يرى الشيخ المفيد «قدس الله نفسه
الزكية»:
أن طلحة والزبير ندما على بيعتهما علياً «عليه السلام» طوعاً
واختياراً، لأنهما كانا طامعين بولاية الأمر دونه، وقد فوتت بيعتهما له
ما كانا قد أملاه.
فأرادا تدارك ما فات، فسنح لهما أن
يدعيا:
أنه «عليه السلام» قد أكرههما على البيعة، فادعيا ذلك
بهدف إلقاء الشبهة على الجهال..
ثم أوضح لهما:
أن دعواهما هذه لا يمكن قبولها، لأن الناس رأوا
تهافتهما على البيعة لعلي «عليه السلام» باختيار ورغبة.
وعلى فرض تصديقهما بدعوى كراهة بيعته في الباطن، وإن
تهافتا عليها في الظاهر، وصدقهما بعض السذج في ذلك، فإن ذلك لا ينفعهما
أيضاً، لأن الناس يعرفون: أنه لا يسع أحداً كراهة البيعة للحق، ولا
يسوغ لأحد خلاف المهاجرين والأنصار. بل يجب على للناس الرضا بما
يجتمعون عليه، فكيف بمن رضيه الله ورسوله وبايعه الناس إماماً لهم في
يوم الغدير؟!
ثم قال
«رحمه
الله»:
«ولأنهما لم يجدا شبهة يتعلقان بها في كراهة إمامة أمير
المؤمنين «عليه السلام» مع جمعه للفضل، وتقدم الإيمان، والذب عن
الإسلام والجهاد في الدين، والبلاء الحسن مع الرسول، والعلم الظاهر
الذي لا يختلف فيه اثنان من العلماء، مع الزهد في الدنيا، والورع عن
محارم الله، وحسن التدبير، وصواب الرأي، والرحم الماسة منه برسول الله
«صلى الله عليه وآله».
وما كان فيه من الأمور الدالة على استحقاقه التقدم على
كافة الأنام من الأمة، فإنه «صلى الله عليه وآله» لم يول عليه والياً
قط، ولا أنفذه في سرية إلا وهو أميرها، وسيدها، ورئيسها، وقائدها،
وعظيمها، وإنه لم يفسد أحد على عهد النبي أمراً ندبه إليه، إلا قوي في
تلافي فارطه.
وكان الأمر إذا أعضل في شيء ناطه به، فأنجزه، وكفى به،
وأغناه، وفزع إليه من بعده «صلى الله عليه وآله» من تقدمه في مقامه عند
معضل الأمور.
فاستعلموا منه ما كان خافياً عليهم من أحكام الملة،
وصواب التدبير في مصالح الأمة.
فعلم طلحة والزبير:
أن التعلق في خلافه بكراهة البيعة شبهة داحضة، لا يثبت
لهما به حجة عند أحد من الفضلاء والعقلاء، وإنه لو ثبت ما ادعياه من
إكراههما على البيعة لكان أسوء لحالهما عند الأمة، ولكان له «عليه
السلام» في حكم الشريعة ذلك. إذ للإمام القهر على طاعته والإكراه على
الإجابة إلى ما يلزم الأمة من كف الفتنة، وشمول المصلحة.
فلما علم الرجلان ذلك، ووضح لهما ما ذكرناه في معانيه،
ولم يكونا ممن يخيل عليهما فساد الدعوى لما ادعياه، وقصورهما عن غرضهما
فيه، عدلا إلى التظاهر بطلب دم عثمان، وزعما أن الذي كان منهما قد تابا
منه، وادعيا أن التوبة لا تصلح أن تتم لهما إلا ببذل الجهد في طلب
قاتليه، والاقتصاص
من ظالميه.
فاشتبه الأمر بما سارا إليه مما ذكرناه عنهما على
المستضعفين، واستغويا به كثيراً من العامة البعداء عن فقه الدين»([1])
انتهى.
