صفحة :109-132   

علي يستشير أصحابه:

وقال المفيد «رحمه الله»:

«ولما اجتمع القوم على ما ذكرناه من شقاق أمير المؤمنين، والتأهب للمسير إلى البصرة، واتصل الخبر إليه، وجاءه كتاب يخبره بخبر القوم دعا ابن عباس، ومحمد بن أبي بكر، وعمار بن ياسر، وسهل بن حنيف، وأخبرهم بذلك، وبما عليه القوم من المسير.

فقال محمد بن أبي بكر: ما يريدون يا أمير المؤمنين؟!

فتبسم «عليه السلام» وقال: يطلبون بدم عثمان.

فقال محمد: والله، ما قتله غيرهم.

ثم قال علي: أشيروا علي بما أسمع منكم القول فيه.

فقال عمار: الرأي أن نسير إلى الكوفة، فإن أهلها لنا شيعة، وقد انطلق هؤلاء القوم إلى البصرة.

وقال ابن عباس: الرأي عندي يا أمير المؤمنين: أن نقدم رجالاً [رجلاً] إلى الكوفة، فيبايعوا لك، وتكتب إلى الأشعري: أن يبايع لك. ثم بعده المسير حتى نلحق بالكوفة، فنعاجل القوم قبل أن يدخلوا البصرة. وتكتب إلى أم سلمة، فتخرج معك، فإنها لك قوة.

فقال أمير المؤمنين: بل أنهض بنفسي ومن معي في اتباع الطريق وراء القوم، فإن أدركتهم بالطريق أخذتهم، وإن فاتوني كتبت إلى الكوفة، واستمددت الجند [الجنود] من الأمصار، وسرت إليهم.

وأما أم سلمة، فإني لا أرى إخراجها من بيتها كما رأى الرجلان إخراج عائشة.

فبينما هم في ذلك، إذ دخل عليهم أسامة بن زيد بن حارثة وقال لأمير المؤمنين: فداك أبي وأمي، لا تسر وحدك [لا تسر سيراً واحداً]، وانطلق إلى ينبع، وخلف على المدينة رجلاً، وأقم بمالك، فإن العرب لهم جولة ثم يصيرون إليك.

فقال له ابن عباس: إن هذا القول منك يا أسامة إن كان على غير غل في صدرك، فقد أخطأت وجه الرأي فيه ليس هذا برأي (بعير يكون والله كهيئة الضبع في مغارتها).

فقال أسامة: فما الرأي؟!

قال: ما أشرت به، أو ما رأى أمير المؤمنين لنفسه.

ثم نادى أمير المؤمنين «عليه السلام» في الناس: تجهزوا للمسير، فإن طلحة والزبير قد نكثا البيعة، ونقضا العهد، وأخرجا عائشة من بيتها يريدان البصرة، لإثارة الفتنة، وسفك دماء أهل القبلة.

ثم رفع يديه إلى السماء، فقال: اللهم إن هذين الرجلين قد بغيا علي، ونكثا عهدي، ونقضا عقدي، وشاقاني بغير حق كان منهما في ذلك.

اللهم خذهما بظلمهما، واظفرني بهما، وانصرني عليهما([1]).

ونقول:

إننا نذكر هنا ما يلي:

حاجة علي إلى المشورة:

ذكر النص المتقدم: أنه «عليه السلام» دعا أربعة من أصحابه واستشارهم في أمر طلحة والزبير، فأشاروا عليه بما تقدم، فهل كان علي «عليه السلام» بحاجة لمشورة أحد؟!

ألم يكن إماماً معصوماً ومسدداً من الله سبحانه، يعرف ما يعرفون، ويزيد عليهم فيه أضعافاً كثيرة؟!

كما أنه لا يعوزه العقل الراجح، ولا تنقصه الحكمة العتيدة، ولا يدانيه أحد في بصيرته في الأمور، ولا في معرفته بالسياسة، وأحكام الشريعة.

ونجيب:

بأن حكمة الإستشارة، ودواعيها وفوائدها لا تنحصر في استخراج الرأي الصواب من خلال ما يشيرون به. بل لها وجوه وأحوال وأغراض مختلفة.

فقد يقصد بها التربية الروحية، وبث معنى الثقة بالنفس.

وقد يقصد بها معنى يرتبط بسياسة الناس وتأليفهم، واستجلاب محبتهم، والإيحاء لهم بما فيه إصلاح بعض الإختلالات التي يعانون منها.

