واحتج «عليه السلام» على الناكثين في خطبة خطبها حين
نكثوها، فقال:
إن الله ذو ([كذا] والصحيح: ذا) الجلال والإكرام لما
خلق الخلق، واختار خيرة من خلقه، واصطفى صفوة من عباده، وأرسل رسولاً
منهم، وأنزل عليه كتابه وشرع له دينه، وفرض فرائضه، فكانت الجملة قول
الله جل ذكره حيث أمر فقال:
﴿أَطِيعُوا
اللهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ﴾([1])،
فهو لنا أهل البيت خاصة دون غيرنا.
فانقلبتم على أعقابكم وارتددتم، ونقضتم الأمر، ونكثتم
العهد، ولم تضروا الله شيئاً.
وقد أمركم الله أن تردوا الأمر إلى الله، وإلى رسوله،
وإلى أولي الأمر منكم، المستنبطين للعلم، فأقررتم، ثم جحدتم، وقد قال
الله لكم:
﴿وَأَوْفُوا
بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾([2]).
إن أهل الكتاب والحكمة والإيمان وآل إبراهيم بيَّنه
الله لهم، فحسدوه وأنزل الله جل ذكره:
﴿أَمْ
يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلَى مَا آتَاهُمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ
آتَيْنَا آلَ إِبْرَاهِيمَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَآتَيْنَاهُمْ
مُلْكاً عَظِيماً فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ صَدَّ
عَنْهُ وَكَفَى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً﴾([3])،
فنحن آل إبراهيم، فقد حسدنا كما حسد آباؤنا.
وأول من حسد آدم الذي خلقه الله عز وجل بيده، ونفخ فيه
من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه الأسماء، واصطفاه على العالمين.
فحسده الشيطان، فكان من الغاوين.
ثم حسد قابيل هابيل، فقتله فكان من الخاسرين.
ونوح «عليه السلام» حسده قومه فقالوا:
﴿مَا
هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ
وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ وَلَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ
إِنَّكُمْ إِذاً لَخَاسِرُونَ﴾([4]).
ولله الخيرة، يختار من [ما «خ»] يشاء، ويختص برحمته من
يشاء، يؤتي الحكمة والعلم من يشاء.
ثم حسدوا نبينا «صلى الله عليه وآله».
ألا ونحن أهل البيت الذين أذهب الله عنا الرجس، ونحن
المحسودون كما حسد آباؤنا قال الله عز وجل: ﴿إِنَّ
أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَهَذَا
النَّبِيُّ﴾([5]).
وقال:
﴿وَأُولُو
الْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَى بِبَعْضٍ فِي كِتَابِ اللهِ﴾([6]).
فنحن أولى الناس بإبراهيم، ونحن ورثناه، ونحن أولوا
الأرحام الذين ورثنا الكعبة، ونحن آل إبراهيم، أفترغبون عن ملة
إبراهيم؟! وقد قال الله تعالى:
﴿فَمَنْ
تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾([7]).
يا قوم، أدعوكم إلى الله، وإلى رسوله، وإلى كتابه وإلى
ولي أمره، وإلى وصيه، وإلى وارثه من بعده.
فاستجيبوا لنا، واتبعوا آل إبراهيم، واقتدوا بنا، فإن
ذلك لنا آل إبراهيم فرضاً واجباً. والأفئدة من الناس تهوي إلينا، وذلك
دعوة إبراهيم «عليه السلام»، حيث قال:
﴿فَاجْعَلْ
أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ﴾([8]).
فهل نقمتم منا إلا أن آمنا بالله، وما أنزل علينا؟!
ولا تتفرقوا فتضلوا، والله شهيد عليكم، وقد أنذرتكم،
ودعوتكم وأرشدتكم، ثم أنتم وما تختارونه([9]).
ونقول:
إن هذا الإحتجاج العلوي على الناكثين قد ارتكز إلى
حقيقة مهمة تجاوزت موضوع نكث البيعة والإتهامات الباطلة، والبغي على
الإمام كما أنها لم تتوقف كثيراً عند ما ينشأ عن هذا الإخلال من آثار
وتبعات على صعيد النظام العام، ولم تشر إلى بيعة الغدير، ولا إلى وصية
الرسول ولا إلى أوامره وجهوده «صلى الله عليه وآله» لتكريس أمر الإمامة
والخلافة من موقع النبوة، ولا ركز على ما يترتب على مخالفة أمر الله من
آثار عملية، وأحكام في الدنيا، وتبعات الآخرة..
بل تجاوز «عليه السلام» ذلك كله، بالرغم من أنه صحيح،
وحق صريح، ليبين حقيقة أكبر من ذلك كله. وهي أن المحور الذي يقوم عليه
بناء الحياة البشرية كله، هو رسول الله «صلى الله عليه وآله» وأهل
بيته، وعلى رأسهم أمير المؤمنين «عليهم السلام»..
وقد تضمنت خطبته هذه بيان هذا الأمر، وأموراً هامة
أخرى، نذكر منها ما يلي:
1 ـ
إن الله تعالى اصطفى من خلفه صفوتهم، وخيرتهم.. ثم اختار من هذه الصفوة
والخيرة رسولاً منهم، وبذلك يتأكد: أن فضل رسول الله «صلى الله عليه
وآله»، إنما هو من حيث أنه صفوة الصفوة، وخيرة الخيرة..
2 ـ
إن هذه الخصوصية هي التي بررت تخصيصه «صلى الله عليه
وآله» بدين الله دونهم، لأنه هو الذي يستطيع أن يتفاعل مع جميع حقائقه،
وكافة دقائقه.. لأن هذا الدين إذا روعي فيه أكمل البشر على الإطلاق،
فإن سائر الطبقات تستطيع أن تدرك منه ما يناسب قدراتها وحالاتها. أما
لو كان هذا الدين قد جاء ليلبي حاجات طبقة أو فئة، بعينها.. فليس
بالضرورة أن يكون قادراً على تلبية حاجات فرد جاء متميزاً عن تلك
الطبقة..
أما إذا روعي في هذا الدين وتشريعاته وحقائقه بذلك
الفرد الأقصى، والأكمل والأرقى، المتميز من جميع الجهات، ليكون هو
النموذج، والأسوة والقدوة، لم يعد مجال لتوهم نشوء حاجة إلى استدراك
شيء على ما جاء به في أي من الظروف والأحوال.
3 ـ
إن أولي الأمر الذين يجب على الخلق طاعتهم بنص القرآن
هم أهل البيت «عليهم السلام»..
4 ـ
ثم قوض «عليه السلام» مبدأ لزوم الطاعة الذي تقوم عليه
كل سلطة حين قرر عدم شمول الأمر بإطاعة أولي الأمر لغير أهل البيت
«صلوات الله وسلامه عليهم».
5 ـ
إنه «عليه السلام» حين أخذ على الناس: أنهم انقلبوا على
أعقابهم، وارتدوا، ونقضوا الأمر، ونكثوا العهد.. كان يريد أن يقول:
إن ما جرى بعد رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وتكرر
عدة مرات لم يكن مجرد استبدال شخص بآخر ليتولى مقام الخلافة بل هو:
ألف:
ارتداد على الأعقاب، وعودة إلى نقطة الصفر، وتكريس لأمر
الجاهلية.
ب:
إنه نقض للخطة الإلهية في نشر الهدى والخير في سياسة
عباده، وإعمار بلاده.
ج:
إنه نقض
للعهد، وللميثاق الذي أخذه الله من الخلق في عالم الذر، حين أشهد الناس
على أنفسهم:
﴿أَلَسْتُ
بِرَبِّكُمْ قَالُوا بَلَى شَهِدْنَا﴾([10])،
فتركوا طاعة ربهم وأطاعوا وعبدوا الشيطان، وانقادوا للهوى..
6 ـ
ثم بين «عليه السلام»: أن نقضهم للعهد، وارتدادهم على
أعقابهم، يستتبع:
أولاً:
فقدانهم كل ما
كان الله تعالى، قد تفضل عليهم بوعدهم به،
لأن هذا الفضل الإلهي كان مشروطاً بوفائهم بعهدهم له..
ثانياً:
أن عليهم أن ينتظروا عواقب سوء عملهم المتمثل بجرأتهم على الله تعالى،
وسعيهم لإبطال تدبيره في خلقه، ونقض عهوده التي أخذها على عباده. وفق
ما ألمحت الآية الكريمة التي أوردها
«عليه السلام»
كشاهد على الحقيقة التي بينها، وهي قوله تعالى: ﴿وَأَوْفُوا
بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ﴾([11]).
7 ـ
ثم إنه «عليه السلام» قد بين دوافع هذا الارتداد على
الأعقاب، ونقض الأمر، ونكث العهد، وهو أنهم حسدوا الناس (يعني أهل
البيت «عليهم السلام») على ما آتاهم الله من فضله..
وأوضح أن هذا الحسد قد بدأ منذ خلق الله تعالى آدم
«عليه السلام»، فقد حسده إبليس لعنه الله، لأن الله خلقه بيده، ونفخ
فيه من روحه، وأسجد له ملائكته، وعلمه الأسماء المباركة، واصطفاه على
العالمين، ولعل أهم أسباب حسده هو علمه بأنه يحمل أنوار محمد وأهل
بيته،
ثم حسد قابيل هابيل، ثم حسد قوم نوح نوحاً «عليه
السلام». ثم حسد الناس إبراهيم وآل إبراهيم، وامتد الحسد، حتى أن
الناس، وعبدة شياطين الهوى قد حسدوا النبي «صلى الله عليه وآله»، وجميع
أهل بيته الطاهرين، وآبائه المكرمين من آدم إلى النبي الخاتم.
8 ـ
وتجد في ثنايا كلماته «عليه السلام» هنا ما يشير إلى أن
هذا الحسد لا يعدو كونه تخطئةً واعتراضاً على الله، وطموحاً من شياطين
الإنس والجن إلى التحكم فيه تعالى، وفرض إرادتهم عليه، والتدخل في
تدبيره..
ولأجل ذلك قال «عليه السلام»:
«ولله الخيرة، يختار من يشاء، ويختص برحمته من يشاء».
9 ـ
ثم أشار «عليه السلام» إلى أن اختياره تعالى للأنبياء
والأولياء، وولاة الأمر لم يكن إقتراحياً وبلا جهة، بل روعي فيه: أن
تكون هذه الأمانة الكبرى بأيد صالحة وأمينة، يتصدى لحملها أناس قادرون
على حمل أعبائها، وتدبيرها وفق الحكمة المتلقاة عن الله سبحانه وتعالى،
والإستضاءة في إيصالها إلى أهدافها بنور العلم الصحيح، وبالهدى الإلهي
الصريح.
وهذا لا يكون إلا عند الصفوة الأخيار، وأهل البيت
الأطهار، إذ ليس كل ما في أيدي الناس مما يسمونه حكمة، يستحق أن يسمى
بهذا الاسم، بل هو في أكثره مجرد ظنون وأوهام، وحدسيات وأحلام..
كما أن الكثير مما يظنونه علماً هو من القشور الخالية
عن اللباب، أو من الجهل الذي لا يخالجه أي ارتياب.
10 ـ
ثم تحدث «عليه السلام» عن أن أهل البيت «عليهم السلام»
هم أولوا الأرحام الذين ورثوا الكعبة، وهم آل إبراهيم، ولا ينبغي لأحد
أن يرغب عن ملة إبراهيم..
وذلك ليشير إلى أن أعظم رمزٍ لارتباط الأرض بالسماء،
وأجل محل للتقديس والتكريم، والإجلال والتعظيم، وأظهر تجليلات الوحدة
والتوحيد، والرحمة والسلام والمحبة والوئام، والتوافق والانسجام،
والانصهار في بوتقة الإسلام وصلة الأرحام، هو بيت الله الحرام.
وأهل البيت هم أولى الناس بإبراهيم، لأنهم آله، الذين
ورثوه ووصلوه، وجسدوا فضائله، وقيمه، ونبوته، وحفظوا شريعته، وحملوا
اسمه، ورسالته، وأقاموا دينه وملته..
والأمة كلها تفتخر بالانتساب إليه، وتدعي أنها على ملته
وشريعته. و
﴿وَمَنْ
يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ﴾([12]).
و
﴿إِنَّ
أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْرَاهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ﴾([13]).
و
﴿فَمَنْ
تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي﴾([14]).
11 ـ
إن دعوته «عليه السلام» إلى الله، وإلى رسوله، وإلى
كتابه، وإلى ولي أمره، ووصيه، ووارثه من بعده، تدل على أنهم كانوا قد
تركوا ذلك كله..
ومعنى ذلك:
أن ما يجري ليس مجرد استبدال حاكم بغيره، وخليفة بآخر.
وليس مجرد عمل بالهوى، أو خطأ عفوي في مورد بعينه، بل هو جرأة وجريمة
بحق الإسلام كله، لأنها تعني التنكر للتوحيد، والكفر بالله، ورسوله،
وكتابه، والخروج على ولي أمره، ووصيه، ووارثه، وإنكار ذلك من الأساس،
أو تعطيله على الأقل..
12 ـ
ثم ذكر «عليه السلام»: أن استجابة الناس واتباعهم لأهل
البيت «عليهم السلام» إنما هي استجابة وإتباع لآل إبراهيم.
ثم تقدم خطوة أخرى ليصرح:
بأنهم هم آل إبراهيم، وأن اتِّباعهم وطاعتهم فرض واجب
على الناس.. فليس لأحد أن يمن عليهم ولا على غيرهم بقيامه بما هو واجب
عليه، لأن النظام الإنساني العام مرهون بهذا الواجب. إذ بدونه يكون
الضلال والدمار، والهلاك والبوار.
13 ـ
ثم أعلن «عليه السلام»: أن الأهداف الإلهية لا تتحقق في
صورة فرض الطاعة والإجبار على الاستجابة.. فكيف إذا كان ذلك يدخل في
دائرة الظلم الذي يتنافى مع مقام الألوهية الأقدس!!
ومن كلام له «عليه السلام»:
1 ـ
«وقد أرعدوا وأبرقوا، ومع هذين الأمرين الفشل. ولسنا
نرعد حتى نوقع، ولا نسيل حتى نمطر»([15]).
2 ـ
ومن خطبة له «عليه السلام»، قال ابن أعثم: إنه «عليه
السلام» خطبها حين بلغه أن طلحة والزبير خلعا بيعته.
«ألا وإن الشيطان قد جمع حزبه، واستجلب خيله ورجله. وإن
معي لبصيرتي، ما لبَّست على نفسي، ولا لُبِّس علي.
وأيم الله، لأفرطن لهم حوضاً أنا ماتحه، لا يصدرون عنه،
ولا يعودون إليه»([16]).
