وأعطى يعلى بن منية عائشة جملاً اسمه عسكر اشتراه بمأتي
دينار. ويقال: اشتراه بثمانين ديناراً فركبته.
وقيل:
كان جملها لرجل من عرينة.
قال
العرني:
بينما أنا أسير على جمل إذ عرض لي راكب، فقال: أتبيع جملك؟!
قلت:
نعم.
قال:
بكم؟!
قلت:
بألف درهم.
قال:
أمجنون أنت؟!
قلت:
ولم؟! والله ما طلبت عليه أحداً إلا أدركته، ولا طلبني
وأنا عليه أحد إلا فُتُّه.
قال:
لو تعلم لمن نريده؟! إنما نريده لأم المؤمنين عائشة.
فقلت:
خذه بغير ثمن.
قال:
بل ارجع معنا إلى الرحل، فنعطيك ناقة ودراهم.
قال:
فرجعت وأعطوني ناقة مهرية، وأربعمائة درهم أو ستمائة.
وقالوا لي:
يا أخا عرينة، هل لك دلالة بالطريق؟!
قلت:
أنا من أدل الناس.
قالوا:
فسر معنا.
فسرت معهم، فلا أمر على واد إلا سألوني عنه، حتى طرقنا
الحوأب وهو ماء، فنبحتها كلابه.
فقالوا:
أي ماء هذا؟!
فقلت:
هذا ماء الحوأب.
فصرخت عائشة بأعلى صوتها، فقالت:
إنَّا لله وإنا إليه راجعون، إني لهي، سمعت رسول الله
«صلى الله عليه وآله» يقول ـ وعنده نساؤه ـ: ليت شعري، أيتكن تنبحها
كلاب الحوأب؟!
ثم ضربت عضد بعيرها، وأناخته. وقالت: ردوني، أنا والله
صاحبة ماء الحوأب.
فأناخوا حولها يوماً وليلة.
فقال عبد الله بن الزبير:
إنه كذب، ولم يزل بها وهي تمتنع، فقال لها: النجا،
النجا، قد أدرككم علي بن أبي طالب.
فارتحلوا نحو البصرة. انتهى كلام ابن الأثير([1]).
وروى جبرئيل بن أحمد، عن الحسن بن خرزاد، عن ابن مهران،
عن أبان بن جناح، عن الحسن بن حماد بلغ به قال: كان سلمان إذا رأى
الجمل الذي يقال له عسكر يضربه، فيقال: يا أبا عبد الله ما تريد من هذه
البهيمة؟!
فيقول:
ما هذه ببهيمة، ولكن هذا عسكر بن كنعان الجني.
يا أعرابي، لا ينفق جملك ها هنا، ولكن اذهب به إلى
الحوأب، فإنك تعطى ما تريد!!
وبهذا الإسناد عن ابن مهران، عن البطائني، عن أبي بصير،
عن أبي جعفر «عليه السلام» قال: اشتروا عسكراً بسبعمائة درهمٍ. وكان
شيطاناً([2]).
قال:
ولما عزمت عائشة على الخروج إلى البصرة، طلبوا لها
بعيراً أيّداً يحمل هودجها، فجاءهم يعلى بن أمية [منية «خ»] ببعير يسمى
عسكراً، وكان عظيم الخلق، شديداً. فلما رأته أعجبها، وأنشأ الجمَّال
يحدثها بقوته وشدته، ويقول أثناء كلامه: «عسكر».
فلما سمعت هذه اللفظة استرجعت
وقالت:
ردوه لا حاجة لي فيه.
وذكرت حيث سئلت:
أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» ذكر لها هذا الاسم،
ونهاها عن ركوبه.
وأمرت أن يطلب لها غيره، فلم يوجد لها ما يشبهه، فغير
لها بجلال غير جلاله، وقيل لها: قد أصبنا لك أعظم منه خلقاً، وأشد منه
قوةً، وأتيت به.
فرضيت!!!([3]).
قال أبو مخنف:
لما انتهت عائشة في مسيرها إلى الحوأب وهو ماء لبني
عامر بن صعصعة نبحتها الكلاب حتى نفرت صعاب إبلها، فقال قائل من
أصحابها: ألا ترون ما أكثر كلاب الحوأب، وما أشد نباحها؟!
فأمسكت زمام بعيرها وقالت:
وإنها لكلاب الحوأب؟! ردوني ردوني، فإني سمعت رسول الله
يقول.. وذكرت الخبر.
فقال لها قائل:
مهلاً يرحمك الله، فقد جزنا ماء الحوأب.
فقالت:
فهل من شاهد؟!
