علي
وتثبيط أبي موسى:
قالوا:
ومن كتاب له [«عليه السلام»] إلى أبي موسى الأشعري وهو
عامله على الكوفة، وقد بلغه تثبيطه الناس عن الخروج إليه، لما ندبهم
لحرب أصحاب الجمل:
من عبد الله علي أمير المؤمنين إلى عبد الله بن قيس..
أما بعد،
فقد بلغني عنك قول هو لك وعليك، فإذا قدم رسولي فارفع
ذيلك، واشدد مئزرك، واخرج من حجرك، واندب من معك.
فإن حققت فانفذ، وإن تفشلت فأبعد.
وأيم الله لتؤتينَّ حيث أنت، ولا تترك حتى تخلط زبدك
بخاثرك، وذائبك بجامدك. وحتى تعجل عن قعدتك، وتحذر من أمامك كحذرك من
خلفك.
وما هي بالهوينا التي ترجو، ولكنها الداهية الكبرى،
يركب جملها، ويذل صعبها، ويسهل جبلها.
فاعقل عقلك، وأملك أمرك، وخذ نصيبك وحظك، فإن كرهت فتنح
إلى غير رحب، ولا في نجاة.
فبالحري لتكفين وأنت نائم، حتى لا
يقال:
أين فلان، والله إنه لحق مع محق، وما يبالي ما صنع الملحدون، والسلام([1]).
ونقول:
إن لنا مع هذه الرسالة وقفات، هي التالية:
بالنسبة لقوله «عليه السلام»:
بلغني عنك قول هو لك وعليك، قال ابن أبي الحديد: فإن
أبا موسى كان يقول لأهل الكوفة: إن علياً إمام الهدى وبيعته صحيحة، إلا
أنه لا يجوز القتال معه لأهل القبلة، انتهى.
قال العلامة المجلسي «رحمه الله»:
وأقول:
كون هذا الكلام له وعليه لاشتماله على الحق والحق
ينفعه، والباطل يضره.
أو ظاهر الكلام له تستحسنه العوام، وباطنه حجة عليه، إذ
بعد الإقرار بصحة البيعة لا مجال للأمر بالمخالفة.
أو ظن أن هذا الكلام ينفعه وفي الواقع يضره.
أو ينفعه في الدنيا، ويضره في العقبى.
والأمر برفع الذيل وشد المئزر كنايتان عن الاهتمام في
الأمر.
والخروج من الجحر، استهانة به حيث جعله ثعلباً أو
ضبعاً. والجحر بالضم كل شيء تحفره السباع والهوام لأنفسها.
قوله «عليه السلام»:
«فإن حققت» أي أمرك مبني على الشك، فإن حققت لزوم
طاعتي، أي فسر حتى تقدم علي، وإن أقمت على الشك، فاعتزل العمل.
أو إن أنكرت الطاعة فأظهر إنكارك واعمل بمقتضاه.
و «الخاثر»:
اللبن الغليظ.
و «الزبد»:
خلاصة اللبن وصفوته.
يقال للرجل إذا ضرب حتى أثخن:
«ضرب حتى خلط زبده بخاثره، وذائبه بجامده» كأنه خلط
مارق ولطف من أخلاطه بما كثف وغلظ منها.
وهذا مثل ومعناه:
ليفسدن حالك، وليضطربن ما هو الآن منتظم من أمرك.
والقعدة
ـ بالكسر ـ هيئة القعود كالحلبة والركبة.
قوله:
«وتحذر من أمامك» قيل: كناية عن غاية الخوف.
وإنما جعل «عليه السلام» الحذر من خلف أصلاً في التشبيه
لكون الإنسان من وراءه أشد خوفاً.
وقيل:
حتى تخاف من الدنيا كما تخاف من الآخرة.
ويحتمل أن يكون المعنى حتى تحذر من هذا الأمر الذي
أقبلت إليه وأقدمت عليه ـ وهو تثبيط الناس عن الجهاد ـ كما تحذر مما
خلفته وراء ظهرك ولم تقدم عليه وهو الجهاد.
وقال [ابن الأثير] في النهاية:
الهون: الرفق واللين والتثبت.
«والهوينا» تصغير الهونى، تأنيث الأهون.
وقوله:
«فاعقل عقلك» يحتمل المصدر. وقيل: هو مفعول به.
«وخذ نصيبك وحظك»: أي من طاعة الإمام وثواب الله. وقيل:
أي لا تتجاوز إلى ما ليس لك.
«فإن كرهت فتنح» أي عن العمل، فإني قد عزلتك..
