الأفغاني
وحديث كلاب الحوأب:
وذكر
سعيد الأفغاني حديث كلاب الحوأب، وقولهم عن عائشة:
أنها لما سمعت نباح كلاب الحوأب
«..استرجعت وذكرت ما قيل لها في ذلك فقالت: «ردوني إلى حرم رسول الله
«صلى الله عليه وآله» لا حاجة لي في المسير».
فقال ابن الزبير:
«بالله ما هذا الحوأب، ولقد غلط
فيما أخبرك به».
وكان طلحة في ساقة الناس. فلحقها، فأقسم أن ذلك ليس
بالحوأب. وشهد معه خمسون رجلاً (!!) ممن كان معهم، فكان ذلك أول شهادة
زور أقيمت في الإسلام»([1])
اهـ. وما شاء الله كان.
ثم قال:
وبعد..
فما هذا الحديث الذي زعمت الروايات أن عائشة تذكرته عند
ماء (الحوأب)؟! لقد مر بك ص 97 رواية ابن أبي الحديد وشكنا فيها، وأكثر
روايات ابن أبي الحديد والمسعودي في هذا الموضوع يصعب قبولها على
الناقد لأمرين اثنين:
الأول:
عصبية الرجلين لعلي وتشيعهما له تشيعاً ظاهراً لا خفاء
به.
ولو اطلع عليه علي نفسه لكان أشد الناس له إنكاراً.
والعصبية حجاب ثقيل، كثيراً ما صرف صاحبه عن الرؤية الصحيحة، وكثيراً
ما حمله ـ من حيث يشعر ولا يشعر ـ على الإغضاء عن عيوب الروايات إذا
كان فيها ما ينصر إمامه أو أحد أتباعه، أو يناهض خصومه من قريب أو
بعيد، ولعله يجد ذلك من أعظم القرب إلى الله، والغاية دائماً ـ عندهم ـ
تبرر الوسيلة.
وأما الأمر الثاني:
فهو تهافت ظاهر في الخبر نفسه يستبعد معه التصديق.
والأمران مجتمعان هنا.
فتغيير جلال الجمل (عسكر) غير كاف في الضحك على السيدة
عائشة، ولا أثر له البتة في تغيير (السمات الفارقة) في نظر أغفل الناس،
فكيف بأذكاهم؟!
وكذلك حشد الشهود يشهدون حالفين
بالله:
أن هذا الماء ليس بالحوأب بعد أن أيقنت السيدة أنه
الحوأب وهمت بالرجوع، غير معفٍّ على هذا اليقين.
وأقوى من ذلك كله:
أن طلحة الصحابي الجليل أحد العشرة المبشرين لن يرتكب
هذا التزوير الذي زعمه ـ كذباً ـ رواة المسعودي أو المسعودي نفسه.
هذا من حيث النقد الداخلي للخبر (نقد المتن). أما النقد
الخارجي (نقد السند)، فإن علينا أن نستفيد من قواعد المحدثين القويمة
في هذا الشأن، وأنا أستغرب الاستغراب كله ممن يدرسون (قواعد التحديث)
المسماة (مصطلح الحديث)، ويحفظونها للبركة، ولا يمارسونها البتة. ولست
أدري أي فائدة لهم إذن من دراسة المصطلح إذا كانوا لا ينتوون العمل به.
لقد قرر بعض علماء الحديث ـ والمحدثون في الحضارة
العربية هم أئمة المؤرخين، وبناة التاريخ على القواعد الصحيحة ـ أنه لا
تقبل رواية صاحب نحلة فيما ينصر نحلته، ولا ذي هوى ـ مهما كان ثقة ـ
فيما يوافق هواه، ولا فيما يناهض خصومه. وعلى ذلك فابن أبي الحديد
والمسعودي ليسا بثقتين في هذا الموضوع: موضوع علي وعائشة.
لكن
الأمر ليس أمرهما فقط. ومن الحق علينا أن نقرر هنا:
أن حديث الحوأب مشهور تعددت مصادره، يشار إليه في كتب اللغة وفي كتب
التاريخ، وفي بعض كتب الحديث.
تجده مثلاً في كتب اللغة:
في الفائق للزمخشري (ج1 ص190)، وفي القاموس مادة
(الأدبب).
وفي كتب التاريخ:
في الطبري ومن أخذ عنه، وفي المسعودي وصاحبه، وقد مرت
روايتاهما.
وتجده في بعض كتب الحديث والرجال:
كالإستيعاب لابن عبد البر، وسير النبلاء للذهبي (ج2 ص60
و 82)، ومسند الإمام أحمد، وهذا لفظ الحديث فيه: «كيف بإحداكن تنبح
عليها كلاب الحوأب».
ولفظه في سير النبلاء للذهبي بسنده
الخاص:
«أيتكن صاحبة الجمل الأدبب، يقتل حولها قتلى كثيرون،
وتنجو بعدما كادت»؟!
والذي عند الزمخشري:
«أيتكن صاحبة الجمل الأدبب، تسير (أو تخرج) حتى تنبحها كلاب الحوأب»؟!([2]).
وهذا الحديث في مصادر عدة.
لقد قرن الذهبي في هذا الحديث حكماً
وهو:
«هذا حديث صحيح الإسناد ولم يخرجوه».
وكنت علقت على قوله هذا لما نشرت سير النبلاء قائلاً:
«في النفس من صحة هذا الحديث شيء، ولأمر مَّا أهمله
أصحاب الصحاح. وقد جاء في معجم البلدان (مادة حوأب) ما يفيد: أن صاحبة
هذا الخطاب سلمى بنت مالك الفزارية، وكانت سبية وهبت لعائشة، وهي
المقصودة بخطاب الرسول الذي زعموه، وقد ارتدت مع طليحة الأسدي، وقتلت
في حروب الردة.
ومن العجيب:
أن تصرف بعض الروايات هذه القصة ـ إن صحت ـ إلى السيدة عائشة إرضاء
لبعض الأهواء العصبية»([3]).
وما قرره ياقوت هنا مهم، فلا تنسه.
وأضفت في موضع آخر، لما رواه الذهبي
بسنده العالي قولي:
«إن لم يصح هذا الحديث، فهو مما دسه الوضاعون من بعض
الفرق على صالحي المحدثين، انتصاراً لأهوائهم المذهبية»([4]).