فلفقوا لها خمسين أعرابياً جعلوا
لهم جعلاً، فحلفوا لها:
أن هذا ليس بماء الحوأب.
فسارت لوجهها([4]).
وجاء في نص آخر:
فقدمت عائشة إلى الحوأب ـ وهو ماء نسب إلى الحوأب بنت
كليب بن وبرة ـ فصاحت كلابها، فقالت: إنا لله وإنا إليه راجعون ردوني([5]).
إن عائشة لما سمعت نباح الكلاب
قالت:
أي ماء هذا؟!
فقالوا:
الحوأب.
قالت:
إنا لله وإنا إليه راجعون، إني لهية، قد سمعت رسول الله
وعنده نساؤه يقول: ليت شعري أيتكن تنبحها كلاب الحوأب؟!
وفي رواية الماوردي:
أيتكن صاحبة الجمل الأدبب، تخرج، فتنبحها كلاب الحوأب،
يقتل من يمينها ويسارها قتلى كثيرة، تنجو بعدما كادت تقتل؟!([6]).
عن قيس بن أبي حازم وابن أبي شيبة
من حديث ابن عباس:
أن النبي «صلى الله عليه وآله» قال لنسائه: أيتكن صاحبة
الجمل الأدبب، تسير أو تخرج حتى تنبحها كلاب الحوأب؟!
[قال:]
والحوأب نهر بقرب البصرة. والأدبب: الأدب وهو كثير شعر
الوجه.
قال ابن دحية:
والعجب من ابن العربي كيف أنكر هذا الحديث في كتاب
العواصم والقواصم له، وذكر أنه لا يوجد له أصل. وهو أشهر من فلق الصبح.
وروي:
أن عائشة لما خرجت مرت بماء يقال له: الحوأب، فنبحتها
الكلاب، فقالت: ردوني ردوني، فإني سمعت رسول الله «صلى الله عليه وآله»
يقول: كيف بإحداكن إذا نبحتها كلاب الحوأب؟! انتهى كلام الدميري([7]).
وقال السيد علم الهدى في شرح قصيدة السيد الحميري رضي
الله عنهما:
روي:
أن عائشة لما
نبحتها كلاب الحوأب وأرادت الرجوع قالوا لها: ليس هذا ماء الحوأب.
فأبت أن تصدقهم، فجاؤوا بخمسين شاهداً من العرب، فشهدوا
أنه ليس بماء الحوأب، وحلفوا لها فكسوهم أكسية. وأعطوهم دراهم.
قال السيد:
وقيل: كانت هذه أول شهادة زور في الإسلام([8]).
وروى الصدوق «قدس الله روحه» في الفقيه عن الصادق «عليه
السلام» أنه قال:
أول شهادة شهد بها بالزور في الإسلام شهادة سبعين رجلاً
حين انتهوا إلى ماء الحوأب فنبحتهم كلابها.
فأرادت صاحبتهم الرجوع وقالت:
سمعت رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقول لأزواجه: إن
إحداكن تنبحها كلاب الحوأب، في التوجه إلى قتال وصيي علي بن أبي طالب.
فشهد عندها سبعون رجلاً:
أن ذلك ليس بماء الحوأب.
فكانت أول شهادة شهد بها في الإسلام بالزور([9]).
قال أبو مخنف:
لما انتهت عائشة في مسيرها إلى الحوأب وهو ماء لبني
عامر بن صعصعة نبحتها الكلاب حتى نفرت صعاب إبلها، فقال قائل من
أصحابها: ألا ترون ما أكثر كلاب الحوأب، وما أشد نباحها؟!
فأمسكت زمام بعيرها وقالت:
وإنها لكلاب الحوأب؟! ردوني ردوني، فإني سمعت رسول الله
يقول.. وذكرت الخبر.
ونقول:
إن لنا مع النصوص السابقة وقفات عديدة، نوردها ضمن
العناوين التالية:
وبعد..
فإن ما ذكرته الروايات حول كيفية وصول الجمل إلى عائشة
ليس متناقضاً.. إذ يمكن أن يكون الجميع قد شارك في إيصال الجمل إليها.
فلعل يعلى بن منية هو الذي دفع الثمن ولعل الذي باعه إياه كان رجلاً من
عرينة، ولعله هو الذي حدّث عائشة عن الجمل، ثم صار دليلاً لهم يدلهم
على الطرق، ويسمي لهم المياه والمواضع المختلفة.