«إلى غير رحب»: أي سعة بل يضيق عليك الأمر بعده.
وقال في النهاية:
بالحري أن يكون كذا: أي جدير.
وقال ابن أبي الحديد:
أي جدير أن تكفى هذه المؤونة التي دعيت إليها.
«وأنت نائم»: أي لست معدوداً عندنا وعند الناس من
الرجال الذين يفتقر الحرب والتدبيرات إليهم، فسيغني الله عنك، ولا
يقال: أين فلان.
وقال ابن أبي الحديد:
أي يأتيكم أهل البصرة مع طلحة ونأتيكم بأهل المدينة
والحجاز، فيجتمع عليكم سيفان من أمامكم ومن خلفكم.
وقال في قوله «عليه السلام»:
«وما بالهوينا»: أي ليست هذه الداهية بالشيء الهين الذي
ترجو اندفاعه بسهولة، فإن قصد الجيوش الكوفة من كلا الجانبين أمر صعب
المرام، فإنه ليركبن أهل الحجاز وأهل البصرة هذا الأمر المستصعب، لأنا
نحن نطلب أن نملك الكوفة، وأهل البصرة كذلك، فيجتمع عليها الفريقان([2]).
لا ريب في أن أبا موسى الأشعري كان من ألد أعداء علي
«عليه السلام» وآل بيت النبي «صلى الله عليه وآله»، ومن أشد الموالين
لعمر بن الخطاب، وفي قصة التحكيم بعد صفين خلع علياً «عليه السلام»
وقال: إن الخلافة تكون للطيب ابن الطيب، يعني عبد الله بن عمر([3]).
وقد قرر الإمام الحسن «عليه
السلام»:
أنه حكم بالهوى، ولم يحكم بالقرآن([4]).
فهذا الرجل يتجرأ على الله، ويخلع الخليفة المنصوب من
قبل الله ورسوله، والذي له في عنقه بيعة (هي بيعة الغدير)، وقد بايعه
المهاجرون والأنصار طائعين مختارين.. بعد بيعتهم له يوم غدير خم.
ثم هو يريد أن يجعل الخلافة في من لم يحسن طلاق امرأته،
ولم يره أبوه عمر بن الخطاب أهلاً لها، لا من قريب ولا من بعيد..
مؤثراً بعمله هذا الهوى، نابذاً لحكم القرآن.
فمن هذا حاله هل يمكن أن يعد في غير عداد أعداء علي
«عليه السلام»؟! ولا سيما بعد أن فعل ما فعل في الكوفة، حيث امتنع من
البيعة لعلي «عليه السلام»، وثبط الناس عن الخروج معه لقتال البغاة
عليه..
ويكفي أن نذكر القارئ برواية عن الإمام الرضا «عليه
السلام» حول وجوب البراءة من ظالمي آل محمد، ولعنه جمعاً منهم، وأبو
موسى أحدهم([5]).
وروى المعتزلي عن علي «عليه
السلام»:
أنه كان يلعن جمعاً هو أحدهم في صلاتي الفجر والمغرب([6]).
وفي بعض الروايات:
حشر الناس على خمس رايات، والثالثة مع جاثليق هذه
الأمة، أبي موسى([7]).
وفي رواية:
شر الأولين والآخرين اثنا عشر: ستة من الأولين وستة من
الآخرين، ثم سمى الستة من الأولين.. وأما الستة من الآخرين، فالعجل وهو
نعثل، وفرعون وهو معاوية، وهامان هذه الأمة زياد، وقارونها وهو سعيد،
والسامري وهو أبو موسى عبد الله بن قيس([8]).
وقد قال حذيفة عنه:
أما أنا فأشهد أنه عدو لله ولرسوله، وحرب لهما في
الحياة الدنيا ويوم يقوم الأشهاد، يوم لا ينفع الظالمين معذرتهم، ولهم
سوء الدار.
وكان حذيفة عارفاً بالمنافقين أسر إليه النبي «صلى الله
عليه وآله» بهم، وأعلمه أسماءهم([9]).
وكان ليلة العقبة في جملة من نفر برسول الله «صلى الله
عليه وآله» ناقته([10])..
وثمة نصوص كثيرة أخرى لا حاجة إلى تتبعها..
إن كتبه «عليه السلام» إلى أبي موسى تدل على شدة
مداراته لأبي موسى وسعيه إلى أن لا يعطي إشارة يمكن أن يتخذها ذريعة،
أو يمكن أن تسهل عليه اتخاذ قرار الفراق والمنابذة. بل هو يبقي أمام
أبي موسى النوافذ والأبواب مفتوحة للعودة إلى دائرة الاستقامة، والتزام
الحق..
