صفحة : 281-290   

علي وإحياء الموتى:

وروي مرفوعاً عن ميثم التمار قال: كنت بين يدي أمير المؤمنين «عليه السلام» في جامع الكوفة في جماعة من أصحابه وأصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وهو كأنه البدر بين الكواكب، إذ دخل علينا من باب المسجد رجل طويل عليه قباء خز أدكن، وقد اعتم بعمامة صفراء وهو متقلد بسيفين، فدخل وبرك بغير سلام، ولم ينطق بكلام.

فتطاولت إليه الأعناق، ونظروا إليه بالآماق، وقد وقف عليه الناس من جميع الآفاق، ومولانا أمير المؤمنين لا يرفع إليه رأسه.

فلما هدأت من الناس الحواس أفصح عن لسان كأنه حسام جذب من غمده وقال:

أيكم المجتبى في الشجاعة، والمعمم بالبراعة؟!

أيكم المولود في الحرم، والعالي في الشيم، والموصوف بالكرم؟!

أيكم الأصلع، البطل الدعاس، المضيق للأنفاس، والآخذ بالقصاص؟!

أيكم غصن أبي طالب الرطيب، وبطله المهيب، والسهم المصيب، والقسم النجيب؟!

أيكم خليفة محمد الذي نصره في زمانه، واعتز به سلطانه، وعظم به شأنه؟!

فعند ذلك رفع أمير المؤمنين إليه رأسه وقال: ما لك يا أبا سعد بن الفضل بن ربيع بن مدركة بن نجيبة بن الصلت بن الحارث بن دعران بن الأشعث الرومي؟! سل عما شئت.. أنا عيبة علم النبوة.

قال: قد بلغنا عنك أنك وصي رسول الله، وخليفته على قومه من بعده، وأنك محل المشكلات، وأنا رسول الله إليك من ستين ألف رجل يقال لهم: العصمة. وقد حملوني ميتاً من مدة، وقد اختلفوا في سبب موته، وهو بباب المسجد، فإن أحييته علمنا أنك صادق نجيب الأصل، وتحققنا أنك حجة الله في أرضه وخليفة محمد على قومه، وإن لم تقدر على ذلك رددناه إلى قومه، وعلمنا أنك تدعي غير الصواب، وتظهر من نفسك ما لا تقدر عليه.

قال أمير المؤمنين «عليه السلام»: يا ميثم، اركب بعيرك، وناد في شوارع الكوفة ومحالها:

من أراد أن ينظر إلى ما أعطى الله علياً أخا رسوله، وزوج ابنته من العلم الرباني، فليخرج إلى النجف.

فخرج الناس إلى النجف.

فقال «عليه السلام»: يا ميثم، هات الأعرابي وصاحبه.

فخرجت فرأيته راكباً تحت القبة التي فيها الميت، فأتيت بهما إلى النجف.

فعند ذلك قال «عليه السلام»: قولوا فينا ما ترون منا، وارووا عنا ما تشاهدون منا.

ثم قال «عليه السلام»: يا أعرابي، ابرك الجمل، واخرج صاحبك أنت وجماعة من المسلمين.

قال ميثم: فأخرجت تابوتاً وفيه وطا ديباج أخضر، وفيها غلام أول ما تم عذاره على خده، بذوائب كذوائب المرأة الحسناء.

فقال «عليه السلام»: كم لميتكم؟!

قال: أحد وأربعون يوماً.

قال: وما سبب موته؟!

قال الأعرابي: إن أهله يريدون أن تحييه ليخبرهم من قتله، لأنه بات سالماً وأصبح مذبوحاً من أذنه إلى أذنه، ويطالب بدمه خمسون رجلاً يقصد بعضهم بعضاً، فاكشف الشك والريب يا أخا محمد.

قال الإمام: قتله عمه، لأنه زوجه ابنته، فخلاها وتزوج بغيرها، فقتله حنقاً عليه.

قال الأعرابي: لا نقنع بقولك، فإنا نريد أن يشهد لنفسه عند أهله، لترتفع الفتنة والسيف والقتال.

فعند ذلك قام الإمام «عليه السلام» فحمد الله تعالى وأثنى عليه وذكر النبي فصلى عليه وقال:

يا أهل الكوفة، ما بقرة بني إسرائيل بأجل عند الله مني قدراً، وأنا أخو رسوله، وإنها أحيت ميتاً بعد سبعة أيام.

ثم دنا أمير المؤمنين «عليه السلام» من الميت وقال له: قم بإذن الله، يا مدرك بن حنظلة بن غسان بن بجير بن فهر بن سلامة بن الطيب بن الأشعث فقد أحياك الله تعالى على يد علي بن أبي طالب.

قال ميثم التمار: فنهض غلام أضوء من الشمس أضعافاً ومن القمر أوصافاً، فقال: لبيك لبيك يا حجة الله على الأنام المتفردة بالفضل والأنعام.

قال الإمام علي «عليه السلام»: انطلق إلى قومك فأخبرهم بذلك.

فقال: يا مولاي، لا حاجة لي إليهم، أخاف أن يقتلوني مرة أخرى.

فالتفت الإمام «عليه السلام» إلى صاحبه وقال له: امض إلى أهلك فأخبرهم.

قال: يا مولاي، والله لا أفارقك، بل أكون معك حتى يأتي الله بأجلي من عنده، فلعن الله من اتضح له الحق وجعل بينه وبين الحق ستراً.

ولم يزل بين يدي أمير المؤمنين «عليه السلام» حتى قتل بصفين.

ثم إن أهل الكوفة رجعوا إلى الكوفة، واختلفوا أقوالاً فيه([1]).

ونقول:

إن لنا على هذه الرواية العديد من الملاحظات، والبيانات، فلاحظ ما يلي:

لماذا لم يسلِّم هذا الوافد؟!:

إن هذا الوافد حين دخل المسجد لم يسلِّم على أحد، ولكنه حين تكلم بدا فصيحاً، وبارعاً، وعارفاً بموقع أمير المؤمنين «عليه السلام»، وبكراماته، ومقاماته وفضائله، كما أن كلامه كلام المسلم المؤمن بما يقول.

فلماذا كان ذلك يا ترى؟!

ولعلك تقول: إذا كان غير مسلم فلا يتوقع منه إلقاء السلام، لأن ذلك ليس من ثقافته.

ونجيب:

بأنه إن كان مسلماً، فليلق السلام الخاص بأهل الإسلام. وإن كان غير مسلم فليلق التحية التي تناسب هذا المقام، ولو بأن يقول: عمتم صباحاً، أو طابت أوقاتكم. أو نحو ذلك من التعابير المشتركة بين سائر الناس..

على أننا وجدنا وفوداً كثيرة قد جاءت إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله». وفيهم النصارى واليهود، وغيرهم، وكانوا يلقون عليه وعلى المسلمين التحية التي تناسبهم..

إلى النجف:

لعل السبب في إخراج علي «عليه السلام» أهل الكوفة إلى النجف: أنه أراد أن يجتمعوا في مكان يتسع لهم.. مع احتمال أن يكون عليه السلام أراد أن يربط هذا الحدث الفريد الذي سيفاجئ الجميع، ويذهلهم بخصوص ذلك المكان أيضاً، ولتتأكد في المستقبل ميزته الفريدة: أنه سيكون مدفناً لنفس هذا الذي سيحيي هذا الميت، بعد أن يقتله أشقى الآخرين في نفس هذا الموضع، كما أخبر رسول الله «صلى الله عليه وآله».. وبذلك تبقى ذكرى هذا الحدث مصونة عن شبهات الغلو والارتفاع، بسبب استحضار صورة استشهاده «عليه السلام» إلى جانب معنى الكرامة الإلهية له «صلوات الله وسلامه عليه».

لم يرجع رسول القبيلة إليها!!:

وقد ذكرت الرواية: إن الذي جاء بالميت كان رسولاً لقومه، وأن المطلوب هو اختبار الإمام «عليه السلام» إن كان يقدر على إحياء ذلك الميت أم لا..

وكان من المتوقع: أن يصر أمير المؤمنين «عليه السلام» على إرجاع ذلك الرسول إلى قومه ليخبرهم بما جرى، حيث إن ذلك سيكون من أقوى الأسباب لإيمان الكثيرين منهم..

كما أن رجوعه إلى قومه ليخبرهم بالأمر لا يعني أنه جعل بينه وبين الحق ستراً.

يضاف إلى ذلك: أن رجوعه إليهم لا يعني أنه سوف لا يعود إلى أمير المؤمنين، ليكون معه إلى أن يوافيه الأجل..

ما مصير المقتول الحي؟!:

ولم تذكر الرواية أيضاً أي شيء يدل على ما انتهى إليه أمر القتيل الذي أحياه «عليه السلام»، هل عاد إلى الموت؟! أم بقي حياً؟! فإن كان قد مات، فلماذا لا يعرف له قبر؟! مع أن ما جرى له يجعل الناس يهتمون بزيارة قبره، ودلالة بعضهم بعضاً عليه..

وإن كان قد عاش، فلماذا لم نسمع له ذكراً، ولم نجد له أثراً، ولم يحدثنا التاريخ عن موضع سكناه، ولا بيَّن لنا شيئاً عن أحواله، وعن تاريخ وموضع دفنه بعد ذلك؟!

ليس هذا حدثاً عادياً:

ثم إن هذا الحدث الذي خرج أهل الكوفة أو كثير من أهلها لمشاهدته، حتى بلغوا النجف، ويمتاز بالتفرد والغرابة التي تدهش لها العقول.. ليس له من الأسانيد، ومن الحملة، والنقلة ما يتناسب مع أحواله الغريبة، وفرادته هذه.. وإنما اقتصر الأمر على رواية ميثم التمار له، مع أن المفروض هو أن يرويه المئات وأن يتواتر في جميع الطبقات.


([1]) الروضة في فضائل أمير المؤمنين لشاذان ص148 ـ 152 وقضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه السلام» للتستري ص244ـ 246 (ط مؤسسة الأعلمي ـ بيروت) عنه، وبحار الأنوار ج40 ص274 ـ 277 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج8 ص726 ـ 728 عن در بحر المناقب (مخطوط ) لجمال الدين بن أحمد الموصلي ص101.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان