أحمد بن محمد بن الصلت، عن ابن عقدة، عن جعفر بن عبد
الله العلوي، عن عمه القاسم بن جعفر، عن عبد الله بن محمد العلوي، عن
أبيه، عن عبد الله بن أبي بكر، عن أبي جعفر محمد بن علي «عليهما
السلام» قال: حدثني عبد الرحمان بن أبي عمرة الأنصاري قال: سماني رسول
الله «صلى الله عليه وآله» عبد الرحمان، قال: لما بلغ علياً مسير طلحة
والزبير خطب الناس، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على النبي «صلى الله
عليه وآله» ثم قال:
أما بعد..
فقد بلغني مسير هذين الرجلين واستخفافهما حبيس رسول الله «صلى الله
عليه وآله»، واستفزازهما أبناء الطلقاء، وتلبيسهما على الناس بدم عثمان
وهما ألبا عليه، وفعلا به الأفاعيل، وخرجا ليضربا الناس بعضهم ببعض،
اللهم فاكف المسلمين مؤنتهما، واجزهما الجوازي.
وحض الناس على الخروج في طلبهما، فقام إليه أبو مسعود
عقبة بن عمرو، فقال: يا أمير المؤمنين، إن الذي يفوتك من الصلاة في
مسجد رسول الله «صلى الله عليه وآله» ومجلسك فيما بين قبره ومنبره أعظم
مما ترجو من الشام والعراق.
فإن كنت إنما تسير لحرب، فقد أقام عمر وكفاه سعد زحف
القادسية، وكفاه حذيفة بن اليمان زحف نهاوند، وكفاه أبو موسى زحف تستر،
وكفاه خالد بن الوليد زحف الشام، فإن كنت سائراً فخلف عندنا شقة منك
نرعاه فيك، ونذكرك به.
ثم قال أبو مسعود:
بكت الأرض والسماء على الشـا
خـص مـنـا يـريد أهـل الـعـراق
يا وزيـر النبي قد عظم الخطـب
وطـعـم الـفـراق مـر الـمـــذاق
وإذا القـوم خـاصـمـوك فقـوم
ناكسو الطرف خاضعوا الأعناق
لا يـقـولـون إذ تــقــــول وإن
قـلـت فـقـول المـبرز الـسـبــاق
فـعـيون الحجاز تـذرف بالدمع
وتـلـك الـقـلـوب عند الـتراقـي
فعليك السلام ما ذرت به الشمس
ولاح الـســراب بـالـــرقــــراق
فقال قيس بن سعد:
يا أمير المؤمنين، ما على الأرض أحد أحب إلينا أن يقيم
فينا منك، لأنك نجمنا الذي نهتدي به، ومفزعنا الذي نصير إليه، وإن
فقدناك لتظلمن أرضنا وسماؤنا، ولكن والله لو خليت معاوية للمكر ليرومن
مصر، وليفسدن اليمن، وليطمعن في العراق. ومعه قوم يمانيون قد أشربوا
قتل عثمان، وقد اكتفوا بالظن عن العلم، وبالشك عن اليقين، وبالهوى عن
الخير، فسر بأهل الحجاز، وأهل العراق، ثم ارمه بأمر يضيق فيه خناقه،
ويقصر له من نفسه.
فقال:
أحسنت والله يا قيس وأجملت([1]).
ونقول:
إن علياً «عليه السلام» قد بيَّن بهذه العبارات
الوجيزة، التي هي ثلاثة أسطر ونصف السطر أموراً حاسمة، وأساسية، لا
تبقي عذراً لمعتذر، ولا حيلة لمتطلب حيلة..
ونذكر فيما يلي بعضاً مما أشار إليه «عليه السلام» ضمن
العناوين الآتية:
إن قول علي «عليه السلام»:
واستخفافهما حبيس رسول الله «صلى الله عليه وآله»، يدلنا على ما يلي:
1 ـ
إن طلحة والزبير هما اللذان دفعا عائشة إلى الخروج إلى
حرب علي «عليه السلام». ولولا تشجيعهما لها، فلعلها كانت ستتردد كثيراً
في الإقدام على هذا الأمر، خوفاً من الرأي العام.. حتى وإن كانت لديها
الرغبة القوية بذلك..
2 ـ
إنهما قد مارسا طريقة أبعدت عائشة عن التصرف من منطلق الوعي التام
للوقائع، فأزاحا المنطق والعقل عن مستقره، وجعلاه خفيف الميزان، وصارت
الرياح قادرة على أن تتلاعب به كيف تشاء..
ولعل الطريقة التي استفادا منها هي:
تغذيته باندفاعاتها العاطفية، وانفعالاتها الآنية، التي تنتجها
المتغيرات. وتتفاعل مع المظاهر الخادعة، والتزيينات والشكليات، وتسارع
الإثارات مهما كانت مصطنعة، ومفتعلة، ومن دون جذور واقعية..
وقد أشار القرآن إلى ذلك، فقال عن فرعون:
﴿فَاسْتَخَفَّ
قَوْمَهُ فَأَطَاعُوهُ إِنَّهُمْ كَانُوا قَوْماً فَاسِقِينَ﴾([2]).
والذي مارسه فرعون هو إطلاق ادعاءات باطلة أعطاها صفة البداهة، وبدت
كأنها مسلمات لا مجال للنقاش فيها. حيث قال لهم: ﴿أَلَيْسَ
لِي مُلْكُ مِصْرَ وَهَذِهِ الْأَنْهَارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَفَلَا
تُبْصِرُونَ﴾؟!([3]).
ولكنه أغفل حقيقة أنه لم يأخذ ملك مصر عن استحقاق، ولا
بالمعجزة، ولا بقوته الذاتية، وإنما بالظلم والتجني، والاستفادة من
قدرات بشر مثله، لو أرادوا أن يستأثروا بها لأنفسهم، أو أن يؤثروا بها
غيره لعجز عن منعهم من ذلك.
كما أن ملك مصر، وجريان الأنهار من تحته، لا يدل على
امتلاكه صفات الربوبية أو الألوهية. ولو كان الأمر كذلك لكان كل من
تمكن من ملك بلد، واتخذ قصراً تجري من تحته الأنهار رباً وإلهاً!!
ثم ذكر فرعون:
أن كون ملك مصر له وغناه بالقصور والأنهار والأشجار هو الذي يعطيه
الكرامة، والعزة، ويؤهله لمقام الربوبية والألوهية..
أما موسى فلا كرامة له بنظره، لأنه لا يملك البلاد، ولا
تجري الأنهار من تحته..
وقد ساق ذلك مظهراً أنه من البديهيات.. مع أنهم لو
تأملوا في الأمر لأدركوا: أن ذلك أيضاً لا يجعله مستحقاً لأي مقام، ولا
يسلب عن موسى «عليه السلام» مقام النبوة، والهداية، ولزوم طاعته عليهم
وعلى فرعون..
كما أن موسى «عليه السلام» لم يكن يجهر بمراداته، لعدم
إصغائهم له.. بسبب قتله لذلك الذي كان من أعدائه، في حال تعديه على بعض
المؤمنين، فاحتاج إلى الاستعانة بأخيه هارون، لتبليغهم ما يريد.. وقد
استغل فرعون هذا الواقع للطعن بقدرات موسى البيانية، وإيهام الناس بأنه
عاجز عن البيان بصورة تكوينية ناشئة عن قصور في خلقته.
والأدهى من ذلك:
أنه استدل لهم على عدم أهلية موسى لأي مقام بما في ذلك مقام النبوة
بقوله:
﴿فَلَوْلَا
أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جَاءَ مَعَهُ
الْمَلَائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ﴾([4]).