مع أن أبا موسى قد أمعن في الإساءة له، وكاد أن يقلب
الأمور رأساً على عقب، لولا أنه «عليه السلام» قد تداركها ببصيرته
وحنكته، وتدبيره الصحيح..
والشدة التي كان «عليه السلام» يظهرها على أبي موسى،
كانت مطلوبة، لأن أبا موسى كان يستحقها، ولأنه «عليه السلام» يريد أن
يمارس حقه في ردع المعتدي، حتى لا يستهين به أعداؤه، ولا يظنون به
الضعف، فيطمعهم ذلك بالعمل على إشغاله بمشكلاته الداخلية إلى الحد الذي
يؤدي إلى زعزعة الثوابت، وإضعاف هيمنته على ما تحت يده..
ولأجل ذلك بادر إلى حسم الأمر معه حين ظهر للناس كلهم
شدة عداوة أبي موسى له، وعدم جدوى محاولات ردعه عن إظهار هذه العداوة،
وممارسة مقتضياتها في الواقع العملي بنحو مؤذٍ وخطير..
على أن هذا الصبر على الأذى قد أعطى الصورة الحقيقية
التي يحاول مناوئوا علي «عليه السلام» طمسها عن حقيقة أبي موسى، وحقيقة
البلاء الذي واجهه أمير المؤمنين «عليه السلام» فيه وفي أهل العراق
عموماً، حين فرضوا عليه أن يكون أبو موسى هو ممثله في الحكومة
(المكيدة) التي فرضها عليه جهال الأمة في حرب صفين وبعدها..
وكان أهل العراق مبهورين بعمر بن الخطاب، وقد دفعهم
وفاؤهم له إلى التعلق بأبي موسى، والرغبة إلى علي «عليه السلام» بعدم
عزله عن الكوفة،
فكان لا بد لهم أن يكتشفوا حقيقة أبي موسى، لكي يدركوا مدى الظلم الذي
تعرض له أمير المؤمنين بسببه. وليعرف كل الناس والأجيال التي ستأتي
محنته مع أهل الشام بقيادة معاوية وابن العاص..
لعل أبا موسى كان يظن أنه كبير، وخطير، لأن عمر بن
الخطاب استعان به، وجعله على الكوفة. وكان لعمر بن الخطاب مكانة في
العرب، الذين ميزهم وقدمهم على غيرهم من العجم، وأفسح لهم المجال
لممارسة سياسات ظالمة ضد كل من ليس بعربي، مهما كان فضله، وعلمه،
ومقامه..
ولعله ظن أن مقامه هذا يمنع علياً «عليه السلام» من
معاملته بالعدل، ويجعله يغض الطرف عن سيئاته وإساءاته.. ويفسح له
المجال ليتصرف كيف يشاء، ولا يستطيع عزله، مراعاة لمشاعر الناس على
الأقل، فكان لا بد من إعادة الأمور إلى نصابها، بأن يريه حجمه الطبيعي،
ويظهر له حقيقة ذاته، ويعرِّفه أنه «عليه السلام» لم يبقه على الكوفة
خوفاً من أحد، ولا كرمى لعين أحد من الناس، ولا التزاماً بما قرره عمر
فيه، بل أبقاه لأن بقاءه قد يفيد في إشاعة السكون، والطمأنينة، مع
ملاحظة: أنه لن يكون قادراً على أي تصرف يسيء به إلى الناس، فعلي «عليه
السلام» فوق رأسه لا يهمله، ولا يمهله لو فعل ذلك..
علي
لا يستبعد أحداً:
وقد فهم الخاص والعام:
أن علياً «عليه السلام» حين بايعه الناس بعد طول إصرار،
لم يتعامل معهم من خلال مواقفهم السابقة منه، ولا انطلاقاً من منطق
القرابة والعشيرة، أو المحبة والميل والولاء لمن اعتدوا عليه.
بل بدا «عليه السلام» وكأنه نسي ما جرى له، وما فعلوه
معه، ـ وهو لم ينسه ـ ولكنه جعل مصلحة الدين والمسلمين نصب عينيه، فإذا
فرضت هذه المصلحة تعريفهم بالحق، بادر إلى ذلك، مهما كان ذلك مراً
وجارحاً.
وإذا اقتضت المصلحة خدمة الناس، وحفظ شؤونهم، ودفع
عدوهم، والاستفادة في ذلك من كل الطاقات الكامنة فيهم بادر إلى ذلك
بنفس راضية، وعقل منفتح، ومودة ظاهرة..
ويدلنا على ذلك:
أنه قد ولى محمد بن أبي بكر مصر، ولم يمنعه من ذلك كون
أبي بكر أباه، وولى أبا موسى الأشعري الكوفة، ولم يمنعه من ذلك عداوته
له.
وهذه بالذات كانت سياسة رسول الله «صلى الله عليه
وآله»، معهم ومع آبائهم، فقد حاربهم على الشرك، ثم صبر على مؤامرات
المنافقين منهم، وسعى إلى الاستفادة منهم في خدمة الدين وأهله، حين كان
يمكن ذلك.
وقد استفاد من خالد بن الوليد رغم ما فعله ببني جذيمة،
ومن عمر وبن العاص، وحتى من أبي سفيان حين استعمله لجباية بعض الصدقات.
وغير ذلك من الموارد التي تجلت فيها السياسة الحكيمة له
«صلى الله عليه وآله» معهم.
1 ـ
ولا شك في أن أبا موسى لم يكن من أهل النباهة والذكاء،
ولأجل ذلك خدعه عمر وبن العاص في قضية التحكيم، حيث عرف عمرو أن هوى
أبي موسى كان في ابن عمر، فاتفق معه على خلع علي «عليه السلام»
ومعاوية.. ثم قدمه ليكون هو البادئ بخلع علي «عليه السلام» قبله.. فلما
فعل ذلك أثبت عمر وبن العاص معاوية، ووافقه على خلع علي «عليه السلام».
وقد قال أيمن بن خريم مخاطباً أهل الشام، ومشيراً إلى
حمق أبي موسى:
لكن رموكم بشيخ من ذوي يمن
لم يدر ما ضرب أخماس لأسداس([11])
وقال أبو موسى لعمرو بن العاص لما خدعه عمرو: «إنما
مثلك
﴿كَمَثَلِ
الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ﴾([12])».
فقال له عمرو:
«إنما مثلك
﴿كَمَثَلِ
الْحِمَارِ يَحْمِلُ أَسْفَاراً﴾([13])»([14]).
ويكفي قول الأحنف بن قيس لأمير
المؤمنين «عليه السلام»:
«وإن
عبد الله بن قيس
رجل قد حلبت أشطره فوجدته قريب القعر كليل المدية، وهو
رجل يمان وقومه مع معاوية»([15]).
واللافت هنا:
أن أمير المؤمنين «عليه السلام» قد وصفه في رسالة له،
بعد أن ظهر منه ما ظهر بـ «ابن الحائك»([16]).
ووصفه عقيل لمعاوية، وهو جالس عن يمين معاوية بـ «ابن
السراقة»([17]).
فمن كان أبوه حائكاً، وأمه سراقة، أي كثيرة السرقة، كيف
ترجى له المعرفة، والعلم، والنبل، والنزاهة وسائر الصفات الحميدة؟..
قال المعتزلي:
«أهل اليمن يعيرون بالحياكة»([18]).
وقال:
من كلام خالد بن صفوان: «ما أقوله في قوم: إما حائك
برد، أو دابغ جلد، أو سائس قرد، ملكتهم امرأة، وأغرقتهم فأرة، ودل
عليهم هدهد»([19]).
قال الشهيد الثاني «رحمه الله»:
«روى الفقيه جعفر بن أحمد القمي، في كتاب «الإمام
المأموم» بإسناده إلى الصادق «عليه السلام» عن أبيه، عن آبائه «عليهم
السلام»، قال:
قال رسول الله «صلى الله عليه
وآله»:
لا تصلوا خلف الحائك، ولو كان عالماً، ولا تصلوا خلف
الحجام ولو كان زاهداً، ولا تصلوا خلف الدباغ ولو كان عابداً»([20]).
وقال ابن ميثم «رحمه الله»:
«الحياكة مظنة نقصان العقل، وذلك لأن ذهن الحائك عامة
وقته متوجه إلى جهة صنعته، مصبوب الفكر إلى أوضاع الخيوط المتفرقة،
وترتيبها ونظامها، يحتاج إلى حركة رجليه، ويديه.
وبالجملة، فالشاهد له يعلم من حاله: أنه مشغول الفكر
عما وراء ما هو فيه، فهو أبله عما عداه.
وقيل:
لأن معاملة الحائك، ومخالطته لضعفاء العقول من النساء والصبيان. ومن
كانت معاملته لهؤلاء، فلا شك في ضعف رأيه، وقلة عقله للأمور..