وقد يقصد بها إشعارهم بالمسؤولية والمشاركة، والإحترام.

وقد يقصد بها نشر وإشاعة أمر بعينه في الناس من خلال هؤلاء.. إلى غير ذلك من أمور تظهر للمراقب المتأمل. خصوصاً وأنهم مقدمون على بذل المهج والأرواح، فلا بد أن يكونوا على بينة من أمرهم. بالإضافة إلى أن هديه «عليه السلام» هو نفس هدي الله ورسوله «صلى الله عليه وآله» حين كان يشاور أصحابه، كما في حرب بدر وأحد، وعملاً بقوله تعالى: ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللهِ([2]).

هل هذا سؤال ساذج؟!:

وعن سؤال محمد بن أبي بكر علياً «عليه السلام» عما يراه الناكثون، نقول:

لا ينبغي فهم هذا السؤال على أنه دليل سذاجة وتغفيل يعاني منه محمد بن أبي بكر، بل هو سؤال استهجان له مبرراته الموضوعية، فمن يسمع بهذا الخبر، إذا كان قد رأى إصرار طلحة والزبير على البيعة لعلي «عليه السلام» حتى كانا أول من بايع.

ثم رأى وسمع وعاين وحضر صنع طلحة والزبير بعثمان، وسعيهما في قتله، وحثهما الناس على التعجيل بالقضاء عليه.

وعرف وسمع عائشة وهي تحرض الناس على قتل عثمان. وتوجه إليه قوارع القول.

إن من عاين هذا وسواه كيف يصدق ما يسمعه ويراه من انقلاب نفس هؤلاء الناس إلى الموقف النقيض، وهو الطلب بدم عثمان؟! ولذلك قال محمد بن أبي بكر «رحمه الله» هنا: والله ما قتل عثمان غيرهم!!

أما تبسم أمير المؤمنين حين طرح محمد بن أبي بكر سؤاله هذا، فلعل سببه: أن محمداً لم يكن قد خَبَرَ نفسيات طلحة والزبير، وعائشة وسائر بني أمية كما خبرها أمير المؤمنين، فإنه قد عاين من هؤلاء، واطلع من رسول الله «صلى الله عليه وآله» على الكثير الكثير مما يجعلهم مكشوفين أمامه إلى حد يصعب على أي كان من الناس تصوره، فضلاً عن محمد بن أبي بكر.

ما طلبه علي من مستشاريه:

إن علياً «عليه السلام» لم يطلب من الذين استشارهم أن يشيروا عليه بما يرون أن عليه أن يفعله، فلم يقل: أشيروا علي بما أفعل. بل قال: أشيروا علي بما أسمع القول فيه.

فالمطلوب: هو أن يصرحوا له بما في أنفسهم. ولعل الهدف هو تصحيح نظرتهم، وتصويب تفكيرهم.. تحصيناً لهم من الظنون والأوهام الباطلة، التي قد تراودهم، وربما تؤثر على يقينهم بالنصر، أو تجرهم إلى اتهام بعض القريبين منه بأنهم هم الذين ساقوا الأمور بهذا الاتجاه، أو ذاك.. مما يرونه اتجاهاً خاطئاً.

وربما يكون الهدف هو أن يتولى هؤلاء إشاعة رأيه هذا، وتصويب التصورات الخاطئة التي لدى غيرهم ممن يتداولون معهم في الأمور..

وربما.. وربما..

رأي عمار:

إن من يلقي نظرة على الآراء التي سمعها علي «عليه السلام» من هؤلاء القوم لهي يجد أنها تثير العجب ، فلاحظ ما يلي:

أما بالنسبة لرأي عمار بن ياسر «رحمه الله»، فإنه قد يفسح المجال أمام الناكثين:

أولاً: للتفرد بأهل البصرة، وتسهيل شراء ذمم رؤساء القبائل فيها، وهم الذين لهم الأثر الأكبر في سوق الناس إلى الحرب.

ثانياً: إن ذلك سيمكن الناكثين من الإمساك بقرار ذلك البلد، وتكريسه عاصمة لهم، وجعله محوراً لآمال أهل الباطل، ومحطاً لأنظارهم، ومرتكزاً لتحركاتهم..

