صفحة :177-200   

الفصل السادس: العراق ضرورة.. والكوفة عاصمة..

ملاحقة الناكثين:

روى الطبري قال: لما أتى علياً «عليه السلام» الخبر ـ وهو بالمدينة ـ بأمر عائشة وطلحة والزبير، وأنهم قد توجهوا نحو العراق، خرج يبادر، وهو يرجو أن يدركهم ويردهم..

فلما انتهى إلى الربذة أتاه عنهم أنهم قد أمعنوا، فأقام بالربذة أياماً، وأتاه عنهم أنهم يريدون البصرة، فسّر بذلك، وقال: إن أهل الكوفة أشد لي حباً، وفيهم رؤساء العرب وأعلامهم.

وفي نص آخر عن الطبري: أما بعد، فإني قد اخترتكم، وآثرت النزول بين أظهركم، لما أعرف من مودتكم وحبكم لله ورسوله، فمن جاءني ونصرني فقد أجاب الحق، وقضى الذي عليه([1]).

ويقولون أيضاً: إنه لما خرج علي «عليه السلام» ليأخذ الطريق على الناكثين لقيه عبد الله بن سلام، فأخذ بعنانه وقال: يا أمير المؤمنين، لا تخرج منها، فوالله لئن خرجت منها لا ترجع إليها ولا يعود إليها سلطان المسلمين أبداً.

فسبوه، فقال: دعوا الرجل، فنعم الرجل من أصحاب محمد «صلى الله عليه وآله»([2]).

الريب في حديث ابن سلام:

ونحن نرتاب في حديث عبد الله بن سلام هذا، لما يلي:

أولاً: إن قول ابن سلام هذا لا يستوجب سبه من أصحاب علي «عليه السلام»، إلا إذا كان المراد إظهار حسن طوية عبد الله بن سلام، ومدى حرصه على الإسلام، وسوء خلق، وأعرابية، وقلة أدب أصحاب علي «عليه السلام»، وجلافتهم.

ثانياً: لا ندري كيف نفسر هذا الثناء من علي «عليه السلام» على عبد الله بن سلام، وهو لم يبايعه مع أنه كان عارفاً: بأن الحق له بنص القرآن وتصريح الرسول «صلى الله عليه وآله». وقد عاش في زمن رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ولم يكن ليجهل بيعة يوم الغدير. فكيف يوصف من يتخلف عن بيعة أمر الله ورسوله بها: بأنه نِعم الرجل؟!

ثالثاً: ما هو البديل لعلي «عليه السلام» إن بقي في المدينة؟! وكيف يدفع هذه الفتنة عن المسلمين وعن نفسه؟! وما الذي يحتم ويوجب أن تبقى المدينة مركزاً للخلافة؟!

رابعاً: من أين علم ابن سلام بهذا الغيب الذي يخبر عنه، وهو أن لا يعود سلطان الإسلام إلى المدينة؟! وهل كان علي «عليه السلام» يجهل ما علمه ابن سلام؟! فإن كان يجهله، فلماذا لا يكون العالم بالغيوب هو الإمام؟!

وإن كان يعلم، فلماذا يخبره ابن سلام بما يعلمه ويعرفه؟!

وبعد أن عرف «عليه السلام» هذا الأمر لماذا لم يطعه فيه، ولم يرجع بجيشه معه إلى المدينة؟!

ونقول:

إننا نذكر القارئ الكريم بالأمور التالية:

علي يبادر عدوه:

إن مبادرته «عليه السلام» لمواجهة الحدث تحمل العديد من الإشارات والدلالات، فهي تعطي:

أولاً: إنه «عليه السلام» لن يتسامح مع البغاة عليه، ولن يتوانى عن ملاحقتهم..

ثانياً: إن ذلك يضيع الفرصة عليهم، ويمنعهم من إحكام أمرهم، والتفرغ لرسم الخطط، والإعداد والاستعداد التام، ويعرض جهدهم لاختلالات قد تكون كبيرة، نتيجة للعجلة التي تفرضها الملاحقة الحثيثة.

ثالثاً: إن هذه المبادرة منه «عليه السلام» من شأنها أن تجعل الكثيرين يترددون في الاستجابة لطلب البغاة بالالتحاق بهم، إذ لا يوجد ما يطمئن الناس، أو على الأقل، ما يبعث الأمل أو يذكي احتمالات تحقيق نصر في تحرك، يتعرض للملاحقة منذ لحظة بدئه..

