وكتب الأشتر من المدينة إلى عائشة وهي بمكة:
أما بعد..
فإنك ظعينة رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وقد
أمرك أن تقري في بيتك، فإن فعلت فهو خير لك، وإن أبيت إلا أن تأخذي
منسأتك، وتلقي جلبابك، وتبدي للناس شعيراتك، قاتلتك حتى أردك إلى
بيتك، والموضع الذي يرضاه لك ربك.
فكتبت إليه:
أما بعد..
فإنك أول العرب شبّ الفتنة، ودعا إلى الفرقة، وخالف
الأئمة، وسعى في قتل الخليفة. وقد علمت أنك لن تعجز الله حتى يصيبك
منه بنقمة، ينتصر بها منك للخليفة المظلوم، وقد جاءني كتابك، وفهمت
ما فيه، وسنكفيك وكل من أصبح مماثلاً لك في غيك وضلالك إن شاء
الله([1]).
ونقول:
إن ما يستوقفنا هنا هو الأمور التالية:
يبدو:
أن
المقصود بهذه الرسالة
هو: تهديد عائشة، ربما لثني عزمها عن مواصلة التوطئة للحرب،
وإفهامها أن مكانتها من رسول الله «صلى الله عليه وآله»، إنما
تنفعها إذا التزمت بما فرضه الله ورسوله عليها.. فليس لها أن تتوهم
أن بإمكانها أن تجعل من هذه المكانة وسيلة لانتهاك الحرمات، لأن
الهدف من إعطاء هذه المكانة لها ولسائر أمهات المؤمنين هو حفظ حرمة
الرسول «صلى الله عليه وآله»، فلا يحق لها ابتذال هذه الحرمة
والتفريط بها لمآرب شخصية.
ولأجل ذلك كان أول ما استهل به
الأشتر رسالته هو:
أن وضع أمامها حاجزاً يمنعها من مواصلة سلوك هذا
الطريق، لأنه مخالفة لأمر الرسول، الذي تريد أن توظف علاقتها به في
بلورة هذه المخالفة، واستثمارها، فقد قال لها:
1 ـ
«إنك ظعينة رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وقد
أمرك أن تقري في بيتك».
2 ـ
ثم قال لها: «فإن فعلت فهو خير لك، وإن أبيت إلا أن
تأخذي منسأتك، وتلقي جلبابك، وتبدي للناس شعيراتك، قاتلتك إلخ..».
وقد تضمنت هذه الفقرات أمراً لا يكاد يصدق. فهو
يقول:
إن عائشة كانت تحمل منسأة، (وهي العصا ينسأ بها
الشيء، أي يؤخر)([2]).
وفي التاج:
هي العصا العظيمة التي تكون مع الراعي([3]).
فلماذا هذه العصا لعائشة؟! هل كانت تحتاج إليها
للتوكؤ والاعتماد عليها، لعجزها عن المشي بدونها؟!
أو لأنها كانت محنية الظهر إلى حد لافت؟!
ويؤيد هذا الاحتمال الأخير:
تفسيرهم المنسأة بالعصا العظيمة تكون مع الراعي،
فإن الاعتماد على العصا يساعد الإنسان على مد قامته كالمتسلق على
العصا، أو المتعلق بها.
وربما يؤيد ذلك:
إلقاء عائشة جلبابها عنها، حيث يبدو أن السبب في إلقاء جلبابها
عنها ـ ليس هو إرادة التبرج ـ بل لأجل أنه ينساب عنها، ولا تستطيع
إمساكه، فتضطر إلى التخلي عنه إلا أن كان «رحمه الله» يريد أن
يقول: إنها ترى أنه لا ضرورة للجلباب، إذا أمكن الستر بغيره. ربما
لأنها ظنت أن قوله تعالى:
﴿يُدْنِينَ
عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ﴾([4])
إنما هو حين يكون الجلباب هو الساتر للبدن. فإن سُتِر البدن بثوب
تحته كفى ذلك ـ بنظرها.
وقد فسر الجلباب:
بالقميص. وبالثوب الواسع للمرأة دون الملحفة. وقيل: هو ما تغطي
المرأة به ثيابها([5]).
ولكن قد يجاب عن هذا:
بأن كلام الأشتر حول إلقاء جلبابها قد جاء في سياق تسجيل المؤاخذة
عليها، وليدل على أنها تفعل ذلك عن عمد وقصد، وكأنه يريد أن يتهمها
بالتهاون في مراعاة الأحكام الشرعية. ويرى: أن عليها أن تكف عن
ذلك، ولو تحت طائلة التهديد بقتالها..
إنه «رحمه الله» قد اتهم عائشة بما هو أشد، وأكثر
وضوحاً، في إظهار تعمدها لمخالفة أحكام الشرع والدين، فقال: إنها
تتعمد إظهار شعيراتها للناس. حيث لم يقل: وتَظْهَرُ شعيراتك للناس،
ليمكن حمل كلامه على صورة عدم قصدها لذلك.. بل قال: وتظهري للناس
شعيراتك، فإنه تعبير مفعم بالوضوح والصراحة بتعمدها لذلك..
وقد جعل الأشتر «رحمه الله» هذه المخالفات الثلاث
شاهداً ومبرراً لقتاله إياها حتى يعيدها إلى بيتها.
غير أن ثمة سؤالاً يبقى عالقاً،
ويحتاج إلى جواب.. وهو:
أن من البعيد أن تتعمد زوجات الأنبياء، اللواتي عشن في بيت الوحي
إظهار شعيراتهن، وإلقاء جلابيبهن.
ويجاب:
بأن من المعلوم، والمسلم به:
هو أن زوجات الأنبياء لا يمكن أن يرتكبن فاحشة الزنا، أما عدا ذلك
من الذنوب، فالآيات القرآنية صريحة بإمكان صدورها منهن.
فراجع مثلاً سورة التحريم التي تحدثت عن خيانة
زوجتي لوط ونوح في أمر الدعوة، بل صرحت بكفرهما.
كما أن آيات سورة الأحزاب قد صرحت: بأن عقوبة زوجات
النبي على ما يقترفنه من ذنوب ما عدا الزنا طبعاً ستكون مضاعفة،
فقد قال تعالى: ﴿يَا
نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ
يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللهِ
يَسِيراً﴾([6]).
وكذلك الحال بالنسبة لنزول آيات سورة التحريم
لتهديد أزواج رسول الله «صلى الله عليه وآله» اللواتي تظاهرن عليه،
وأفشين سره ـ إن لم يُتبن ـ بالطلاق، وبإبداله «صلى الله عليه
وآله» أزواجاً خيراً منهن، مسلمات مؤمنات، قانتات تائبات عابدات
سائحات ثيبات وأبكاراً.
بل إن عائشة نفسها بالرغم من أن النبي «صلى الله
عليه وآله» حذرها مسبقاً من مغبة مسيرها، وبيَّن لها علامات تمنع
من ادعائها الشبهة في الأمر، أو ادعاء نسيانه ـ إن عائشة ـ تقدم
على هذا الأمر بالذات، وتأمر بقتل المئات من المسلمين الأبرياء،
وفيهم الأخيار الأتقياء، والصلحاء النجباء، ثم تخوض حرباً ضد إمام
زمانها يُقتَل فيها عشرات الألوف ـ كما سنرى ـ إن شاء الله تعالى..
فالتي تُقْدِم على مثل هذا، لا يستكثر عليها الخروج
بدون جلباب، وإظهار بعض الشعيرات، ولو لأجل عدم المبالاة.
ثم إن عائشة ـ كما يقال ـ كانت لا تحتجب من مماليك
الناس([7])
ولكنها تحتحب من المكاتب، إذا بقي عليه مثقال أو دينار([8]).
كما أنها كانت تحتجب من حسن وحسين.
قال ابن عباس:
إن دخلوهما عليها لحل([9]).
ولنا أن نلفت نظر القارئ الكريم هنا إلى أن هذا
الأمر لو لم يكن ظاهراً للناس لما اعترض الأشتر به عليها.. كما
أنها لو وسعها إنكاره لأنكرته، واتهمته بأنه يسعى للأفتراء عليها،
ويروج الأكاذيب، ويعمل على إشاعة التهم الباطلة لها.
ولكن عائشة لم تستطع ولو أن تشير إلى شيء من ذلك،
ولذلك حولت كلامها باتجاه آخر. فاتهمت الأشتر بدم عثمان. وهددته
بالانتقام منه. وكأنها تعترف ضمناً بصحة مآخذه عليها، فبادلته
باتهامات تبرر تهديدها له بالقتل أيضاً. كما هددها بالقتال..
وقد حاول بعض الناس أن يثير الشبهة حول رسالة
الأشتر إلى عائشة، فكان غاية ما عنده أن ادعى: أنه لما بلغ أهل
المدينة ما عزم عليه طلحة والزبير وبنو أمية، من قصد البصرة،
«ساء
الخبر أهل المدينة، وجماعة المهاجرين والأنصار، فقد أشرفت الكلمة
على التفرق، وانشقت العصا، وفي ذلك ما يسوء كل مخلص.
إلا أن أبطال الشغب على عثمان كانوا أشد الناس
استياءً، لأن المطالبين بدم عثمان إنما يريدون رقابهم، فحاولوا
إحباط الأمر بالوسائل المختلفة.
وكان من وسائلهم: النصح تارة، والتهديد تارة، فقد
كتب الأشتر
ـ
أحد
رؤوسهم
ـ
من المدينة،
إلى عائشة وهي بمكة إلخ..»([10]).
ثم ذكر كتابه المتقدم.
ولسنا بحاجة إلى الإسهاب في رد هذه الأقاويل، بل
نكتفي بما يلي:
أولاً:
إن إخلاص الأشتر أو سوء نيته، كما تحب عائشة أن تشيع عنه، لا يمنع
من أن يكون قد احتج على عائشة بأمر واقعي يعرفه الناس، ويشاهدونه،
ولا سبيل لها إلى إنكاره..
ثانياً:
من أين علم هذا الرجل أن خشية الأشتر من المطالبة بدمه هي التي
دعته لكتابة هذا الكتاب إلى عائشة؟! ولماذا لا يكون مخلصاً لها
وللأمة ولدينه؟! وهو يعلم أنه كان من ثقاة علي، وقد رثاه «عليه
السلام» بكلمات جليلة، تدل على عظيم مقامه «رحمه الله»، ومنزلته
عنده، فقال: مالك، وما مالك،
لو كان جبلاً لكان صلداً إلخ..([11]).
ويقول عنه «عليه السلام»:
كان لي الأشتر كما كنت لرسول الله([12]).
وغير ذلك.
فهل يثق علي «عليه السلام» بقاتل ينطلق في مواقفه
من أهوائه وحقده؟! وهل هذا أعرف بالأشتر، من علي بن أبي طالب «عليه
السلام»؟!
ثالثاً:
هل كان الأشتر ممن يخشى طلحة والزبير؟!
أليس طلحة والزبير كانا أشد الناس على عثمان من
مالك الأشتر؟!
رابعاً:
ألم يكن أهل المدينة والمهاجرون والأنصار من المحرضين على عثمان،
والناقمين عليه، ولم يحركوا ساكناً للدفع عنه إلا ما كان يحاوله
«عليه السلام» وأبناؤه لمنع الفتنة، وحمل عثمان على الوفاء بوعوده.
ولكنه لم يفعل؟!
وقبل أن نشير إلى موقف الأشتر من الناكثين،
والمتخاذلين نقول:
روي:
أن رجلاً قدم على أمير المؤمنين «عليه السلام»،
فقال: أنا أحبك، وأحب فلان. وسمى بعض أعدائه.
فقال «عليه السلام»:
أما الآن فأنت أعور، فإما أن تعمى، وإما أن تبصر([13]).
ونقول:
1 ـ
لا ندري هل كان ذلك الرجل مدفوعاً من قبل غيره، ليسأل أمير
المؤمنين «عليه السلام» هذا السؤال، ليستخرج منه جوابه.. أو أنه
كان متبرعاً بسؤاله هذا ومبادراً!
وفي كلتا الحالتين يبقى مجال لاستغراب هذه البادرة،
إذ لا يليق طرح مثل هذا السؤال على أي كان من الناس، فإن الكل
يعلم: أن حب عدو أي كان من الناس لا يسعده، ولا يجلب السرور له.
ولا يحسن إخباره به.
2 ـ
إن جواب أمير المؤمنين «عليه السلام» قد جاء دقيقاً
وعميقاً، ولم يأت على سبيل المداعبة لذلك الرجل، فقد قصد به «عليه
السلام»:
ألف:
أن الحق والباطل أمران متقابلان، لا يجتمعان في
مورد واحد، في زمان واحد، ومن جهة واحدة.
ب:
إنه «عليه السلام» هو الحق، وغيره هو الباطل، وهذا
هو مضمون قول النبي «صلى الله عليه وآله» فيه: علي مع الحق، والحق
مع علي.. أو علي مع القرآن، والقرآن مع علي.. أو نحو ذلك([14]).
فلا يمكن الجمع بين حب الحق وحب الباطل في قلب مؤمن عاقل، ثم يدعي
من يجمعهما لنفسه الصلاح والاستقامة والكمال..
ج:
بل من أحب الباطل لا يكون محباً للحق.. وكذلك
العكس.. وإن توهم أحد ذلك، فهو مخطئ، ومخدوع، فلعل ذلك الرجل توهم
أنه يحب علياً «عليه السلام»، وهو إنما يحب شيئاً آخر يراه في علي،
كالشجاعة مثلاً، فلعل أحداً قال له: علي شجاع، فتعلق قلبه به. وإن
قيل له: عنترة شجاع تعلق قلبه به.
ولو أنه عرف أن علياً «عليه السلام» تقي صادق،
يحاسب على كل خطأ، ويعاقب كل من يعصي الله، وكان ذلك الرجل أو ولده
ممن يستحق العقوبة، فستراه ينفر من علي، ولا يطيق رؤيته ولا حتى
ذكره.
وكتبت أم الفضل بنت الحارث إلى علي «عليه السلام»
تخبره بمسير عائشة، وطلحة والزبير.. فأزمع المسير، فبلغه تثاقل سعد
وأسامة بن زيد، ومحمد بن مسلمة، فقال سعد: لا أشهر سيفاً حتى يعرف
المؤمن من الكافر.
وقال أسامة:
لا أقاتل رجلاً يقول: لا إله إلا الله. ولو كنت في زبية الأسد
لدخلت فيه معك.
وقال محمد بن مسلمة:
أعطاني رسول الله «صلى الله عليه وآله» سيفاً وقال: إذا اختلف
المسلمون فاضرب به عرض أحد والزم بيتك.
وتخلف عنه عبد الله بن عمر.
فقال عمار بن ياسر:
دع القوم. أما عبد الله فضعيف، وأما سعد فحسود، وأما محمد بن مسلمة
فذنبك إليه أنك قتلت بأخيه مرحباً.
ثم قال عمار لمحمد بن مسلمة:
أما تقاتل المحاربين، فوالله لو مال علي جانباً
لملت مع علي.
وقال كعب بن مالك:
يا أمير المؤمنين إنه بلغك عنا معشر الأنصار ما لو كان غيرنا لم
يقم معك! والله ما كل ما رأينا حلالاً حلال، ولا كل ما رأينا
حراماً حرام، وفي الناس من هو أعلم بعذر عثمان ممن قتله، وأنت أعلم
بحالنا منا، فإن كان قتل ظالماً قبلنا [قولك]، وإن كان قتل مظلوماً
فاقبل قولنا.
فإن وكلتنا فيه إلى شبهة فعجب ليقيننا وشكك. وقد
قلت لنا: عندي نقض ما اجتمعوا عليه، وفصل ما اختلفوا فيه وقال:
كـان أولى
أهـل المـديـنـة بالنـصر عــلي وآل عـبـــد
مــــــنـــاف
لـلـذي فـي يـديـه مـن حــرم الله وقــرب الـــولاء بـعـد
التصـافي
[وكان كعب بن مالك من شيعة عثمان]
وقام الأشتر إلى علي «عليه السلام» فكلمه بكلام
يحضه على أهل الوقوف، فكره ذلك علي «عليه السلام» حتى شكاه، وكان
من رأي علي «عليه السلام»: أن لا يذكرهم بشيء.
فقال الأشتر:
يا أمير المؤمنين، إنَّا وإن لم نكن من المهاجرين
والأنصار فإنَّا فيهم، وهذه بيعة عامة، والخارج منها عاص، والمبطئ
عنها مقصر، وإن أدبهم اليوم باللسان، وغداً بالسيف، وما من ثقل عنك
كمن خف معك، وإنما أرادك القوم لأنفسهم، فأردهم لنفسك.
فقال علي «عليه السلام»:
يا مالك دعني.
وأقبل علي «عليه السلام»، فقال:
أرأيتم لو أن من بايع أبا بكر أو عمر أو عثمان ثم
نكث بيعته، أكنتم تستحلون قتالهم؟!
قالوا:
نعم.
قال:
وكيف تَحَرَّجُون من القتال معي وقد بايعتموني؟!
قالوا:
إنَّا لا نزعم أنك مخطئ، وأنه لا يحل لك قتال من
بايعك ثم نكث بيعتك، ولكن نشك في قتال أهل الصلاة.
فقال الأشتر:
دعني يا أمير المؤمنين أوقع بهؤلاء الذين يتخلفون
عنك.
فقال له:
كف عني.
فانصرف الأشتر وهو مغضب!!
ثم إن قيس بن سعد لقي مالكاً الأشتر في نفر من
المهاجرين والأنصار، فقال قيس للأشتر: يا مالك، كلما ضاق صدرك بشيء
أخرجته؟! وكلما استبطأت أمراً استعجلته؟! إن أدب الصبر التسليم،
وأدب العجلة الأناة، وإن شر القول ما ضاهى العيب، وشر الرأي ما
ضاهى التهمة، فإذا ابتليت فاسأل، وإذا أمرت فأطع، ولا تسأل قبل
البلاء، ولا تكلف قبل أن ينزل الأمر، فإن في أنفسنا ما في نفسك،
فلا تشق على صاحبك.
فغضب الأشتر.
ثم إن الأنصار مشوا إلى الأشتر في ذلك، فرضوه من
غضبه، فرضي.
فلما هم علي «عليه السلام» بالشخوص قام أبو أيوب
خالد بن زيد صاحب منزل رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فقال: يا
أمير المؤمنين، إن أقمت في هذه البلدة فإنها مهاجر رسول الله «صلى
الله عليه وآله»، وبها قبره ومنبره، فإن استقامت لك العرب كنت كمن
كان قبلك، وإن وكلت إلى المسير فقد أعذرت.
فأجابه «عليه السلام» بعذره في المسير([15]).
ونقول:
في هذا النص العديد من الوقفات، نذكر منها ما يلي:
من الواضح:
أن الإسلام لم يوجب الجهاد على المرأة، وأمرها بأن تقر في بيتها.
وحظَّر عليها أن تتبرج تبرج الجاهلية الأولى.. ولكن ذلك لا يعني
إعفاءها من أية مسؤولية ترتبط بالحرب، والإعداد لها، ونصيحة
الأئمة، وإعلامهم بما يجري، وبما يدبره أعداؤهم ضدهم..
وقد لاحظنا:
أن إحدى النساء هنا، هي التي كتبت إلى أمير المؤمنين «عليه السلام»
تخبره بمسير عائشة وطلحة والزبير إلى البصرة للإعداد لحربه. فدلنا
ذلك على مدى وعي هذه المرأة وعلى شعورها بالمسؤولية والتزامها
بالعمل بها، وصدوف كثير من الرجال على ذلك..
وقد بادر «عليه السلام» إلى العمل بما يقتضيه
التدبير الصحيح، وفقاً للخبر الذي أبلغته إياه أم الفضل بنت
الحارث، فكانت «رحمها الله» هي العين التي رأت له ما كان ينبغي أن
تراه عيون الرجال قبلها أو معها على الأقل.
وقد ذكر النص تثاقل سعد، وأسامة، ومحمد بن مسلمة،
وابن عمر عن المسير معه «عليه السلام» لحرب البغاة، ونلاحظ هنا:
1 ـ
أنه قد تقدم في الجزء التاسع عشر من هذا الكتاب في فصل: «لم يتخلف
أحد»: أن المتخلفين عن المسير كانوا أكثر من ذلك..
2 ـ
قد بينا هناك: أن الناقلين قد خلطوا عمداً، أو عن غير عمد بين
القعود عن القتال، والقعود عن البيعة..
3 ـ
إنه «عليه السلام» بعد أن سمع من سعد بن أبي وقاص، وابن مسلمة،
وأسامة بن زيد، وابن عمر، ما اعتذروا به له، قال: ما كل مفتون
معاتب. ثم ذكر «عليه السلام»: أن الله سيغني عنهم.
وقد شرحنا كلمته هذه، وقلنا:
إن المفتون إن كان قد فتن بسبب شبهة، فيمكن عتابه، وإزالة شبهته..
وإن كانت فتنته بسبب مرض قلبه، أو حباً بالدنيا،
فلا معنى لعتابه، لأن هذا العتاب لا يجدي في إرجاعه إلى جادة
الصواب.
ويتأيد ذلك بما ذكره «عليه السلام» من أن سبب قعود
ابن عمر أنه ضعيف، وأن سبب قعود سعد أنه حسود. وسبب قعود ابن مسلمة
أنه قتل أخاه مرحباً يوم خيبر.
وقد بيَّن صحة ذلك:
أن ابن عمر، قد ندم على تخلفه، وأن سعداً قد اعترف بالحق لعلي
«عليه السلام»، كما أن أسامة قد عاد إلى علي «عليه السلام».
4 ـ
تقدم في الجزء التاسع عشر من هذا الكتاب: أنه «عليه السلام» قال
للمتثاقلين عن الخروج لقتال الأعداء: إذا بايعتم فقد قاتلتم.
وقد قلنا:
أن هذا النص مكذوب للأسباب التالية:
أولاً:
لأنه يدل
على رضاه «عليه السلام» بقعودهم عنه مع أنه عاقبهم
بقطع
أعطياتهم.
ثانياً:
إن البيعة لا تعني حصول القتال.
ثالثاً:
إن ذلك يعطي الفرصة لامتناع جميع الناس عن القتال
إذ لا خصوصية لهؤلاء الممتنعين.
بالإضافة إلى أمور أخرى ذكرناها هناك تدل على عدم
صحة هذا القول..
5 ـ
إن طلب السيف الذي يميز المؤمن من الكافر لا معنى له، لأن قتال
البغاة قد أوجبه الله تعالى بقوله:
﴿وَإِنْ
طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا
بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى
فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللهِ﴾([16]).
فهل أعطى الله تعالى لكل مسلم سيفاً ناطقاً، يقول لصاحبه: هذا مؤمن
وهذا كافر؟!
6 ـ
إن البغاة هم من أهل الصلاة أيضاً، وقد أزال الله تعالى بهذه الآية
كل شك، وأوجب قتالهم على كل مسلم، فلا معنى لقولهم: إنا شككنا في
قتال أهل الصلاة..
7 ـ
تقدم: أنه «عليه السلام» سألهم عن ناكثي بيعة أبي بكر، أو عمر أو
عثمان، الخارجين عليهم، أكانوا يستحلون قتالهم؟!
قالوا:
نعم.
قال لهم:
فكيف تحرَّجون من القتال معي وقد بايعتموني؟!
فاعتذروا بأنهم يشكون في قتال أهل الصلاة.
مع أن الخارجين على عثمان وعمر وأبي بكر الذين
سألهم عنهم هم أيضاً من أهل الصلاة.
8 ـ
لو سألنا سعداً عن أنه لو هاجمه شخص ليقتله هل سيطلب سيفاً يخبره
عن المؤمن والكافر ليستعمله في الدفاع عن نفسه أو لا يستعمله؟!
9 ـ
قد ذكر أمير المؤمنين «عليه السلام» لسعد أنه لو أعطي سيفاً ينطق
ويقول له: هذا مؤمن وهذا كافر. فكيف سيعرف سعد أن ما ينطق به، هل
هو من قول الشيطان أو من قول الرحمن؟!
وذكرنا في الجزء التاسع عشر في
فصل:
«لم يتخلف أحد»: أن ابن عمر لم يخرج مع أمير المؤمنين «عليه
السلام» إلى حرب البغاة، وزعم أنه مع أهل المدينة، يقعد معهم،
ويخرج معهم..
ثم رفض أن يتعهد لعلي «عليه السلام» بأن لا يخرج من
المدينة، فوصفه «عليه السلام» بسوء الخلق صغيراً وكبيراً، ثم
تركه..
وقد علقنا على هذه الرواية بأمور، منها:
1 ـ
أنه «عليه السلام» كان يريد من ابن عمر أن يبادر إلى نصرة الإسلام.
وأن يمنع ضعفاء البصيرة من الوقوع في فخ المضلين والمشككين،
فيكونوا من أعوانهم. وقعود ابن عمر سوف يساعد أولئك المشككين على
ذلك..
2 ـ
ولعله «عليه السلام» كان يريد أن يخرج ابن عمر معه، ليتشجع محبو
أبيه ويهبوا إلى نصرة أمير المؤمنين «عليه السلام» أيضاً.
3 ـ
والغريب هنا: أن ابن عمر قد ربط موقفه بموقف أهل المدينة، ولكنه لم
يف بوعده، فإن الأخيار وأهل الفضل من أهل المدينة كانوا مع أمير
المؤمنين «عليه السلام»، ولم يتخلف عنه منهم إلا أهل الريب، وطلاب
الدنيا، وأهل الأهواء، فرضي ابن عمر بأن يكون تابعاً لهؤلاء دون
أولئك.
4 ـ
إن الموقف الصحيح: هو أن يجعل الإنسان موقفه تابعاً للقرآن وللحق،
ولما يقرره الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله»، لا أن يكون تابعاً
للعوام، مقلداً لأهل الأهواء.
5 ـ
كيف استساغ ابن عمر أن يقلد أهل الأهواء وأهل الدنيا من أهل
المدينة، ويترك علياً «عليه السلام» وصي الرسول رغم بيعته له،
ويخالف الأوامر القرآنية والنبوية بقتال البغاة؟! وبالأوامر
النبوية الكثيرة بالوقوف مع علي «عليه السلام» الذي هو مع الحق،
والحق معه، يدور معه كيفما دار كما قال «صلى الله عليه وآله».
ولماذا لم يكن مع عمار الذي
وصفه رسول الله «صلى الله عليه وآله»:
بأنه ملئ إيماناً إلى مشاشته، وأنه لو سلك الناس وادياً وسلك عمار
وادياً، فكونوا مع عمار. وأن عماراً جلدة ما بين عيني. وأنه تقتله
الفئة الباغية. وأنه.. وأنه.
ولم لم يقلد أهل المدينة في اعتراضهم على يزيد في
فسقه وفجوره، بل كان إلى جانب يزيد ضدهم!! وهو قاتل الإمام الحسين
«عليه السلام»، وهادم الكعبة و.. و.. إلخ..؟!
6 ـ
إن طلب علي «عليه السلام» للحميل والكفيل من ابن عمر وأمثاله، يدل
على معرفته «عليه السلام» بالطامحين، وغير المنضبطين والذين يمكن
أن يقعوا فريسة التضليل، وأن يجعل الطامحون منهم وسيلة لمآربهم.
كما أن طلب الكفيل منهم يعد إنذاراً لهم بأنه سوف
لن يتساهل معهم في مثل هذا الأمر الخطير.
وقد ذكرنا في الجزء التاسع عشر
في فصل:
«لم يتخلف أحد»: أن ابن عمر قد ندم على أنه لم
يقاتل الفئة الباغية.. ولا شك في أن معاوية كان من الفئة الباغية،
كما دل عليه قول النبي «صلى الله عليه وآله» لعمار: «تقتلك الفئة
الباغية»([17]).
وقد قتل مع علي «عليه السلام» في صفين..
كما لا شك في أن أصحاب الجمل أيضاً من الفئة
الباغية، فإنهم نكثوا بيعتهم، وخرجوا على إمامهم أيضاً..
وكذلك الحال بالنسبة للخوارج..
وقد رأينا في كلام كعب بن مالك الكثير من موارد
المؤاخذة، فهو يرى:
1 ـ
أن عثمان كان معذوراً في أموره التي أخذها عليه المسلمون، وأنه
كانت له أعذاره وحججه.
2 ـ
ويرى: أن الذين قتلوه كانوا يجهلون بأعذار عثمان. وكان في الناس من
هو أعلم بعذره من قاتليه.
3 ـ
إنه يستطرد من ذلك ليدعي أن علياً «عليه السلام» كان أعلم بأحوال
الناس منهم، مما يعني: أنه كان أعلم بأعذار عثمان.
4 ـ
إنه يتجاهل تصريحات علي «عليه السلام» حول أن عثمان استأثر فأساء
الأثرة، وجزعوا فأساءوا الجزع. وقوله في الخطبة المعروفة بالشقشقية:
«إلى أن قام ثالث القوم نافجاً حضنيه بين نثيله
ومعتلفه، وقام معه بنو أبيه يخضمون مال الله خضمة الإبل نبتة
الربيع، إلى أن انتكث فتله، وأجهز عليه عمله وكبت به بطنته»([18]).
وغير ذلك من كلماته ومواقفه
التي تبين:
أنه لم يكن يرى عثمان معذوراً فيما كان يأتيه، وأن
انتقاض الناس عليه كان بسبب إصراره على مواقفه..
5 ـ
إنه يريد أن يحرج علياً «عليه السلام»، ويضعه أمام خيارات ثلاثة
كلها مرفوضة وفاسدة:
الأول:
أن يعلن أن قتل عثمان كان لازماً، لدفع ظلمه، وتخليص الناس منه.
وبذلك يكون «عليه السلام» قد أدان نفسه، وصدق قول
طلحة والزبير، وعائشة ومعاوية فيه. ولن يجد بعد هذا أحداً يصدقه في
قوله: إنه لم يشارك في قتله، إذ لا يعقل أن يرضى بالظلم، وأن لا
يدافع عن المظلومين، ولا يكون معهم ضد ظالمهم..
الثاني:
أن يعلن: أن عثمان مات مظلوماً، فيعطيهم طلحة والزبير ومعاوية
العذر بالمطالبة بقتل كل من أحبوا قتله ممن يتهمونه بالمشاركة في
قتل عثمان والتأليب عليه، بما فيهم عمار بن ياسر، والأشتر، ومحمد
بن أبي بكر، وكل من يخطر على بالهم أن يلصقوا به تهمة القتل، بل
يجب على علي «عليه السلام» في هذه الحال أن يكون معهم في استئصال
الصفوة، وخيرة الصحابة، وأبرار الناس وأتقيائهم. ويمكن الطلقاء
وأبناء الطلقاء من الانتقام
منهم.. وهو يعلم أنه لا يرضيهم إلا استئصال شأفة أهل الخير
والصلاح. حتى إذا رأوا أنه قد بقي وحده، عطفوا عليه، وتخلصوا منه
بأهون سبيل.
الثالث:
أن لا يصرح لهم بهذا ولا بذاك، ومعنى ذلك: أنه شاك
في أمر عثمان.
وهذا يسقط قوله الذي لم يزل يجعل منه دليلاً على
إمامته، وشاهداً على تقدمه عليهم، وأحقيته بالأمر منهم، وهو: أن
عنده «عليه السلام» نقض ما اجتمعوا عليه، وفصل ما اختلفوا فيه، فإن
الشك والشبهة في أمر عثمان معناه: أنه غير قادر على نقض ما اجتمعوا
عليه، لأنه لا يملك ما ينقض به آراءهم المجتمعة. كما أنه لا يستطيع
أن يفصل في أمر هو نفسه يشك فيه.
ثم قرر كعب بن مالك:
أن أولى الناس بنصر عثمان علي وآل عبد مناف. وحيث إنه إن لم ينصره
بيده يكون قد قصر في ذلك، ووقع بالخطاء..
وقد تغافل كعب بن مالك عن
حقيقة:
أن علياً «عليه السلام» قد بيَّن حقيقة أمر عثمان له ولغيره، بما
تقدم نقله عنه من أنه قال: استأثر فأساء الإثرة، وجزعتم فأسأتم
الجزع، وغير ذلك من كلمات..
كما أن الذين يطالبون بدم عثمان ليسوا أولياء دمه،
ولم يترافعوا إليه فيه، بل أرادوا أن يبطشوا بالناس بصورة عشوائية،
وعلى حسب ما تقودهم إليه أهوائهم، ويمكنهم من القضاء على مناوئيهم
من دون ضابطة أو رابطة، وبالإستناد إلى التخيلات والتوهمات وبصورة
اقتراحية بحتة.
ثم إن مالك الأشتر حين حض أمير المؤمنين «عليه
السلام» على أخذ الممتنعين عن الخروج معه قد بيَّن أن هدفه هو
تطبيق أحكام الله تعالى فيهم وفي أمثالهم.
وقد كان «رحمه الله» محقاً فيما قال، فإنه لم يزد
على ذكر ما حكم الله تعالى به في حق أمثالهم، فإن المبطئ عن تنفيذ
أوامر الخليفة الشرعي ـ بجميع المقاييس ـ الذي بايعه مختاراً،
مصراً عليه بالقبول، ليس له أن يتخلف عن قتال البغاة عليه، فإن
تخلف عن قتالهم استحق العقوبة بلا ريب، لأنه يكون متعمداً مخالفة
أوامر الله ورسوله..
ولا يمكن أن يعامل هؤلاء بنفس الطريقة التي يعامل
بها المطيعون والمنقادون..
يضاف إلى ذلك:
أن أمثال هؤلاء لو تركوا ليعملوا ما يروق لهم، فسوف يتجرأون على ما
هو أعظم.
فالمبادرة إلى عقوبتهم ـ ولو بأدنى المراتب،
كالتهديد والوعيد، وإصدار الأوامر الصارمة لهم ـ ستمنعهم من ارتكاب
ما يستحقون به العقوبة بالسيف.
وهذا كلام صحيح في حد نفسه، ولكن الأشتر لم يلتفت
إلى حيثيات وخصوصيات أخرى تفرض على أمير المؤمنين «عليه السلام»
التريث في ذلك، ومنها: أنه «عليه السلام» كان يراهم مصداقاً لقوله
تعالى:
﴿لَوْ
كَانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قَاصِداً لَاتَّبَعُوكَ وَلَكِنْ
بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ﴾([19]).
ومصداقاً لقوله عز وجل:
﴿وَلَوْ
أَرَادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلَكِنْ كَرِهَ
اللهُ انْبِعَاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ﴾([20]).
وقوله سبحانه وتعالى:
﴿لَوْ
خَرَجُوا فِيكُمْ مَا زَادُوكُمْ إِلَّا خَبَالاً وَلَأَوْضَعُوا
خِلَالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ
لَهُمْ﴾([21]).
أن الجهاد من العبادات التي لا يتحقق قصد القربة
فيها مع الإكراه والإجبار.
ومنها:
أن إجبارهم هذا ربما يدفع بهم إلى الهرب إلى أعدائه، ويصبح شرهم
أعظم، وخطرهم أشد..
ومنها:
أن هذا الإكراه سيجعل وجودهم في جيشه من موجبات
حرصهم على العبث بأفكار الناس، وتشكيكهم في حقانية ما هم عليه،
وإلقاء الشبهات فيما بينهم، وقد يتسبب ذلك بتصدعات خطيرة، وربما
يدفع ذلك الكثيرين إلى التخلي عن واجب الجهاد، وقد تنجر الأمور إلى
ما هو أخطر وأضر، وأعظم وأشر..
فيكون «عليه السلام» قد لاحظ هذه الأمور وأمثالها
مما يدعو إلى عدم التشدد مع المتخلفين بأكثر مما كان.
وبذلك يظهر أنه لا غضاضة على الأشتر فيما أقدم عليه
من الحض على التشدد مع هؤلاء..
ولعله رأى أيضاً:
أن إظهار هذا التشدد، وإظهار الغضب، وبيان أحكام الله بالإستناد
إلى المسلمات وإلى الآيات والنصوص، سيكون مفيداً في ردع غيرهم عن
اللحاق بهم في مثل هذه التصرفات.. وأن المصلحة تقضي بأن يتخذ علي
«عليه السلام» موقف اللين، والمداراة.
ولأجل ذلك لم يزد علي «عليه
السلام» على أن قال له:
يا مالك دعني.
ولم يشر إلى تخطئته في موقفه. ولو كان مخطئاً لم
يسكت عن بيان ذلك له وللناس، لكي لا تبقى أية شبهة في حكم شرعي..
بل إنه «عليه السلام» حين قال
له الأشتر:
دعني أوقع بهؤلاء، لم يخطئه أيضاً، بل اكتفى بقوله: كف عني. فدل
ذلك على أنهم يستحقون الإيقاع بهم.
كما أن الرواية لم تصرح:
بأن الأشتر قد غضب من علي «عليه السلام»، بل اكتفت بالإشارة إلى
غضبه فقط. وربما يكون المطلوب هو إظهار الغضب، ليعرف الناس خطورة
ما يقدم عليه هؤلاء..
وقد بيَّن كلام قيس:
أن الأشتر لم يكن متفرداً في موقفه، بل كان قيس وسواه على مثل
رأيه، ولذلك قال له: «إن في أنفسنا ما في نفسك».
وقد اعتبر قيس:
أن هذا الموقف من الأشتر كان لأجل أن صدره قد ضاق بأمر، فبادر إلى
الجهر به وإخراجه..
وهذا الأمر يدل على صحة اعتقاد، وسلامة موقف
الأشتر، وعلى شدته في ذات الله..
وعلى أن الأشتر كان يريد حسم الأمر، والوصول إلى
النتيجة..
ولعل الأشتر قد غضب من قيس، حين أشار إلى أن الأشتر
لم يكن قد بلغ درجة التسليم، ولم يتعامل مع هذا الأمر بالأناة..
وأنه اعتبر أن ما قاله يشبه الطعن في علي «عليه
السلام»، وإن لم يكن كذلك في حقيقته..
وأما بالنسبة لغضبه حين كلم علياً «عليه السلام»،
فلعله «رحمه الله» أظهر الغضب من فعل القوم، ليردعهم، ويردع الناس
عن التشبه بهم، ولم يظهر الغضب من فعل علي «عليه السلام»..