3 ـ
المفيد عن الكاتب، عن الزعفراني، عن الثقفي، عن عبيد الله بن إسحاق
الضبي، عن حمزة بن نصر، عن إسماعيل بن رجاء الزبيدي قال:
لما رجعت رسل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب «عليه
السلام» من عند طلحة والزبير وعائشة يؤذنونه بالحرب قام فحمد الله
وأثنى عليه، وصلى على محمد «صلى الله عليه وآله» ثم قال:
يا أيها الناس، إني قد راقبت هؤلاء القوم كيما يرعووا
ويرجعوا، وقد وبختهم بنكثهم، وعرفتهم بغيهم، فليسوا يستجيبون. ألا وقد
بعثوا إلي أن أبرز للطعان، واصبر للجلاد، فإنما منتك نفسك من أنباء
الأباطيل.
هبلتهم الهبول قد كنت وما أهدد بالحرب، ولا أرهَّب
بالضرب، وأنا على ما وعدني ربي من النصر والتأييد والظفر، وإني لعلى
يقين من ربي، وفي غير شبهة من أمري.
أيها الناس، إن الموت لا يفوته المقيم، ولا يعجزه
الهارب ليس عن الموت محيص، من لم يقتل يمت. إن أفضل الموت القتل.
والذي نفس ابن أبي طالب بيده، لألف ضربة بالسيف لأهون
علي من موت على فراش.
يا عجبي لطلحة، ألب على ابن عفان حتى إذا قتل أعطاني
صفقة يمينه طائعاً، ثم نكث بيعتي، وطفق ينعى ابن عفان ظالماً، وجاء
يطلبني يزعم بدمه.
والله ما صنع في أمر عثمان واحدة من
ثلاث:
لئن كان ابن عفان ظالماً ـ كما كان يزعم حين حصره وألب عليه ـ إنه
[كان] لينبغي أن يوازر قاتليه، وأن ينابذ ناصريه. وإن كان في تلك الحال
مظلوماً، إنه لينبغي أن يكون معه. وإن كان في شك من الخصلتين. لقد كان
ينبغي أن يعتزله، ويلزم بيته، ويدع الناس جانباً. فما فعل من هذه
الخصال واحدة، وها هو ذا قد أعطاني صفقة يمينه غير مرة. ثم نكث بيعته..
اللهم فخذه ولا تمهله.
ألا وإن الزبير قطع رحمي وقرابتي، ونكث بيعتي، ونصب لي
الحرب، وهو يعلم أنه ظالم لي. اللهم فاكفنيه بم شئت([17]).
4 ـ
ومن كلام له «عليه السلام» في معنى طلحة بن عبيد الله:
قد كنت وما أهدد بالحرب، ولا أرهب بالضرب، وأنا على ما
وعدني ربي من النصر. والله ما استعجل متجرداً للطلب بدم عثمان إلا
خوفاً من أن يطالب بدمه، لأنه [كان مظنته]، ولم يكن في القوم أحرص عليه
منه، فأراد أن يغالط بما أجلب فيه، ليلتبس الأمر، ويقع الشك.
ووالله ما صنع في أمر عثمان واحـدة من ثلاث لئن كان ابن
عفان ظالماً ـ كما كان يزعم ـ لقد كان ينبغي له أن يوازر قاتليه أو
ينابذ ناصريه.
ولئن كان مظلوماً لقد كان ينبغي له أن يكون من
المنهنهين عنه والمعذرين فيه.
ولئن كان في شك من الخصلتين لقد كان ينبغي له أن يعتزله
ويركد جانباً، ويدع الناس معه.
فما فعل واحدة من الثلاث وجاء بأمر لم يعرف بابه ولم
يسلم معاذيره([18]).
5 ـ
ومن خطبة له «عليه السلام»:
«ألا وإن الشيطان قد ذمر حزبه، واستجلب جلبه، ليعود
الجور إلى أوطانه، ويرجع الباطل في نصابه. والله، ما أنكروا علي
منكراً، ولا جعلوا بينني وبينهم نصفاً. وأنهم ليطلبون حقاً هم تركوه،
ودماً هم سفكوه، فلئن كنت شريكهم فيه، فإن لهم لنصيبهم منه. ولئن كانوا
ولوه دوني، فما التبعة إلا عندهم.
وإن أعظم حجتهم لعلى أنفسهم، يرتضعون أماً قد فطمت،
ويحيون بدعة قد أميتت.
يا خيبة الداعي من دعا، وإلى ما أجيب.
وإني لراضٍ بحجة الله تعالى عليهم، وعلمه فيهم.
فإن أبوا أعطيتهم حد السيف، وكفى به شافياً من الباطل،
وناصراً للحق.
ومن العجب بعثهم إلي:
أن أبرز للطعان، وان أصبر للجلاد!! هبلتهم الهبول: لقد كنت وما أهدد
بالحرب، ولا أرهب بالضرب. وإني لعلي يقين من ربي، وغير شبهة من ديني»([19]).
6 ـ
قال ابن ميثم، بعد إيراد تلك الفقرات: «أكثر هذا الفصل من الخطبة التي
ذكرنا أنه «عليه السلام» خطبها حين بلغه أن طلحة والزبير خلعا بيعته،
وفيه زيادة ونقصان. ونحن نوردها بتمامها. وهي بعد حمد الله، والثناء
عليه، والصلاة على رسوله:
أيها الناس، إن الله افترض الجهاد فعظمه، وجعله نصرته،
وناصره. والله، ما صلحت دين ولا دنيا إلا به. وقد جمع الشيطان حزبه،
واستجلب خيله، ومن أطاعه، ليعود له دينه وسنته [وخدعه].
وقد رأيت أموراً تمخضت.
والله، ما أنكروا علي منكراً ولا جعلوا بيني وبينهم
نصفاً. وإنهم ليطلبون حقاً تركوه، ودماً سفكوه، فإن كنت شريكاً فيه،
فإن لهم لنصيبهم منه، وإن كانوا تولوه دوني، فما الطلبة إلا قبلهم. وإن
أول عدلهم لعلى أنفسهم.
ولا اعتذر مما فعلت، ولا أتبرأ مما صنعت. وإن معي
بصيرتي، ما لبست ولا لبس علي.
وإنها للفئة الباغية، والتي فيها الحَمَّ والحمة، طالت
جلبتها، وانكفت جونتها. ليعودنَّ الباطل إلى نصابه؟!
يا خيبة الداعي! لو قيل ما أنكر من ذلك، وما إمامه وفي
من سننه [وفيما سنته خ.ل.] والله، إذن لزاح الباطل عن نصابه، وانقطع
لسانه. وما أظن الطريق له فيه واضح حيث نهج.
والله، ما تاب من قتلوه قبل موته، ولا تنصل عن خطيئته،
وما اعتذر إليهم فعذروه، ولا دعا فنصروه.
وأيم الله، لأفرطن لهم حوضاً أنا ماتحه، لا يصدرون عنه
بري، ولا يعبون حسوة أبداً.
وإنها لطيبة نفسي بحجة الله عليهم، وعلمه فيهم.
وإني داعيهم، فمعذر إليهم، فإن تابوا، وقبلوا وأجابوا،
وأنابوا، فالتوبة مبذولة، والحق مقبول. وليس علي كفيل. وإن أبوا
أعطيتهم حد السيف. وكفى به شافياً من باطل، وناصراً لمؤمن، ومع كل
صحيفةٍ شاهدها وكاتبها.
والله، إن الزبير، وطلحة، وعائشة ليعلمون أني على الحق،
وهم مبطلون»([20]).
توضيح:
الحَمّ بفتح الحاء وتشديد الميم: بقية الألية التي أذيبت وأخذ دهنها.