روي عن الصادق جعفر بن محمد «عليه
السلام» أنه قال:
عقل أربعين معلماً عقل حائك، وعقل حائك عقل امرأة،
والامرأة لا عقل لها([21]).
وعن موسى بن جعفر «عليه السلام» أنه
قال:
لا تستشيروا المعلمين، ولا الحوكة، فإن الله تعالى قد
سلبهم عقولهم.
وذلك محمول على المبالغة في نقصان عقولهم.
وقيل:
إنما عيَّره بهذه الصنعة، لأنها صنعة دنية، تستلزم صغر
الهمة، وخستها، وتشتمل على رذائل الأخلاق.
فإنها مظنة الكذب والخيانة. روي أن رسول الله «صلى الله
عليه وآله» دفع إلى حائك من بني النجار غزلاً لينسج له صوفاً.
فكان يماطله، ويأتيه رسول الله «صلى الله عليه وآله»
متقاضياً، ويقف على بابه، فيقول: ردوا علينا ثوبنا لنتجمل به في الناس.
ولم يزل يماطله حتى توفي «صلى الله عليه وآله»..»([22]).
وقد يدخل في وهم البعض:
أن الحديث عن النساء بهذه الطريقة، وجعلها في مصاف
الصبيان يمثل انتقاصاً من مكانة المرأة ومن شخصيتها يصل إلى حد
الإهانة.. مع أننا (والكلام لهذا البعض) لا نشهد في الواقع العملي كبير
فرق بين الرجل والمرأة، من الناحية العقلية، وفي سائر الخصائص
والملكات.
كما أن السيدة الزهراء، وزينب، ومريم بنت عمران، وآسية
بنت مزاحم.. وكذلك النساء الأخريات حتى غير المؤمنات منهن، قد أثبتن
خلاف هذه المقولة، بل إن بعضهن حكمن البلاد بقوة، وحزم لا يقل عما يقوم
به الرجال في هذا المجال.
كما أن نشاط المرأة وفعاليتها في المجالات العلمية،
والاجتماعية، والإدارية وحتى في التجارة والمال وغير ذلك، لا يكاد
يختلف عن نشاط الرجل، وفعاليته..
ونجيب:
بأن الإسلام ليس بصدد الانتقاص من المرأة في عقلها
وتدبيرها، ولا في صلاحها، وحسن تقديرها للأمور، بل يريد أن يصف الأمور
كما هي، ويضع كل شيء في موضعه، ويحدد حجمه ويقول: إن ثمة ظاهرة شائعة
وهي أن الناس يتأثرون كثيراً بمحيطهم، حتى قيل: قل لي من تعاشر أقل لك
من أنت. وقال الشاعر:
عن المـرء لا تسـأل وسل عن قرينه فكـل
قـريـن بالمـقـارن يـقـتـدي
ويلاحظ:
أن أكثر النساء إذا خلين وأنفسهن ينصرف تفكيرهن إلى شؤون نسائية، محضة،
ويتداولن جزئيات منها، ومن المحيط الذي يعشن فيه.. يبتعدن كثيراً عما
يهتم به الرجال. فيتحدثن عن مظاهرهن وملابسهن وجمالهن وغير ذلك من أمور
الزينة و.. و.. ويستغرقن في الحديث عن حركات أطفالهن، ويستحضرن جميع ما
له مساس بإطعامهم، وأكلهم وشربهم، ونومهم، وكذلك الحال فيما يرتبط
بشؤون البيت، وحركتهن وأعمالهن فيه. هذا فضلاً عن استحضارهن كل ما
لديهن من شؤون وحالات النساء الأخريات.. وكل قول سمعنه، أو فعل رأينه،
أو موقف اتخذنه.. وغير ذلك،
وهي حالة تشبه إلى حد كبير حالة الحائك على النحو الذي
تقدم بيانه..
فللمرأة عقلها الذي يخولها أن تكون كالرجل مكلفة بأحكام
لا تختلف في أكثر الأحوال عن تكليفه. ولكن الكثيرات منهن يكتفين بهذا
المقدار ولا يتجاوزنه، وينصرفن إلى الأعمال المناسبة لهن من حيث
التكوين، وبحسب الاستعدادات الجسدية التي أودعها الله تعالى فيهن.
وإن حدث واختارت إحداهن، ما هو خارج عن هذا السبيل،
فسرعان ما يضقن به ذرعاً، ويظهر نفورهن منه، ويتمنين الخلاص منه.
ولكن ذلك يكون عادة بعد فوات الأوان، حيث لا بد لهن من
التسليم والاستسلام.
يضاف إلى ما تقدم:
أن إنكار تأثير بعض الأعمال على الروح، كتأثير بعضها الآخر على الجسد
مما لا مجال لإنكاره، وقد نهى الشارع عن اتخاذ بعض الحرف أو الصناعات،
مثل بيع الأكفان، أو الحياكة، أو القصابة، أو الصيرفة، وبيع الطعام،
والنخاسة، والصائغة، والحجامة([23]).
وقد علل النهي بأن لهذه الأعمال وأمثالها آثاراً سلبية
على روح الإنسان أو فكره، أو أخلاقه، وحالاته.
1 ـ
في معتبرة إسحاق بن عمار، عن أبي عبد الله «عليه
السلام»:
أن رجلين اختصما إلى أمير المؤمنين «عليه السلام» في
دابة في أيديهما، وأقام كل واحد منهما البينة أنها نتجت عنده، فأحلفهما
علي «عليه السلام»، فحلف أحدهما وأبى الآخر أن يحلف، فقضى بها للحالف.
فقيل له:
فلو لم تكن في يد واحد منهما، وأقاما البينة؟!
فقال:
أحلفهما، فأيهما حلف ونكل الآخر جعلتها للحالف. فإن
حلفا جميعاً جعلتها بينهما نصفين.
قيل:
فإن كانت في يد أحدهما، وأقاما جميعاً البينة؟!
قال:
أقضي بها للحالف الذي هي في يده([24]).
2 ـ
في معتبرة غياث بن إبراهيم، عن أبي عبد الله «عليه
السلام»: أن أمير المؤمنين «عليه السلام»: اختصم إليه رجلان في دابة،
وكلاهما أقاما البينة أنه أنتجها، فقضى للذي في يده، وقال: لو لم تكن
في يده جعلتها بينهما نصفين([25]).
3 ـ
في صحيحة أبي بصير، عن الإمام الصادق «عليه السلام»: أن
علياً «عليه السلام» أتاه قوم يختصمون في بغلة، فقامت البينة لهؤلاء
أنهم أنتجوها على مذودهم، ولم يبيعوا، ولم يهبوا، وقامت البينة لهؤلاء
بمثل ذلك، فقضى «عليه السلام» بها لأكثرهم بينة، واستحلفهم([26]).
4 ـ
في معتبرة عبد الرحمن بن أبي عبد الله، عن الإمام
الصادق «عليه السلام»، قال:
«كان علي «عليه السلام» إذا أتاه رجلان يختصمان بشهود
عدلهم سواء، وعددهم أقرع بينهم على أيهما تصير اليمين..
إلى أن قال:
ثم يجعل الحق للذي يصير عليه اليمين إذا حلف»([27]).
ونقول:
1 ـ
إن الرواية الأولى والثانية متفقتان على أن الدابة إذا
كانت في يد أحدهما، وكان ذو اليد منكراً لما ادعاه الآخر، حكم بالدابة
لذي اليد غير أن رواية غياث لم تذكر أنه «عليه السلام» أحلفه أو لم
يحلفه..
فيحتمل أن يكون قد أحلفهما، ويحتمل أن يكون قد فعل ذلك
فحلف صاحب اليد، وامتنع الآخر ويحتمل العكس، ويحتمل أن يكونا قد امتنعا
معاً، فإذا ضممناها إلى الرواية التي صرحت بأن الحكم هو حلف صاحب اليد،
وقيدناها بها لم يبق إشكال في البين.
2 ـ
مورد صحيحة أبي بصير يختلف عن مورد رواية إسحاق بن عمار
وغياث بن إبراهيم. فإن الصحيحة تتحدث عن صورة ما لو لم يكن ذو اليد
منكراً، بل هو ادعى الجهل بالحال، وإن المال انتقل إليه من غيره بارث
ونحوه.
فيحكم بتوجه الحلف على من كانت بينته أكثر عدداً، فإذا
حلف حكم بأن المال له.
3 ـ
أما معتبرة عبد الرحمن بن أبي عبد الله فموردها نفس
مورد رواية أبي بصير ولكنها ذكرت صورة ما لو تساوت البينتان في العدد،
وحكمت بلزوم القرعة، فمن أصابته القرعة حلف وأخذ المال.
4 ـ
إن معتبرة إسحاق بن عمار المتقدمة تدل على أنهما لو
حلفا معاً، أو امتنعا عن الحلف معاً كانت الدابة بينهما نصفين، وهذا هو
مقتضى القاعدة، لأن قاعدة اليد تقتضي الاشتراك، إلا إذا ثبت الاختصاص
بحجة شرعية.
