، وبضيم الخيانة، وعذاب
الضمير والوجدان. والكون في عداد أهل الباطل، وعبيد الشيطان!!
فهل هناك ذل أعظم من هذا؟! وهل أحد يرضى لنفسه بمثل هذا
الضيم إلا الأحمق الشقي، والمخذول الغبي؟!
ومن جهةٍ أخرى:
إن علياً «عليه السلام» قد أجرى الحد على أخيه وانتهى
الأمر، ورضي طارق بما قاله علي «عليه السلام» له، فلماذا عاد وجمع
لنفسه ذل المعصية، وذل الخيانة؟! وما معنى أن يأنف من مقالة الأشتر له:
إنه قد أخطأ فيما قاله لعلي «عليه السلام»، من أنه قد شتت أمرهم، وأوغر
صدورهم؟!
فأي ضيم وذل في أن يعترف طارق:
بأنه قد أخطأ في قوله هذا؟!
ألم يكن سكوته عما قاله علي «عليه السلام» له يستبطن
تخطئة لنفسه في مزاعمه هذه، أو اعتراف بالعجز عن مواجهة الحق الذي قرره
علي «عليه السلام»؟!
وقد قرأنا تحت عنوان:
«على هامش حديث النجاشي» تهديد مروان بن الحكم لمعاوية
بشأن أخيه عبد الرحمن بن الحكم.. فقد ذكَّره بقول رسول الله «صلى الله
عليه وآله»: إن آل أبي العاص إذا بلغوا ثلاثين رجلاً اتخذوا مال الله
دولاً، وعباده خولاً، مما يعني: أن الحكم سينتقل من بيت آل أبي سفيان
إلى بيت آل أبي العاص.
وقد تحقق ذلك بالفعل وكان أول ملوك آل أبي العاص هو
مروان نفسه. أي أنهم كانوا يتوقعون تحقق ما أخبر به رسول الله «صلى
الله عليه وآله»..
وقد خضع معاوية لما يقتضيه هذا التهديد، وصرف النظر عن
إبعاد ونفي عبد الرحمن بن الحكم.. ولم يعترض معاوية على صحة هذا
الحديث.
ولست أدري، ما هي المشاعر التي كانت تنتاب هؤلاء الطغاة
الذين سمعوا بهذا الحديث وصدقوه، وكيف لم يراجعوا حساباتهم، ولم يتوبوا
إلى ربهم. أليس ذلك إلا لأن قلوبهم قد قست
﴿فَهِيَ
كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا
يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ
فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ﴾؟!([27]).
([1])
وسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج25 ص316 و (ط دار الإسلامية)
ج17 ص252 والكافي ج6 ص403 وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج3
ص350 وراجع: قضاء أمير المؤمنين «عليه السلام» للتستري (ط
مؤسسة الأعلمي) ص216.
([2])
الآية 7 من سورة الرعد.
([3])
الغارات ج2 ص533 ـ 537 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج4 ص88 و 89
وبحار الأنوار ج34 ص291 وج33 ص273 وقاموس الرجال ج9 ص187 = =
وإحقاق الحق (الملحقات) ج32 ص156 وتاريخ حلب ترجمة (نجاشي)،
والشعر والشعراء لابن قتيبة ص246 و 247 وسمط اللآلي ج2 ص890
ومستدرك الوسائل ج18 ص113 و 114
.
([4])
الغارات ج2 ص537 ـ 539 وشرح نهج البلاغة ج4 ص89.
([5])
الشعر والشعراء لابن قتيبة ص246 و 247 وسمط اللآلي ج2 ص890
والغارات ج2 ص902 و 903 ومعجم البلدان ج4 ص493 وتاريخ الكوفة
للبراقي ص210 وخزانة الأدب ج10 ص447.
([6])
من الآية 45 من سورة البقرة.
([7])
الآية 8 من سورة المائدة.
([8])
بحار الأنوار ج34 ص292 وج33 ص273 والغارات ج2 ص539 وشرح نهج
البلاغة للمعتزلي ج4 ص89 و 90.
([9])
الغارات ج2 ص539 و 540 وبحار الأنوار ج33 ص273 وشرح نهج
البلاغة للمعتزلي ج4 ص89 و 90.
([10])
الآية 24 من سورة محمد.
([11])
الآية 48 من سورة العنكبوت.
([12])
الغارات ج2 ص540 ـ 544 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج4 ص91 و 92
وبحار الأنوار ج33 ص273 و 274.
([14])
قاموس الرجال للتستري ج10 ص342 والغارات للثقفي ج2 ص901 وتاريخ
مدينة دمشق ج49 ص473 والإشتقاق لابن دريد ص400 وسمط اللآلي ج2
ص890 وخزانة الأدب للبغدادي ج4 ص76 والإصابة ج6 ص378.
([15])
الآية 112 من سورة الأنعام.
([16])
الآية 116 من سورة الأنعام.
([17])
راجع: مقتل الإمام الحسين للسيد عبد الحسين المقرم.
([18])
الغارات ج2 ص544 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج4 ص92 وبحار
الأنوار ج33 ص274 ومستدركات علم رجال الحديث ج4 ص286.
([19])
الغارات ج2 ص903 وسمط اللآلي ج2 ص890.
([20])
الآية 13 من سورة الحجرات.
([21])
الآية 8 من سورة المائدة.
([22])
الآية 24 من سورة محمد.
([23])
الآيات 103 ـ 105 من سورة الكهف.
([24])
الآية 8 من سورة فاطر.
([25])
الآية 27 من سورة هود.
([26])
الآية 92 من سورة النحل.
([27])
الآية 74 من سورة البقرة.
|