والحمة السواد.
قال العلامة المجلسي «رحمه الله»:
[قوله «عليه السلام»]:
«فيها
اللحم واللحمة» لحم كل شيء: لبه. واللحمة بالضم: القرابة. أي فيها من
يظن الناس أنهم لب الصحابة، وفيهم من يدَّعي قرابة الرسول، كالزبير.
وفي بعض النسخ:
«الحمأ
والحمة»، كما مر.
«قد طالت هينتها» الهينة:
الرفق والسكون. شبه «عليه السلام» تلك الفئة وفتنتها
بناقة طال سكونها، وأمكنت من حلبها. كناية عن استمرار الفتنة وتمكنها
في أهل الجهل.
وفي بعض النسخ:
«هلبتها»
قال الجوهري: الهلبة ما غلظت من شعر الذنب. وهلبة الزمان: شدته([21]).
ونقول:
هناك أمور ينبغي التوجُّه لها، ومنها ما يلي:
يقال:
أرعد وأبرق، إذا تهدد وتوعد. ومجرد التهديد والوعيد لا يحسم الأمور، بل
ربما يكون سبباً في تصعيبها، إذا أوجب لدى الطرف الآخر المزيد من
الإعداد والإستعداد. ويزيد هذا المعنى وضوحاً إذا كان هذا التهديد
والوعيد صادراً من الباغي المبطل، الذي لا يملك حجة، حيث يكون هذا
الإرعاد والإبراق من مؤكدات بغيه وظلمه، ومن دلائل عدوانه، ومظاهر
جرمه..
أما حين يحصل الإرعاد والإبراق في مقابل علي «عليه
السلام»، الذي يقول فيه رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»:
إنه مع الحق، ومع القرآن، والحق والقرآن معه، فإن ذلك يزيد من فضيحة من
يمارس هذه الأساليب ضده «عليه السلام».. فكيف إذا كان علي «عليه
السلام» لا يُرَهَّب بالحرب، ولا يخوف بالضرب. وكان ألف ضربة بالسيف
أهون عنده من ميتة على فراش.
أما أمير المؤمنين «عليه السلام»، فهو يقيم الحجة على
الطرف الباغي، فإذا أصر على بغيه، فإنه لا يمهله ليستعد، ولكن لا
بطريقة البطش الظالم أو التصرف الآثم، بل يأتي لمواجهته، ويطلب منه
حجته، ويعطيه الفرصة لتبرير ما يقدم عليه.
وبذلك يكون قد منعه من امتلاك قوة التحدي بالأساليب غير
المنطقية، وغير المشروعة، لأن ذلك قد يتسبب بالمزيد من الخسائر في
الأبرياء..
والمطلوب من الحرب هو تسهيل الطريق أمام الحق وأهله،
والتخلص من العوائق والمشكلات، وإبعاد المصائب والنكبات، بالقضاء على
مصدرها، ومسببها.. وهذا بعض ما أراده «عليه السلام» بقوله: ولسنا نرعد
حتى نوقع.
أما قوله «عليه السلام»:
ولا نسيل حتى نمطر، فقد تضمن إشارة إلى أن التهديد والوعيد هو بمثابة
تعجّل النتائج، والتسويق للتمنيات، من دون أن يكون هناك أية ضمانة
لتحقق شيء منها.
وهذا قد يدخل في سياق خدعة الإنسان لنفسه، ومن موجبات
التغرير بمن معه، لا سيما إذا نتج عنه تصعيد الطرف الآخر من درجة منعته
وحصانته، وربما من قوته الضاربة التي تأتي له بالنصر الأكيد..
وذلك يعطي:
أن الحكمة تقضي بإيراد الضربة الحاسمة، التي تدمر مصدر الخطر، وتأتي
بالنتائج المتوخاة بأسرع ما يمكن.
والأهم من ذلك كله:
أن التهديد والوعيد من شأنه أن يعطي الانطباع السيئ عن الذي يفعل ذلك،
من حيث أنه يفهم الآخرين أن المنحى هو منحى فرض الرأي والقرار على
الآخرين بقوة السيف..
ومعنى ذلك:
هو الإساءة للحق، إن كان الذي يفعل ذلك محقاً.
مع أن الحق يريد أن يفرض نفسه على الآخرين من خلال
الحجة القاطعة، والدلائل الساطعة، التي تنتهي بوضع الطرف الآخر: إما في
موضع الرضا والتسليم، أو في موقع البغي والتمرد..
فإذا اختار طريق البغي كان دفع هذا البغي واجباً
مفروضاً، بمنطق مشروعية الدفاع عن النفس، ولا يريد أهل الحق فرض الحق
بالقوة، وبحدِّ السيف، وتحت وطأة التهديد بالإجتياح والإستئصال..
وإن من يتهدد ويتوعد وهو على باطل يسيء إلى نفسه أيضاً،
لأن هذا التهديد والوعيد يُظْهِرُ بغيه، وظلمه، وعدوانه، الذي تأباه
فطرة الناس، وكل الشرائع، وهو يحرج العدو، والصديق على حد سواء، ويزيد
من تردد الذين لم يحسموا خيارهم بعد، بل هو يدفعهم إلى الخيار الآخر..
وقد بينت كلماته «عليه السلام»:
أن من يمتلك الرؤية الواضحة، هو القادر على الحسم، من حيث أنه يمسك
بالمفاصل الحساسة والمؤثرة في ذلك، فقد أشار «عليه السلام» في كلامه
إلى ما يلي:
1 ـ
أنه «عليه السلام» لا ينفك يستعمل عقله، ويستهدي بنور بصيرته، التي هي
دائماً معه لا تفارقه. وقد أكد حضور بصيرته بلام التأكيد، وبكلمة «إن»
المخففة من الثقيلة، التي تفيد هي الأخرى مضاعفة التأكيد، ثم أكد مزيد
حضورها معه بتقديم خبرها على إسمها، هذا كله عدا عن إفادة الجملة
الإسمية بنفسها تأكيداً للمرة الخامسة..
وفي المرة السادسة أكد ذلك، حين صرح بمضمون هذه المعية،
حيث قال: ما لبَّست على نفسي، ولا لبس عليّ، فمن كانت رؤيته للأمور إلى
هذا الحد من الوضوح، فلا يمكن أن يؤخذ على حين غرة..
2 ـ
إنه «عليه السلام» لم يزين الأمور لنفسه ليخدعها عما يصلحها، ويسوقها
إلى حيث تدعوه أهواؤه وشهواته. بل كان صادقاً معها، وأميناً على
مصالحها. كما أن أحداً لم يفلح في خداعه، وجره إلى الباطل، وزجه في
ظلمات الشبهات. وكيف يمكن أن تدخل الشبهة عليه ومعه بصيرته؟!
3 ـ
ثم بين أن الإمهال والتواني لا يصح في مثل هذه الأمور، بل لا بد من
استباقها بالتدبير الصحيح، والإعداد الكافي والتام..
4 ـ
ولا بد من السيطرة على حركة ذلك العدو الناكث والغادر، وإخضاعها
لإرادته، والتحكم بها لتصبح في خدمة الحق، كما دل عليه قوله: «لأفرطن
لهم حوضاً أنا ماتحه» أي لأسبقنهم بالتدبير، حتى أكون أنا الذي أتحكم
بكل أمورهم، بحيث يكون ما أُعِدُّه لهم بمثابة حوض يردون عليه، ويكون
ما أعددته لهم هو ما يختارون شربه.