ثالثاً: إنه يعطيهم الفرصة للحصول على الإمكانات المالية الهائلة، التي يتمتع بها ذلك البلد.. ويمنحهم الفرصة للحصول على الأموال من المناطق المتاخمة لها، ولا سيما الأهواز، وغيرها من بلاد فارس.

وكل ذلك سيصعِّب القضاء عليهم، ويجعله أكثر كلفة ليس من الناحية المالية وحسب، وإنما في الخسائر البشرية أيضاً.

رابعاً: إن المطلوب إن كان هو الحصول على نصرة أهل الكوفة، فبالإمكان الحصول على هذه النصرة، من دون حاجة إلى أن يقصدها «عليه السلام» بنفسه.

رأي ابن عباس:

بالنسبة لرأي ابن عباس نلاحظ:

أولاً: إن أهل الكوفة كانوا قد بايعوا لعلي «عليه السلام» منذ الأيام الأولى، فما معنى أن تطلب منهم البيعة مجدداً بعد هذا الوقت اليسير؟!

ثانياً: إن هذه البيعة سوف تفهم الكوفيين أنهم غير جديرين بثقة أمير المؤمنين «عليه السلام»، وأنه يشك في صدق ولائهم له.

ثالثاً: إن مشورة ابن عباس بإخراج أم سلمة معهم غريبة وعجيبة، فإن هذا يخالف النص القرآني الآمر لنساء النبي «صلى الله عليه وآله» بالقرار في بيوتهن.

بالإضافة إلى أمور كثيرة أخرى ذكرناها في مواضع عديدة من كتابنا هذا، ومنها: ما أوردناه في كتابنا هذا عن الشيخ المفيد «رحمه الله».. وما ذكرناه حول «ندم أبي بكر». فلا بأس بمراجعته([3]).

وقد أشار «عليه السلام» إلى الخطأ في إخراج أمهات المؤمنين حين قال لابن عباس: «وأما أم سلمة، فإني لا أرى إخراجها من بيتها كما رأى الرجلان إخراج عائشة».

رأي أسامة:

وعن رأي أسامة بن زيد نقول:

أولاً: لقد كفانا ابن عباس مؤونة الإسهاب في بيان خطله وفساده، إلى حد أوشك أن يتهم أسامة بأن الذي دعاه إلى هذا الرأي هو الغل والحقد على أمير المؤمنين «عليه السلام»، بل هو قد وضعه في موضع التهمة من هذه الجهة، لأن خطأه فيه كان بيناً واضحاً.. فإن معناه: وضع أمير المؤمنين «عليه السلام» تحت رحمة أعدائه، وتمكينهم من البلاد والعباد، وأن يسرحوا ويمرحوا، ويفسدوا ما شاؤوا، دون ان يحرك ساكناً. ثم إنهم سوف يحصرونه في موضعه، ويحكمون في مصيره بما يحلو لهم.

ثانياً: إن جولة العرب وعودتها التي تحدث عنها اسامة ما هي إلا تخرص ورجم بالغيب، فإن بوادر حصول الجولة وإن كانت ظاهرة، ولكن لا شيء يدل على حصول العودة إليه.

ولعل أعداءه سيتمكنون من التخلص منه قبل أن يتمكن أحد من العودة إليه.

وأحداث التاريخ تشهد على أن الظالمين إذا أنشبوا مخالبهم، فإنهم سوف لا يدعون فريستهم على حالة السلامة أبداً. بل ستزداد شراستهم، وسيمعنون في طغيانهم وبغيهم.

علي يتقصد طلحة والزبير:

وحين نادى علي «عليه السلام» في المسلمين، يأمرهم بالمسير لحرب طلحة والزبير نلاحظ:

أولاً: أنه لم يضمن ذلك النداء التجريح بأشخاص أعدائه.

ثانياً: إنه تحاشى توجيه اللوم إلى عائشة مباشرة، رغم علمه بأثرها الكبير في إثارة تلك الحرب، بل أنحى باللائمة أكثر على طلحة والزبير، حين قال: «أخرجا عائشة»، ولعله لكي لا يفهم الناس أنه خارج لحرب امرأة. وليفهمهم: أنها مجرد امرأة قد تخدع، وتؤخذ بالعاطفة وبالتزيينات الكاذبة، ولكي لا يستصعب الناس الخروج معه، باعتبار أن هذا الخروج سيعتبر انتهاكا لحرمة رسول الله «صلى الله عليه وآله»، كما أنه يعرضهم للإحراج أمام أتباع أبي بكر وعمر، وما أكثرهم.