إن ما ذكر عن سلمان، من أنه كان
يضرب جمل عائشة، ويقول:
ما هذا بهيمة، هذا عسكر بن كنعان الجني. ثم أمر صاحبه
بأن يذهب به إلى الحوأب ليبيعه هناك، وطمأنه بأنه لا ينفق في موضعه،
ذاك يشير إلى أمور:
1 ـ
إن هذه الرواية ـ إذا صحت وليس لدينا ما يدل على كذبها ـ تدل على أن
سلمان قد تلقى معرفته بهذا الجمل، وبما يؤول إليه أمره، إما من النبي
«صلى الله عليه وآله» مباشرة، أو منه بواسطة وصيه علي «عليه السلام».
2 ـ
إن هذا الذي كان يفعله سلمان إنما كان قبل حرب الجمل
بعدة سنوات، لأنه رضوان الله تعالى عليه توفي قبل البيعة لعلي بسنتين
أو ثلاث..
3 ـ
يدل هذا الحديث على أن الله سبحانه، قد جعل ذلك الجني
حيواناً، ذا لحم ودم وعظم، وليس ذلك على الله بعزيز، فكما خلق من
التراب إنساناً ذا لحم ودم، وعصب، وعظم، وعقل، ومشاعر، فلماذا لا يجعل
ذلك الجني المخلوق من مارج من نار مخلوقاً له صفات الحيوان أو
الإنسان؟!
كما أنه تعالى قد كشف عن بعض الجن امتحاناً وابتلاء
لهم، بل يحتمل أن يكون نفس هذا الجني قد تشكل بشكل هذا الحيوان من باب
الإعانة على الإثم والبغي والعدوان على الإمام وتضليل الناس و.. و..
وقد ورد في الروايات والأخبار:
أن الجن والشياطين يتشكلون بأشكال مختلفة بشكل البشر
أحياناً، وبأشكال الحيوانات أحياناً أخرى.
4 ـ
إن ضرب سلمان لذلك الجني لعله لما يعرفه بسبب إخبار
المعصوم له، أو لكشف الله عن بصيرته من كونه شيطاناً، وطاغياً،
وجباراً، مدركاً لواقعه، عارفاً به، ولعله يرى أنه مستحق لهذه العقوبة،
وإن ذلك الجمل المدرك لواقعه لا يستطيع أن يدفع عن نفسه..
ولعل المعصوم هو الذي أجاز لسلمان ضرب الجمل على سبيل
العقوبة له.. ولعله لم يبادر لقتله، لأن القتل قبل حصول الجناية ممنوع.
إن حادثة الحوأب تعطينا درساً مهماً في مجال الإعلام
بالإضافة إلى أمور أخرى نشير إليها فيما يلي:
إن طريقة النبي «صلى الله عليه وآله» في بياناته
الغيبية عن حرب الجمل قد جاءت فريدة في بابها.
فالمطلوب هو الإخبار بأمر غيبي، لأجل الدلالة على الحق
وأهله، ولتحصين الناس عن الوقوع في الخطأ المميت، إذا استجابوا الشبهات
ودعوات الطامحين الطامعين، لأن هذا الخطأ، يستبطن التخلي عن أصل أصيل
وحساس في الشأن العقائدي، وهو أصل الإمامة الذي يحفظ به الدين في
امتداده، وفي سلامة مساره، وفي أصالته، وفي قيمه، وفي أحكامه وشرائعه..
ولأجل ذلك لم يقل «صلى الله عليه وآله» إن إحدى النساء
سوف تفعل كذا، لأن هذا التعميم لا يستطيع أن يكون حافزاً للبحث
والتحري، والرصد..
كما أنه «صلى الله عليه وآله» لم
يقل لامرأة بعينها:
أنت ستفعلين ذلك، لأن لذلك أيضاً سلبياته ولا يوصل إلى
المطلوب، بل قد يدعو المرأة المعنية، ومحبيها، والحزب الذي يهمه أمرها،
والذي سيمتد تسلطهم على الأمور لعشرات السنين إلى التشكيك بالنص،
والسعي للتخلص منه، وإشاعة الريب في أصل صدوره أو التماس التعليلات
والتأويلات التي تخرجه عن سياقه، وتفقده أثره، وتبطل دوره وما يتوخى
منه([10]).
كما أنه «صلى الله عليه وآله» لم يخرج إلى مجمع للرجال،
ليخبرهم بأن إحدى زوجاته سوف تفعل ذلك، لأن ذلك وإن كان قد يثير العجب
عند كثير منهم، ولكن قد لا يكون الحافز لديهم قوياً لإشاعة هذا الأمر
أو في الاحتفاظ به حياً في ذاكرتهم، أو في تداوله فيما بينهم، بالمستوى
الذي يريده رسول الله «صلى الله عليه وآله»..
ولأجل ذلك كله:
اختار رسول الله «صلى الله عليه وآله»: أن يثير هذا
الأمر مع نسائه مباشرة وبطريقة تحمل معها حوافز قوية لتداوله، ثم تلمس
المؤشرات العملية أو البيانية التي حملها موقف وممارسة الرسول في بيانه
لهذا الأمر، لتحديد من ستصنع هذا الحدث، وتجعل نفسها محوراً فيه..
وللتدليل على ذلك نشير إلى ما يلي:
1 ـ
إنه «صلى الله عليه وآله» قال لنسائه بصفة المتسائل العالم، المظهر
لألمه ومرارته.. ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب، تخرج فتنبحها كلاب
الحوأب تقتل من يمينها ويسارها قتلى كثيرة، تنجو بعدما كادت تقتل.
ولإظهار هذا الألم والمرارة أثر في تفاعل سامعيه معه،
والشعور بالمسؤولية عما يجري له.
2 ـ
إن عدم التصريح باسم من تفعل ذلك يحتم على جميع نسائه «صلى الله عليه
وآله» أن يَعُدْنَ إلى أنفسهن للنظر في أعماق الأعماق، والتعرف على
حقيقة الأفكار التي تراودهن، والمشاعر والانفعالات والتطلعات،
والطموحات والحالات التي يعشنها، ويتعاملن مع الآخرين من خلالها، وعلى
أساسها..
كما أن ذلك يدعوهن إلى السعي لتبرئة أنفسهن بالفعل
وبالقول، وإن كانت بعضهن، أو كل واحدة منهن سوف تسعى إلى الإنظار إلى
غيرها من نسائه «صلى الله عليه وآله»..
وسوف يكون لدى بعضهن أو أكثرهن ـ بحكم المنافسة الشديدة
بينهن كضرائر، وما يتكتمن عليه من مشاعر الحسد لبعضهن ـ السعي إلى
تكريس التهمة لدى واحدة بعينها والعمل على جمع الإشارات والدلائل على
ذلك، ونشرها في أكبر عدد ممكن من الناس.
كما أن هذا الغموض يثير الحرص على كشف المخبأ، ويثير
الشهية للبحث عنه.
3 ـ
إنه «صلى الله عليه وآله» وإن كان قد ألمح إلى التي
ستفعل ذلك ـ حين قال لعائشة: إياك أن تكونيها يا حميراء.. وكذلك في
إشارته إلى بيت عائشة وقال ثلاث مرات: من ها هنا الفتنة، من ها هنا
الفتنة، من ها هنا الفتنة، من ها هنا يطلع قرن الشيطان([11])ـ
ولكنه لم يكن صريحاً إلى الحد الذي تفقد معه عائشة القدرة على إنكار
هذا الأمر والتبري منه.
وذلك ليؤسس هذا التبري، وذلك الإنكار إلى إدانة أعظم
لها. وإلى استقباح ما أتته من ذلك بصورة أشد وأظهر.
4 ـ
وقد وضع «صلى الله عليه وآله» عائشة في مأزق حقيقي، لا
تجد لها فيه أية فرصة للاعتذار أو للتأويل، فهي أمام خيارين لا ثالث
لهما، فإما الإقدام عن علم وتصميم وعمد ظاهر، والتفات أكيد، وإما
الإحجام، تحرجاً من مخالفة حكم الله تعالى، أو خجلاً من الناس على أقل
تقدير..
نعم..
لقد فعل النبي «صلى الله عليه وآله»، حين ذكر لها
خصوصيات وتفاصيل، وجزئيات لا يمكن إلا أن تُرسِخ لديها، ولدى الناس
كلهم اليقين بالخطأ الذي هي فيه.. وهي التالية:
ألف:
أن صانعة الحدث ستركب جملاً.
ب:
أن هذا الجمل سيكون كثير شعر الوجه..
ج:
أنها ستمر على ماء الحوأب قرب البصرة..
د:
أن كلاب الحوأب سوف تنبحها..
هـ:
أنها ستكون محوراً لحرب ضروس..
و:
أنها ستكون في خطر شديد وأكيد، على حياتها..
ز:
أنها ستنجو في هذه الحرب..
ح:
أنه حدد مكان
وصورة الحدث، بذكره أن القتلى
الذين سيسقطون سيكونون عن يمينها ويسارها..
ط:
وذكر أن القتلى سيكونون كثيرين..
ي:
في رواية الصدوق: أن النبي «صلى الله عليه وآله» حدد من
ستكون هذه الحرب ضده، وهو وصيه «صلى الله عليه وآله». وحدد اسمه أيضاً،
وهو علي بن أبي طالب.. فظهر بذلك أن من تبغض علياً ستكون هي صاحبة
الجمل.
ك:
زاد في رواية
أخرى: أن النبي «صلى الله عليه وآله» ذكر لعائشة
اسم
الجمل، وهو «عسكر»، ونهاها عن ركوبه.
وكل ذلك يعني:
أنه «صلى الله عليه وآله» أراد أن يتكفل هذا البيان
بدلالات كثيرة، ويشير إلى أمور مختلفة، نذكر منها أمرين:
الأول:
أن يجعله في دائرة التداول المستمر، والنشر على أوسع
نطاق ممكن..
الثاني:
أنه يبقيه حياً في وجدان نساء النبي «صلى الله عليه وآله» بالخصوص،
ويمنع من خمود جذوته في ذاكرتهن.. وخصوصاً التي تصدت لمناوأة وصي رسول
الله، وأوغلت في بغضه، فإن ذلك يجعلها في موضع الظن والتهمة، لأكثر من
سبب ومبرر.
كما أن حشد هذه القرائن التفصيلية الكثيرة لا بد أن
يمنع من ادعاء الشبهة من قبل صاحبة الجمل.. فإنها لا تكاد تفلت من شاهد
ودليل، حتى يمسك بها شاهد ودليل آخر، أوضح دلالة، وأشد وفقاً.. لتكون
الحجة قاطعة، والبراهين ساطعة، والأعلام لائحة، والسبيل واضحة..
وقد لاحظنا كيف أن هذه الدلالات المتتالية قد فرضت
نفسها على عائشة، وساقتها إلى التردد في مواصلة مسيرها، ثم فرضت عليها
التصريح بأقوال النبي «صلى الله عليه وآله» لها بصورة علنية، حتى أعلمت
بها الجيش كله.
فنلاحظ ما يلي:
إن اسم الجمل «عسكر» قد فاجأها، حتى امتنعت من ركوبه،
واضطرتهم إلى تمويهه، وإلباسه جلاً آخر، وزعموا لها: أنهم أصابوا لها
جملاً آخر أعظم من الجمل الأول خلقاً، وأشد منه قوة..
وبذلك يكون كل من حضر ما جرى، قد عرف أن النبي «صلى
الله عليه وآله» قد أخبر عائشة بما يكون منها، وبأنه قد نهاها عنه،
وحذرها منه..
وإن كنا نظن أنها كانت تقوم بما تقوم به عن معرفة تامة،
وعن التفات متواصل إلى ما حذرها منه الرسول الأعظم «صلى الله عليه
وآله» مستحضرة في ذهنها ما أخبرها به الرسول، من أنها تحارب وصيه علياً
«عليه السلام»، كما أخبر الزبير بأنه سيحاربه أيضاً وهو له ظالم. وهي
تعرف بأنها تسير إلى حرب ذلك الوصي.. فامتناعها عن ركوب الجمل «عسكر»،
لعله لأجل التمويه على الناس الذين تعرف أنهم قد سمعوا من وعن رسول
الله «صلى الله عليه وآله» ما سمعته، فأرادت أن تتنصل من هذا الأمر،
ولو بالامتناع الظاهري عن ركوب ذلك الجمل.
ولست أدري إن كانت قد التفتت إلى أن الجمل الثاني كان
كثير شعر الوجه أيضاً، فهو أدبب كالجمل الأول.. أم أنها تظاهرت بعدم
الالتفات إلى ذلك أيضاً..
ولست
أدري أيضاً:
إن كانت قد لاحظت أنه لم يكن أعظم خلقاً من الجمل الأول، أم أنه مثله
أو عينه، إذ يبعد أن تبلغ فيها الغفلة والسذاجة إلى هذا الحد الذي تريد
الرواية أن توحي لنا به، فإننا نعرف أنها لم تكن كذلك قطعاً..
إن عائشة قد واصلت إسهاماتها في نشر مخالفاتها والإعلان
بها ـ حيث إنها حين نبحتها كلاب الحوأب، وعرفت اسم ذلك الماء ـ بما
يلي:
ألف:
إنها
صرخت بأعلى صوتها، ولا بد أن يتساءل الناس عن سبب
صرختها هذه، فإنها أهم شخصية في ذلك الجيش، ولا بد أن يتلقى الناس كل
فعل أو قول منها بحساسية بالغة، فكيف إذا صدرت منها صرخة بأعلى صوتها؟!
ب:
إنها
قالت: إنا لله، وإنا إليه راجعون. فدلت بذلك على أن أمراً
محزناً، وخطيراً قد حصل، وهذا يثير فضول الناس لمعرفة ذلك الأمر بصورة
أقوى وأشد..
ج:
إنها بالإضافة إلى ذلك صرحت بما يدل على أن أمراً
يعنيها ـ هي بالذات ـ قد حصل، فقالت: إني لهية. فقطعت الشك باليقين حين
أعلنت أنها هي المعنية بقول رسول الله «صلى الله عليه وآله»: إن إحدى
نسائه ستنبحها كلاب الحوأب..
فإن كان في ذلك الجيش الذي معها من لم يكن عرف بهذا
الأمر، فقد عرفه الآن من صاحب العلاقة بالذات، وممن سمع كلام الرسول
مباشرة، وممن يهمه أن لا يطبق كلام النبي «صلى الله عليه وآله» في خصوص
هذا المورد أيضاً..
د:
ثم زادت في تأكيد هذا الأمر على نفسها حين أناخت بعيرها، وتوقف الجيش
كله عن مسيره، وأصبح همُّ كل الناس معرفة سبب هذا منها..
هـ:
ثم زادت الأمر أهمية أيضاً حين طلبت منهم أن يردوها..
و:
ثم بررت لهم تصرفها هذا: بأن الدلائل قد دلت، والشواهد
شهدت: أنها هي صاحبة ماء الحوأب.
ز:
ثم أكدت ذلك بالقسم..
ح:
ثم أقامت في موضعها يوماً وليلة، ليكون هذا الذي حدث هو
حديث جميع الناس بدون استثناء، كما أن جميع الناس سوف يتساءلون عن مصير
حركتهم تلك. هل أجهضت؟! أم أنها ستستمر وتتواصل؟!
ط:
إن رفضها تصديقهم في قولهم لها: إن هذا ليس ماء الحوأب،
قد زاد من حيرة الناس، ومن تنبههم وترقبهم للخطوات التالية..
ثم جاءت أول شهادة زور في الإسلام لتدق آخر وأقوى مسمار
في النعش الذي حمل الجهل بهذه القضية إلى مثواه الأخير.
فقد عرف الخمسون والسبعون الذي شهدوا الزور، وكل من
يلوذ بهم، وكذلك الجمع كله: أن شهادة زور قد حصلت، وأن جرأة على الله
تعالى بالأيمان الكاذبة قد تمت، وأن من شهد زوراً وحلف كاذباً قد كوفئ
بالأكسية التي نالها، وبالدراهم التي أخذها. بل كان ما جرى إنما جرى
استناداً إلى جُعل جعلوه للشهود، مقابل ارتكاب هذا الذنب العظيم.
فكانت الفضيحة الكبرى لقادة ذلك الجمع، أمام ذلك الجمع
وغيره، وعرف الجميع أنهم لا شيء يردعهم عن الكذب، وعن شهادة الزور..
فكيف رضوا بهم قادة، وسلموا إليهم مصائرهم، وأمنوهم على أرواحهم؟!
غير أننا قدمنا في الجزء العاشر من
هذا الكتاب:
أن هناك شهادة زور أخرى سبقتها تحدثت عنها السيدة فاطمة
الزهراء «عليها السلام».
وربّما يمكن الجمع بين الروايتين:
بأن المقصود: أن تلك أول شهادة زور مكتملة العدد، وهذه أول شهادة زور
تجاوز عدد الشهود فيها القدر المرسوم عادة في الشهادة، وهو الواحد أو
الاثنان، ليصل إلى السبعين رجلاً..
وقد يؤخذ من النصوص:
أن هذه القسامة لم تكف لإقناع عائشة أيضاً. حتى كادها
ابن الزبير بنحو أخذ عليها السبل، وأسقط مقاومتها، حيث قال لها: النجا!
النجا! قد أدرككم علي بن أبي طالب، فارتحلوا نحو البصرة، كما قال ابن
الأثير([12]).
وهذا يقوى احتمال أن يكون قول
المعتزلي:
إن عائشة لما شهد لها الأعراب سارت لوجهها غير صحيح..
ومهما يكن من أمر،
فإن هذا إعلان آخر للناس الذين حضروا تلك المشاهد
وعاينوا تلك التصرفات، فيمكنهم أن يستدلوا به على طبيعة أساليب هؤلاء
القوم، وأنهم لا يتورعون عن خداع حتى قادتهم ومن يتفيأون ظلهم، لتحقيق
مآربهم، والوصول إلى ما يطمحون إليه..
ولا نريد أن نمر مرور الكرام على
قول أبي مخنف:
«نبحتها الكلاب حتى نفرت صعاب إبلها، فقال قائل من
أصحابها: ألا ترون ما أكثر كلاب الحوأب، وما أشد نباحها».
بل نتوقف هنا لنشير إلى أنّ الكلاب لو كانت قليلة،
فربما يتلقى الناس هذا الأمر على أنه أمر طبيعي، إذ من المألوف: أن
ينبح كلب أو اثنان أو ثلاثة جماعة من الناس.. ولا يستدعي ذلك أي تعليق،
ولا يثير أية علامة تعجب.. أما إذا كثرت الكلاب، فإن ذلك يلفت النظر
عادة، ويثير الفضول.. وربما يبادر البعض إلى التعليق وتسجيل الملاحظة.
وهكذا يقال بالنسبة لشدة النباح الذي واجهتهم به كلاب
الحوأب، فإنها كانت بحيث لم يعهد الناس لها مثيلاً في الموارد الأخرى،
فزاد ذلك في إثارة فضولهم، وعبروا عن عدم معهودية هذين الأمرين لهم،
أعني كثرة الكلاب، وشدة نباحها..
ولعله لولا هذه الكثرة وتلك الشدة لمروا على ماء الحوأب،
ولم يخطر لأحدهم أن يذكر اسمه على لسانه. ولاتخذت الأمور منحى آخر..
وقد ذكرت الروايات:
أن عائشة خافت أن تكون هي صاحبة الجمل الأدبب التي
تنبحها كلاب الحوأب، وقالت: ردوني، ردوني إلخ..
غير
أننا لا نستطيع قبول دعوى خوفها هذا ببساطة، ونرى:
أن من المحتمل أن يكون خوفها من الفضيحة، وانفضاض الناس من حولها، وعدم
بلوغها أهدافها في قتل علي «عليه السلام»، وإيصال طلحة إلى الخلافة..
إلا إن كانت قد خافت من أن تنالها الكلاب بأذى في
جيدها، فخوفها من الكلب كخوف المرأة من الفأرة، فلما أمنت واصلت سيرها.
كما
أننا لا نعتقد:
أن عائشة كانت من الغباء بحيث جازت عليها شهادة الزور التي جاؤوا بها:
أن هذا الماء ليس هو ماء الحوأب. بل لعل قبولها كان لأجل اطمئنانها أن
عوام الناس هم الذين جازت عليهم هذه الحيلة. وأمنت غائلة انفضاضهم من
حولها، وإضعاف أمرها، وضياع هدفها.
مع احتمال أن تكون هذه النصوص غير واقعية، وقد صنعت
لإظهار براءة عائشة من تعمد مخالفة رسول الله «صلى الله عليه وآله» في
ما أخبرها به وحذرها. وقد ذكرتها به أم سلمة قبل مسيرها من مكة بساعة،
أو بساعات. وكان صلى الله «عليه السلام» قد قاله لزوجاته، أو قاله
لعائشة بحضور نسائه([13]).
وإنما قلنا ذلك لأننا نرى أن نفس عائشة كانت على يقين
من خطأها في حربها علياً «عليه السلام»..
كما أن هدفها لم يكن هو الإصلاح بين الناس، كما أظهرته
سيرتها في هذه الحرب من أولها إلى آخرها.. وسيرتها هذه تغنينا عن إيراد
الشواهد..
([1])
بحار ج32 ص145 و 146 والكامل في التاريخ ج3 ص210 والعبر وديوان
= = المبتدأ والخبر ج2 ق2 ص155 وإمتاع الأسماع ج13 ص232 وراجع:
البداية والنهاية (ط دار إحياء التراث) ج7 ص258.
([2])
بحار الأنوار ج22 ص382 وج32 ص147 عن رجال الكشي ترجمة سلمان
الفارسي، وإختيار معرفة الرجال ج1 ص57 و 58 ونفس الرحمن في
فضائل سلمان ص247 و 248.
([3])
بحار الأنوار ج32 ص138 والنص والإجتهاد ص433 و 434 وشرح نهج
البلاغة للمعتزلي ج6 ص224 و 225.
([4])
بحار الأنوار ج32 ص139 عن شرح نهج البلاغة ج4 ص407 و (ط دار
إحياء = = الكتب العربية) ج6 ص225 والنص والإجتهاد ص435.
([5])
بحار الأنوار ج32 ص118 ومناقب آل أبي طالب (ط المكتبة الحيدرية
ـ النجف) ج2 ص336 وشرح نهج البلاغة ج6 ص225.
([6])
بحار الأنوار ج32 ص118 وراجع ص284 وج22 ص235 وراجع: معاني
الأخبار ص305 والإيضاح لابن شاذان ص75 و 76 وشرح الأخبار ج1
ص338 والكافئة للشيخ المفيد ص37 والجمل لابن شدقم ص41 و 42
ومستدرك سفينة البحار ج7 ص510 ومجمع الزوائد ج7 ص234 وفتح
الباري ج13 ص45 والمصنف لابن أبي شيبة ج8 ص711 ومسند ابن
راهويه ج2 ص32 والإستيعاب (ط دار الجيل) ج4 ص1885 وشرح نهج
البلاغة = = للمعتزلي ج9 ص191 و 311 وسير أعلام النبلاء ج2
ص198 وتاريخ الإسلام للذهبي ج3 ص490 والوافي بالوفيات ج16 ص342
وسبل الهدى والرشاد ج10 ص148 و 151 و 164 والغدير ج3 ص188 وقال
في هامشه: أخرجه البزار، وأبو نعيم، وابن أبي شيبة، والماوردي
في الأعلام ص82 والزمخشري في الفائق ج1 ص190 وابن الأثير في
النهاية ج2 ص10 والفيروزآبادي في القاموس ج1 ص65 والكنجي في
الكفاية ص71 والقسطلاني في المواهب اللدنية ج2 ص195 وشرح
الزرقاني ج7 ص216 والهيثمي في مجمع الزوائد ج7 ص234 وقال: رواه
البزار ورجاله ثقات، والسيوطي في جمع الجوامع كما في الكنز ج6
ص83 والحلبي في سيرته ج3 ص313 وزيني دحلان في سيرته ج3 ص193
هامش الحلبية، والصبان في الإسعاف ص67.
([7])
بحار الأنوار ج32 ص146 عن الدميري في حياة الحيوان في مادة:
«الجمل» عن الحاكم، والرواشح السماوية ص208.
([8])
بحار الأنوار ج32 ص147 ورسائل المرتضى ج4 ص64 ومستدرك الوسائل
ج17 ص448 وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص162.
([9])
بحار الأنوار ج32 ص147 ومن لا يحضره الفقيه ص44 و (ط مركز
النشر الإسلامي) ج3 ص74 ومستدرك الوسائل ج17 ص448 وجامع أحاديث
الشيعة ج25 ص162 ونفس الرحمن في فضائل سلمان ص248 وراجع:
المناقب للخوارزمي ص181 ومجمع البحرين ج1 ص439.
([10])
إنما نتحدث عن سير الأمور بحسب طبيعتها بغض النظر عن السنة
الإلهية التي تختزن خذلان أهل الباطل في سعيهم لطمس الحق، كما
جرى لميثم التمار، حيث أصر ابن زياد على تكذيب علي «عليه
السلام» فيما أخبره به عن كيفية قتله، فكانت النتيجة هي أنه لم
يجد مناصاً عن فعل نفس ما أخبر به «عليه السلام».
([11])
راجع: صحيح البخاري (ط دار الفكر) ج4 ص46 وراجع ص92 و 174 وج5
ص20 وج8 ص95 وصحيح مسلم ج8 ص172 وسنن الترمذي ج2 ص257 وعمدة
القاري ج15 ص30 والعمدة لابن البطريق ص456 والطرائف لابن طاووس
ص297 والصراط المستقيم ج3 ص142 وج3 ص164 وج3 ص237 ووصول
الأخيار إلى أصول الأخبار ص83 والجمل لابن شدقم ص47 وكتاب
الأربعين للشيرازي ص624 وبحار الأنوار ج31 ص639 وج32 ص287 وح57
ص234 ومناقب أهل البيت للشيرواني ص471 والمراجعات ص333 وفتح
الباري ج6 ص147 وقاموس الرجال للتستري ج12 ص303.
([12])
راجع: بحار الأنوار ج32 ص146 وخلاصة عبقات الأنوار ج3 ص279 و
280 وراجع: العبر وديوان المبتدأ والخبر ج2 ق2 ص155 وإمتاع
الأسماع ج13 ص232.
([13])
راجع: النهاية لابن الأثير ج2 ص96 والقاموس المحيط ج1 ص65
والمواهب اللدنية ج2 ص195 وشرح المواهب اللدنية للزرقاني ج7
ص216 والمصنف = = لابن أبي شيبة ج15 ص265 و 260 رقم 19631 ورقم
19617 وأعلام النبوة للماوردي ص136 والفائق ج1 ص408 والجمل
للشيخ المفيد ص432 متناً وهامشاً، والغدير ج3 ص188 ـ 191
وتاريخ الأمم والملوك ج4 ص469 وتاريخ أبي الفداء ج1 ص173
والإمامة والسياسة ج1 ص60 وتاريخ اليعقوبي ج2 ص181 وكنز العمال
ج11 ص334 و 333 ومسند أحمد ج6 ص97 وكفاية الطالب ص171 ومجمع
الزوائد ج7 ص234 والسيرة الحلبية ج3 ص313 والسيرة النبوية
لدحلان ج1 ص233 وإسعاف الراغبين ج67 ومسند أبي يعلى ج8 ص282
وتذكرة الخواص ص66.
|