وكلامه «رحمه الله» متين، ورصين،
غير أننا لا نوافقه في قوله:
إن طلحة
والزبير ندما على بيعتهما له «عليه السلام».. فإنهما وإن كانا يسعيان
للاستيلاء
على الخلافة، وقد قتلا عثمان لأجل هذا، ولكنهما حين وجدا أن الناس لا
يرضون بهما. وأنهم يهتفون باسم علي «عليه السلام»، ولا يلتفتون إلى
غيره. رأيا أن من مصلحتهما المبادرة إلى بيعته قبل كل أحد، فلعلهما
يجدان عنده ما يعوضهما عما فاتهما، بأن يوليهما العراقين، فإن صحت
توقعاتهما، فسيكون لهما معه شأن آخر، بعد أن يتمكنا من المال والرجال..
فلما لم يجدا عنده ما أحبا تذرعا بالطلب بدم عثمان،
وتذرعا لتبرير مبادرتهما للبيعة بالإكراه عليها، فلما وجدا أن ذلك لا
يقبل منهما، تذرعا بالكراهة القلبية، حسبما أوضحه الشيخ المفيد «قدس
الله روحه» آنفاً.
من المعلوم: أن طلحة والزبير كانا أشد الناس إلحاحاً
على علي «عليه السلام» بالبيعة له، وكانا أول من بايعه.. ثم ادعيا
أنهما قد أكرها على البيعة..
وقد أظهرت النصوص والوقائع بطلان هذا الادعاء.. غير
أننا نشير هنا:
أولاً:
إلى أن الزبير قد أجبر على البيعة لأبي بكر، وكسر سيفه، وأخذ ملبباً،
حتى بايعه مكرهاً، ووجئ عنق سلمان، وامتنع بنو هاشم من البيعة([2])..
وأجبر علي «عليه السلام»، وكثير من الصحابة الأخيار، فلماذا لم يحكم
الزبير ولا طلحة ببطلان خلافة أبي بكر؟! ولم يستحلا جمع الجيوش لحربه؟!
ولم يبغيا قتله، كما فعلا مع الإمام علي أمير المؤمنين «عليه السلام»؟!
ثم كانت خلافة عمر وعثمان متفرعة على خلافة أبي بكر،
فلها نفس حكمها.
ثانياً:
إن الخبر عن حصول إكراه على البيعة لأمير المؤمنين قد اقتصر على
المناوئين لعلي «عليه السلام»، الساعين لتقويض حكمه، ولم يشهد لهم بصحة
دعواهم أحد سواهم، فجاءت دعواهم ودليلها على طريقة: «ثعالة شاهده
ذنبه».
فإن كان ذلك يوجب فساد إمامة علي «عليه السلام»، فلماذا
يحكمون بصحة خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، فقد تواترت الأخبار بإكراه من
أكره على البيعة لهؤلاء الثلاثة؟! وهو تواتر يحتم القطع بفساد
خلافتهم.. فإن الأنصار قد لجأوا إلى البيعة لسعد بن عبادة، الذي دعا
عمر بن الخطاب إلى قتله في السقيفة، وهو يحاول دعوة الناس إلى بيعة أبي
بكر، ويتهدد ويتوعد من خالف ذلك.
وامتنع أهل اليمامة من بيعة أبي يكر، وامتنعوا من حمل
الزكاة إليه، حتى حاربهم وقتلهم، وحكم عليهم بالردة([3]).
ثم إن الشيخ المفيد «رحمه الله» قد بين نظرته الصائبة
تجاه موقف عائشة، وممارساتها الهادفة إلى قتل علي «عليه السلام»،
وإسقاط حكمه، أو إلى إثارة الغبار في وجه حكومته «عليه السلام» على
الأقل، فذكر «رحمه الله»:
أن عائشة سلكت مسلك طلحة والزبير في خلافها لأمير
المؤمنين «عليه السلام»، فتظاهرت بالطلب بدم عثمان، والإقتصاص من
قاتله. ومعلوم في شريعة المسلمين: أن ذلك ليس لها، ولا إليهما، لأنهما
لم يكونا أولياء دم عثمان، ولا بينه وبينهما نسب يسوغهما التخاصم في
دمه.
ثم قال:
«ولا إلى النساء أيضاً الدخول في شيء من ذلك على وجه من
الوجوه. إذ ليس عليهن جهاد، ولا لهن أمر ولا نهي في البلاد والعباد.
مع ما خص به الله أزواج النبي في الحكم المضاد، ولما
صنعته هذه المرأة، وتبينت فيه بالخلاف فيه للدين، وقص الله تعالى في
محكم التنزيل حيث يقول جل اسمه : ﴿يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ
الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَّ ذَلِكَ
أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ﴾([4]).
وفرض عليهن سبحانه التحصن والتجلبب، ولا يتعرفن إلى أحد، فجاء بضد ذلك
من التبرج، وهتك الحجاب، واطراح الجلباب، وإظهار الصورة، وإبداء الشخص،
والتهتك بين العامة فيما لا عذر لها فيه.
مع ما ارتكبته من قتال ولي الله الذي فرض عليها إعظامه
وإجلاله، وأوجب عليها طاعته، وحرم عليها معصيته.
وسفكت فيما صنعت دماء المؤمنين، وأثارت الفتنة التي
شانت بها المسلمين.
وأنى يواطئ ذلك ما أمرها الرسول به في الحديث المشهور،
فقد قيل: دخل ابن أم مكتوم ـ وهو أعمى ـ على النبي «صلى الله عليه
وآله»، فقال لها قبل دخوله: ادخلي الخباء يا عائشة، فاستتري به من هذا
الرجل.
فقالت:
يا رسول الله، إنه أعمى ولن يراني.
فقال «صلى الله عليه وآله»:
إن لم يراك [يرك ظ] فإنك ترينه([5]).
وقال سبحانه فيما أدب به أصحاب نبيه: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلَّا
أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلَى طَعَامٍ غَيْرَ نَاظِرِينَ إِنَاهُ
وَلَكِنْ إِذَا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذَا طَعِمْتُمْ
فَانْتَشِرُوا وَلَا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ
يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَاللهُ لَا يَسْتَحْيِي
مِنَ الْحَقِّ وَإِذَا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتَاعاً فَاسْأَلُوهُنَّ مِنْ
وَرَاءِ حِجَابٍ ذَلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَقُلُوبِهِنَّ وَمَا
كَانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللهِ وَلَا أَنْ تَنْكِحُوا
أَزْوَاجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذَلِكُمْ كَانَ عِنْدَ اللهِ
عَظِيماً﴾([6]).
فبين الله عز اسمه:
أن خطاب المؤمنين من أصحابه لأزواج نبيه يسوءه ويؤذيه،
وإن الانبساط لهن يشق عليه ويؤلمه، وصانهن لصيانته وحراسته، فنهى أن
يأنس بهن أحد، أو يسألهن متاعاً إلا من وراء حجاب، ونهى عن التلبث في
بيته بعد نيل الحاجة من طعامه وغير ذلك، لئلا يطول مقامهم فيه، فتأنس
أزواجه بهم، أو يأنسون بكلامهن.
فكيف يكون هذا يوافق لما فعلته المرأة من مخالطتها
للقوم، ومسافرتها معهم، وإطالة النجوى لهم. وكونها بمحل من لا يحتشم في
خطاب، ولا كلام، ولا أمر ونهى. ويؤنس بها في كل حال؟!
وتصير بذلك كأمير العسكر، وقائد الجيش، الذي لا يتمكن
من الاستخفاء
عن أصحابه بحال.
وإن هذا لعجيب عند من فكر فيه، والحكم بالعصيان لله عز
وجل، والاطراح لأمره والاستخفاف
بنواهيه غير مشكل على كل ذي عقل.
إلى أن قال:
هذا.. مع قول الله عز وجل: ﴿يَا
نِسَاءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّسَاءِ إِنِ
اتَّقَيْتُنَّ فَلَا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي
قَلْبِهِ مَرَضٌ وَقُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً وَقَرْنَ فِي
بُيُوتِكُنَّ وَلَا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجَاهِلِيَّةِ الْأُولَى﴾([7]).
ومعلوم عند كل ذي لب، عرف الشرع
ودان بالإسلام:
أن أزواج عثمان وبناته، وبنات عمه من بني أمية، الذين
هم أمس رحماً من عائشة لو تكلفن ما تكلفته للقتال، لكُنَّ عاصيات
خارجات عن شرف الإسلام، فما ظنك بالبعيدة نسباً، النائية عنه عقلاً
ومذهباً، المقرفة على قتله، الساعية في دمه، الداعية إلى خلعه، المانعة
عن نصرته [تصرفه].
وما الذي أحدثه بعد إنكارها عليه مما يوجب رجوعها عما
كانت عليه معتقدة؟! فهل تراه أحدث عملاً صالحاً بعد قتله؟! أو أحياه
الله لها فسألها نصرته؟! أم أوحى الله إليها من باطن أمره ما كان
مستوراً عنها؟!
كلا..
لكن الأمر فيما قصدته من حرب أمير المؤمنين «عليه
السلام»، وتظاهرت عليه به من عداوته، كان أظهر وأشهر من أن تخفيه
بالعلل والأباطيل. وقد أجمع أهل النقل عنها على ما ذكرناه في باطن
الأمر، وأوضحناه في وجوه الحجاج وبيناه»([8]).
([1])
الجمل للشيخ المفيد ص151 و 152 و (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص78 و
79.
([2])
راجع: الإمامة والسياسة ج1 ص11 والمغني للقاضي عبد الجبار ج20
ق2 ص268 وتاريخ اليعقوبي ج2 ص124 والعقد الفريد ج4 ص259
والكامل في التاريخ ج2 ص325 ومسائل الإمامة للناشئ الأكبر (ط
بيروت سنة 1971م) ص10 وكتاب سليم بن قيس (تحقيق محمد باقر
الأنصاري) ص158 والإحتجاج للطبرسي ج1 ص110 وبحار الأنوار ج28
ص276 والدرجات الرفيعة ص214 وغاية المرام ج5 ص319 و 336 ونفس
الرحمن في فضائل سلمان ص488.
([3])
تاريخ الأمم والملوك ج2 ص246 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج2 ص502
والصوارم المهرقة ص86 والجمل للشيخ المفيد ص118 و (ط مكتبة
الدواري) ص57 و 58 وراجع: التعجب للكراجكي ص110 والسنن الكبرى
للنسائي ج2 ص280 والإستذكار لابن عبد البر ج2 ص152 وأحكام
القرآن للجصاص ج1 ص572 وتفسير البغوي ج2 ص45 وتاريخ مدينة دمشق
ج16 ص259 ووفيات الأعيان ج3 ص67 .
([4])
الآية 59 من سورة الأحزاب.
([5])
الجمل للشيخ المفيد ص153 ـ 155 (ط مكتبة الدواري ـ قم) ص79 ـ
81. وذكرت هذه الرواية لأم سلمة وميمونة في الطبقات الكبرى
لابن سعد ج8 ص178 وسنن أبي داود ج4 ص64 و (ط دار الفكر سنة
1410هـ) ج2 ص272 والجامع الصحيح للترمذي ج5 ص94 وكشاف القناع
ج5 ص13 ونيل الأوطار ج6 ص247 و 248 ومسند أحمد ج6 ص296 وشرح
مسلم للنووي ج10 ص97 وعمدة القاري ج20 ص216 ومسند ابن راهويه
ج4 ص85 والسنن الكبرى للنسائي ج5 ص393 وصحيح ابن حبان ج12 ص387
ومعرفة السنن والآثار ج5 ص227 وراجع: الكافي ج5 ص534 ووسائل
الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج20 ص232 و (ط دار الإسلامية) ج14
ص172 ومكارم الأخلاق للطبرسي ص233 وبحار الأنوار ج22 ص244
وج101 ص37 وجامع أحاديث الشيعة ج20 ص298 و 299 وقاموس الرجال
للتستري ج11 ص591.
([6])
الآية 53 من سورة الأحزاب.
([7])
الآية 53 من سورة الأحزاب.
([8])
الجمل للشيخ المفيد ص153 ـ 155 و (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص80 و
81.
|