5 ـ
ولكنهم حين يردون ذلك الحوض، فإنهم يفقدون قدرة الصَّدَرِ عنه، لأن
مصيرهم يصبح بيده «عليه السلام»..
كما أن العودة إلى ذلك الحوض بعد الصدر الذي لا يتحقق
تصبح بلا معنى، إذ لا صدر لهم لكي تتصور لهم عودة.
ولو تصورنا أنهم صدروا عنه ولو بالفرار، فإنه سيكون
صدراً وفراراً لا عودة لهم بعده، لأنه سينتهي بالقضاء على أحدوثتهم،
إما بالقتل أو بالتخلي عن دعوتهم، إن أمكنهم الحصول على العفو منه
«عليه السلام».
وهذا هو التدبير الصحيح والحازم مع أهل الخيانة والنكث.
6 ـ
والأهم من ذلك كله: أنه «عليه السلام» قد أفهمنا بكلماته تلك: أنه
بالإضافة إلى هذا المستوى من الوضوح في الرؤية، والحزم في معالجة هذه
الأمور، فإنه يملك أيضاً القدرات التدبيرية الكافية التي تمكنه من
احتواء حركة هؤلاء المبطلين.
وهذا يعطينا نموذجاً للحاكم الإلهي والعادل، في
مواصفاته، وفي الذي وهبه الله إياه من قدرات فكرية وعلمية وتدبيرية،
وما حباه الله به من ألطاف قدراته الفكرية، والعلمية والتدبيرية.
وقد بيّن «عليه السلام»:
أن الشيطان ـ من خلال حركة طلحة والزبير قد حث ورغب حزبه، وجمع جموعه
تمهيداً لعودة الجور إلى أوطانه..
ومعنى ذلك:
أولاً:
إنه «عليه السلام» كان يرى أن حركة أهل الجمل كانت شيطانية، شريرة،
وضالة. ولها أهداف تسيء إلى حياة الناس، وتؤدي بهم إلى ما لا تحمد
عقباه.
ثانياً:
إن هدف هذه الحركة هو إعادة الجور إلى أوطانه، فدل ذلك على أن الجور
كان مستوطناً في ذلك المحيط، من حيث أن حكومة من سبقه كانت جائرة
وظالمة..
ثالثاً:
إن هذا الجور لم يكن عارضاً، بسبب نزوة، أو طغيان شهوة، بل كان قد ترسخ
في تلك البلاد، حتى أصبحت وطناً له، وتمكن من أهلها، وصار يشعر بالأمان
والإطمئنان فيها. على حد شعور أهل الأوطان في أوطانهم.
رابعاً:
إن آثار حركة أولئك المتمردين لا تنحصر بما سيصيب الناس من ظلم وجور،
بل هو يتعدى ذلك ليصبح الباطل هو الحاكم والمهيمن على حياة الناس، وعلى
سلوكهم ومواقفهم، ثم يتفاقم ليطال مفاهيمهم واعتقاداتهم، وما إلى ذلك..
مشيراً بذلك إلى أن هذا الباطل كان قد هيمن على حياة
الناس في عهد من سبقه، وأنه يسعى للعودة إلى نصابه..
وقد بين «عليه السلام» في الفقرة
الثالثة:
أن أهل الجمل، لا ينطلقون في حركتهم من مبررات وجدوها فيه، أو في حكمه
وإدارته، فإنهم ما أنكروا عليه «صلوات الله عليه» منكراً، بل أنكروا
عليه المعروف وهو عمله بسنة نبيهم، والتزامه بأحكام الشريعة والدين،
حين سوى بين الناس في العطاء، ورفض تولية من لا يثق بدينه وأمانته.
ولأجل ذلك قال «عليه السلام»:
ما أنكروا علي منكراً ولم يقل: ما أنكروا عليّ شيئاً. لأنهم قد أنكروا
عليه عمله بالمعروف كما قلنا.
وحين يختلف الناس فيما بينهم، فإنهم يجعلون بينهم حكماً
يرونه أهلاً للحكومة، ويتوسمون فيه العدل والإنصاف. أما حكام الجور،
فإنهم إذا اختلفوا مع أي كان من الناس يفرضون حكمهم عليه، مهما كان ذلك
الحكم جائراً وظالماً.
ولكن علياً «عليه السلام» يقدم نموذجاً للحاكم العادل،
حين يلوم طلحة والزبير على عدم اللجوء إلى حكم من أهل الإنصاف ليحكموا
بينه وبينهم، حيث قال: ولا جعلوا بيني وبينهم نصفاً.
مع أن الأمر مع علي «عليه السلام» لا يحتاج إلى حَكَمٍ
ولا إلى غيره، لأن الله تعالى قد حكم بطهارته من كل خطل وزلل، حيث قال:
﴿إِنَّمَا
يُرِيدُ اللهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ
وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً﴾([22]).
وقد أعلن رسول الله «صلى الله عليه
وآله»:
أن علياً «عليه السلام» مع الحق والحق مع علي، وأنه مع
القرآن والقرآن معه.
فأي حَكَمٍ بعد هذا يحق له أن ينظر فيما يختلف فيه علي
«عليه السلام» مع أي كان من الناس. فإن الله ورسوله قد أصدرا حكمهما في
كل خلاف مع علي «عليه السلام».
وإن نفس نظر الحَكَم في القضية التي يختلف فيها علي
«عليه السلام» مع غيره يخرجه من دائرة الانصاف تلقائياً..
ولكن القضية هي:
أن علياً «عليه السلام» يريد أن لا يبقي لهم ذريعة مهما كانت، على
قاعدة: «ولكني أسففت إذ أسفوا، وطرت إذ طاروا».
ثم إنه «عليه السلام» بيَّن أن السبب في عدم رجوعهم
لحاكم منصف، هو أنهم يعرفون أنهم بغاة ظالمون، يطلبون حقاً هم تركوه،
ودماً هم سفكوه. فهل هناك بغي وظلم أعظم من هذا؟!
ومن يفعل ذلك فلا بد أن يكون عالماً بنفسه، واقفاً على
باطله، وعلى بوار قضيته.. فهل يطلب لها حكماً؟! وهل يرضى بأن يكون ذلك
الحكم منصفاً؟!
وهو «عليه السلام» هنا يجري كلامه
على قاعدة:
ألزموهم بما ألزموا به أنفسهم.
والمراد:
أنهم هم الذين بادروا إلى بيعته «عليه السلام» قبل كل أحد، فلو صدقناهم
في دعواهم أن لهم حقاً، فلماذا تركوا هم أنفسهم هذا الحق؟!
بل الحقيقة هي أن تركهم ذاك يدل:
على عدم وجود حق لهم، إما من الأساس، أو بسبب تخليهم عنه.
ويمكن أن يكون مراده:
أنهم يتركون حقاً ليس لهم، بل هو له «عليه السلام»، وإنما تركوه لعلمهم
بأنهم غير قادرين على استلابه منه، لأن الناس لا يرضون بهم.
والمعنى الأول وارد على سبيل التنزل والقبول بدعواهم.
وهو لم يزل يجهر بأن الحق له، وأنه اهتضم وظلم..
ويدلنا على ذلك:
قوله مباشرة عن الدم الذي سفكوه: فإن كنت شريكهم فيه فإن لهم نصيبهم
منه. وإن كانوا ولوه دوني، فما التبعة إلا عندهم.
فإنه «عليه السلام» لم يشارك في قتل عثمان بلا ريب، وقد
أعلن ذلك مرات ومرات، بل هو قد حاول مساعدته على التخلص من ورطته. ولكن
عثمان لم يفِ بوعوده.
وإنما يجري الكلام بناء على منطق إلزام الطرف الآخر بما
يلزم به نفسه.
وقوله «عليه السلام» في آخر الفقرة
المتقدمة برقم (3):
«وإني لعلى يقين من ربي وغير شبهة من ديني» بمثابة بيان العلة والسبب
لقوله «عليه السلام»: لا يهدد بالحرب، ولا يرهب بالضرب، لأنه على يقين
من ربه، وليس لديه أية شبهة في دينه، ومن كان كذلك، فهو واثق بأنه ينال
إحدى الحسنيين إما النصر أو الشهادة.
أما الشاكّ في ربه، ومن لديه شبهة في دينه، فهو الذي
يخيفه التهديد والترهيب،لأن شكه في ربه يحجب عنه اليقين بنصره، وشبهته
في دينه تمنع عنه اليقين بالإستشهاد، إذ قد يكون من الضالين الهالكين.
وقد أوضح «عليه السلام»:
أن من أسباب استعجالهم للطلب بدم عثمان هو الخشية من أن يكونوا هم
المطالبين بدمه، فقد كانوا أحرص الناس على قتله. وقد ظهر حرصهم هذا في
تحريضهم، وفي قيادتهم للمحاصرين والمهاجمين لعثمان حتى قتل..
وكان المطلوب إثارة هذه الضجة على علي «عليه السلام» هو
إيقاع الناس في الغلط، وإيجاد الشبهة، وحصول اللبس.
ثم إنه «عليه السلام» قد بين أنهم مدانون حتى لو حصل
اللبس ووقع الشك، لأن عثمان إن كان محقاً فيجب عليهم نصره، والمنع من
الإعتداء عليه..
وإن كان عثمان ظالماً، فقد كان عليهم أن يؤازروا
قاتليه، ويكونوا ضد ناصريه.
وإن كان في شك من أمره، فكان عليهم أن يعتزلوا،
ويمتنعوا عن أي موقف تجاهه..
ويقول المؤرخون، والنص لابن حبان:
«وقد أكثر الناس في قتل عثمان، فمنهم من قد زعم أنه قتل ظالماً، ومنهم
من قد زعم أنه قتل مظلوماً، وكان الإكثار في ذلك على طلحة والزبير.
قالت قريش:
أيها الرجلان، إنكما قد وقعتما في ألسن الناس في أمر
عثمان فيما وقعتما فيه، فقام طلحة في الناس، فحمد الله وأثنى عليه،
وصلى على النبي «صلى الله عليه وآله» ثم قال:
أيها الناس، ما قلنا في عثمان أمس إلا نقول لكم فيه
اليوم مثله، إنه خلف الدنيا بالتوبة، ومال عليه قوم فقتلوه، وأمره إلى
الله.
ثم قام الزبير فحمد الله وأثنى عليه بما هو أهله، وصلى
على النبي «صلى الله عليه وآله» ثم قال:
يا أيها الناس، إن الله اختار من كل شيء شيئاً، واختار
من الناس محمداً «صلى الله عليه وآله»، أرسله بالهدى ودين الحق ليظهره
على الدين كله ولو كره المشركون.
واختار من الشهور رمضان، وأنزل فيه القرآن، وفرض فيه
الصيام.
واختار من الأيام يوم الجمعة، فجعله عيداً لأهل
الإسلام.
واختار من البلدان هذين الحرمين:
مكة، والمدينة، فجعل بمكة البيت الحرام، وجعل بالمدينة
حرم رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وجعل ما بين قبره ومنبره روضة من
رياض الجنة.
واختار من الشورى التسليم، كما اختار هذه الأشياء،
فأذهبت الشورى بالهوى، والتسليم بالشك، وقد تشاورنا فرضينا علياً..
وأما إن قتل عثمان، فأمره إلى الله..
فلما رأى علي اختلاف الناس في قتل عثمان صعد المنبر،
فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:
أيها الناس، أقبلوا على بأسماعكم وأبصاركم. إن الناس
بين حق وباطل، فلئن علا أمر الباطل لقديماً ما فعل، وإن يكن الحق قد
غاب فلعل. وإني أخاف أن أكون أنا وأنتم قد أصبحنا في فتنة، وما علينا
فيها إلا الاجتهاد.
الناس اثنان وثلاثة لا سادس لهم:
ملك طار بجناحيه، أو نبي أخذ الله بيده، أو عامل مجتهد،
أو مؤمل يرجو، أو مقصر في النار.
وإن الله أدب هذه الأمة بأدبين:
بالسيف والسوط، لا هوادة عند السلطان فيهما. فاستتروا
واستغفروا الله، فأصلحوا ذات بينكم»([23]).
ونقول:
1 ـ
إن أهم ما في هذا النص: أنه يصرح بما قاله أمير المؤمنين «عليه السلام»
عن طلحة والزبير: إنهما أعلنا الطلب بدم عثمان خوفاً من أن يكونا هما
المطالبين بدمه.
وقد ذكر هذا النص:
أن الناس قد أكثروا عليهما بدم عثمان، حتى نصحتهما قريش بأن يبادرا إلى
الخروج من هذا الأمر:
2 ـ
إن طلحة، لم يجد إلا الإصرار على أقواله في عثمان، ولكنه ادعى أن عثمان
قد تاب من ذنوبه. ثم ألقى التهمة في قتله على قوم آخرين، وأخفى أسماءهم
وأمرهم، واخرج نفسه من بينهم، ولكنه أبقى نفسه في دائرة المعترضين على
عثمان لولا توبة عثمان عند خروجه من الدنيا..
3 ـ
أما الزبير، فإنه أوكل أمر عثمان إلى الله تعالى، ولم يحكم له أو عليه.
ولم يدع له توبة ولا غيرها، فيكون بذلك قد خطا خطوة نحو التبرؤ من دمه.
ولكنها كانت خطوة أقصر من خطوة طلحة.
4 ـ
إن ما ذكره الزبير من أن خلافة علي «عليه السلام» قد جاءت عن شورى حصلت
فيما بينهم، وأنهم قد رضوا به «عليه السلام» خليفة وحاكماً، يكذب
مزاعمهم التي سنشير إليها في هذا الكتاب، من أنه «عليه السلام» قد ابتز
هذه الأمة أمرها، من دون رضى منها..
5 ـ
أما بالنسبة لكلام أمير المؤمنين «عليه السلام»، فقد شرحناه في موقع
آخر من هذا الكتاب.
ولكنه أراد أن يحمي الجو العام من القيل والقال..
ويخوفهم من أنه لن يتهاون مع مثيري الفتن أياً كانوا. وأمر الناس
بلملمة بضاعتهم غير المرغوب فيها إلى بيوتهم، وكف ألسنتهم، لكي تهدأ
النفوس، وتعود الأمور إلى وضعها الطبيعي.
قال ابن أبي الحديد المعتزلي:
«روى أبو مخنف، عن مسافر بن عفيف بن أبي الأخنس، قال:
لما رجعت رسل علي «عليه السلام» من عند طلحة والزبير وعائشة يؤذنونه
بالحرب، قام فحمد الله، وأثنى عليه، وصلى على رسوله، ثم قال:
أيها الناس، إني قد راقبت هؤلاء القوم كي يرعووا أو
يرجعوا، ووبختهـم بنكثهم، وعرفتهم ببغيهم، فلم يستجيبوا. وقـد بعثوا
إلي: أن ابرز للطعـان، واصبر للجـلاد، إنما تمنيك نفسك أمـاني الباطل،
وتعدك الغـرور.