وقد صدقوه في ذلك، ولم يعطوا عقولهم الفرصة للنظر في
الأمر، وإظهار زيف هذا الاستدلال، ولو بأن يقولوا له: أنت تدعي
الربوبية والألوهية ولا نرى معك ملائكة، ولا ترضى بأن نطالبك بأن
يجيئوا معك، فلماذا تطالب النبي بمجيء الملائكة معه؟! مع أن الإله أولى
من النبي بحضور الملائكة معه.
على أن الميزان في قبول ورد دعوى النبوة هو المعجزة
التي يظهرها ذلك النبي، وهي تقطع كل عذر، ولا يبقى مجال لاقتراح أي شيء
آخر.. لأن فتح باب الاقتراح في هذا الأمر يصبح سفهاً مرفوضاً بما يحمله
من فوضى، ومن هيمنة للأهواء، ولأنه حين يفسح المجال للتلاعب والعبث، لا
يبقى سقف محدد يمكن أن تنتهي الأمور إليه، وتحسم عنده، وبذلك تضيع
الأهداف الإلهية الكبرى..
كما أن إلقاء أسورة الذهب على إنسان مَّا لا يجعله
نبياً ولا إلهاً، فإن الذهب متوفر لدى الأغنياء، ولا يجعل منهم أنبياء،
ولا يجعل لديهم قدرة على اجتراح المعجزات، ولا يعطيهم فضيلة العلم
والتقوى والاستقامة على جادة الحق.. بل قد تكون آثار واجدة المال سلبية
على ذلك كله..
والذي يحتاج إلى إلقاء أسورة الذهب هو ذلك الذي يسوِّده
الناس، فيكون هذا الإلقاء هو الذي يجسِّد تسويدهم له.. وليست النبوة
مما يعطيه الناس، بل هي اختيار إلهي، لا يحتاج إلى إلقاء أسورة الذهب
ولا إلى غيره.
وكل ذلك يوضح:
أن فرعون قد خدع الناس، واستثار حبهم للدنيا، وانبهارهم بزخارفها،
ليتولى هذا الحب المنطلق من حب الشهوات إزاحة العقل عن مستقره، لتحل
محله الشهوات والأهواء في تقييم الأمور، وتستخف الناس المشاعر
الهوجاء..
وسبب تمكن فرعون من استخفاف قومه:
أنهم
كانوا قوماً فاسقين، أي خارجين عن جادة الصواب، لا يلتزمون جانب الحق.
ففسقهم هذا وانقيادهم لأهوائهم جعلهم مستعدين للاستجابة إليه، حيث قرب
إليهم مفردات شهوانية، فاندفعت نفوسهم إليها، وسعت للحصول عليها. وتركت
عقولهم عاجزة عن منع حركتهم، وعن عقلهم وربطهم وتقييدهم..
وهذا علي «عليه السلام» يقول هنا عن
طلحة والزبير:
إنهما استخفا عائشة. فليلاحظ ذلك.
وقد وصف «عليه السلام» عائشة:
بأنها حبيس رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ليدل الناس
على أن عمل طلحة والزبير هذا يعد إدانة لهما، ومن موجبات سقوط دعواهما،
لأن من يسعى لنقض تدبير الرسول «صلى الله عليه وآله» لا يصلح لأدنى
مقام، بل يعرض نفسه للمقت وللعقوبة الإلهية، فهل يمكن أن يتوهم أحد أن
يكون له أخطر وأجل مقام، وهو خلافة النبوة وحاكمية الأمة؟!
كما أن هذا التعبير يتضمن إدانة لعائشة، لأنها رضيت
بنقض تدبير الرسول «صلى الله عليه وآله»، وخالفت أوامر الله تعالى لها
بطاعته، والتزام أوامره، والانتهاء بزواجره..
ثم قدم «عليه السلام» دليلاً آخر على عدم أهلية طلحة
والزبير لأي موقع، وعلى بطلان دعواهما، حين قال: «واستفزازهما أبناء
الطلقاء»، مما يعني: أنهما قد استعانا بمن ليس لهم كبير أثر في هذا
الدين، بل عاشوا في بيئة استمرت على العداء للإسلام ونبي الإسلام إلى
أواخر حياته «صلى الله عليه وآله»، حيث اضطرهم «صلى الله عليه وآله»
إلى الانكفاء إلى مواقع التربص والانتظار. مع مزيد من الشعور بالقهر،
وبالفشل والخيبة. فهذه البيئة تنتج من يعين أهل الباطل على النيل من
الحق وأهله..
وهذا يشير إلى أنهما لم يجدا لدى علماء الإسلام وأهل
الدين، والحريصين عليه، والمخلصين له، من الصحابة الواعين وغيرهم من
يرضى بمعاونتهما على باطلهما في مقابل حقه «عليه السلام». فإن بيئة
الصلاح لا تنتج أمثال هؤلاء.
والتعبير بكلمة «الاستفزاز» يشير إلى أنهما لم يقنعا
حتى أبناء الطلقاء بباطلهما.. ولكنهما عمدا إلى استفزاز المشاعر،
وتحريك الحمية الجاهلية، والعصبية الشيطانية. وهذا مستفاد من قوله
تعالى:
﴿وَاسْتَفْزِزْ
مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَأَجْلِبْ عَلَيْهِمْ
بِخَيْلِكَ﴾([5])
أيضاً، فاندفع هؤلاء معهم لا عن فكر وقناعة، بل عن رواسب وأحقاد وربما
شعارات، تدفع إلى اتخاذ مواقف انفعالية، وردات فعلٍ عشوائية وأهوائية.
وثمة عنصر آخر:
أكد به «عليه السلام» هذه الحقيقة التي تظهر ظلم هؤلاء الناس،
وعدوانيتهم، وعدم ورعهم، وأن كل همهم هو الوصول إلى أهدافهم، وهو أنهم
يمارسون أساليب الخداع، وتلبيس الباطل لباس الحق، فيما يرتبط بقتل
عثمان وفي غير ذلك، حيث يتهمون به أبرأ الناس منه، وهو علي «عليه
السلام» الذي كان يسعى لدرء الفتنة، ونزع فتائل تلك الأزمة. مع أنهما
كانا ممن سعى في قتل عثمان وأمر به، وشارك فيه، فقال «عليه السلام»:
«وتلبيسهما على الناس بدم عثمان، وهما ألبا عليه، وفعلا
به الأفاعيل».
ثم قال «عليه السلام»:
«وخرجا ليضربا الناس بعضهم ببعض»، ليدل على أنهما غير صادقين فيما
يدعيانه من أنهما يسعيان لحفظ مصالح الناس، ورعاية حقوقهم. بل هما
يسعيان فيما يضر الناس، ويخل بأمنهم، ويؤسس لخلافات عميقة بينهم.
ومن كان كذلك لا يحق له أن يتصدى لحكم الناس، ولا أن
يكون في موقع خلافة الرسول «صلى الله عليه وآله».. فخليفة النبي «صلى
الله عليه وآله» يجب أن يكون للناس كالوالد الرحيم، الذي تذهب نفسه
عليهم حسرات، لشدة حرصه عليهم. ومن يريد أن يضرب الناس بعضهم ببعض يكون
على العكس من ذلك كله..
ولم يطلب علي «عليه السلام» من ربه أن يكفيه هو
مؤونتهما.. لأنه يرى: أن الحيف والظلم الذي سيحيق بالأمة بسببهما
وفعلهما هو الأهم، والأولى بطلب التدخل الإلهي للوقاية منه، وليتولى هو
تعالى كفايته. ولذلك قال «عليه السلام»: «اللهم فاكف المسلمين مؤونتهما»..
وهذا يلائم قوله الآخر:
«لأسالمن ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن جور إلا عليَّ خاصة».
كما أن هذا الطلب العلوي يعطي:
أن علياً «عليه السلام» لا يرى له ولا لغيره حولاً ولا قوة. وأنه ليس
مبهوراً بما عنده من جموع وجيوش، أو بما حصل عليه من تأييد، بل هو يعتز
بالله، ويعتمد على المدد الإلهي، دون أي شيء آخر..