عزّ هذا التعليق الذي قلته في (سير النبلاء) على بعض
الأفاضل من أهل الحديث، وأكدوا لي أن الحديث صحيح، وهم ليسوا بحاجة إلى
هذا التأكيد، فإن الذهبي نفسه إمام الحفاظ والمحدثين في زمنه صحح
إسناده (إسناده فقط)، وأردف ذلك بقوله: «ولم يخرجوه».
وأزيد هنا أمرين:
الأول:
لو كان هذا الخبر صحيحاً لرجعت عائشة من فورها، فليست
بالتي تلقي بنفسها في التهلكة على بصيرة.
والثاني:
أن سند الذهبي في هذا الحديث ينتهي ـ في إحدى روايتيه ـ
إلى ابن عباس، وابن عباس ـ على عدالته ـ ممن خب وأوضع في الحزبية
السياسية، فهو أكبر أنصار علي وألد خصوم عائشة في خلافها عليه.
فلعل هذا جعله ـ إن صحت نسبة الحديث إليه ـ يتسامح ويغض
عما فيه لتأييد مذهبه السياسي، وإلا فإني أسأل: هل كان ابن عباس حاضراً
قول النبي هذا وهو بين نسائه؟!
إني ـ استناداً إلى سكوت الرواية عن ذلك من جهة، وإلى
ضرورة التصريح بذلك من جهة ثانية ـ أقطع بالنفي، وإن على المثبت أن
يأتي بدليل ينص على أن ابن عباس كان حاضراً مجلس النبي «صلى الله عليه
وآله» وسلم مع نسائه!!
ولا يغني ـ هنا خاصة ـ قولهم:
«إن مراسيل الصحابة يحتج بها»، لأن وجود ابن عباس هنا
مع النساء في حديث خاص بهن، غير مألوف، فيحتاج إثباته إلى النص الصريح.
هذا ولم أذكر ما في ذوقي الخاص لقاء هاتين السجعتين في
رواية الزمخشري: «ليت شعري أيتكن صاحبة الجمل الأدبب، تسير حتى تنبحها
كلاب الحوأب» من بعد عن البلاغة النبوية عند من كثر إلفه لها.
ولست أدري لم لا يطبق أولئك الأفاضل قواعد المحدثين على
المتن والسند معاً؟! ومهما يكن، فقد بينت للقارئ ـ فيما تقدم ـ ما
حداني على الشك، وفيه بلاغ([5]).
وآخر ما رأيت من الأحاديث المنسوبة إلى رسول الله في
موضوع يوم الجمل حديث عن أبي بكرة:
قيل له:
«ما منعك ألا تكون قاتلت على بصيرتك يوم الجمل»؟!
قال:
سمعت رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقول: يخرج قوم
هلكى قائدهم امرأة، قائدهم في الجنة».
ويرى المدقق شيئاً من البعد بين
الجواب، والسؤال:
فإذا كان القوم هلكى فلم لم يقاتل على بصيرته مع الصف
الآخر: صف غير الهلكى؟! لقد كان الجواب المعقول للذين لم يقاتلوا مع
إحدى الفئتين إذا سئلوا مثل هذا السؤال أن يحتجوا باعتزالهم الفتنة وما
اشتبه من الأمور، كذلك فعل كثير من الصحابة الأجلاء. ثم في متن هذا
الحديث بعد ظاهر عن المعقول: أصحيح أن أصحاب الجمل هلكى كلهم إلا
عائشة؟!
الجواب:
لا، ففيهم طلحة والزبير، وهما من المبشرين بالجنة،
وفيهم بدريون وفيهم مهاجرون وأنصار أخرجهم من بلدهم الحمية لله أن تعطل
حدوده، وذوو المآرب في جيش عائشة قلة قليلة، وهذا كاف في القطع بعدم
صحة نسبة كلام في يوم الجمل مما تقدم إلى رسول الله «صلى الله عليه
وآله»([6]).
ونقول:
إن ما ذكره هذا الرجل غير سديد، لأسباب كثيرة، نذكر
بعضها ضمن العناوين التالية:
ذكر أن تشيع المسعودي والمعتزلي، انتهى بهما إلى
العصبية التي حجبت الرؤية الصحيحة عنهما، ولو اطلع علي
«عليه السلام»
على هذا الأمر لاشتد إنكاره عليهما.
ونقول في جوابه:
أولاً:
إن ابن
أبي الحديد لم يكن من الشيعة، بل هو من أهل السنة، ولكنه اعتقادياً
يتخذ نحلة الاعتزال
البغدادي، أي أنه يفضل علياً «عليه السلام» على جميع الصحابة، ولكنه
يصحح خلافة أبي بكر وعمر وعثمان، ويدافع عنها، إلى حد أنه يصدِّر كتابه
شرح نهج البلاغة
ـ
بقوله الذي
يرفضه الوجدان والعقل
ـ
بحمد الله
تعالى: على أن «قدم المفضول على الأفضل، لمصلحة اقتضاها التكليف»([7]).
كما أنه يستشرس في الرد على كل ما يستدل به على إمامة
أمير المؤمنين
«عليه السلام»،
ويتمحل لرده الوجوه الباردة، والتأويلات الصبيانية التي تثير الغثيان،
وما أورده في كتابه شرح نهج البلاغة من ذلك رداً على السيد المرتضى في
الشافي شاهد صدق على ما نقول.
ثانياً:
إن التشيع لعلي «عليه السلام» لا يلازم العصبية..
ثالثاً:
إذا كان التشيع يعني العصبية لعلي «عليه السلام»، ويلازمها، فلماذا لا
يكون التسنن يعني التعصب لخصوم علي «عليه السلام» من الذين غصبوا
الخلافة منه، أو ساعدوا على غصبها، أو أيدوا الغاصبين، وتعصبوا لهم،
وحاولوا تبرئتهم من كل عيب، وإبعاد كل شبهة عنهم.
رابعاً:
إن العصبية إذا كانت للحق، فإن علياً «عليه السلام» لا
ينكرها، ولا يأباها.. بل هو يحث عليها ويرضاها؟! أو يكافئ عليها؟!
لأن الرذيلة هي التعصب للباطل، أما التعصب للحق، فهو
فضيلة يحبها الله وأهل الله.
خامساً:
لماذا حصر
رواية نباح كلاب الحوأب لعائشة، وكل ما يرتبط بها بالمسعودي والمعتزلي،
فقد اعترف هذا الرجل: بأن رواة هذه القضية من سائر الملل الإسلامية والعلماء
الأثبات
والمعتمدون، أكثر من رواة الشيعة، والمعتزلة. واعترف أيضاً بشهرة هذا
الحديث، وبتعدد مصادره من غير الشيعة، وعدَّد هو نفسه بعض المؤلفات
التي احتضنته، وذكر منهم بعض الأئمة الكبار من أهل السنة، كأحمد بن
حنبل، وابن عبد البر، والذهبي، والطبري، والزمخشري وغيره.. ومنهم من
حكم بصحة هذا الحديث..
وقد
زعم هذا المستدل:
أن التهافت في الخبر يمنع من تصديقه، فإن تغيير جلال الجمل لا يكفي في
الضحك على عائشة، وهي من أذكى الناس.
ونجيب:
أولاً:
إن الله تعالى قد جعل شهادة امرأتين مقابل شهادة رجل واحد، مع أن
الشهادة تكون عن مشاهدة وحضور ومعاينة، ولم يستثن من هذا الحكم عائشة
ولا غيرها.. وقد علل ذلك بقوله: ﴿أَنْ
تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾([8])،
فلو لم تكن المرأة في معرض الخطأ أو الضلال في الشهادة، وبحاجة إلى
تذكير ولفت نظر، لجعلت شهادتها على حد شهادة الرجل.
وهذا لا ربط له بالذكاء، والحنكة، والقدرة على التدبير
للأمور التي يكون مجالها حركة الفكر والذهن في الأمور الذهنية، دون
الصور الانتزاعية..
ثانياً:
إن هذا الرجل قد بنى كلامه على مسلَّمة
عنده تقوم: على إحسان الظن بنوايا عائشة، مع أن الأمر لا ينحصر بهذه
الفرضية، إذ لعل عائشة قد تغاضت عن هذا الأمر، وتظاهرت بقبول دعواهم
هذه بعد تغيير جلال الجمل، لأنها تريد أن تجد مخرجاً لنفسها من الورطة
التي واجهتها بعد أن كان الناس يعرفون اسم الجمل مما سمعوه من الرسول.
أو أنها توهمت ذلك.
ولم يكن بإمكان عائشة التراجع عن مسيرها ذاك، لأن هذا
التراجع يكرس الحق
ـ
كل الحق
ـ
في
جانب علي «عليه السلام»، وهو الرجل الذي لا تطيق
أن تذكره بخير أبداً.. وتريد إسقاط حكومته، وإلحاق الأذى به والتخلص
منه بأية صورة كانت..
ثالثاً:
إذا كانت عائشة لا تقدم على هذا الأمر لأنها تلتزم بأوامر الله
ورسوله.. فلماذا خالفت أوامر الله ورسوله لها بأن تقر في بيتها؟!
ولماذا أقبلت على شن حرب قتل فيها عشرات الألوف من
المسلمين؟!
ولماذا أمرت بقتل السبابجة في البصرة بعد أسرهم، فذبحوا
كما يذبح قطيع الغنم، وهم أربع مئة رجل؟!
ولماذا أمرت بقتل عثمان بن حنيف؟! ولماذا؟! ولماذا؟!
رابعاً:
إن عائشة نفسها تنفي العصمة عن نفسها ـ كما صرح به نفس
هذا المستدل ـ فقد ذكر: أن الأحنف قال لها وهي في البصرة:
«أعندك عهد من رسول الله «صلى الله عليه وآله» في خروجك
هذا؟!
قالت:
لا.
قال
لها:
أفعندك عهد من رسول الله «صلى الله عليه وآله» أنك معصومة من الخطأ؟!
قالت:
لا.
قال لها صدقت. إن الله رضي لك بالمدينة، فأبيت إلا
البصرة، وأمرك بلزوم بيت نبيه «صلى الله عليه وآله»، فنزلت بيت الحرشة
الضبي إلخ..»([9]).
وقد نفى سبحانه العصمة عنها وبين حاجتها إلى التوبة مما
اقترفته فيما أنزله فيها وفي حفصة من آيات سورة التحريم ومنها قوله
تعالى:
﴿إِنْ
تَتُوبَا إِلَى اللهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُمَا وَإِنْ تَظَاهَرَا
عَلَيْهِ فَإِنَّ اللهَ هُوَ مَوْلَاهُ وَجِبْرِيلُ وَصَالِحُ
الْمُؤْمِنِينَ وَالْمَلَائِكَةُ بَعْدَ ذَلِكَ ظَهِيرٌ عَسَى رَبُّهُ
إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْوَاجاً خَيْراً مِنْكُنَّ
مُسْلِمَاتٍ مُؤْمِنَاتٍ قَانِتَاتٍ تَائِبَاتٍ عَابِدَاتٍ سَائِحَاتٍ
ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَاراً﴾([10]).
كما أن قوله تعالى: ﴿يَا
نِسَاءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ
يُضَاعَفْ لَهَا الْعَذَابُ ضِعْفَيْنِ وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ
يَسِيراً﴾([11]).
يدل على عدم عصمة نسائه «صلى الله عليه وآله».
فلا بد من إثبات حصول هذه التوبة منها بصورة قاطعة..
على أن هذه التوبة حتى لو ثبتت، فذلك لا يكفي أيضاً للقول بأنهن لم
يصدر منهن بعدها أي ذنب أصلاً، لا في حياة النبي «صلى الله عليه وآله»،
ولا بعد وفاته.. بل لا بد من رصد سلوكهن للحكم عليهن من خلال تصرفاتهن،
ومدى موافقته للأحكام الشرعية والأوامر النبوية.
ولا يصح أن يجعل حسن الظن بهن دليلاً على كذب ما ينسب
إليهن من أفعال.
بل إن آيات سورة التحريم قد أظهرت أنه كان في سائر
النساء في المجتمع الإسلامي من هن أفضل من عائشة وحفصة، وأن المصلحة قد
تقتضي أن يطلقهما النبي «صلى الله عليه وآله»، ويزوجه الله تعالى إحدى
تلك النساء اللواتي هنَّ خير من عائشة فضلاً عن حفصة. وهن كثيرات كما
ظهر في سياق الآية المذكورة آنفاً..
فما يُدعى من فضل لعائشة على نساء الأمة غير صحيح، لأن
هذه الآية تبطله وتكذبه.. فما بالك بمن يفضل عائشة على أم سلمة أو على
خديجة، أو على السيدة فاطمة الزهراء «صلوات الله وسلامه عليهن
أجمعين»؟! فإنه واقع ـ ولا شك ـ في دهم كبير.
فجعل إحسان الظن أصلاً تقاس عليه الروايات، ثم تقبل
وترفض على أساس موافقته ومخالفته لا أساس له من الصحة..
وبعد..
فإنه إذا كانت روايات الشيعة والمعتزلة مردودة، فما
عليه إلا أن يتخلى عن عشرات بل مئات الروايات الموجودة في البخاري
ومسلم.. فضلاً عن باقي الصحاح الست، وأن يهمل الألوف من الروايات في
سائر كتب الحديث والرواية لوجود بعض الشيعة أو المعتزلة في سلسلة
أسانيدها..
وقد أورد العلامة الكبير السيد عبد الحسين شرف الدين
مئة راو شيعي، روى عنهم السنة في صحاحهم، في كتابه المراجعات في
المراجعة السادسة عشرة، فراجع..
ثم إن هذا الرجل استدل على سقوط روايات الحوأب عن
الاعتبار بأن شهادة الشهود وحلفهم لا يمكن أن يبدل يقين عائشة، حتى همت
بالرجوع!!
وقال في موضع آخر:
«لو كان هذا الخبر صحيحاً لرجعت عائشة من فورها، فليست
بالتي تلقي بنفسها في التهلكة على بصيرة».
ونجيب:
أولاً:
قد ذكرنا سابقاً: أن من الجائز أن تكون عائشة قد تظاهرت بقبول شهادتهم
وحلفهم، لأنها ترى أن رجوعها عن مسيرها سيكون بمثابة كارثة عظمى، على
مشروعها الرامي إلى إسقاط خلافة علي
«عليه السلام»..
وإلحاق الأذى به بأية صورة كانت.
ثانياً:
إنه لا معنى لجعل حسن الظن هو الحاكم في أمثال هذه القضايا، فضلاً عن
الإفراط في حسن الظن بنواياها، بعد أن أظهر القرآن ودلت الأحاديث
الكثيرة على صدور مخالفات كثيرة منها بحق الرسول، وبحق علي
«عليه السلام»
في حياته.. وفي سورة التحريم ما دل القرآن على لزوم توبتها.. وقلنا: إن
هذه التوبة لا بد من ثبوت حصولها على نحو اليقين.
كما أنها لو ثبتت، فإنها لا تمنع من إقدامها على ذنوب
أخرى كهذا الذنب وغيره، مع العلم بأن ما طلب القرآن توبتها منه كان من
الذنوب العظيمة، التي احتاج معها رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى
الوعد الإلهي بالنصر والرعاية، وإلى نصرة ومعونة جبريل، وصالح
المؤمنين، والملائكة بعد ذلك ظهير له ومعين..
كما لا مجال لغض النظر عن أمرها بقتل السبابجة، وهم
أسرى بأيدي أصحابها، وأمرت بقتل ابن حنيف.. وخاضت حرباً ضروساً ضد
إمامها، قتل فيها عشرات الألوف، معترفة بعدم العصمة لنفسها في ذلك.
ثالثاً:
ما الدليل على أن هذه الشهادة التي أقامها طلحة لها، وذلك الحلف لم
يغير من يقين عائشة؟! فإن يقينها كما تدعي الروايات قد نشأ من سماع
كلام الدليل الذي كان معهم، فلماذا لا يزول هذا اليقين بشهادة خمسين
رجلاً، وخصوصاً إذا أكدوا ذلك بالقسم؟!
رابعاً:
بالنسبة لما زعمه هذا الرجل من أن طلحة لا يرتكب هذا
التزوير الذي ارتكبه المسعودي، أو أحد رواته، نقول:
إن طلحة كان على رأس من أجلب على عثمان، وقاد الجماهير
لقتله، ثم اتهم علياً «عليه السلام» بقتله مع أنه بريء من دمه براءة
الذئب من دم يوسف، ثم قاد حرباً قتل فيها عدة ألوف من المسلمين، قال
بعضهم: إنهم أكثر من ثلاثين ألفاً، بدعوى المطالبة بدمه..
كما أن طلحة قد بادر إلى البيعة لعلي «عليه السلام»
باختياره، وأبصر عليه بقبولها مدة خمسة أيام، ثم نكث بيعته، وطلحة هو
الذي يقتل أسراه من السبابجة الأبرياء، ويذبحهم كما يذبح الغنم، ويغدر
بفريق كبير من الناس كان قد أعطاهم الأمان.. ويتجرأ على رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
في نسائه، حتى تنزل الآيات المحرمة للتعرض لهن في حياة النبي
«صلى الله
عليه وآله»
وبعد وفاته.. وطلحة هذا هل يتورع عن تدبير شهادة زور
تنجيه من الفضيحة، وتمكنه من مواصلة تنفيذ خطته الرامية إلى إسقاط
خلافة علي «عليه السلام»؟!
خامساً:
لماذا يحسن الظن بطلحة القاتل لألوف الناس المسلمين، والفاعل لكل تلك
الأفاعيل، ولا يحسن الظن بالمسعودي ورواته؟! ولم يظهر له منهم ما يدل
على ارتكابهم أدنى مخالفة سوى ما يتهمهم به من دون دليل معقول أو
مقبول..
وأليست شهادته على المسعودي وروايته هي من شهادات الزور
التي هي امتداد للشهادة التي دبروها لإزالة يقين عائشة بماء الحوأب،
حذراً من رجوعها من مسيرها معهم؟!
سادساً:
قد تقدم في بعض فصول هذا الكتاب: عدم صحة حديث العشرة
المبشرين بالجنة. فراجع..
ثم عاد هذا المستدل لتكرار مقولته السابقة حول عدم قبول
رواية صاحب نحلة فيما يناهض خصومه، «وعلى ذلك، فابن أبي الحديد
والمسعودي ليسا بثقتين في هذا الموضوع: موضوع علي وعائشة».
ونقول له:
أولاً:
إن عدم قبول رواية صاحب نحلة فيما يناهض خصومه لا يعني كذب روايته، بل
معناه: عدم حجيتها إلى أن يوجد لها شاهد، أو تدل القرائن على إمكان الاعتماد
عليها.. فلماذا بادر هذا المستدل إلى الحكم على هذه الرواية بالكذب،
بصورة قاطعة؟!
ثانياً:
إنه هو نفسه قد اعترف بأن حديث الحوأب رواه الكثيرون من أهل نحلته ولم
ينفرد به المسعودي، كما أن حديث شهادة الزور لم ينفرد به المسعودي، بل
رواه غيره من الشيعة، ومن غيرهم. ومنهم: البلاذري، وابن أعثم وسبط ابن
الجوزي، والبيهقي واليعقوبي، وابن قتيبة([12]).
وباعترافه هذا يكون قد انتكث غزله، وانتقض فتله، وأجهز
عليه عمله..
ثالثاً:
بالنسبة لقوله عن حديث الحوأب:
«ولأمر ما
أهمله أصحاب الصحاح»..
نقول:
نعم، لأمر ما أهمله أصحاب الصحاح. وهو عصبيتهم، وحبهم
للتخفيف من وطأة هذا الأمر على عائشة، ولو بقيمة طمس الحقائق، وما أكثر
الأحاديث التي أهملوها لمجرد الذب عمن يتعصبون لهم، أو للتعتيم على
فضائل وكرامات علي وأهل بيته «عليه وعليهم السلام»، أو لغير ذلك من
أسباب غير مرضية عند الله. ولا يرضاها أهل الإنصاف من خلقه.
وقد أوصى هذا الرجل:
بأن لا ننسى حديث أم زمل الفزارية، واعتبره حديثاً
مهماً.
والحقيقة هي:
أن هذا الحديث قد رواه الطبري في تاريخه عن سيف بن عمر،
وهو: أن أم زمل سلمى بنت مالك بن حذيفة بن بدر كانت قد سبيت في عصر
الرسول «صلى الله عليه وآله» في أيام أم قرفة، فوقعت لعائشة، فأعتقتها،
فكانت تكون عندها، وكان النبي «صلى الله عليه وآله» قد دخل عليهن
يوماً، فقال: إن إحداكن تستنبح كلاب الحوأب.
ثم رجعت سلمى إلى قومها. وكانت تشبه بأمها في عزها،
فارتدت، وطلبت بذلك الثار، فتجمع إليها كل فلٍّ ومضيَّقٍ عليه من أحياء
غطفان، وهوازن، وسليم، وأسد، وطي، فذمرتهم، وأمرتهم بالحرب، وتشجعوا
على ذلك، وتجمع إليها الشرداء من كل جانب.
فلما بلغ ذلك خالد بن الوليد سار إلى المرأة، واقتتلوا
قتالاً شديداً، وهي واقفة على جمل أمها، وفي مثل عزها.
وكان يقال:
من نخس جملها فله مائة من الإبل لعزها.
وأبيدت يومئذ بيوتات من خاسئ، وهاربة، وغنم. وأصيبت في
أناس من كاهل، وقتل حول جملها مئة رجل، حتى اجتمع على الجمل فوارس،
فعقروه، وقتلوها. وبعثوا بالفتح إلى المدينة([13]).
ونقول:
أولاً:
إن هذه الرواية لم ترد إلا عن سيف بن عمر، الذي يقول عنه ابن معين:
ضعيف، فلس خير منه.
وقال أبو داود:
ليس بشيء، كذَّاب.
وقال النسائي:
ضعيف متروك الحديث.
وقال ابن أبي حاتم:
متروك الحديث.
وقال ابن السكن:
ضعيف.
وكذا قال الفيروزآبادي.
وقال ابن عدي:
ضعيف، بعض أحاديثه مشهورة، وعامتها منكرة لم يتابع
عليها.
وقال ابن حبان:
يروي الموضوعات عن الأثبات. اتهم بالزندقة. وقال:
قالوا: كان يضع الحديث.
وقال الحاكم:
متروك اتهم بالزندقة.
وقال عنه ابن حجر:
شديد الضعف.
ووهّاه الخطيب البغدادي.
وقال ابن عبد البر:
متروك.
وقال صفي الدين:
ضعفوه..
وغير ذلك([14]).
ثانياً:
قال العلامة العسكري «رحمه الله»:
«لا
أدري من أين جاء سيف بسلمى أم زمل إلى عائشة، وكيف أخرجها إلى ظفر
والحوأب. وكان قوم حذيفة (أي ابن بدر) بوادي القرى بين الشام والمدينة.
والحوأب على طريق البصرة»([15]).
ثالثاً:
إن هذا الرجل قد أظهر أنه مستعد لأن يأخذ عن متّهم
بالزندقة، وبوضع الحديث، وضعيف شديد الضعف، ومتروك، وواه، وليس بشيء،
وكذاب، وفلس خير منه، ويروي الموضوعات عن الأثبات..
ويترك حديثاً صححه الذهبي كما اعترف هو به، وابن كثير([16])،
وابن عبد البر([17])،
وغيرهم.. واعترف هو أيضاً بشهرته، وذيوعه، وبنقله في مختلف المصادر
الإسلامية..
رابعاً:
إنه تأسف أن تُصْرَفَ بعض روايات هذه القصة ـ إن صحت ـ
إلى السيدة عائشة إرضاء لبعض الأهواء العصبية..
ونقول له:
ألف:
إن قوله:
«إن
صحت»
يشير إلى أنه لا يجرؤ على تصحيح رواية أم زمل..
ب:
إن حديث الحوأب رواه أئمة أهل السنة كما رأيناه. وهم
حكموا بصحة سنده.
فإن كان مكذوباً، فلا يعقل أن يكون الشيعة هم الذين
كذبوه.. ما دام أن رواته ومصادره تعود إلى غيرهم.
كما أن من غير المعقول:
أن يكون أهل السنة وأئمتهم قد تعمدوا جعله ووضعه، إذ لا
يعقل أن يفعلوا ذلك إرضاء لبعض الأهواء العصبية على حد تعبيره، فإن
أهواءهم وعصبيتهم تدعوهم إلى رفضه لا إلى وضعه.
ويقيناً:
أنهم لو كانوا
يستطيعون رده وتكذيبه لبادروا إلى ذلك، ولا سيما الذهبي شيخ المتعصبين
على علي
«عليه السلام»
وعلى شيعته ومحبيه..
وحول ما قاله عن عدالة ابن عباس نقول:
أولاً:
إن هذا الرجل وإن اعترف لابن عباس بالعدالة، إلا أنه عاد فأغدق عليه
التهم والإهانات حيث وصفه بأنه: «خب وأوضع في الحزبية السياسية» حيث
يقال: خب الرجل، أي صار خداعاً غشاشاً..
ثم وصفه:
بأنه يغض ويتسامح لتأييد مذهبه السياسي!!
فأية عدالة هذه التي ينسبها هذا الرجل إلى ابن عباس؟!
ثانياً:
إن ما وصم به ابن عباس يبقى مجرد تهمة، بلا دليل ولا شاهد. ولا يثبت
ذلك كذب ابن عباس، فإنه إذا كان ابن عباس قد خب وأوضع في السياسة، فهل
خب الرواة الآخرون وأوضعوا؟! وهل خبُّه
في السياسة يستلزم أن يخب ويوضع في غيرها، وما الدليل على أنه قد خب
وأوضع في حديثه هذا، لا سيما مع وجود رواة آخرين له، ومع الحكم بصحة
السند في بعض تلك الأحاديث؟!
ثالثاً:
إن مؤيدي الخلفاء أيضاً، ومن ساعدوهم على غصبها من صاحبها الشرعي.. لا
يمكن تبرئتهم مما اتهم به ابن عباس، فلماذا يقبل منهم ما يؤيدون به
مناوئي علي «عليه السلام»، ولا يقبل من ابن عباس حديثاً ينسبه إلى رسول
الله
«صلى الله عليه وآله» لمجرد كونه في حق عائشة؟!
رابعاً:
إن الأحاديث
إذا تعددت طرقها. فإن ذلك يرفعها عن درجة الضعف، كما ذكرناه حين الحديث
عن رد الشمس لعلي «عليه السلام»، فكيف إذا كان أكثر من واحد منها صحيح
السند لا غبار على متنه سوى أنه يخالف هوى
سعيد الأفغاني، ولا ينسجم مع عصبيته لبعض الناس؟! كما هو الحال هنا؟!
وقد أثار هذا الرجل نقطة أخرى حول
حديث ابن عباس، وهي:
أن النبي «صلى الله عليه وآله»، إنما قال حديث الحوأب،
والجمل الأدبب لنسائه، وذلك يعني: أن ابن عباس لم يكن حاضراً في ذلك
المجلس، فممن سمع ابن عباس هذا القول؟!
ونجيب:
أولاً:
إذا أخذنا بقاعدة هذا الرجل، فإن كثيراً من أحاديث الصحاح تسقط عن
الاعتبار، لأن هذا السؤال آت فيها. ونذكر ثلاثة أمثلة على ذلك من نصوص
صحيح البخاري، وهي التالية:
1 ـ
روى البخاري خبر إرسال إحدى نسائه «صلى الله عليه وآله»
صحفة فيها طعام إليه، وهو في بيت إحدى نسائه، فضربت التي هو في بيتها
الصحفة فكسرتها، فصار «صلى الله عليه وآله» يجمع فلق الصحفة، ويجمع
فيها الطعام ويقول: غارت أمكم([18]).
2 ـ
سئل عمر بن الخطاب، عن أن أزواج النبي اللواتي أسّر
النبي «صلى الله عليه وآله» إليهن حديثاً فأفشينه، فقال: عائشة وحفصة([19]).
3 ـ
حديث أبي هريرة عن ذلك الرجل الذي آثر على نفسه ولم يكن
به خصاصة([20]).
فإن أبا هريرة لم يكن حاضراً مع ذلك الرجل وزوجته ليعرف
ما جرى بينهما.
كما أن عمر وأنس بن مالك لم يكونا مع نساء النبي
«صلى الله عليه وآله»..
فمن أين علموا بهذه الأمور؟! وكيف رواها البخاري في صحيحه؟! وكيف قبلها
المسلمون منه؟!
ثانياً:
إن صحة الحديث لا تتوقف على الحضور في المجلس، بل هو
يصح بنقل من حضروا ذلك المجلس لمن لم يحضروه..
ومن الواضح:
أن الذين حضروا هم: النبي «صلى الله عليه وآله» ونساؤه. فنقل هذا
الحديث منحصر بهؤلاء..
وقد ذكرت الروايات:
أن أم سلمة قد نقلت هذا الحديث.. وكذلك الحال بالنسبة
لسائر الزوجات.
ثالثاً:
إن ابن عباس إنما ولد سنة الهجرة، أو قبلها بثلاث سنوات، فلعله قد حضر
ذلك المجلس وهو صبي مميز. كما أن حضوره لا يستلزم انكشاف النساء عليه،
فلعله «صلى الله عليه وآله» قد قال ذلك لنسائه وهن متسترات في مجلس
يحضره الرجال، أو حيث تكون النساء حاضرات خلف الستار.. فلا معنى لنفي
حضور ابن عباس أو حضور غيره بشكل قاطع..
رابعاً:
إن هذا الحديث ليس خاصاً بالنساء كما زعم هذا الرجل، بل
يريد رسول الله «صلى الله عليه وآله» أن يقيم به الحجة عليهن، وأن
يسمعه للناس أيضاً، ليكون الجميع على حذر من المشاركة في الجانب الذي
لا يرضى الله تعالى بالمشاركة فيه..
فلا
معنى لادعاء:
أن المجلس خاص بالنساء، ثم الخروج بنتيجة مفادها: أن قاعدة «مراسيل
الصحابة حجة» ليست حجة هنا، لأن حجيتها منحصرة في المورد والمجلس الذي
يحتمل حضور الراوي فيه.. وليس هذا منها..
خامساً:
دعواه: أن هذه
السجعة:
«صاحبة
الجمل الأدبب، تنبحها كلاب الحوأب»
غير مستساغة من الناحية البلاغية.. لا مبرر لها، ولعله لعدم التفاته
إلى أنه «صلى الله عليه وآله» أراد من التوصيف بكلمة
«الأدبب»
التي يراد بها كثير شعر الوجه،
إطلاق الكلام بحيث يمكن معها حفظه وتداوله، كما أنه
أراد إعطاء المزيد من العلامات والإشارات التفصيلية، لأن ذلك يفيد في
ترسيخ اليقين، وإيجاد السكينة القلبية لدى من يعانون ذلك..
أما حديث أبي بكرة، فغير معقول ولا مقبول، ولكن لا لأجل
ما ذكره هذا الرجل، بل لأن الحكم غير معقول ولا مقبول، فإن هؤلاء القوم
إنما أطاعوا قائدهم قربة إلى الله، فكيف ينجو ويهلكون؟!
والسبب في تداول أمثال هذه الأحاديث
هو أنكم تقولون لهم:
إن هذا القائد عادل في أحكامه، صادق في أقواله، فإن
دخلوا النار بطاعته، فذلك يعني: أنه لم يكن عادلاً ولا مطيعاً لله فيما
أمرهم به، لأنه أمرهم بالمعصية، فكيف يكون الآمر بالمعصية في الجنة، هل
هذه مكافأة له على معصيته؟! وكيف يدخل المطيع النار، هل هذه عقوبة له؟!
وذنبه في هذا وذاك:
أنه صدق بقولكم: إن الآمر لا يعصي، ولذلك يدخله الله
الجنة.
فإن كان إخباركم له بعدالته كذباً، فكيف كذبتم عليه،
وكيف نسبتم هذا الكذب إلى القرآن الكريم، وإلى الرسول العظيم في
استدلالاتكم.. فإنهما منزهان عن ذلك..
أما ما ذكره هذا الرجل حول هذه الرواية، فهو:
أولاً:
فيما يرتبط باعتراضه على أبي بكرة: بأنه كان عليه أن يقاتل في الصف
الآخر نقول:
هو اعتراض صحيح، إلا أن يكون أبو بكرة أراد أن يتجنب
الكون في الفريق الذي يحارب عائشة التي هي في الجنة.
وهذا غير معقول، فالكل يعرف:
أن علياً مع الحق، والحق مع علي بنص من رسول الله «صلى
الله عليه وآله».. كما أن لعلي «عليه السلام» بيعة في أعناقهم توجب
عليهم نصره، والقيام معه..
أو يكون أبو بكر، قد جهل حقيقة مصير الطرف الآخر، هل هم
في الجنة؟! أم في النار؟!
ثانياً:
بالنسبة لما ذكره هذا الرجل، من أنه كان بإمكان المعتزلين أن يحتجوا
بأنهم إنما يعتزلون الفتنة وما اشتبه من الأمور، فهو غير صحيح، لأن
الأمر أوضح من الشمس، وأبين من الأمس، لأن البيعة لعلي
«عليه السلام»
وعدم جواز نكثها، ووجوب محاربة الناكث والباغي مما لا يجهله أحد.
ولا يصح التقاعس والقعود عن نصرة الخليفة الحق على
ناكثي بيعته، والخارجين على سلطانه، فلا توجد شبهة في هذا الأمر.
وادعاء الشبهة فيه يهدف إلى التدليس على الناس، وإيقاعهم بالشبهة.
هذا فضلاً عما ذكرناه آنفاً من بيعتهم لعلي
«عليه السلام»
يوم الغدير، وقول رسول الله «صلى الله عليه وآله»: علي مع الحق، والحق
مع علي.. وغير ذلك.
ثالثاً:
إن حديث نجاة طلحة والزبير استناداً إلى حديث البشارة لهما بالجنة لا
يلتفت إليه، فقد بينا في موضع سابق من هذا الكتاب: أن حديث العشرة
المبشرين بالجنة غير صحيح.
ومجرد وجود بدريين ومهاجرين وأنصار في جيش عائشة لا
يعطيهم صك براءة من الدماء التي سفكوها، والبيعة التي نكثوها، وخروجهم
على إمام زمانهم.. فإن كل ما ذكر في مدح الصحابة والبدريين مرهون
بالاستقامة على طريق الخير والهدى والصلاح، وعدم التغيير والتبديل،
والارتداد على الأعقاب. وعدم ارتكاب الجرائم والعظائم..
وقد بينا المراد من الآيات التي استدلوا بها على عدالة
الصحابة في موضع سابق من هذا الكتاب.. فلا نرى حاجة إلى الإعادة.
رابعاً:
إن هذا الرجل يخبر عن نوايا الناس وعما في ضمائرهم، مع أنه لا سبيل له
إلى الاطلاع عليها، فقد قال: إن ذوي المآرب في جيش عائشة كانوا قلة
قليلة، والذي أخرج أكثر الناس معها هو حميتهم لله من أن تعطل حدوده.
فمن أين علم:
أن هذا هو الذي أخرج أكثرهم؟! وتلك هي نوايا القلة
القليلة منهم؟!
وهل كان علي
«عليه السلام»
هو الذي عطل حدود الله، ولم يقمها؟! ولماذا لم يتقدم ذوو عثمان وأولياء
دمه أنفسهم بشكوى لعلي
«عليه السلام»،
ومطالبته بإقامة الحد على الفاعلين، مع تحديد أسمائهم له. ليصار إلى
إقامة الحد عليهم؟!
وهل كان طلحة والزبير، وحتى عائشة أبرياء من دم عثمان؟!
ألم يأمروا الناس بقتل نعثل فقد كفر؟!
ألم يكن طلحة قائد الهجوم على عثمان؟!
فلماذا لم يقتلوا هؤلاء أولاً، أو فقل: لماذا تركوهم؟!
ولماذا يأتمرون بأمرهم؟!..
([1])
راجع: الجمل لابن شدقم ص44 وخلاصة عبقات الأنوار ج3 ص280 وعن
مروج الذهب ج2 ص5 و (ط أخرى) ج3 ص366 والإمامة والسياسة ج1 ص56
وشرح نهج البلاغة ج2 ص497، ثم قال الأفغاني من دون أن يأتي
بأي دليل: وأحب للقارئ: أن يقرأ في مروج الذهب (ج2 ص6) وصفاً
(عنترياً معراجياً) لموكب علي بن أبي طالب، ليرى كيف يكتب
التاريخ هذا المؤرخ بأسلوب هو بالدعايات ألصق منه بالتاريخ.
([2])
قال الزمخشري: الأدبّ كالأزب وهو الكثير وبر الوجه، فأظهر
التضعيف لتزاوج الحوأب.
([3])
عن سير النبلاء ج2 ص70 و 98 و (ط مؤسسة الرسالة) ج2 ص177.
([5])
وذكر الأفغاني في الهامش: أن القاضي أبي بكر ابن العربي ذكر في
كتابه: العواصم من القواصم (ط سنة 1371هـ) ص161 ما يلي: «وأما
الذي ذكرتم من الشهادة على ماء الحوأب، فقد بؤتم في ذكرها حوب
(إثم)، ما كان قط شيء مما ذكرتم. ولا قال النبي صلى الله عليه
ذلك الحديث، ولا جرى ذلك الكلام، ولا شهد أحد بشهادتهم، وقد
كتبت شهاداتكم بهذا الباطل وسوف تسألون».
([6])
كتاب الأربعين في مناقب أمهات المؤمنين لأبي منصور عبد الرحمن
بن عساكر. (مخطوط في دار الكتب الظاهرية) رقمه (حديث535) ـ
الحديث الثاني عشر. وراجع: مجمع الزوائد ج7 ص234 وفتح الباري
ج13 ص46 والمصنف لابن أبي شيبة ج8 ص711 وكنز العمال (ط مؤسسة
الرسالة) ج11 ص197 والتاريـخ = = الكبير ج6 ص205 وضعفاء
العقيلي ج3 ص196 والموضوعات لابن الجوزي ج2 ص10 والبداية
والنهاية ج6 ص237 وإمتاع الأسماع ج13 ص231.
([7])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص3.
([8])
الآية 282 من سورة البقرة.
([9])
راجع: عائشة والسياسة ص146 و 147.
([10])
الآيتان 3 و 4 من سورة التحريم.
([11])
الآية 30 من سورة الأحزاب.
([12])
الفتوح لابن أعثم ج2 ص288 وتاريخ اليعقوبي ج2 ص181 والإمامة
والسياسة ج1 ص82 وراجع أنساب الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج2
ص224 وتذكرة الخواص ص66 والمحاسن والمساوي ج1 ص76 و 77 وحديث
الحوأب موجود في المصادر التالية: المصنف لعبد الرزاق ج11 ص365
ومستدرك الحاكم ج3 ص120 و 130 والإصابة ج8 ق1 ص111 وكنز العمال
(ط الهند) ج6 ص83 والاستيعاب ج2 ص745 وتاريخ بغداد ج9 ص185
والطبقات الكبرى لابن سعد (ط ليدن) ج8 ص56 وراجع أيضاً: الفائق
ج1 ص190 وسير أعلام النبلاء ج2 ص60 و 82 والسيرة الحلبية ج3
ص320 و 321 والفخري ص77 ومنتخب كنز العمال (بهامش مسند أحمد)
ج5 ص444 و 445 والجمل ص234 والمصنف لابن أبي شيبة ج7 ص536
ومسند أحمد ج6 ص52 و 97 والإيضاح ص75 ـ 76 والإمامة والسياسة
ج1 ص63 وأنساب الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج2 ص224 وتاريخ
اليعقوبي ج2 ص181 وتاريخ الأمم والملوك = =
ج4 ص469 والعقد الفريد ج4 ص332 والمحاسن والمساوي ج1 ص76
ومعاني الأخبار ص305 والمسألة الكافية كما في بحار الأنوار ج32
ص279 وأعلام النبوة ص155 وأنساب السمعاني ج2 ص286 ومناقب آل
أبي طالب ج3 ص149 والسرائر ج3 ص627 وكفاية الطالب ص171 ونهاية
الأرب ج20 ص32 والبداية والنهاية ج7 ص230 و 231 ومجمع الزوائد
ج7 ص234 والمطالب العالية ج4 ص297 والصواعق المحرقة ص119 وسمط
النجوم ج2 ص434 ونور الأبصار ص184 والنهاية ج1 ص456 ومعجم
البلدان ج2 ص314 والكامل في التاريخ ج3 ص210 وشرح نهج البلاغة
للمعتزلي ج6 ص217.
([13])
تاريخ الأمم والملوك ج3 ص263 و 264 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج2
ص492 والكامل في التاريخ ج2 ص350 ومعجم البلدان ج2 ص360 و 361
والإصابة ج4 ص 425 وراجع: الأعلام للزركلي ج3 ص115.
([14])
راجع كتب التراجم والرجال. وكتاب عبد الله بن سبأ للعلامة
العسكري = =«رحمه الله» ج1 ص76 ـ 78.
([15])
عبد الله بن سبأ ج1 ص214.
([16])
البداية والنهاية ج6 ص212 و (ط دار إحياء التراث العربي) ج6
ص236 وراجع: فتح الباري ج13 ص45 وشرح إحقاق الحق (الملحقات)
ج32 ص409.
([17])
الإستيعاب (مطبوع مع الإصابة) ج4 ص360 و (ط دار الجيل) ج4
ص1885 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص191 وراجع: مسند ابن
راهويه ج2 ص32.
([18])
راجع: صحيح البخاري (ط سنة 1309 هـ) ج3 ص170 و (ط دار الفكر)
ج6 ص157 ومسند أحمد ج3 ص105 و 263 وسنن الدارمي ج2 ص264 وسنن
ابن ماجة ج2 ص782 وسنن أبي داود ج2 ص157 وسنن النسائي ج7 ص70
والسنن الكبرى للبيهقي ج6 ص96 وفتح الباري ج5 ص90 والمصنف لابن
أبي شيبة ج8 ص400 والسنن الكبرى للنسائي ج5 ص285 ومسند أبي
يعلى ج6 ص85 و 86 و 411 و 455 والمعجم الأوسط للطبراني ج4 ص275
والمعجم الصغير للطبراني ج1 ص205 و 206 وسنن الدارقطني ج4 ص87
والاستذكار لابن عبد البر ج7 ص148 و 318 والتمهيد لابن عبد
البر ج14 ص287 والعهود المحمدية للشعراني ص542 وكنز العمال ج7
ص210 وسبل الهدى والرشاد ج9 ص69.
([19])
راجع: صحيح البخاري (ط سنة 1309 هـ) ج3 ص133 و (ط دار الفكر)
ج3 ص103 و 104 وج6 ص70 و 71 و 147 وج7 ص46 وصحيح مسلم (ط دار
الفكر) ج4 ص192 وسنن الترمذي ج5 ص93 والسنن الكبرى للبيهقي ج7
ص37 والسنن الكبرى للنسائي ج5 ص366 وصحيح ابن حبان ج9 ص492
وج10 ص85 ومسند الشاميين ج4 ص262 وكنز العمال ج2 ص525 وتخريج
الأحاديث والآثار ج4 ص65 والطرائف لابن طاوس ص286 وعين العبرة
في غبن العترة ص37 ومسند أحمد ج1 ص33 وعمدة القاري ج13 ص16
وج19 ص252.
([20])
صحيح البخاري (ط سنة 1309 هـ) ج3 ص129 و (ط دار الفكر) ج4 ص226
والسنن الكبرى للبيهقي ج4 ص185 وعمدة القاري ج16 ص264 والأدب
المفرد للبخاري ص160 وإكرام الضيف للحربي ص44 وتفسير البغوي ج4
ص319.
|