ثالثاً: إنه وضع أمام الناس بديهيات تحتم عليهم أن يتحملوا مسؤولية الدفاع عن أمنهم، وعن وجودهم كله.

فطلحة والزبير، قد نكثا البيعة، التي هي عقد وعهد مع الله سبحانه أولاً، كما أنهما نقضا العهد الذي أعطوه له، وكلاهما مما لا محيص للمؤمن عن حفظه، وعن الوفاء به، والمنع من الإخلال به، لأن هذا الإخلال سيترك آثاره على السلامة العامة للمجتمع كله.. لأنه يؤدي إلى سقوط الإلتزامات، وزوال الضمانات، وتبدل الأمن والسكينة بالخوف، والطمأنينة بالقلق، والإستقرار بالفوضى.

رابعاً: إن طلحة والزبير لم يكتفيا بارتكاب جرائم نكث البيعة، ونقض العهد، وإخراج أم المؤمنين المأمورة بالقرار في بيتها.. بل زادا على ذلك أنهما بصدد إثارة الفتنة، وزعزعة الأمن الاجتماعي، وسفك دماء أمة الإسلام.

خامساً: إنه «عليه السلام» حين دعا عليهما أعاد التذكير بجرائمهما، وذكر أنهما قد شاقَّاه بغير حق.. مشيراً إلى أن المشاقة ليست مرفوضة في جميع الأحوال، بل هي مرفوضة حين تكون لنصرة الباطل وأهله..

وما طلبه «عليه السلام» من الله تعالى لم يزد على ما يدخل في معادلة الجزاء العادل، وإعادة الأمور إلى نصابها، فقد طلب «عليه السلام» أمرين:

أحدهما: أن يأخذهما الله بظلمهما.

ثانيهما: أن يظفره بهما، وينصره عليهما.

ولم يزد على ذلك. فأين هذا مما ارتكباه في حقه «عليه السلام»، وفي حق الله ورسوله وأمة الإسلام كلها.

هذه هي خطة علي :

قال المعتزلي:

قال أبو جعفر: ثم أجمع علي «عليه السلام» على المسير من الربذة إلى البصرة، فقام إليه رفاعة بن رافع، فقال: يا أمير المؤمنين، أي شيء تريد؟! وأين تذهب بنا؟!

قال: أما الذي نريد وننوي فإصلاح؛ إن قبلوا منا وأجابوا إليه.

قال: فإن لم يقبلوا؟!

قال: ندعوهم ونعطيهم من الحق ما نرجو أن يرضوا به.

قال: فإن لم يرضوا؟!

قال: ندعهم ما تركونا.

قال: فإن لم يتركونا؟!

قال: نمتنع منهم.

قال: فنعم إذاً.

وقام الحجاج بن غزية الأنصاري، فقال: والله يا أمير المؤمنين لأرضينك بالفعل، كما أرضيتني منذ اليوم بالقول. ثم قال:

دراكـهـا دراكـهـا قـبـل الـفـوت          وانفر بنـا واسم بنـا نحـو الصوت

لا وألـت نفسـي إن خـفت الموت

والله لننصرن الله عز وجل، كما سمانا أنصاراً([4]).

ونقول:

علينا أن نشير إلى الأمور التالية:

حماس الحجاج بن غزية:

إن الحجاج بن غزية الذي بهرته خطة علي «عليه السلام» للتعامل مع أعدائه، والخارجين عليه، قد أظهر تحمساً بالغاً لملاقاة الأعداء، وناشده الإسراع بهم إليهم..

وهذا لم يكن حماساً عشوائياً، بل هو حماس فرضه انكشاف بعض من حقيقة أمير المؤمنين «عليه السلام» أمام عينيه، فانجذب إلى الحق، واندفع يريد الوصول إليه، والاندماج فيه.

نصرة علي نصرة لله عز وجل:

وقد أوضح الحجاج لنا حقيقة أن نصرة علي «عليه السلام» هي في النتيجة والمآل نصرة لله عز وجل، وذلك حين أقسم: أنه سينصر الله عز وجل، ولم يصرح بنصر علي «عليه السلام»، لأنه أصبح يرى: أن نصر علي «عليه السلام» نصر لله تبارك وتعالى.. مستذكراً: أن الله تعالى سماهم أنصاراً، لنصرهم الله ورسوله في عهد رسول الله «صلى الله عليه وآله».