وهو يظهر أيضاً:
خضوعه المطلق لربه، وفناءه فيه. وهذه هي سمة الإمام في جميع حالاته،
وكل قضاياه.
ويلاحظ:
أن أبا مسعود عقبة بن عمرو يقول لعلي «عليه السلام»، مثبطاً إياه عن
المسير: إن ما يفوته من الصلاة في مسجد رسول الله، وما يفوته من الجلوس
بين القبر والمنبر أعظم مما يرجوه من الشام والعراق. ثم اقترح عليه أن
يقيم بالمدينة ويرسل من يكفيه ذلك، كما كان عمر يفعل. وإن أصر على
المسير فليترك في المدينة شقة منه، يرعاه فيه.
ثم تكلم قيس بن سعد، وبيَّن ضرورة دفع شر معاوية، ولم
يشر إلى طلحة والزبير بشيء.. فُسَّر «عليه السلام» بكلامه، وأثنى عليه.
ولنا ملاحظات هنا، يمكن أن نلخصها فيما يلي من نقاط:
1 ـ
إن أبا مسعود لم يكن يدرك خطورة الحركة التي بدأها طلحة والزبير وعائشة
على وحدة الأمة، وعلى مستقبلها، ولا كان واقفاً على ما ستؤول إليه
الأمور، من نشوب حروب ستكون طاحنة، وأن الفتن ستكون عظيمة وهائلة، وأن
العداوات التي تنشأ ستبقى سلبياتها الكثير من الشهور، والسنين والدهور،
وأن ذلك سيلحق بالدين وأهله أعظم الضرر، ويعرضه لأشد الأخطار.
ولعله لم يخطر على باله أن نتيجة ذلك كله ستكون الظلم
الدائم، والجور المقيم. ولعله لا يبقى أحد يهتم بالصلاة، فضلاً عن أن
يشتاق إلى الصلاة في مسجد الرسول، أو يحب الجلوس بين القبر والمنبر
ابتغاء للثواب.. والتقرب من العزيز الوهاب..
2 ـ
إنه يظن: أن الأمر يقتصر على سفر نزهة من المدينة إلى العراق والشام
يهدف إلى إلقاء القبض على بعض العصاة وينتهي الأمر، مع إمكان غض النظر
عنهم، والعيش بسلام وأمان..
ولم يكن يدري أن المطلوب هو رأس علي «عليه السلام»،
وأنهم سوف يقصدونه أينما كان، لكي يحاربوه، ويسقطوه ويقتلوه..
ولم تكن المدينة قادرة على تحمل أي هجوم، فهي اقتصادياً
لا تملك المدد الكافي من أية جهة، كما أنها لا تستطيع تأمين العدد
الكافي من المقاتلين القادرين على الدفاع عنها.. ولا سيما إذا أفسح
المجال لمعاوية وحزبه، وكذلك لعائشة وطلحة والزبير لتأليب الناس،
وجمعهم لحربه من سائر الأقطار والأمصار.
فكيف إذا كان بين أهل المدينة من هو مثل سعد بن أبي
وقاص، وابن عمر، وابن مسلمة وغيرهم من المشككين، والمثبطين للناس عنه؟!
3 ـ
إن عمر حين كان يرسل الجيوش إلى القادسية ونهاوند وإلى الشام، ويقيم في
المدينة كان يرسل المؤمنين والمسلمين لحرب الكافرين، فكانت بصيرتهم
نافذة، وعزيمتهم ماضية، وكان كل من خلفهم على مثل رأيهم، وله مثل نفاذ
بصائرهم، ومضي عزائمهم.
وليس الأمر كذلك بالنسبة لعلي ومناوئيه، فإن مناوئيه
كانوا على ظاهر الإسلام، ويدعون المسلمين إلى حربه، وتقويض سلطانه، وهم
يثيرون الشبهات، ويمارسون من أساليب التضليل والتعمية ما مكنهم من جمع
الألوف لحربه..
4 ـ
أما قيس بن سعد، وهو الرجل الأريب المتمرس، والعارف بما يجري، الناظر
في العواقب بنظره الثاقب، فقد بيَّن:
أولاً:
أن المطلوب من علي «عليه السلام» ليس هو الصلاة في مسجد
الرسول، والجلوس بين القبر والمنبر، ابتغاء المثوبة، بل المطلوب منه:
ألف:
هداية الأمة إلى كل خير وسداد، وفلاح ورشاد. وفقده
«عليه السلام» يؤدي إلى أن يعم الظلام العباد والبلاد، والأرض
والسماء..
ب:
أن يوفر الأمن للناس، لأنه الملجأ والملاذ في كل ما
يخيف..
ج:
أن يحل لهم مشكلاتهم، في كل أمر يفزعون فيه إليه.
ثانياً:
إن أي إهمال وتريث في أمر معاوية: سيذكي طموحاته،
ويعطيه المجال لتدبير المكائد والدساس ويمكنه من الفساد والإفساد.
رابعاً:
إن مكر معاوية لا يقتصر على توسيع سلطانه ليشمل بعض
البلاد من بلاد الشام، بل هو سيطمع بالعراق. وسيطلب السيطرة على مصر..
أما اليمن، فلأنه يعلم أنه لن يتمكن من الوصول إليها، لأن الحجاز الذي
فيه علي «عليه السلام» سيحول بينه وبينها. فسيعمل على إفسادها على أمير
المؤمنين «عليه السلام» ليضعف نفوذه فيها، وهيمنته عليها..
خامساً:
إن معاوية يملك مفاتيح تهيء له فرصة المكر والكيد حتى
بالنسبة لليمن، فلديه قوم يمانيون، قد أشربوا قتل عثمان (أي أنهم
يتهمون علياً بقتله)، وقد تمكن ذلك من قلوبهم، رغم أنهم لا يملكون إلا
التوهم والحدس، وليس لديهم يقين بذلك.
ولكن هذا الوهم حين ينشأ عن الهوى، ولا يجدون لديهم ما
يبرره، سيجعلهم يكتفون به مبرراً للإقدام على كل شر، وضرر وعدوان.
سادساً:
إن
نتيجة ذلك كله: هي لزوم الانقضاض
على معاوية ومواجهته بما لا
يقبل
به، وتضييق الخناق عليه، بهدف الحد من طموحاته الباطلة، وتصغير نفسه
عنده..
نلاحظ في قول علي «عليه السلام»
لقيس:
«أحسنت والله يا قيس، وأجملت»، أنه:
1 ـ
قد صرح باسم قيس ربما لكي لا يتوهم أحد ممن حضر، وممن سينقل له هذا
الخبر: أنه يقصد بهذا الثناء أبا مسعود، عقبة بن عمرو، إذ لو قال:
أحسنت وأجملت وحسب، فإن السامع للخبر قد يتوهم: أن الذي أحسن وأجمل هو
أبو مسعود، وأن الضمير يرجع إليه.
2 ـ
إنه «عليه السلام» قد عبر بذلك عن أمرين:
أحدهما:
استحسانه لفهم قيس للأمور فهماً دقيقاً.
الثاني:
لوضعه الحل المناسب، الذي لا محيص عنه..
3 ـ
إنه «عليه السلام» أثنى أيضاً على كيفية بيانه لمراده بصورة واضحة
ومتناسقة، ووافية بالغرض، وذلك حين قال له: «وأجملت».
([1])
الإمالي للشيخ الطوسي (ط مؤسسة الوفاء) ص723 ـ 725 و (ط دار
الثقافة ـ قم) ص715 ـ 716 وبحار الأنوار ج32 ص68 ـ 69.
([2])
الآية 54 من سورة الزخرف.
([3])
الآية 51 من سورة الزخرف.
([4])
الآية 53 من سورة الزخرف.
([5])
الآية 64 من سورة الإسراء.
|