رابعاً: إن هذه الملاحقة من مكان إلى مكان لا بد أن تزرع الرعب في قلوبهم، وسيخسرون معنوياتهم قبل الدخول في الحرب.. على قاعدة: ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا.. ولا سيما إذا كانت هذه الملاحقة من قبل من طار صيت جهاده وتضحياته، وانتصاراته، وأفعاله الكبرى، وأنه كرار غير فرار، ومجندل الأبطال، في بدر وأحد، والخندق وخيبر، وحنين، وذات السلاسل وسواها..

خامساً: إن الخوف الدائم، والتحفظ المستمر، لا بد أن يرهق الجيش الذي جمعوه، ويخمد فيه جذوة التوثب إلى الهجوم، ويحول معظم اهتماماته إلى جهة المدافعة، ثم الهزيمة..

سادساً: ولو فرض أنه «عليه السلام» أدركهم فسيكونون أضعف من أن يتمكنوا من مقاومته، والإفلات من يده، وفي هذه الحال سيكون له معهم شأن آخر حيث سيكون هو صاحب القرار القادر على حسم الأمر وفق ما يراه من مصلحة للدين وللأمة.

اختيارهم البصرة يسهل الأمر:

ويذكر النص: أن الناكثين وردوا البصرة، حين كان علي «عليه السلام» في الربذة، فلما بلغه ذلك سُرَّ به. وسّر بعدم قصدهم الكوفة. فدل ذلك على أمور، نذكر منها:

أولاً: إنه لا بد للقائد من أن يكون عارفاً بتوجهات جميع الفئات التي يتعامل معها، ويعرف ما يلائمها، وما ينفعها ويضرها.. ولا بد أن يعرف أيضاً تأثراتها، وتأثيراتها بالمستجدات والعوارض المختلفة وبما يصلحها ويفسدها وطبيعة مشاعر الناس نحوه، ونوع علاقتهم به، ليتمكن من أن يوظف ذلك في مصلحتهم، وفي مصلحة الدين والأمة.

ثانياً: ذكر «عليه السلام»: أن أهل الكوفة أشد حباً له من أهل البصرة، وهذا يحتم الإشارة إلى ما يلي:

ألف: لعل سبب هذا الحب هو تولي عمار بن ياسر للكوفة برهة، وتولي سلمان الفارسي للمدائن، وسلمان هو الذي اختار موقع الكوفة.

كما أن أهل الكوفة كانوا أكثر احتكاكاً بالصحابة، وأكثر تواصلاً مع المدينة.

يضاف إلى ذلك: أن جماعة من خيرة شيعته «عليه السلام» سكنوها وعاشوا فيها، وكان لهم نشاط عظيم في سبيل دينهم وإيمانهم.. بل كان لهم أثر كبير في فتح بلاد فارس بمشورته «عليه السلام»..

كما أن الكوفة كانت تواجه أحداثاً وقضايا حساسة وهامة في عهد الخلفاء السابقين عليه.. كان علي «عليه السلام» هو المرجع والحكم، وقوله هو الفيصل فيها.

ب: إن ذلك لا يعني أن لا يكون في الكوفة جماعات مخالفين له، أو ممالئين لأعدائه عليه.

ج: إن هذا الحب لم يكن قد وصل إلى حد الاعتقاد بإمامته كما أوضحناه في بعض فصول هذا الكتاب. فإنه «عليه السلام» كان بالعراق يقاتل عدوه، ولم يكن معه خمسون رجلاً يعتقدون بإمامته([3]). وقد تحدثنا عن هذا الموضوع في بعض فصول هذا الكتاب.

د: إنه «عليه السلام» أراد أن يبين أن لهم ميزة على أهل البصرة، بهذا المقدار.. لأنهم قد اشتموا بعض طيب ذكره، وعرفوا نزراً من عظيم فضله، فجعلهم ذلك يحبونه أكثر من أهل البصرة، ولكن المشكلة هي أن وعي هؤلاء الناس لدينهم كان في أدنى مستوياته، بل كان في حالة مزرية، ويحتاج إلى بذل كثير من الجهد الذي لم يبخل «عليه السلام» به عليهم، حتى قال: «وركزت فيكم راية الإيمان، وعرفتكم حدود الحلال والحرام»([4]). مع أنه هو الذي يقول عنهم: إنهم لا يتعلقون من الإسلام إلا باسمه([5]).

ثالثاً: إنه «عليه السلام» قد علل سروره بعدم قصد الناكثين للكوفة بقوله: «وفيهم رؤساء العرب، وأعلامهم» ليفهمنا: أن ذلك سيؤدي إلى سلبيات أكبر وربما أخطر مما إذا قصدوا البصرة، فلاحظ:

ألف: إذا كان في الكوفة رؤساء العرب، فمعنى ذلك: أن انحياز أي من هؤلاء الرؤساء إلى الناكثين، سيؤدي إلى انحياز كل من يكون تحت إمرته وطاعته..

ب: إن بعض الرؤساء، أو بعض أعلام العرب إذا أعلنوا تأييدهم للناكثين، فسيؤدي ذلك إلى تسامع الناس في مختلف البلاد، وسيهوّن على رؤساء القبائل في الكوفة وفي سائر البلاد أن يتأسوا بهم، ويكونوا معهم، وأن يقاتلوا تحت رايتهم..

ج: إن نفس وجودهم في الكوفة سيثير الكثير من المشاكل والخلافات بين أولئك الرؤساء والأعلام، حتى لو لم يحصلوا على تأييد عدد كبير منهم، وسيقلل ذلك من قدرة صاحب الحق على الحصول على التأييد المطلوب من أهل الكوفة. لا سيما وأن الحب الذي قال «عليه السلام»: إنه كان له لدى أهل الكوفة، إنما كان لدى عامة الناس منهم، وكان كثير من الرؤساء والأعلام، يهتمون بمصالحهم أكثر من أي شيء آخر..

وهؤلاء هم الذين يكون لهم التأثير الأكبر في بعث الناس إلى الحرب، مع من يرون مصلحتهم في نصرته.

د: إن هذا سيؤثر سلباً على استجابة الناس في سائر القبائل وبلاد العرب لدعوة أهل الحق إياهم إلى نصرة دينهم..

مودة أهل الكوفة لأهل البيت :

وذكر «عليه السلام» في رسالته إلى أهل الكوفة: أنه «عليه السلام» يعرف مودتهم لأهل البيت، وحبهم لله ورسوله.

ونقول:

علينا ملاحظة الأمور التالية:

1 ـ إن حب أهل البيت «عليهم السلام» هو جزء من هذا الدين، كما أكدت عليه نصوص القرآن، وتواترت به النصوص عن النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله».

2 ـ إن أهل الكوفة قد عرفوا شيئاً عن أهل البيت «عليهم السلام»، وسمعوا عن طهارتهم، وعن مقامهم ممن تولوا الكوفة وبعض البلاد في المناطق القريبة منها، مثل: عمار بن ياسر، وسلمان الفارسي. ورأوا وعرفوا الكثير عن انحراف من تولى بلادهم من المناوئين والمبغضين لأهل البيت «عليهم السلام» من أمثال: المغيرة، والوليد بن عقبة. والإنسان بفطرته يحب أهل الكمال، ويكبرهم، ويحترمهم. ويسقط من عينه أهل الفسوق، والعصاة، والظالمون..

ثم إن معرفتهم بأمير المؤمنين «عليه السلام» قد زادت وتنامت طيلة حوالي عقدين من الزمن بسبب ما يسمعونه عن علي «عليه السلام» من مواقف، وما ظهر له من علم، وزهد، وتقوى، واستقامة. ثم ما شاع وذاع له من بطولات، وتضحيات، وجهاد، وطاعة لرسول الله «صلى الله عليه وآله». وقد كان فيهم الكثيرون من ممن عاشروه وأحبوه، وأشاعوا بينهم فضائله، وشرحوا لهم الكثير عنه وعن غيره من القادة المعروفين.

من نصرني: فقد أجاب الحق:

وذكر «عليه السلام» لأهل الكوفة: أن من جاءه ونصره، فقد أجاب الحق. وهذا يدل على أنه «عليه السلام» متعهد بأن يكون الحق هو الأساس والمرجع له في كل عمل وموقف.

أو فقل: إنه «عليه السلام» يعطي الناس معياراً يمكنهم أن يقيسوا به أعماله، ليتعرفوا على مدى صحتها. وليتخذوا مواقفهم بالتعويل عليه، والاستناد إليه. وهذا هو معيار الحق. فما داموا يرونه ملتزماً به، فعليهم أن يكونوا معه، فإن حاد عنه، فعليهم أن يتركوه ويكونوا إلى جانب الحق.

وهذا يعني: أن هذا الحق لا بد أن يكون في متناول يد الجميع، وأنه على درجة كبيرة من الوضوح والبداهة لهم، وسهولة الوصول إليه، لكل أحد، عالماً كان أو جاهلاً، كبيراً أو صغيراً، ذكياً أم غبياً، حراً أو عبداً، محباً أو مبغضاً.

اخترتكم على الأمصار:

إنه «عليه السلام» قد كتب إلى أهل الكوفة: أنه اختارهم وفضل بلدهم على سائر الأمصار. وربما أمكن اعتبار هذا إشارة منه «عليه السلام» إلى عزمه على اتخاذ بلدهم عاصمة له في مستقبل الأيام، فإنه «عليه السلام» لم يدخل الكوفة في سفره ذاك إلا بعد انتهاء حرب الجمل.

إلا إن كان يريد: أنه لم يكتب لأحد سواهم بطلب النصرة، وفضلهم على سائر الأمصار بذلك.

ولكنه احتمال مردود فقد كتب عليه إلى أهل البصرة بطلب نصرتهم، كما كتب إلى أهل الكوفة..

ومهما يكن من أمر، فإن علياً «عليه السلام» قد اختار الكوفة واتخذها عاصمة له بالفعل، وكان هذا قراراً دقيقاً، وله مبرراته الموضوعية.

ونستطيع توضيح ما نرمي إليه في ذلك على النحو التالي:

المدينة مهد الإسلام:

قد يقول قائل: إن المدينة مهد الإسلام، ومركز القيادة والريادة، وقد أثبتت عملياً صلاحيتها لهذا الأمر طيلة أكثر من خمسة وثلاثين عاماً. ولها مكانتها وقدسيتها واحترامها عند جميع أهل الإسلام، فلماذا تركها علي «عليه السلام»، ورغب عنها؟! واختار الكوفة عليها، وعلى سائر الأمصار عاصمةً لخلافته؟!

ولماذا لم يتخذ غير الكوفة عاصمة له، مثل مكة أو البصرة، أو غيرهما؟!

ونجيب:

بأنه لا سبيل إلى اعتبار اختيار الكوفة عاصمة أمراً عفوياً، جاء على سبيل الصدفة والارتجال، بعد تصريحه «عليه السلام»: بأنه اختار الكوفة على سائر الأمصار، بل جاء نتيجة ملاحظة أمور مهمة، اقتضت ترجيح الكوفة على المدينة، وعلى غيرها من البلاد.

ويمكن إجمال الاعتبارات التي دعت إلى هذا الخيار والاختيار على النحو التالي:

إنه «عليه السلام» كان واقفاً على حجم التحديات التي تنتظره، ويعرف أن طلاب اللبانات، والطامحين كانوا على استعداد لتدمير كل شيء يقف في طريق مطامحهم، ويعترض سبيل وصولهم إلى أغراضهم الدنيئة والشريرة.. الأمر الذي يحتم أن يكون الإمام المعصوم والحافظ للدين وأهله في موقع القوة والمناعة من جميع الجهات: عسكرياً، وأمنياً، واقتصادياً، وسياسياً، واجتماعياً، وغير ذلك.. وأن يكون الذين معه على بصيرة من أمرهم، موطنين أنفسهم على التضحية بكل غال ونفيس في نصرة الحق وأهله.

ولم تكن المدينة قادرة على الوفاء بما يحقق النصر على هؤلاء الأعداء، فإن فيهم عدواً داخلياً متغلغلاً في مختلف المواقع والمواضع، واقف على كل شاردة وواردة في محيطه ومجتمعه، وهو أشد خطراً، وأعظم ضرراً من العدو الخارجي، ولو كان في مستوى إمبراطورية فارس والروم..

وكانت الكوفة أغنى، وأقدر على تحمل الصدمات، وتوفير الإمكانات التي تحقق النصر..

ويتجلى صحة هذا الأمر بملاحظة ما يلي من مطالب:

عجز المدينة يمنع من اختيارها:

بالنسبة للمدينة نقول:

القدرات البشرية:

لا تتوفر في المدينة كثافة سكانية، يمكن أن تشكل جيشاً كبيراً قادراً على مواجهة جيوش جرارة تعد بعشرات الألوف كان معاوية يعدّها في بلاد الشام، أو يُتوقع أن يأتي بها الناكثون من العراق..

خطوط المواصلات:

1 ـ إذا هوجمت المدينة، فلن يكون من السهل إيصال إمدادات المؤن، إليها لبعدها عن مناطق التموين، وطول طرق المواصلات، لإمكان استيلاء الأعداء عليها قبل وصولها، وهي في نفسها غير قادرة على كفاية أهلها، فكيف إذا احتاجت إلى تموين، وسد حاجات بضعة ألوف من الناس يأتونها للدفاع عنها..

2 ـ إن المهاجمين لن يدعوا أحداً من المقاتلين يصل إليها لنجدتها عسكرياً، ولكن المهاجمين سيكونون قادرين على الحصول على ما يحتاجون إليه من النجدات، ولن يعيق أي شيء وصولها إليهم..

ومن الشواهد المؤكدة لهذه الحقيقة: أن حالة المدينة هذه كانت أحد العوامل التي أوجبت فشل ثورة محمد بن عبد الله بن الحسن على المنصور، رغم أنه كان قد بويع له في أغلب الأقطار والأمصار الإسلامية.

قال المسعودي: لما ظهر محمد بن عبد الله بالمدينة دعا المنصور إسحاق بن مسلم العقيلي، وكان شيخاً ذا رأي وتجربة، فقال له: أشر عليَّ في خارجي خرج عّليَّ.

قال: صف لي الرجل.

قال: رجل من ولد فاطمة بنت رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ذو علم وزهد وورع.

قال: فمن تبعه؟!

قال: ولد علي، وولد جعفر وعقيل، وولد عمر بن الخطاب، وولد الزبير بن العوام، وسائر قريش، وأولاد الأنصار.

قال له: صف لي البلد الذي قام به.

قال: ليس به زرع، ولا ضرع، ولا تجارة واسعة.

ففكر ساعة، ثم قال: اشحن يا أمير المؤمنين البصرة بالرجال.

فقال المنصور في نفسه: قد خرف الرجل، أسأله عن خارجي خرج بالمدينة، يقول لي: اشحن البصرة بالرجال.

فقال: انصرف يا شيخ..

ثم لم يكن إلا يسيراً حتى ورد الخبر: أن إبراهيم قد ظهر بالبصرة.

فقال المنصور: عليّ بالعقيلي.

فلما دخل عليه أدناه، ثم قال: إني قد شاورتك في أمر خارجي خرج بالمدينة، فأشرت علي أن أشحن البصرة بالرجال، أوكان عندك من البصرة علم؟!

قال: لا، ولكن ذكرت لي خروج رجل إذا خرج مثله لم يتخلف عنه أحد، ثم ذكرت لي البلد الذي هو فيه، فإذا هو ضيق لا يحتمل الجيوش، فقلت: إنه رجل سيطلب غير موضعه الخ..([6]).

الحجاز.. والولاء لأهل البيت :

روي عن الإمام السجاد «عليه السلام» قوله: ما بمكة والمدينة عشرون رجلاً يحبنا([7]).

وعن الأصمعي، عن محمد بن عبد الله بن العباس ما يدل على ذلك([8]).

فمعنى الاعتماد على المدينة كقاعدة للخلافة، وعاصمة لها، هو أن تكون الأسرار العسكرية، ومواقع الضعف، ومواقع القوة متوفرة لدى الجهة المناوئة.

كما وأن الخلافة المحقة سوف تكون معرضة للتمزق من الداخل، وللأعمال الخيانية لصالح الناكثين والقاسطين، وإثارة الشغب والفتنة ضدها، ولا سيما إذا غاب عنها علي «عليه السلام» في تحركاته العسكرية ضد أعدائه، وذلك لوجود أعوانهم ومحبيهم بين ظهراني السلطة الحاكمة، التي يستحيل أن تقدم على أي إجراء، ضد أي شخص، ما دام لم يثبت لها أي اتهام ضد ذلك الشخص، أي أنها لا ترضى بالعقاب قبل الجناية، وتعتبر أن كل متهم بريء، حتى تثبت إدانته بالطرق الشرعية..

ويذكرنا هذا الجو الذي يواجهه الإمام علي «عليه السلام» بما كان يتعرض له النبي «صلى الله عليه وآله» في حربه مع المشركين من دسائس، من قبل اليهود الذين كانوا يعيشون في المدينة، مع فارق آخر، يزيد من حراجة الموقف بالنسبة لعلي «عليه السلام»، وهو أن اليهود كانوا عدواً ظاهراً لدى المسلمين، عدو له نمط حياة خاص به يميزه عن المسلمين، ويعزله عنهم.

أما هؤلاء الذين كانوا يهددون أمن الدولة من الداخل في حكم علي «عليه السلام»، فقد كانوا يعيشون بين المسلمين، ويطلعون على دقائق أحوالهم، وخفايا أمورهم، وكثيراً ما كان يصعب تميزهم ومعرفتهم بأعيانهم وأشخاصهم..

نعم.. تكون حالته «عليه السلام» معهم شبيهة بحالة النبي «صلى الله عليه وآله» مع المنافقين.

الحجاز فاشل إستراتيجياً:

إن إقامته «عليه السلام» بالحجاز سوف تهيئ الفرصة لأعدائه للتغلغل في العراق لاستمالة أهله، ومحاربته بهم، والاستيلاء على خيراته، ليحاربوه بها، ويبقى هو محصوراً في منطقة نائية وقاحلة، لا يستطيع الخروج منها، ولا التحول عنها.

بل قد يفكرون بالاستغناء عن الحجاز وما فيه، والاكتفاء بما في أيديهم، كما استغنى كسرى وقيصر وغيرهما من ملوك الأرض عن التوغل في بلاد الحجاز، اكتفاءً بما عندهم.

وبتعبير أوضح: إننا نستطيع إجمال الأوضاع كما يلي:

العراق أولاً:

لقد كان الإسلام جديداً على العراق، وكانت العادات القبلية والجاهلية لا تزال تتحكم في روابطه وعلاقاته الاجتماعية، في داخله وخارجه.

وكانت الحروب فيه محكومة لزعماء القبائل عموماً، لا للإيمان والعقيدة. وكانت المدينة أبعد عن ذلك ولو بشكل محدود، فإغواء أهل العراق من قبل معاوية كان أقرب احتمالاً، وأسهل منالاً.

وإذا صار العراق مع معاوية، أو مع الناكثين، وبلاد الشام مع معاوية، فإن وضع المدينة العسكري والاقتصادي سوف يصير حرجاً جداً..

فكان لا بد من تدارك الأمر، وحفظ العراق أولاً، ثم استغلال روح التنافس التي كانت قائمة بين القطرين: العراق والشام، وتوظيف الروح القبلية، في صالح الدين والأمة، بدلاً من أن يستغلها أعداء الله في غير هذا السبيل..

الوضع الاجتماعي في الحجاز:

إن الجيل الجديد في المدينة لم يكن قد اعتاد الحياة الصعبة التي تتطلبها الحروب الطاحنة التي خاضها علي «عليه السلام»، لأن شباب المدينة كانوا قد اعتادوا حياة الرخاء والدعة، وصاروا يعيشون على العطاءات السخية التي كان يغدقها عليهم الخلفاء الذين سبقوا علياً «عليه السلام».. حتى أصبح من الصعب عليهم التخلص من أجواء اللذة التي يعيشونها، ثم التضحية بأنفسهم، والتعرض للمصاعب والمشاق التي تتطلبها الحروب..

وهكذا نجد: أن المدينة لا تستطيع في هذه الظروف بالذات أن تكون عاصمة للخلافة، ومنطلقاً لتحركاتها بحرية وثقة، بالشكل المكثف والواسع..

نعم.. هي كانت الموقع المناسب لمضايقة مكة اقتصادياً وسياسياً، وحتى عسكرياً أيضاً، حينما كان ثمة حاجة إلى ذلك في بدء انتشار الإسلام، في زمن الرسول الأكرم «صلى الله عليه وآله»..

الكوفة هي الأهم والأوفق:

أما الكوفة، فكانت أهم بلد في العراق، وهي والعراق وسواده على الضد مما كانت عليه حال المدينة ومكة، وسائر بلاد الحجاز.

ولا بأس بالتوقف أمام النقاط التالية:

الكوفة أكثر استعداداً للانقياد لعلي :

إنه «عليه السلام» يجد الكوفة أكثر استعداداً للتعامل معه، بسبب حبهم له الذي كان فاشياً فيها ولو في حدوده الدنيا، حسبما أوضحناه. وكانت هيمنة قراره على أهلها أيسر منها بالنسبة لهيمنته على أهل مكة والمدينة. وقد تقدمت الإشارة إلى ذلك في النص السابق.

الوضع الاقتصادي في العراق:

إنه لا يجوز له «عليه السلام» أن يمكن أعداءه من الاستيلاء على الثروات في العراق، ولا أن يتسلطوا على الناس فيه، فإنهم إذا تمكنوا من ذلك استمالوا السفيه بالطمع، واستفادوا من سلطانهم في حمل الناس على حربه، وبذلك يقوى أعداؤه عليه، ويبقى هو غير قادر على تهيئة ما يدفع به شرهم عن الدين والأمة.

الوضع التعبوي في الكوفة:

في الكوفة الرجال، وسادات العرب، وأعلامهم، وتستطيع أن تهيئ من رجال الحرب، ما يجعله قادراً على مواجهة التحديات، وتستطيع أن تمده بالمزيد إن احتاج إلى ذلك، بسبب كثافتها السكانية، وقربها من البلاد العامرة.

الحركة التجارية والثروات:

هناك المال المتمثل بسواد العراق، وبالتجارات التي كانت تتحرك في مختلف الاتجاهات لكونه في المنطقة الوسط.. كما أن الكوفة تستطيع أن تصله بصورة أسرع بمناطق الثروات إن اقتضى الأمر ذلك.

سهولة التواصل مع سائر المناطق:

وهو قريب من مختلف الأمصار التي يراد التعامل معها، ولا يمكن التأثير فيه على طرق الإمداد، ولا مجال لقطعها، أو تشويش حركتها في الوصول إليه، في البصرة، أو في صفين أو النهروان. وهو أقرب إلى الشام أيضاً من الحجاز إليها.

وقد جمع علي «عليه السلام» الأسباب الثلاثة المتقدمة، في جوابه لأبي أيوب «رحمه الله»، حيث قال له «عليه السلام»: «صدقت يا أبا أيوب، ولكن الرجال والأموال بالعراق، وأهل الشام لهم وثبة أحب أن أكون قريباً منهم إلخ..»([9]).

وقال «عليه السلام» حينما نصحه ابن عباس بأن يولي طلحة والزبير الكوفة والبصرة: «ويحك، إن العراقين بهما الرجال والأموال، ومتى تملكا رقاب الناس يستميلا السفيه بالطمع، ويضربا الضعيف بالبلاء، ويقويا على القوي بالسلطان»([10]).

نعم.. هذه السمات الثلاث هي التي تميز حكم الظالمين في كل زمان ومكان.

وقال المغيرة بن شعبة لأمير المؤمنين «عليه السلام»، بعد أن عرض عليه أموراً: «فإن أبيت فاخرج من هذه البلاد، فإنها ليست ببلاد كراعٍ وسلاح»([11]).

وقال طلحة والزبير لعبد الله بن عامر بن كريز حين ترك البصرة لعثمان بن حنيف عامل أمير المؤمنين «عليه السلام»، وقدم إلى مكة بالأموال: «لا مرحباً بك ولا أهلاً، تركت العراق والأموال الخ..»؟! ([12]).

وقال المنصور لمسلم بن قتيبة: قد خرج محمد بن عبد الله بن حسن بالمدينة.

قال: ليس بشيء، خرج بأرض ليس فيها حلقة ولا كراع.

قال: «قد خرج إبراهيم بالبصرة قال: ولو شاء أن يقيم بها سنة يبايعه كل يوم ألف رجل، ويضرب له فيها كل يوم ألف رجل بسيف لا يعلم به أحد يمكنه ذلك»([13]).

التأثير الإعلامي:

1 ـ هذا.. وقد تقدم: أن العراقيين كانت لديهم القابلية للإغواء من قبل طلحة والزبير وعائشة ومعاوية، ثم تأليبهم على أمير المؤمنين «عليه السلام».. وذلك بملاحظة ظروف معينة عاشها ويعيشها العراق نفسياً واجتماعياً وفكرياً وغير ذلك منذ فتحه.. وقد تحدثنا عن بعض ذلك في كتاب لنا حول الخوارج، وكتابنا: الحياة السياسية للإمام الحسن «عليه السلام» في عهد الرسول والخلفاء الثلاثة بعده، فلا بأس بمراجعة ذينك الكتابين.

2 ـ إن الأخطبوط الأموي، والتيمي والزبيري، وغيرهم من طلاب اللبانات، ومن وترهم الإسلام على يد علي «عليه السلام» ـ هذا الأخطبوط ـ كان أقل قدرة على التحرك والمناورة فيها..

الحياة العسكرية في العراق:

ثم إن أهل الكوفة لم يكونوا قد تعودوا على لذائذ الحياة وزبارجها، وبهارجها بملاحظة حياتهم الحربية على مر الزمن، فكان يسهل عليهم التضحية وخوض غمار الحروب، ومكابدة شظف العيش، وتحمل الصعاب.

المدد والعدد في العراق:

بل إن العراق كان أفضل من الشام من حيث الأموال والرجال، فقد قال بشر بن ثور العجلي لخالد بن الوليد: «ليس الشام عوضاً من العراق ساعة قط، لأن العراق أكثر من الشام حنطة وشعيراً، وديباجاً وحريراً، وفضة وذهباً، ونسباً، وما الشام كلها إلا كجانب من جوانب العراق.

فقال له خالد: صدقت يا بشر، إن العراق لعلى ما تقول»([14]).

وهكذا يتضح: أن الإمام علياً «عليه السلام» وصي الرسول «صلى الله عليه وآله» الذي نصبه قائداً للأمة في يوم الغدير، لم يتخذ الكوفة عاصمة لخلافته إلا لاعتبارات استراتيجية وعسكرية فرضت عليه ذلك.. ولم يكن ذلك إجراء عفوياً مرتجلاً، كما قد يتخيل بعض من لم يمعن النظر قي مواقفه «عليه السلام»، ويحاكم الظروف التي كانت قائمة آنذاك بدقة وموضوعية وتجرد.

وقد اتضح لنا أيضاً:

أن كثيراً من العوامل التي دفعت النبي «صلى الله عليه وآله» إلى الهجرة إلى المدينة، هي نفسها كانت السبب في ترك علي «عليه السلام» المدينة إلى الكوفة، ولهذا البحث مجال آخر..


([1]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج14 ص16 والفتنة ووقعة الجمل ص135 وتاريخ الأمم والملوك (ط أوربا) ج1 ص3106 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص493 و 494 والكامل في التاريخ ج3 ص223 وإمتاع الأسماع ج13 ص237.

([2]) عائشة والسياسة ص113 وتاريخ الأمم والملوك ج4 ص455 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص474 والكامل في التاريخ ج3 ص423 والعبر وديوان المبتدأ والخبر ج2 ق2 ص158 و 159 والفتنة ووقعة الجمل ص119 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج32 ص472.

([3]) بحار الأنوار ج42 ص152 عن رجال الكشي ص4 وإختيار معرفة الرجال ج1 ص26.

([4]) راجع: نهج البلاغة (بشرح عبده) ج1 ص154 وبحار الأنوار ج34 ص209 والمراجعات ص66 وجامع أحاديث الشيعة ج1 ص71 وشرح نهج البلاغة ج6 ص373 و 380 وينابيع المودة ج1 ص84 وج3 ص432 وأعلام الدين للديلمي ص128 وغاية المرام ج2 ص317.

([5]) راجع: نهج البلاغة (بشرح عبده) ج2 ص155 وبحار الأنوار ج34 ص223 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج13 ص179.

([6]) مروج الذهب للمسعودي (ط دار الأندلس ـ بيروت) ج3 ص295.

([7]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج4 ص104 وبحار الأنوار ج34 ص297 وج46 ص143 والغارات للثقفي ج2 ص573 وكتاب الأربعين للشيرازي ص298 ومستدرك سفينة البحار ج8 ص579.

([8]) راجع: الحياة السياسية للإمام الرضا «عليه السلام» عن: البلدان للهمداني ج2 ص352 وروض الأخيار، المنتخب من ربيع الأبرار ص67 والعقد الفريد (طبع دار الكتاب العربي) ج6 ص248 ومعجم البلدان ج2 ص352 وأحسن التقاسيم للمقدسي ص293 وعيون الأخبار لابن قتيبة ج1 ص204 والسيادة العربية، والشيعة والإسرائيليات ص93 ولا بأس بمراجعة: الحضارة الإسلامية في القرن الرابع الهجري ج1 ص102.

([9]) الفتوح لابن أعثم ج2 ص268 والأخبار الطوال ص143 وراجع: الثقات لابن حبان ج2 ص273.

([10]) الإمامة والسياسة (تحقيق الزيني) ج1 ص52 والامامة والسياسة (تحقيق الشـيري) ج1 ص71 وحيـاة الإمـام الحسن «عليه السـلام» للقـرشـي ج1 = = ص177 والمعيار والموازنة ص98 وحياة الإمام الحسين للقرشي ج1 ص421.

([11]) الثقات لابن حبان ج2 ص271.

([12]) الثقات لابن حبان ج2 ص275 والفتوح لابن أعثم ج2 ص270 و 271.

([13]) أنساب الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج3 ص104.

([14]) الفتوح لابن أعثم ج1ص134 و (ط دار الأضواء) ج1 ص107.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان