علي، عن أبيه، عن بعض أصحابه، عن عمرو بن شمر، عن جابر
عن أبي جعفر «عليه السلام» قال:
لما خرج أمير المؤمنين «عليه السلام» يريد البصرة نزل
بالربذة، فأتاه رجل من محارب، فقال: يا أمير المؤمنين، إني تحملت في
قومي حمالة، وإني سألت في طوائف منهم المواساة والمعونة، فسبقت إلي
ألسنتهم بالنكد، فمرهم يا أمير المؤمنين بمعونتي، وحثهم على مواساتي.
فقال:
أين هم؟!
فقال:
هؤلاء فريق منهم حيث ترى.
قال:
فنصّ راحلته، فأدلفت كأنها ظليم، فأدلف بعض أصحابه في
طلبها، فلأياً بلأيٍ ما لحقت، فانتهى إلى القوم، فسلم عليهم، وسألهم ما
يمنعهم من مواساة صاحبهم؟!
فشكوه وشكاهم.
فقال أمير المؤمنين «عليه السلام»:
وصل امرؤ عشيرته، فإنهم أولى ببره، وذات يده، ووصلت
العشيرة أخاها إن عثر به دهر، وأدبرت عنه دنياً، فإن المتواصلين
المتباذلين مأجورون، وإن المتقاطعين المتدابرين موزورون.
قال:
ثم بعث
راحلته، وقال: حِل [خل
«خ
ل»]([1]).
ونقول:
1 ـ قال العلامة المجلسي «رحمه الله»:
«ونصّ
راحلته»: استخرج أقصى ما عندها من السير. ذكره الجوهري، وقال: الدلف:
المشي الرويد. يقال: دلف الشيء، إذا مشى وقارب الخطو.
إلى أن قال:
والظليم:
ذكر النعامة.
والضمير في
«طلبها»
راجع إلى الراحلة.
وقال الجوهري:
يقال: فعل كذا بعد لأي: أي بعد شدة وإبطاء. ولأى لأياً:
أي أبطأ.
إلى أن قال:
وما زائدة للإبهام والمبالغة. أي فلحقت راحلة بعض
الأصحاب راحلته «عليه السلام» بعد إبطاء، مع إبطاء وشدة،
«فلأياً»
إما حال، أو مفعول مطلق من غير اللفظ.
ويمكن أن يقرأ
«لحقت»
على بناء المفعول.
«وصل
امرؤ» أمر في صورة الخبر، والنكرة للعموم كقولهم:
«أنجز
حرٌّ ما وعد».
«وذات
يده»: أي ما في يده من الأموال.
وقال:
«حل»
بالحاء المهملة وتخفيف اللام، وهو زجر للناقة كما ذكره الجوهري.
وفي بعض النسخ بالخاء المعجمة وتشديد اللام، فكأن الرجل
كان آخذاً بزمام الناقة أو بغرزها، فلما فرغ [أمير المؤمنين] من وعظهم
قال [للرجل]: خل سبيل الناقة([2]).
2 ـ
إن ذلك الرجل الذي كان من بني محارب قد أحسن حين رضي
بأن يدفع الفتنة، ويفض النزاع في قومه، بتحمله الغرامات، أو ديات
القتلى فيهم. وذلك إن دل على شيء، فهو يدل على نبل وكرامة وإباء، وشعور
بالمسؤولية.
3 ـ
إن إحسان ذلك الرجل كان متوجهاً إلى قومه، لأنه أراد دفع الشر عنهم.
فلا معنى لأن يقابلوا إحسانه باللامبالاة، فضلاً عن أن يقابلوه
بالإساءة والأذى والنكد، قال تعالى:
﴿هَلْ
جَزَاءُ الْإِحْسَانِ إِلَّا الْإِحْسَانُ﴾؟!([3]).
4 ـ
ولم يكن يسع أمير المؤمنين «عليه السلام» أمام هذا
الإحسان، الذي يقابله ذلك النكد والأذى إلا أن يبادر إلى معونته،
ومساعدته في حل مشكلته، وإرشاد قومه، وموعظتهم.
ولو ترك «عليه السلام» الأمور على حالها لزهد الناس
بالخير، ولنفروا عن التصدي لمسؤولياتهم في دفع الشرور عن الناس.. لا
سيما إذا رأوا أن أعظم الناس اهتماماً بالقيم، وأشدهم تعلقاً بعمل
الخير لا يهتم لهذا الأمر، ولا يكلف نفسه عناء الدعوة إليه، والترغيب
به.
5 ـ
لا شك في أن هذه السرعة وشدة الإندفاع التي ظهرت منه
«عليه السلام» سترضي ذلك الرجل المظلوم والمكلوم، وستنزل على قلبه
سكينةً وطمأنينةً، وبرداً وسلاماً. وستزيده تعلقاً بعمل الخير، حتى لو
كلفه ما هو أعظم وأغلى من المال..
6 ـ
إنه «عليه السلام» لم يزد في كلامه لأولئك الناس على أن
أمرهم ببر صاحبهم، وصلته ومعونته، وأمره هو أيضاً بمثل ذلك. بل بدأ
بأمره قبل أمرهم، ليلفت نظره إلى أنه لم يزد على أن قام بواجبه، فليس
له أن يمن عليهم بفعله، وبما لا منة له به، بل يثيبه عليه كما نفس هذا
الأمر سوف يطمئنهم إلى أنه لا مكان للامتنان منه عليهم، ثم عقب ذلك
بطلب برِّهم به، ومعونتهم له، مبيناً لهم أن لا منة لهم عليه أيضاً في
ذلك، لأن الله تعالى هو الذي يتولى مثوبتهم.
7 ـ
إنه «عليه السلام» قد بين لهم ولنا: أن هذا البر الذي
ندبهم إليه وإن كان من المثوبات التي لا تصل إلى حد الإلزام، لكن
الإصرار على ترك هذا البر إذا بلغ حداً أصبح فيه مثالاً للتدابر
والقطيعة، فإنه يصبح من موارد الإثم والعقوبة.
ولعل الأمر هنا كذلك.. فإن عدم المعونة لهذا الرجل يعد
قطيعة منهم له، وهي ستنتج له البلاء والعناء بسبب أمر أراد به الخير
لهم.
ومن الواضح:
أن ترك المؤمن عرضة للبلاء والعناء مما لا يرضاه الله
تعالى هو من موجبات سخطه، فكيف إذا كان هذا البلاء لأجل أمر قصد به دفع
الشر عن طائفة من الناس؟!
المفيد، عن الكاتب، عن الزعفراني، عن الثقفي، عن الفضل
بن دكين، عن قيس بن مسلم، عن طارق بن شهاب قال:
لما نزل علي بالربذة [وقيل: في ذي قار] سألت عن قدومه
إلينا؟!
فقيل:
خالف عليه طلحة والزبير وعائشة، وصاروا إلى البصرة،
فخرج يريدهم.
فصرت إليه، فجلست حتى صلى الظهر والعصر، فلما فرغ من
صلاته قام إليه ابنه الحسن بن علي «عليهما السلام»، فجلس بين يديه ثم
بكى وقال:
يا أمير المؤمنين، إني لا أستطيع أن أكلمك. وبكى.
فقال له أمير المؤمنين:
لا تبك يا بني، وتكلم، ولا تحن حنين الجارية.
فقال:
يا أمير المؤمنين، إن القوم حصروا عثمان بما يطلبونه،
إما ظالمون أو مظلومون، فسألتك [فأمرتك] أن تعتزل الناس، وتلحق بمكة
حتى تؤب العرب، وتعود إليها أحلامها، وتأتيك وفودها، فوالله لو كنت في
جحر ضب لضربت إليك العرب آباط الإبل، حتى تستخرجك منه.
ثم خالفك طلحة والزبير، فسألتك [فأمرتك] أن لا تتبعهما
وتدعهما، فإن اجتمعت الأمة فذاك، وإن اختلفت الأمة رضيت بما قسم الله.
وأنا اليوم أسألك أن لا تقدم العراق، وأذكرك بالله أن
لا تقتل بمضيعة!!
فقال أمير المؤمنين «عليه السلام»:
أما قولك: إن عثمان حصر. فما ذاك وما علي منه، وقد كنت
بمعزل عن حصره.
وأما قولك:
ائت مكة، فوالله ما كنت لأكون الرجل الذي يستحل به مكة.
وأما قولك:
اعتزل العراق ودع طلحة والزبير، فوالله ما كنت لأكون
كالضبع تنتظر حتى يدخل عليها طالبها، فيضع الحبل في رجلها حتى يقطع
عرقوبها، ثم يخرجها فيمزقها إرباً إرباً.
ولكن أباك يا بني يضرب بالمقبل إلى الحق المدبر عنه،
وبالسامع المطيع العاصي المخالف أبداً حتى يأتي علي يومي.
فوالله ما زال أبوك مدفوعاً عن حقه، مستأثراً عليه منذ
قبض الله نبيه «صلى الله عليه وآله» حتى يوم الناس هذا.
فكان طارق بن شهاب أي وقت حدث بهذا الحديث بكى..([4]).
ونقول:
نحتاج إلى أن نشير هنا إلى بعض الأمور، وهي التالية:
إن هذه القصة مفتعلة بلا ريب، إلا أن يكون الإمام الحسن
«عليه السلام» قد أخبر أباه أمام الناس بما يقوله الناس، وبما يقترحونه
من آراء، ليسمعهم تفنيد تلك الآراء، ويعرفهم خطلها وفسادها..
وربما يكون المخبر شخص آخر غير الإمام الحسن «عليه
السلام»، ونسب إليه زوراً أو خطأً.
وربما تكون هذه الآراء من الشائعات التي كان أعداؤه
يطلقونها، فتؤثر على ضعاف النفوس، فأراد «عليه السلام» تخليص الناس
منها بهذه الطريقة..
ونستطيع أن نحشد عشرات الشواهد الدالة على عدم صحة
نسبتها إلى الإمام الحسن «عليه السلام» كآراء له يتبناها، ويرتضيها
لنفسه..
غير أننا نكتفي هنا بالأمور التالية:
أولاً:
لماذا صبر الإمام الحسن «عليه السلام» إلى ما بعد مسير
الإمام «عليه السلام» إلى الربذة في طلب طلحة والزبير، ألم يكن الأولى
والأصوب: أن يسدي لأبيه هذه النصيحة قبل أن يخرج من المدينة؟!
وإن كان قد نصحه آنئذٍ ورفض «عليه السلام» نصيحته، فما
معنى عودته إلى ذلك من جديد؟!
ثانياً:
لماذا اختار الإمام الحسن «عليه السلام» هذه الساعة
لإسداء نصيحته، وهو ما بعد الفراغ من صلاة الظهر، وحيث الناس مجتمعون
حوله؟! ألم يكن بإمكانه ـ بل هو الأنسب ـ أن ينصح أباه فيما بينه
وبينه؟! أو بحضور بعض الخواص؟!
ثالثاً:
لماذا لا يستطيع الإمام الحسن «عليه السلام» أن يكلم
أباه.. فإن كان ذلك خوفاً، فإننا لم نعهد من علي «عليه السلام» أنه
يعاقب من يكلمه. وإن كان احتراماً، فإن كلامه معه لا ينافي احترامه له.
ولو كان ينافيه لم يكلمه الإمام الحسن «عليه السلام» في هذا المورد
أيضاً..
إلا إن كان يرى أن حرمة أبيه «عليه السلام» قد سقطت،
وأن كرامته زالت؟!
ثم ألم يكن الإمام الحسن «عليه السلام» وغيره يكلمون
علياً في مختلف الشؤون؟!
رابعاً:
لماذا يبكي الإمام الحسن «عليه السلام» بين يدي أبيه،
فإن ما أشار به عليه لا يستدعي البكاء والحنين، كحنين الجارية..
خامساً:
كيف ظهر للإمام الحسن «عليه السلام»: أن مسير أبيه إلى
العراق سينتج عنه أن يقتل بمضيعة؟! وهل سيكون مقامه في المدينة أضمن
لحياته، من العراق؟!
ألم يتعرض لمحاولة اغتيال من قبل خالد بن الوليد حين
كان يصلي في المسجد في جماعة الناس في ظاهر الأمر خلف أبي بكر؟!
وألم يتعرض للتهديد بالقتل من قبل ابن عوف ومن وراءه،
تنفيذاً لوصية عمر للشورى التي دبرها لتأتي بعثمان دون سواه؟!
سادساً:
ألم يكن الإمام الحسن «عليه السلام» يعلم بما أخبر به
رسول الله «صلى الله عليه وآله» عن أن علياً «عليه السلام» سيموت
شهيداً على يد أشقى الأولين والآخرين.
سابعاً:
لماذا يوجه الإمام علي «عليه السلام» هذه الكلمة
اللاذعة لابنه: «لا تحن حنين الجارية» ألم يحتمل أن يكون لديه أمر عظيم
يقتضي بكاءه وحنينه هذا؟!
ثامناً:
لم نفهم المصلحة في لحوق علي «عليه السلام» بمكة حين
كان عثمان محصوراً! ألا يحمل هذا التصرف أخطار انفلات الأمور، وحدوث
فتنة تسقط فيها عشرات القتلى بين بني أمية وسائر الناس؟!
ألم يكن احتمال أن يكون وجود أمير المؤمنين «عليه
السلام» في المدينة مفيداً في تخفيف المصائب والآلام، ودفع الرزايا؟!
تاسعاً:
لم نلاحظ: أن بقاء علي «عليه السلام» في المدينة قد
أوجب أي خلل، أو عرضه لأية مشكلة. وقد تحقق إجماع الأمة عليه، ورجع
الناس كلهم إليه، وأتته وفودهم، إلا الذين كانوا يخشون من العقوبة على
ما ارتكبوه، ومن استرداد ما أخذوه من بيت المال، فإن هؤلاء لن يكون لهم
موقف غير موقف العداء له «عليه السلام»، سواء أكان علي «عليه السلام»
في المدينة أو في مكة.
ولو أنه «عليه السلام» ابتعد عنهم، لكان طلحة استغلها،
واغتنمها فرصة ثمينة لفرض نفسه على الناس، فأمسك الأمور، وربما نشأت
فتن كبيرة وخطيرة نتيجة لذلك. ولكان البلاء به أعظم، والمصيبة أكبر.
عاشراً:
إذا كان الإمام الحسن «عليه السلام» قد نصح أباه بعدم
اللحاق بطلحة والزبير، فلم يقبل منه، فما معنى أن يقوم هذا المقام في
الربذة، خصوصاً بعد أن باشر علي «عليه السلام» حركته ولحقهما إلى هذا
الوضع، فهل كان قد تجدد له أمل بتراجع علي «عليه السلام»؟!
ولو أنه «عليه السلام» قد تراجع ورجع. فكيف، وما هو
الحل لمعضلة طلحة والزبير بعد استيلائهما على بيت المال وقتل حراسه؟!
وقتل طائفة كبيرة من شيعة علي «عليه السلام» في البصرة؟!
حادي عشر:
لقد كان أمر الأمة مجتمعاً، وقد فرق أمرها طلحة والزبير
وعائشة.. فهل سيؤثر تركه «عليه السلام» لهما، وإهمال أمرهما في جمع
الأمة، أم سيزيدها فرقة، وتمزيقاً؟! وكيف يكون التراجع وترك الباغي
والناكث لبيعته والخارج على إمامه وقاتل النفوس المحترمة، وناهب بيوت
الأموال، من موجبات إنهاء بغيه، وعودته إلى الطاعة، وإصلاح ما فسد؟! أم
أن هذا الذي فعله من موبقات سيزيده إصراراً على متابعة مسيرته، لأنه
يعلم أن تراجعه سيضعه أمام المساءلة والحساب، والعقاب؟!
ثاني عشر:
لو أن علياً «عليه السلام» ترك طلحة والزبير، ورضي بما
قسم الله، هل كانا سيتركانه، ولا يهاجمانه، ولا يسعيان في قتله وقتل
خيرة أصحابه، بحجة الطلب بدم عثمان؟!
وهل سوف يستطيع الصمود والمقاومة إذا كان في مكة، وفي
المدينة؟! أم أنه سيقهر ويغلب على أمره. وتكون النتيجة الكارثة المحققة
التي لا دواء لها. ولا مهرب منها؟!
ثالث عشر:
تضمن بعض نصوص هذه الرواية: أنه «عليه السلام» قال
لأبيه: «فأمرتك أن تعتزلهم» و «فأمرتك أن تعتزل الناس» وهي تعابير لا
تناسب أدب الإمام الحسن تجاه أبيه «عليهما السلام»، وهو المطهر
المعصوم، ربيب بيت النبوة، ونشأة غرس الإمامة.
رابع
عشر:
إنه «عليه السلام» كان يعلم أن أباه مع الحق، ومع
القرآن، وأن الحق والقرآن معه، كما نص عليه رسول الله «صلى الله عليه
وآله»([5])،
وأنه معصوم عن الخطأ، مبرأ من الزلل، مطهر من أي نقص ورجس، فكيف يعلن
هنا أنه يخطئ، ويصر على خطئه، ولا يتراجع عنه، رغم بيانه له..
خامس عشر:
بالنسبة لاعتزال علي «عليه السلام» الناس، وخروجه من
المدينة، فإن الناس سيطلبونه ويضربون إليه آباط الإبل يقول المعتزلي:
«ليس هذا الرأي عندي بمستحسن».
ثم ذكر:
أنه لو فعل ذلك لولوا غيره، بل كان ذلك قرة أعينهم، فإن
قريشاً كانت تبغضه أشد البغض([6]).
سادس عشر:
إن الإمام الحسن «عليه السلام» نفسه لم ينتظر بعد
استشهاد أبيه «عليه السلام» حتى تضرب إليه العرب آباط الإبل، بل بادر
إلى أخذ البيعة من الناس، والإمساك بالأمر، حتى يفوِّت على أعدائه،
ومعاوية منهم الفرصة، ويمنعهم من الفساد والعبث والإفساد.
سابع عشر:
إن علياً «عليه السلام» قد جلس في بيته حين غصب حقه يوم
السقيفة، ولم تأته العرب، ولم تضرب إليه آباط الإبل.
ثامن عشر:
إن الكلام المنسوب إلى الإمام الحسن «عليه السلام» قد
جاء ظاهر التناقض، فبينما هو يامر أباه بالإعتزال في بادئ الأمر، فإن
الناس سوف يختلفون. ثم تضرب إليه العرب آباط الإبل، ويعود الناس إليه،
يعود فيقول: إنه بعد خروج طلحة والزبير إن اجتمعت الأمة فذاك، وإن
اختلفت رضيت بما قسم الله.. فإن المفروض ـ قياساً مع ما سبق ـ هو أن
يؤكد له حتمية رجوع الناس إليه، كما أكد له ذلك حين قتل عثمان مع أن
طلحة كان يتهيأ لتقبل بيعة الناس له، وقد فوجئ بميلهم إلى علي «عليه
السلام»، وقد تقدمت الإشارة لنا إلى ذلك.
ولعل المطلوب لهؤلاء الذين يتعاملون مع هذا الموضوع
بهذه الطريقة هو الإيحاء للناس: بأن لعلي «عليه السلام» يداً في قتل
عثمان ولو بالتحريض.. ولو أنه اعتزل حين حصار الناس لعثمان وخرج من
المدينة، لكان أولى وأسلم له من التورط في هذا الأمر.
كما أن المطلوب هو التشكيك بحصول الإجماع على خلافته..
والمطلوب ثالثاً تبرير موقف الخارجين عليه.. وتعذير المتخاذلين عن
نصرته..
وقد تضمنت الإجابات التي نسبتها نفس الرواية إلى علي
«عليه السلام» أموراً مهمة أيضاً، وهي:
1 ـ
أن حصار وقتل عثمان لا يعنيه، ما دام أنه لم يشارك لا
في حصره، ولا في قتله.. فضلاً عن أنه قد بذل محاولات قوية للإصلاح،
ولكن عثمان قد أفشلها. وكذلك مروان.
2 ـ
إنه «عليه السلام»: كان يعلم: أن الذين يريدون العدوان
عليه لن تمنعهم مكة من ذلك، بل سوف ينتهكون حرمة مكة، ولا يريد «عليه
السلام» لذلك أن يحصل مهما كلف الأمر.
3 ـ
إن ترك طلحة والزبير في العراق سوف يجرئهما على طلبه،
للتخلص منه أينما كان، لأن نفس وجوده يخيفهما، ولن يشعرا بالأمان ما
دام حياً، بل هم سيستخرجونه وسيمزقونه إرباً إرباً إن قدروا عليه.
وبعد.. فإننا لا نستبعد:
أن يكون لهذه القضية أصل، ويكون المعترض على أمير
المؤمنين «عليه السلام» شخص آخر، كابن عباس، أو أسامة بن زيد([7]).
والذي أظهر:
أن له رأياً يشبه هذا الرأي. وقد ذكرنا كلامه فيما
سبق..
ويكون أصحاب الأهواء قد بدلوا اسماً باسم، لأنهم رأوا
أن اسم الإمام الحسن «عليه السلام» أكثر تأثيراً، وأكبر نفعاً لهم فيما
يرمون إليه من أضعاف أمر علي «عليه السلام»، وتقوية منطق وموقع
مناوئيه، والتخفيف من حدة الإنتقادات التي توجه إليهم.
ويشبه هذا ما حصل من تغيير في الأسماء في قصة اعتراض
الإمام علي «عليه السلام» على الحسن البصري في وضوئه، فأمره «عليه
السلام» بأن يحسن الوضوء. فذكَّره الحسن البصري بمن قتل في حرب الجمل.
فبدلوا اسم الحسن البصري باسم الإمام الحسن «عليه
السلام»، وزعموا: أنه «عليه السلام» كان مخالفاً لأبيه في أمر عثمان..
بل قالوا عنه: إنه كان عثمانياً، وسيأتي بعض الحديث عن ذلك حرب الجمل.
إن شاء الله تعالى..
وبعد أن ذكر سعيد الأفغاني هذه القصة المزعومة عن بكاء
الإمام الحسن بين يدي أبيه «عليهما السلام»، وأيد صحة ما قاله الإمام
علي
«عليه السلام»،
زاعماً: أن الإمام الحسن
«عليه السلام»
قد أخطأ في ذلك.. عطف عليه تخطئة عبد الوهاب النجار فيما علقه على هذا
النص المزعوم، ونحن نذكر هنا كلام النجار أولاً، ثم كلام الأفغاني،
ولنا كلام معهما نذكره بعد ذلك.
قال النجار:
«وكأني به (يعني الإمام علياً) في هذا الأمر الأخير
يقول بمقالة عثمان:
«لا أخلع لباساً ألبسنيه الله عز وجل». وهو اعتذار لا
يقبله من يريد له وللمسلمين السلامة، أو وهو مثل اعتذار دول الاستعمار:
بأنه لا مناص لهم من التبعة الملقاة على عاتقهم بإزاء الأمم التي
يحتلون بلادها، ويهيمنون عليها وعلى مرافقها ومقومات حياتها دون أهلها»([8]).
فأجابه سعيد الأفغاني:
بأن حكمه هذا ليس بسديد من وجوه:
أولها:
أن هناك فارقاً كبيراً بين موقف علي وموقف عثمان، فعثمان عظمت منه
الشكوى، واستطار من عماله الشر، واستفحلت عليه الثورة، وانتشرت الأمور.
فلو اعتزل لكان هناك أمل في إخماد الجذوة، واستقامة الأمور.
أما علي فلم يحتج عليه أحد بخطيئة، أو ميل حكم، أو جور،
أو أثرة. حتى الذين كرهوا بيعته استتروا بالمطالبة بدم عثمان، أي
أعلنوا: أن خصومهم قتلة عثمان، لا علي.
فلو اعتزل علي لكانت الأمور أضيع، والشر أعم. ولازداد
انتشار الأمر، وتفرق الكلمة. فلا شك في أن اعتزاله هرب من الواجب،
وفرار من الصف، وجريمة أي جريمة.
وما كان علي من رجال الدنيا يوماً من الأيام، حتى يصح
أن نظن في حرصه على الإمارة إرضاءً لطمع من الأطماع.
ثانيها:
لو كلفنا كل إمام أن يعتزل الحكم كلما كره إمامته كاره،
أو خرج عليه خارج، ما انقضت ساعة إلا نصب فيها إمام جديد، إذ لا يخلو
رجل من كاره، ونصف الناس أعداء لمن ولي الأحكام، هذا إن عدل.
ثالثها:
تشبيه حجة الإمام هنا بدعوى دول الاستعمار التي هي أبعد عن الحق، وأنأى
عن الواقع، فهذه الدول مبطلة تدعي باطلاً لتبرر ظلماً، والإمام صاحب حق
يقوم بالواجب عليه، فهو يحتج ببيعة واقعة، وأمر لزمه يقتضيه النهوض
والحماية، ليعم الأمن والعدل، وشتان ما بين الحالتين.
وبعد، فإن علياً «عليه السلام» في جميع ما أتى حتى هذه
الساعة ملتزم جانب الحق والصواب، ولئن أخذنا عليه إسراعه في عزل معاوية
وغيره من عمال عثمان، وقلنا: إن هذا التصرف لا سياسة فيه، إن هذه
المؤاخذة مؤاخذة سياسية، لا قضائية وجدانية. فليس من شك أنه ـ وقد
اعتقد ما اعتقد ـ على حق في عزلهم ولا يجوز له ـ في دينه وأمانته ـ
إبقاؤهم ولو ساعة إلا من قبيل ارتكاب أخف الضررين.
وهذا هو الذي لم يأخذ به علي. وإذا أخطأ امرؤ مرة في
سياسة فليس معنى ذلك: أنه لا بصر له في السياسة ومقتضياتها.
هذه كلمة رأيت من الإنصاف إثباتها، إذ كثيراً ما رأيت
بعض من (يتعاطى) التاريخ من أهل عصرنا يرمي علياً بالغفلة السياسية من
أجل عزل معاوية، ويتعامى عن كثير من الحوادث الدالة على بصره في
السياسة، وحسن تصريفه لشؤون الدولة، وهو بهذا من طراز كطراز أبي بكر
وعمر([9]).
ونقول:
إن مؤاخذتنا على الأفغاني هي في قوله أخيراً:
إنه يأخذ على علي
«عليه السلام»
إسراعه في عزل معاوية وغيره من عمال عثمان، وأن هذا التصرف لا سياسة
فيه. بل هو خطأ، ولكنه خطأ لمرة واحدة، لا يدل على أنه
«عليه السلام»
لا بصر له في السياسة ومقتضياتها..
وهذا الكلام مرفوض جملة وتفصيلاً:
أولاً:
إن قرار علي «عليه السلام» بعزل عمال عثمان هو عين
السياسة الصائبة، والصحيحة، فإن هؤلاء العمال هم الأساس الأعظم لما جرى
لعثمان. وإبقاؤهم لا يمكن أن يكون مقبولاً لدى القسم الأعظم من الأمة،
ولا سيما أهل الخير والفضل. بل سيكون إبقاؤهم هو عين الظلم لهم.
أضف إلى ذلك:
أنه إذا كان
أمير المؤمنين هو وصي الرسول، وقد نصبه رسول الله
«صلى الله
عليه وآله»
إماماً للأمة في يوم الغدير، ويرى فيه الناس الإمام الذي يجري أحكام
الله سبحانه، فإن إبقاء عمال عثمان في مناصبهم، سيفهم على أنه رضي عن
كل جرائمهم وجناياتهم، ومخالفاتهم وارتكابهم للمآثم والعظائم. وسيرى
الناس: أن هذا هو رأي الإسلام فيهم، وفيما فعلوه وارتكبوه.. وسيبقى هذا
الفهم سارياً في الأمة إلى يوم الدين، ولا شك في أن هذا سيصد الناس عن
دين الله سبحانه، وعن الالتزام بشرائعه وأحكامه..
ثانياً:
المفروض: أن سياسة العباد الصحيحة هي تلك التي تحفظ لهم
مصالحهم، وأمنهم، وحياتهم ودينهم، وتسير بهم في الإتجاه الصحيح، نحو
الهدف لتكون النتيجة هي سعادتهم في الدنيا والآخرة.. فإذا كان الهدف هو
إعمار الكون، وفق رضا الله، فإن كل سياسة لا تأخذ لنفسها هذا الطابع،
تكون فاشلة، ومدانة ومرفوضة..
نعم..
لو كان
المطلوب هو سياسة العباد لمجرد حفظ حياتهم، مهما كانت تعيسة، وبائسة
وذليلة، وموبوءة بالشرور والمآثم، ومفعمة بالظلم والبغي، والاستئثار،
والتعدي على الكرامات، وعلى الأرزاق، وغير ذلك.. يشيع فيها الخداع،
والكذب، والأساليب الشيطانية، واللاإنسانية ـ لو كان هذا هو المطلوب ـ
فإن الاستقامة على طريق الحق، والعمل لإقامة الدين، والالتزام بالصدق،
والمبادرة إلى التضحية والإيثار، وما إلى ذلك يصبح خطأ فادحاً، وفشلاً
واضحاً في سياسة الخداع، والتزوير، والمكر.. و.. و.. ولم يعد معنى لقول
علي
«عليه السلام»:
«والله ما معاوية بأدهى مني، ولكنه يمكر ويفجر.. ولولا كراهية الغدر
لكنت من أدهى العرب»([10]).
ثالثاً:
إنه إذا كانت
الفترة آنذاك هي فترة تأسيس الدين، والتأكيد على حقائقه، وإيضاح
مفاهيمه، وبيان شرائعه.. وكان علي
«عليه السلام»
هو المسؤول عن هذا الأمر الخطير.. فإن الإخلال به يكون أخطر بكثير من
أي ضرر آخر قد يلحق بعض الناس، قلوا أو كثروا، لأن عواقب هذا الإخلال
ستلحق الأجيال كلها وإلى يوم الدين، لأنه سيؤدي إلى طمس أو تشويه
الحقائق الإيمانية، والمفاهيم والأحكام الدينية، التي هي ملك للأجيال
كلها، ولا يحق لأحد المساس بها، أو التهاون في حفظ بقائها وصفائها،
بحجة أن فلاناً من الناس سيغضب، أو أن الفئة الفلانية ستعتدي على الفئة
الأخرى.. وما إلى ذلك.
حيث إن المطلوب في مثل هذا الحال هو ردع المعتدي عن
عدوانه، وليس المطلوب هو التنازل عن حقائق الدين ومفاهيمه..
([1])
الكافي ج2 ص153 و 154 وبحار الأنوار ج32 ص132 وج71 ص105 عنه،
وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج7 ص170 وج11 ص111.
([2])
بحار الأنوار ج32 ص132 و 133.
([3])
الآية 60 من سورة الرحمن.
([4])
بحار الأنوار ج32 ص103 و 104 عن الأمالي للطوسي الحديث 37 من
الجزء الثاني (ط1) ص32 و (ط دار الثقافة ـ قم) ص52 و 53. وراجع
نهج السعادة (ط2) ج1 ص82 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج1 ص252 ـ 254
وأنساب = =الأشراف (بتحقيق المحمودي) ج2 ص216 و 217 وتاريخ
الأمم والملوك (ط الإستقامة) ج3 ص374 وراجع: شرح نهج البلاغة
للمعتزلي ج1 ص226 ـ 227 وج19 ص117 وحلية الأبرار ج2 ص299 و 300
وغاية المرام ج6 ص11 وتاريخ المدينة لابن شبة ج4 ص1256.
([5])
راجع: كشف الغمة ج1 ص143 ـ 148 وتقدمت مصادر الحديث.
([6])
راجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج13 ص299 و 300 وج12 ص85 وكتاب
الأربعين للشيرازي ص251 والمراجعات للسيد شرف الدين ص347 و 348
والفصول المهمة للسيد شرف الدين ص96.
([7])
الفتوح لابن أعثم ج2 ص227 و (ط دار الأضواء) ج2 ص422 وأنساب
الأشراف ج5 ص77.
([8])
تاريخ الإسلام: الخلفاء الراشدون، لعبد الوهاب النجار ص414.
([9])
عائشة والسياسة ص116 و 117.
([10])
راجع: نهج البلاغة (بشرح عبده) ج2 ص180 وبحار الأنوار ج33 ص197
وج40 ص193 وج72 ص291 وشجرة طوبى ج2 ص294 والغدير ج10 ص172
ومستدرك سفينة البحار ج3 ص394 وج7 ص540 والإمام علي بن أبي
طالب للهمداني ص691 وموسوعة أحاديث أهل البيت للنجفي ج8 ص22
والمعيار والموازنة للإسكافي ص166 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي
ج10 ص211 وينابيع المودة ج1 ص454.
|