للأمة حق السؤال:

إن الحوار الذي جرى بين أمير المؤمنين «عليه السلام»، ورفاعة بن رافع يؤكد لنا عدة أمور، وهي:

1 ـ إن ما نعرفه عن الحكام: هو أنهم لا يتحملون تدخل الناس في سياساتهم وقراراتهم، ولا يسمحون لهم حتى بالسؤال الاستفهامي عنها.

ولو أن أحداً تجرأ وطرح سؤالاً من هذا القبيل على الحاكم، فسيواجه بحدة وشدة، تفرض عليه السكوت والتماس الأعذار لنفسه. وسيحمد الله كثيراً إن نجا من مواجهة العقوبة القاسية، التي هي عند بعض الجبابرة عملية بسيطة تتمثل بالإعدام السريع والمريع.

2 ـ لكن علياً «عليه السلام» ـ أسوة برسول الله «صلى الله عليه وآله» ـ يريد للأمة أن تعيش الوعي لواقعها ولتصرفاتها، ولما تقدم عليه، وما تنتهي الأمور إليه..

ويريد لها أن تمارس حقها في مساءلة الحاكم عن تصرفاته، وعن أبعادها وأهدافها..

فكان «عليه السلام» ـ وهو الإمام المعصوم ـ يريد أن يكرس هذا الأمر، ليكون هو الوعي الذي تعيشه الأمة في أعماق وجودها، والحق الذي لا يجوز لها أن تتنازل عنه في حياتها العملية ما وجدت إلى ذلك سبيلاً.

3 ـ قد يقال: صحيح أن للناس أن يسألوا، ولكن للحاكم أيضاً أن يجيب وأن لا يجيب؟!

والجواب:

أن إجابته «عليه السلام» على أسئلة رفاعة التي تتابعت، دلتنا أن الإجابة ستكون هي الأولى والأرجح، وربما الأصوب أيضاً. إذ لا معنى لتجويز السؤال مع عدم الإلزام بالإجابة عليه.. ولا سيما إذا كان السؤال عن أمور لها مساس بالسائلين، بل بالأمة كلها، كتلك التي طرحها رفاعة على الإمام «عليه السلام».

خطة علي :

وقد لخصت لنا أسئلة رفاعة وأجوبتها خطة علي «عليه السلام» تجاه تحرك الناكثين الذي كان يواجهه «عليه السلام» على مراحل:

المرحلة الأولى: الإصلاح، إن قبل الناكثون وأجابوا.

الثانية: أن يقبلوا أن يعطيهم من الحق ما يرجى أن يكون فيه رضاهم.

الثالثة: أن يتركهم ما داموا تاركيه.

الرابعة: أن يمتنع منهم إن لم يتركوه..

وهي خطة طافحة بالإنصاف، والرفق، والعدل والمرونة.. مفعمة بالحكمة والصفح المجاني والتبرعي، لا تجد فيها أي أثر لهوى، وأية لمسة لغضب أو انفعال..

فإذا نظرنا إلى المرحلة الأولى التي هي محض التسامح، والصفح، وغض النظر، والاكتفاء بإرجاع الأمور إلى نصابها، وبعودة المياه إلى مجاريها، يصبح من المتوقع أن يعطيهم فوق ما يستحقون، ويؤثرهم على نفسه ولو كان به خصاصة..

وليس في هذه المرحلة أي أثر للحديث عن أخذهم بمر الحق، أو تلويح بمؤاخذات أو عقوبات، أو بإجراء أحكام عليهم.

أما في المرحلة الثانية، وبعد أن رفضوا هذا الصفح والتسامح.. فإنه يبدو بين الشدة واللين، فهو يرضى أيضاً بأن يعطيهم من الحق ما يرجو به رضاهم.

ويلاحظ: أنه لم يقل: يعطيهم من حقهم، إذ لا حق لهم، وإنما قال: يعطيهم من الحق، أي مما سمح الشرع له بأن يعطيهم منه، تألفاً لهم، واستصلاحاً لنواياهم..

وفي المرحلة الثالثة، وفي صورة عدم رضاهم بذلك.. وإصرارهم على الخلاف والمنابذة، فإنه يزيد قليلاً من درجة التشدد، الذي لا يبلغ فيه استيفاء جميع حقوقه، حيث إنه لا يسعى لكسر قرارهم بمنابذته بالقوة، بل يتركهم ما داموا تاركين له، غير مخلين بأمن الناس، ولا بالنظام العام.

وفي المرحلة الرابعة، وحيث لم يتركوه وشأنه، بل هاجموه، وهاجموا الناس، وأخلوا بالأمن وبالنظام العام، يكون لا بد من الامتناع منهم، ودفع شرهم..

حرب الجمل دفاعية:

وما أدق كلمة: «نمتنع منهم» حيث لم يقل: نهاجمهم ونقتلهم. بل قال: نمتنع منهم، أي نحفظ أنفسنا، ولا نمكّنهم من أن ينالوا من أمننا، ومن الإخلال بنظام مجتمعنا، ومن أن يواصلوا عدوانهم علينا..

فدلنا بهذه الكلمة: على أن حرب الجمل كانت دفاعية، تهدف إلى منع البغاة من أن يلحقوا الأذى بعلي «عليه السلام»، وبكل ما يكون علي «عليه السلام» مسؤولاً عن سلامته وحفظه.

المغيرة يلبس الحق بالباطل:

روى المفيد «رضوان الله تعالى عليه» بسنده عن أبي سهل بن مالك، عن أبيه قال:

إني لواقف مع المغيرة بن شعبة عند نهوض علي بن أبي طالب «عليه السلام» من المدينة إلى البصرة، إذ أقبل عمار بن ياسر «رضي الله عنه»، فقال له: هل لك في الله عز وجل يا مغيرة؟!

فقال: وأين هو يا عمار؟!

قال: تدخل في هذه الدعوة، فتلحق بمن سبقك، وتسود من خلفك.

فقال له المغيرة: أوخير من ذلك يا أبا اليقظان!!

قال عمار: وما هو؟!

قال: ندخل بيوتنا، ونغلق علينا أبوابنا حتى يضيء لنا الأمر، فنخرج ونحن مبصرون. ولا نكون كقاطع السلسلة، فر من الضحل فوقع في الغمر.

فقال له عمار: هيهات! هيهات! أجهل بعد علم، وعمى بعد استبصار؟! ولكن اسمع لقولي، فوالله لن تراني إلا في الرعيل الأول.

قال: فطلع عليهما أمير المؤمنين «عليه السلام»، فقال: يا أبا اليقظان، ما يقول لك الأعور، فإنه والله دائماً يلبس الحق بالباطل، ويموه فيه، ولن يتعلق من الدين إلا بما يوافق الدنيا. ويحك يا مغيرة، إنها دعوة تسوق من يدخل فيها إلى الجنة.

فقال له المغيرة: صدقت يا أمير المؤمنين، إن لم أكن معك فلن أكون عليك.

ونقول:

قد لا يتيسر لنا أن نستقصي اللمحات والدلالات لهذا الحدث الذي جرى، غير أننا نذكر منها ما يلي:

1 ـ إن رائحة الاستخفاف، والسخرية تكاد تفوح من جواب المغيرة لعمار حين قال له: هل لك في الله عز وجل؟!

فقال له المغيرة: «وأين هو عمار»؟!

فهل ظن المغيرة: أن الله ـ والعياذ بالله ـ في مكان بعينه، ويريد عمار أن يدله عليه، ويأخذه إليه؟!

إن كل من سمع ويسمع هذه الكلمة من عمار لا بد أن يفهم أن مراده منها: أنه يريد أن يرشده إلى ما يقرِّبه من الله تعالى، ويرضيه عنه. فلو أن المغيرة لم يكن بصدد الاستخفاف والاستهانة لقال: بماذا وكيف؟! لأنه يسأل عن المكان والموضع ليوهم أنه يريد أن يذهب إليه ليجد الله تعالى فيه.

2 ـ إن عماراً لم يدعُ المغيرة إلى أمر يفوِّت عليه طموحاته، بل أرشده إلى ما يحققها له، ويبلغه إياها، ولكن بصورة صحيحة ومشروعة، من حيث أنه يلحقه بمن سبقه من أهل الخير والصلاح، ويسوده على من خلفه، ويكون له التقدم، والمقام الكريم.