5 ـ
إن معتبرة إسحاق بن عمار أخص من صحيحة أبي بصير، لأنها
تختص بدعوى المال. أما الصحيحة فهي أعم من دعوى المال وغيره فيخصص عموم
الصحيحة بخصوص المعتبرة..
وهناك تفصيلات وأحكام أخرى تستفاد من هذه الروايات يمكن
مراجعتها في كتب الفقه الاستدلالي..
([1])
نهج البلاغة (بشرح عبده) ج3 ص121 و 122 وبحار الأنوار ج32 ص65
عنه، وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج17 ص246.
([2])
بحار الأنوار ج32 ص65 و 66.
([3])
الأخبار الطوال للدينوري ص200 وصفين للمنقري ص542 وشرح نهج
البلاغة للمعتزلي ج2 ص253 وأعيان الشيعة ج1 ص516.
([4])
الإمامة والسياسة ج1 ص138 و (تحقيق الزيني) ج1 ص119 و (تحقيق
الشيري) ج1 ص158.
([5])
عيون أخبار الرضا (ط مؤسسة الأعلمي) ج1 ص133 والفصول المهمة
للحر العاملي ج1 ص446 وبحار الأنوار ج10 ص358 وج65 ص263 ومسند
الإمام الرضا للعطاردي ج2 ص502 وموسوعة أحاديث أهل البيت
للنجفي ج1 ص264 والتفسير الصافي ج3 ص268 وتفسير نور الثقلين ج3
ص311.
([6])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص260 وج13 ص315 والإيضاح لابن
شاذان ص63 و 234 والغارات للثقفي ج2 ص641 ومناقب الإمام أمير
المؤمنين للكوفي ج2 ص319 وشرح الأخبار ج2 ص535 وبحار الأنوار
ج33 ص303 ومستدرك سفينة البحار ج9 ص266 والإمام علي بن أبي
طالب للهمداني ص794 وصفين للمنقري ص552 وينابيع المودة ج2 ص26.
([7])
الخصال ج2 ص575 أبواب السبعين فما فوقها، ومصباح البلاغة
(مستدرك نهج البلاغة) ج3 ص172 وبحار الأنوار ج31 ص438 ومستدرك
سفينة البحار ج2 ص36 وتفسير نور الثقلين ج5 ص241.
([8])
الخصال ج2 ص458 و 459 وبحار الأنوار ج37 ص342 وتفسير نور
الثقلين ج3 ص391 و 392 وج5 ص684 و 685 وغاية المرام ج2 ص347.
([9])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج13 ص314 و 315 والدرجات الرفيعة
ص286 وقاموس الرجال ج6 ص108 وراجع: المعجم الكبير للطبراني ج3 ص165 والتفسير
الكبير للرازي ج16 ص120 و 121 وسبل الهدى والرشاد ج10 ص262
وتهذيب الكمال ج5 ص502 وراجع: تاريخ اليعقوبي ج2 ص68 =
=والبداية والنهاية ج5 ص25 والسيرة النبوية لاين كثير ج4 ص35
وراجع: الهداية الكبرى للخصيبي ص82 والمسترشد للطبري ص593
والخرائج والجرائح ج1 ص100والعمدة لابن البطريق ص341 والصوارم
المهرقة ص7 و 8 وكتاب الأربعين للشيرازي ص135 والبحار ج21 ص233
و 234 و 247 والسنن الكبرى للبيهقي ج8 ص200 ومجمع الزوائد ج1
ص109والمعجم الكبير للطبراني ج3 ص164 و 165 وكنز العمال ج1
ص369 والدر المنثور ج3 ص259 وسماء المقال للكلباسي ج1 ص16
وإمتاع الأسماع ج2 ص75 وج9 ص328 وإعلام الورى ج1 ص246.
([10])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج13 ص315 والأمالي للشيخ الطوسي ص182
والدرجات الرفيعة ص263 وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب «عليه
السلام» في الكتاب والسنة والتاريخ ج12 ص44 وقاموس الرجال ج11
ص527 والمسترشد للطبري ص597 وبحار الأنوار ج33 ص305 و 306 وج82
ص267 وج28 ص100.
([11])
شرح
نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص231 ومناقب آل أبي طالب لابن شهرآشوب
ج2 ص365 وبحار الأنوار ج33 ص314 ونهج السعادة ج2 ص265
والمستدرك للحاكم ج3 ص544 والدرجات الرفيعة ص115 ومستدركات علم
رجال الحديث ج3 ص327 والأخبار الطوال للدينوري ص193 و صفين
للمنقري ص502 وجواهر المطالب لابن الدمشقي ج2 ص58.
([12])
الآية 176 من سورة الأعراف.
([13])
الآية 5 من سورة الجمعة.
([14])
تاريخ الأمم والملوك ج5 ص71 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج4 ص52 وبحار
الأنوار ج33 ص301 و 302 وشرح نهج البلاغة ج2 ص255 وتاريخ
الإسلام للذهبي ج3 ص549 والفصول المهمة لابن الصباغ ج1 ص516
والكنى والألقاب ج1 ص162.
([15])
صفين
للمنقري ص501 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص230 وراجع:
الأمالي للمرتضى ج1 ص212 وبحار الأنوار ج32 ص541 والفايق في
غريب الحديث ج2 ص202 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص230 وأنساب
الأشراف للبلاذري ص330 وتاريخ الأمم والملوك ج4 ص37 والكامل في
التاريخ ج3 ص319.
([16])
نهج السعادة ج4 ص47 ومروج الذهب ج2 ص359 و (ط سنة 1377 هـ) ج2
ص368 والكنى والألقاب ج1 ص162 والجمل للمفيد ص131 والجمل =
= لابن شدقم ص113 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج14 ص10 وعن أنساب
الأشراف ص350 و 351 وتذكرة الخواص (ط النجف) ص75 عن مروج
الذهب، وفيه قوله: فإن لم تفعل فقد أمرت من يقطعك إرباً إرباً.
([17])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص125 وبحار الأنوار ج42 ص113
والدرجات الرفيعة ص160 وقاموس الرجال للتستري ج11 ص527 وعقيل
بن أبي طالب للأحمدي الميانجي ص66 و 87.
([18])
شرح نهج البلاغة ج1 ص297 ومنهاج البراعة ج3 ص285.
([19])
شرح نهج البلاغة ج1 ص297 ومنهاج البراعة ج3 ص285.
([20])
بحار الأنوار ج100 ص179 وج85 ص119 عن شرح النفلية، ومستدرك
الوسائل ج6 ص464 وج13 ص98 ومستدرك سفينة البحار ج2 ص474 وجامع
أحاديث الشيعة ج6 ص440 وج17 ص377.
([21])
بحار الأنوار ج100 ص78 ومستدرك الوسائل ج13 ص97 وجامع أحاديث
الشيعة ج17 ص377.
([22])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص323 و 324 ومنهاج البراعة ج3
ص285 و 286 ومستدرك الوسائل ج13 ص98 وبحار الأنوار ج100 ص78
وجامع أحاديث الشيعة ج17 ص377.
([23])
راجع: بحار الأنوار ج100 ص77 و 78 باب الصنايع المكروهة، وعلل
الشرايع ج2 ص530 و 531 باب علل الصناعات المكرهة، ووسائل
الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج17 ص135 و (ط دار الإسلامية) ج12
ص97 ـ 99 باب كراهة الصرف، وبيع الأكفان، والطعام، والرقيق،
والصياغة، وكثـرة = = الذبح، والإستبصار ج3 ص62 ـ 64 باب ما
كره من أنواع المعائش والأعمال، وتهذيب الأحكام ج6 ص362
والخصال ج1 ص201 ومعاني الأخبار ص150.
([24])
الكافي ج7 ص419 وتهذيب الأحكام ج6 ص233 والاستبصار ج3 ص38
ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج27 ص250 و (ط دار
الإسلامية) ج18 ص182 وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص72.
([25])
وسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج27 ص250 و (ط دار الإسلامية)
ج18 ص182 والكافي ج7 ص419 وتهذيب الأحكام ج6 ص234 وج7 ص76
والاستبصار ج3 ص39 وغوالي اللآلي ج3 ص527 وجامع أحاديث الشيعة
ج25 ص73.
([26])
وسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج27 ص249 و (ط دار الإسلامية)
ج18 ص181 والكافي ج7 ص418 وتهذيب الأحكام ج6 ص234 والإستبصار
ج3 ص40 ومن لا يحضره الفقيه ج3 ص38 و 39 و (ط مركز النشر
الإسلامي) ج3 ص64 و 65 وجامع أحاديث الشيعة ج25 ص71.
([27])
من لا يحضره الفقيه ج3 ص94 والكافي ج7 ص419 وتهذيب الأحكام ج6
ص233 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج27 ص251 و و (ط دار
الإسلامية) ج18 ص183.
|