ألا هبلتهم الهبول، لقد كنت وما أهدد بالحرب ، ولا أرهب
بالضرب. ولقد أنصف القارة من راماها، فليرعدوا وليبرقوا، فقد رأوني
قديماً، وعرفوا نكايتي. فقد رأوني:
أنا أبو الحسن الذي فللت حد المشركين، وفرقت جماعتهم.
وبذلك القلب ألقى عدوي. وإني لعلى ما وعدني ربي من النصر والتأييد،
وعلى يقين من أمري، وفي غير شبهة من ديني.
أيها الناس، إن الموت لا يفوته المقيم، ولا يعجزه
الهارب. ليس عن الموت محيد، ولا محيص. من لم يقتل مات. وأن أفضل الموت
القتل. والذي نفس علي بيده، لألف ضربة بالسيف أهون من موتة واحدة على
الفراش.
اللهم إن طلحة نكث بيعتي، وألب على عثمان حتى قتله، ثم
عضهني به ورماني.
اللهم فلا تمهله.
اللهم إن الزبير قطع رحمي، ونكث بيعتي، وظاهر عليّ
عدوي، فاكفنيه اليوم بما شئت»([24]).
ونقول:
لاحظ ما يلي:
إن ما تقدم يقدم نموذجاً لصراحة الحاكم مع رعيته، هذه
الصراحة التي لو فرضت على الحكام وأهل السياسة لكان من شأنها أن تردع
الكثيرين منهم، من استعمال أساليب المكر والخداع والتدليس، أو اتباع
سبيل الخيانة، وما إلى ذلك من أساليب ممقوتة، ومدانة.
أما تكتم الحاكم في عمله السياسي، فهو يفسح المجال لكل
المفاجآت، ويجعل العدو قادراً على المباغتة، التي ربما تضع ذلك الحاكم
في إحراجات خطيرة، حيث تذهب الظنون في كل اتجاه حول طبيعة إرادته
للأمور حقيقة ما يجري، وهل خدع أو خان، أو قصّر في القيام بما يجب عليه
أو ما إلى ذلك.
وذلك يعد انتكاسة خطيرة في ثقة الناس به، وبحسن تدبيره،
وربما بإخلاصه وأمانته في القيام بواجبه، كما أن هذا الوضوح يفسح
المجال لتداول الأمور بواقعية وصدق. ويحد من تأثير نشاط أصحاب الأهواء
والأطماع في بلبلة الأفكار، ومن استغلال أجواء الغموض لإثارة الشبهات
والشكوك، وإضعاف ثقة الناس بالحاكم، وبسلامة مساره، أو في صوابية
قراره..
يضاف
إلى ذلك:
أن هذا النهج من شأنه أن يرفع من مستوى الوعي السياسي، لا سيما إذا
صاحبه تواصل الحاكم المستمر بالناس، لإعطائهم نفحات من وعيه السياسي،
وبيان المناشئ والمبررات الكامنة وراء المواقف التي يتخذها، حيث يضعها
لهم في موضعها الطبيعي من النهج السياسي الذي يتعامل به. وذلك ضمن
قواعد وضوابط محددة تظهر عليها ملامح النهج الصحيح، وتميزها عما عداها
من مناهج سياسية، تلتزم بضوابط خاطئة، أو أن نهجها هو التفلت من
الضوابط، واعتماد مبدأ الارتجال والعشوائية.
وكل ذلك يعطينا التفسير الدقيق للكلمة التي قالها
معاوية
لعكرشة بنت
الأطرش:
هيهات يا أهل العراق،
لقد نبهكم علي بن أبي طالب([25]).
ولسودة بنت عمارة
XE "سودة بنت عمارة"
:
هيهات: لمَّظكم ابن أبي طالب الجرأة على السلطان، فبطيئاً ما تفطمون
إلخ..([26]).
وقد صرح «عليه السلام»:
أنه قد راقب طلحة والزبير كي يرعووا، والمراد بالمراقبة
هنا الإنتظار.
أي أنه أمهلهم، وانتظر أن يرعووا، أو يرجعوا. والمراد
بالإرعواء: امتناعهم عن فعل ما عزموا على فعله. وبالرجوع العودة إلى
الحق، والقبول به، والتزامه ونصرته..
فبيّن «عليه السلام» بكلامه هذا:
أنه لا يريد منهم أكثر من كف شرهم عنه وعن الناس، ولم
يكن يطلب إخضاعهم، ولا أن يفرض عليهم حتى ما كان من حقه أن يفرضه..
وبيّن «عليه السلام» أنه بذل محاولات لإقناعهم، وأنه
أظهر قبح ما أقدموا عليه من النكث. وعرفهم بغيهم، وسد عليهم باب
الإعتذار بالغفلة، أو عدم وضوح الأمور لهم.
ولكن منطقهم كان مناقضاً لمنطقه، فإنهم يمارسون النكث،
والبغي، ويستخدمون لغة التهديد والوعيد، ووصم الأبرياء بما هم منه
براء.
وهذا منطق من لا يملك حجة سوى العناد واللجاج، والإقدام
على
المآثم والعظائم، وذلك من صفات الجبارين والظالمين، لا من صفات أهل
الدين..
فأين هذا المنطق من ذاك؟!
وهل يمكن أن يلتقيا في أي زمان ومكان؟!
وعلى حسب منطقهم، فإن الضوابط تسقط، وكل الحدود تزول،
ويختلط الحابل بالنابل، فلا وفاء ببيعة، ولا قيمة لعهد، ولا أثر لعقد..
والحاكم ليس المنطق والعقل، بل الأهواء والميول، والمهيمن على الحياة
هو النزوات والشهوات.
ويسري ذلك حتى إلى الحقائق التي رآها الناس بأم أعينهم،
فتُحَّول وتؤول، وتفهم على غير حقيقتها.
وقد تجلى ذلك هنا في أن طلحة والزبير وعائشة يهددون
علياً «عليه السلام» بالحرب مع علمهم ـ كما صرح به «عليه السلام» ـ
بأنه هو الذي حطم الشرك، وأذل أهله، وفل حده.
أما علي «عليه السلام» فإن معاييره لم تتغير، بل هو
أولاً يثق بنصر ربه له، ولا ينسب ما يتحقق على يديه ـ رغم عظيم خطره ـ
لا ينسبه إلى نفسه، بل يراه من العطاء الإلهي الذي يستحق الله الشكر
عليه.
وثانياً هو
«عليه السلام» يمتلك الرؤية الواضحة، ولديه اليقين بصحة
ما يقدم عليه. وهذا شرط آخر للنجاح والفلاح. وهو يعطيه الثقة بالتأييد
والرضا الإلهي مهما تكن النتائج المادية للعمل.
والشرط الثالث هو عدم الشبهة في شيء من حقائق الدين
وأحكامه، فإن هذا يعطيه السكينة واليقين بأنه حتى لو انتصر أو استشهد
في ذلك السبيل، فإنه قد نال ثواب المجاهدين. ونال أيضاً مقام الشهادة
بالفعل. وحصل على آثارها في الآخرة. وليس لديه أية شبهة أو ترديد في
ذلك.
وأما ما ذكره «عليه السلام» عن الموت هنا، فيحتاج إلى
دراسة معمقة، ولعلنا لا نبلغ مداه، ولا نوفق إلى كشف حدود معناه، غير
أننا نشير إلى ما يلي:
إنه «عليه السلام» قد سهل على الناس أمر الموت، وعرفهم
ببعض ما يجهلونه عنه. فأشار إلى جهات عديدة:
أولاها:
لا بدّية مواجهته، وعدم جدوى التحرز منه، والحياد عنه.
الثانية:
إن ساعة الموت محددة، فإذا حانت لا يمكن التقديم فيها
ولا التأخير.
الثالثة:
إن أسباب الموت متعددة، فتلافي سبب منها لا يدفع سائرها
لأن سبباً آخر سيحل محله..
الرابعة:
إن ثمة مفهوماً خاطئاً عن أسباب الموت لا بد من تصحيحه،
وهو أن الناس وإن أدركوا أن أسبابه تختلف بالشدة والضعف، وبالسهولة،
والصعوبة.. ولكنهم يخطئون في تحديد هذه الأسباب، فيعاكسون بينها،
فيظنون الأشد هو الأسهل. والأسهل هو الأصعب.
فالموت قتلاً عند الناس هو أصعب من الموت على الفراش.
مع أن العكس هو الصحيح، إلى حدّ أن مقدار التفاوت بينهما يبلغ حداً لا
يخطر على البال، فإن ألف ضربة بالسيف أهون من ميتة على فراش.
الخامسة:
إن هذا الفهم الخاطئ يعطي أن على الإنسان أن لا يثق
بصحة ظنونه فيما يرتبط بالغيب الذي لا سبيل له إليه، والموت هو أحد
مفردات هذا الغيب.
إن هذا يؤكد حاجة الإنسان إلى الله ورسوله لأخذ ما هو
الصحيح من ذلك..
السادسة:
والنتيجة
الطبيعية لذلك كله هي أن الخوف من الجهاد لا مبرر له، فإن الموت أمر
محتم. وله ساعة لا حيلة لأحد في تجاوزها. والآلام التي يخشى منها لا
مبرر للاعتقاد بوجودها، بل الآلام الأقوى والأصعب والأشد في غيرها..
ثم إنه «عليه السلام» بين للناس ـ بكلمات قصيرة، ولكنها
جامعة ـ خطل طلحة والزبير فيما فعلاه، ليدلهم ذلك على خطورة حصولهما
على ما يسعيان إليه. فهما نكثا بيعته، ولا يمكن الثقة بمن ينكث
العهود..
وليس العهد الذي نكثاه بالأمر اليسير، بل هو يخرج الناس
من الدين، لأنه خروج على الإمام، وشق لعصا المسلمين، وعدوان على أمن
الناس، وعبث به، وجعل حياتهم ومصيرهم في مهب الريح.
كما أن طلحة قد ارتكب جرماً ثم رمى به بريئاً، فكان
مصداقاً لقوله تعالى: ﴿وَمَنْ
يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ
احْتَمَلَ بُهْتَاناً وَإِثْماً مُبِيناً﴾([27]).
وللزبير خصوصية
أخرى، فإن الإنسان قد ينكث البيعة، ولكن الأمر يبقى في حدود مصالحة
الشخصية، ولا يمثل خطورة كبرى. ولكن الأمر بالنسبة للزبير لم يقتصر على
ذلك، لأن الزبير ظاهر عليه عدوه، وأصبح يشكل خطراً عاماً وشاملاً يهدد
نظام الأمة بأسرها..
يضاف إلى ذلك:
أن الزبير قد قطع رحمه «عليه السلام»، فإذا كان يتعامل مع ذوي رحمه
بهذه الطريقة فما بالك بغيرهم؟!
وشكوى علي «عليه السلام» طلحة والزبير إلى الله سبحانه،
وطلبه منه تعالى أن يكون هو المتولي لعقوبتهما، وإحباط سعيهما.. يدل
على أن ما تحدث به «عليه السلام» عن نفسه من أنه قد قمع الشرك، وأبار
كيد المشركين لا يمثل إعتزازاً بقوته الشخصية، ولا اعتماداً على قدراته
الذاتية. بل هو تنويه بنعمة الله تعالى، وبلطفه به، واعتزازاً بإقدار
الله تعالى له «عليه صلوات الله وسلامه».
وهذا الذوبان في الله ما لم نعهده لدى أهل الدنيا،
وطلابها، لأنه من خصوصيات أهل الله تعالى، وطلاب رضاه.
([1])
الآية 59 من سورة النساء.
([2])
الآية 40 من سورة البقرة.
([3])
الآيتان 54 و 55 من سورة النساء.
([4])
الآيتان 33 و 34 من سورة المؤمنون.
([5])
الآية 68 من سورة آل عمران.
([6])
الآية 75 من سورة الأنفال.
([7])
الآية 36 من سورة إبراهيم.
([8])
الآية 37 من سورة إبراهيم.
([9])
الإحتجاج (ط دار النعمان) ج1 ص233 وبحار الأنوار ج32 ص96 و 97
عنه، ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج1 ص138 وتفسير نور
الثقلين ج1 ص507.
([10])
الآية 172 من سورة الأعراف.
([11])
الآية 40 من سورة البقرة.
([12])
الآية 130 من سورة البقرة.
([13])
الآية 68 من سورة آل عمران.
([14])
الآية 36 من سورة إبراهيم.
([15])
بحار الأنوار ج32 ص52 وكتاب الجمل للمفيد (ط مكتبة الداوري ـ
قم ـ إيران) ص177 ونهج البلاغة (بشرح عبده) ج1 ص42 قسم الخطب،
الخطبة رقم9 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص237 والإمام علي بن
أبي طالب «عليه السلام» للهمداني ص664 وأعيان الشيعة ج9 ص37.
([16])
بحار الأنوار ج32 ص52 ونهج البلاغة (بشرح عبده) ج1 ص43 الخطبة
رقم 10 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص239 وعيون الحكم
والمواعظ للواسطي ص110.
([17])
بحار الأنوار ج32 ص99 و 100 وراجع ج32 ص60 والأمالي للطوسي ج1
ص106 و (ط بيروت) ص171 وراجع: نهج السعادة ج1 ص300 وشرح نهج
البلاغة للمعتزلي ج1 ص305.
([18])
نهج البلاغة (بشرح عبده) ج2 ص88 وبحار الأنوار ج32 ص95 عنه،
وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج10 ص3.
([19])
بحار الأنوار ج32 ص53 و 54 ونهج البلاغة (بشرح عبده) ج1 ص59
الخطبة رقم22 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص303.
([20])
شرح نهج البلاغة لابن ميثم ج1 ص333 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج
البلاغة) ج2 ص270 و 271 وبحار الأنوار ج32 ص55 و 56.
([21])
بحار الأنوار ج32 ص117.
([22])
الآية 33 من سورة الأحزاب.
([23])
الثقات لابن حبان ج2 ص268 ـ 270 وكلام أمير المؤمنين «عليه
السلام» موجود في شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص520.
([24])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي، شرح الخطبة رقم22 ج1 ص247 ـ 249 و
(ط دار إحياء الكتب العربية) ج1 ص305 ـ 306 وبحار الأنوار ج32
ص60 و 61 عنه، ونهج السعادة ج1 ص300 ـ 302 وراجع: الكافي ج5
ص53 و 54 وجامع أحاديث الشيعة ج13 ص7.
([25])
راجع: العقد الفريد ج2 ص108 و 111 وبلاغات النساء ص71 ومحادثة
النساء ص81 وقاموس الرجال ج11 ص2.
([26])
العقد الفريد ج1 ص325 وقاموس الرجال ج10 ص461 عن بلاغات
النساء، والفتوح لابن أعثم ج3 ص93.
([27])
الآية 112 من سورة النساء.
|