3 ـ ولكن المغيرة أبى إلا أن يحتفظ بموقعه النائي عن الحق وألهله، وأن يمارس حربه ضد الدين وأهل الدين على طريقته التي تعتمد المكر، والغدر والخداع، بدعوته عماراً إلى ترك موقعه الريادي والجهادي، والإلتحاق بركب أهل الريب والباطل.

وهذه جرأة فائقة وغير عادية: أن يطمع المغيرة حتى بمن ملئ إيماناً إلى مشاشه([5]) بأن يترك الحق وأهله!!

وعمار هو من قال عنه رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «عمار جلدة ما بين عينيّ»([6]).

وأخبر «صلى الله عليه وآله» عنه: أنه تقتله الفئة الباغية([7]).

4 ـ لقد تظاهر المغيرة: بأنه لا يعرف وجه الحق فيما يجري، وأوهم أن قراره بالاعتزال إلى أن يظهر له الحق، منسجم مع ما يفرضه الاحتياط للدين. وما يفرضه العقل والتدبير الصحيح.. وهذه من خدع المغيرة، وتلبيسه الحق بالباطل..

5 ـ ولكن هذا المكر لم يكن ليخفى على ذي مسكة، فإن الحق كان أجلى من الشمس، وأوضح وأبين من الأمس. فهل يخفى على عمار ـ وقد عاش هو كل تلك الأحداث وعاينها عن قرب ـ بل هل يخفى على مثل المغيرة براءة علي «عليه السلام»، بغي مخالفيه عليه، ونكث الناكثين، وكذب دعاوى المبطلين؟!

ولكن هدف المغيرة من إطلاق هذه الكلمات والحركات والمواقف هو أن تسري آثارها وتصل أخبارها للناس البسطاء لتوقفهم في الشرك، ولا يهمه بعد ذلك عاش من عاش، وهلك من هلك.

وهذا ما ألمح إليه عمار بقوله: أجهل بعد علم؟! وعمى بعد استبصار؟!

6 ـ وجاء رد عمار على وقاحة من يدعوه إلى باطله، هو مضاعفة الإصرار على نصرة الحق، ثم توخي موقعاً متقدماً ورائداً فيه.

 وكما هو شديد الخطورة على المكاسب الدنيوية العاجلة، فإنه يختزن الطموح إلى أعلى منازل الكرامة، وأسناها، وأغلاها ثمناً، وأشدها حاجة للتضحيات الكبرى.

وهذا ما قصده عمار بقوله للمغيرة: ولكن اسمع لقولي: فوالله لن تراني إلا في الرعيل الأول.

7 ـ وظهر أمير المؤمنين «عليه السلام» على المغيرة وعمار «رحمه الله»، ليعلن أمراً كان يعرفه الناس عن المغيرة، وليس إظهاراً لعيب مستور ليصلح القول بأن كتمانه كان أولى وأليق.. كما أنه ليس توصيفاً بأمر عارض، كان يمكن غض النظر عنه. بل هو ديدن وطريقة لا تغيير فيها، ولا تحول عنها، لأنها بالنسبة للمغيرة طريقة حياة، يقسم «عليه السلام» بالله على استمرارها فيه..

فدل بذلك: على أن ثمة صعوبة بالغة في اقتلاعها والامتناع عنها.. وأنها تحتاج لتحذير الناس من الوقوع في حبائلها وسلبياتها إلى أسلوب متميز في صراحته وفي شدته، وفي وقعه.. من خليفة رسالي، يحمل هم إصلاح الأمة، وتربية جميع أفرادها، واقتلاع الأدواء والأسواء منها، ومنع أهل الفتنة من تحريك خيوط الفتنة، ومحاصرتهم بالتشدد في تعرية حالهم فيها، وموقعهم منها أمام الناس إلى حد محرج.

8 ـ وهذا بالذات هو ما ركز أمير المؤمنين «عليه السلام» على إظهاره وإشهاره، حين قال: «فإنه ـ والله ـ دائماً يلبس الحق بالباطل، ويموه فيه. ولن يتعلق من الدين بما يوافق الدنيا..».

9 ـ ولكن المغيرة الذي لم يتراجع عن تصميمه القاضي بتنكب طريق الحق.. اعترف ـ مضطراً ـ بصحة ما قاله «عليه السلام» فيه.. لأنه يعلم أنه لو ناقش في ذلك فسيواجه الفضيحة الأكبر وربما الأخطر، فما عليه إلا أن يكتفي بما حصل، ليسلم بريشه مما هو أشر وأضر، وأدهى وأمر..

10 ـ وجعل سبيله إلى الانسحاب والتخلص من هذه الورطة التستر خلف واجهة وعدٍ قطعه على نفسه بأنه إن لم يكن مع علي «عليه السلام»، فلن يكون عليه..

ولم يأت هذا الوعد نتيجة احترامه لحق علي «عليه السلام»، أو تقديره لمبادئه، أو وفاءه لبيعته، بل هو وعد المهزوم والعاجز، الذي يعلم أن مواجهته لأمير المؤمنين «عليه السلام» لن تنتج له سوى الدمار والبوار، وخراب الديار، والفضيحة والعار.

مما يعني: أنه أعطى وعد عاجز ماكرٍ، من آثم غادر، ينتظر الفرصة. وفي قلبه ألف غصة وغصة..


([1]) الجمل للشيخ المفيد ص239 و 240 و (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص128 و 129.

([2]) الآية 159 من سورة آل عمران.

([3]) راجع كتابنا: الصحيح من سيرة النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله» ج33 ص307 فما بعدها.

([4]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج14 ص17 والفتنة ووقعة الجمل ص136 وتاريخ الأمم والملوك (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص494 والكامل في التاريخ ج3 ص224 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج7 ص262 وإمتاع الأسماع ج13 ص237.

([5]) راجع: الأمالي للصدوق ص324 وروضة الواعظين ص281 وبحار الأنوار ج22 ص319 وج33 ص25 وج43 ص46 ومناقب أهل البيت «عليهم السلام» للشيرواني ص379 والغدير ج9 ص24 و 25 وج10 ص18 و 87 و 312 وسنن ابن ماجة ج1 ص52 وسنن النسائي ج8 ص111 وفضائـل الصحابـة للنسـائي = = ص50 والمستدرك للحاكم ج3 ص392 ومجمع الزوائد ج9 ص295 وفتح الباري ج7 ص72 والمصنف لابن أبي شيبة ج7 ص217 و 524 والسنن الكبرى للنسائي ج5 ص74 وج6 ص532 وصحيح ابن حبان ج15 ص552 والإستيعاب ج3 ص1137 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج10 ص103 وج20 ص38 والجامع الصغير ج2 ص178 و 539 وكنز العمال ج11 ص722 و 724 وفيض القدير ج4 ص473 وج6 ص5 والدرجات الرفيعة ص257 وعلل الدارقطني ج4 ص152 وتاريخ مدينة دمشق ج43 ص359 و 391 و 392 و 393 وج60 ص168 وأسد الغابة ج5 ص383 وتهذيب الكمال ج21 ص222. وراجع: سير أعلام النبلاء ج1 ص413 والإصابة ج4 ص473 وتهذيب التهذيب ج7 ص358 وتاريخ الإسلام للذهبي ج3 ص573 والوافي بالوفيات ج22 ص233 والبداية والنهاية ج7 ص345 وصفين للمنقري ص323 وينابيع المودة ج2 ص77 والنهاية في غريب الحديث ج4 ص333 ولسان العرب ج6 ص347 وتاج العروس ج9 ص196 وحليف مخزوم (عمار بن ياسر) ص75 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج5 ص285 وج6 ص134 وج16 ص503.

([6]) السيرة النبوية لابن هشام ح2 ص143 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج3 ص52 ونهج الحق ص297 والسيرة الحلبية ج2 ص72 والدر المنثور ج2 ص174 والغدير ج9 ص215.

([7]) راجع: السيرة النبوية لابن هشام ج2 ص142 و (ط مكتبة محمد علي صبيح) ج2 ص345 وتاريخ الخميس ج1 ص345 والأعلاق النفيسة، ووفاء الوفاء ج1 ص329 والسيرة الحلبية ج2 ص72 وحياة الإمام الحسين للقرشي ج1 ص365 وحليف مخزوم (عمار بن ياسر) ص81 وراجع: خلاصة عبقات الأنوار ج3 ص40 و 50 وجواهر المطالب لابن الدمشقي ج2 ص44 وسبل الهدى والرشاد ج3 ص336 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج8 ص423 عن العقد الفريد (ط الشرقية بمصر) ج2 ص204 وقد ذكره في الغدير ج9 ص21 و 22 و 27 وج10 ص312 عن مصادر كثيرة جداً.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان