صفحة :183-196   

الفصل الأول: حرب الجمل الأصغر: نصوص وآثار..

بـدايـة:

إن من المعلوم: أن حرب الجمل لم تقتصر على وقعة واحدة، بل كانت هناك واقعتان. اسم الأولى منهما: وقعة الجمل الأصغر، وكانت في البصرة بين عثمان بن حنيف، وحكيم بن جبلة من جهة، وبين طلحة والزبير وعائشة من جهة أخرى.

ووقعة الجمل الأكبر، وهي التي حصلت بين أمير المؤمنين «عليه السلام» والصحابة وأهل بدر، وأهل بيعة الرضوان، ومن معهم من جهة، وبين طلحة والزبير وعائشة من جهة أخرى.

ونريد أن نسلمّ هنا بما يعطينا صورة عما جرى في الجمل الأصغر، ونحاول أن نقتصر على ما ذكره ابن ميثم، والطبري، فيقول:

هكذا جرى في الحرب الأولى:

قال ابن ميثم «رحمه الله»: خلاصة القصة: روي أن طلحة والزبير وعايشة لما انتهوا في مسيرهم إلى حفر أبي موسى قريب البصرة كتبوا إلى عثمان بن حنيف الأنصاري، وهو يومئذ عامل علي «عليه السلام» على البصرة: أن أخل لنا دار الإمارة.

فلما قرأ كتابهم بعث إلى الأحنف بن قيس، وإلى حكيم بن جبلة العبدى، فأقرأهما الكتاب.

فقال الأحنف: إنهم إن حاولوا بهذا الطلب بدم عثمان، وهم الذين أكبُّوا على عثمان وسفكوا دمه، فأراهم والله لا يزايلونا حتى يلقوا العداوة بيننا ويسفكوا دماءنا، وأظنهم سيركبون منك خاصة ما لا قبل لك به.

والرأي أن تتأهب لهم بالنهوض إليهم في من معك من أهل البصرة، فإنك اليوم الوالي عليهم، وأنت فيهم مطاع. فسر إليهم بالناس، وبادرهم قبل أن يكونوا معك في دار واحدة، فيكون الناس لهم أطوع منهم لك.

وقال حكيم: مثل ذلك.

فقال عثمان بن حنيف: الرأي ما رأيتما، لكني أكره الشر، وأن أبدأهم به، وأرجو العافية والسلامة إلى أن يأتيني كتاب أمير المؤمنين ورأيه، فأعمل به.

فقال له حكيم: فأذن لي حتى أسير إليهم بالناس، فإن دخلوا في طاعة أمير المؤمنين، وإلا نابذتهم على سواء.

فقال عثمان: ولو كان ذلك لي لسرت إليهم بنفسي.

فقال حكيم: أما والله لئن دخلوا عليك هذا المصر لينتقلن قلوب كثير من الناس إليهم، وليزيلنك عن مجلسك هذا، وأنت أعلم.

فأبى عثمان.

ثم كتب علي «عليه السلام» إلى عثمان بن حنيف:

أما بعد.. فإن البغاة عاهدوا الله ثم نكثوا، وتوجهوا إلى مصرك، وساقهم الشيطان لطلب ما لا يرضى الله به، والله أشد بأساً وأشد تنكيلاً، فإذا قدموا عليك فادعهم إلى الطاعة، والرجوع إلى الوفاء بالعهد والميثاق الذي فارقونا عليه، فإن أجابوا فأحسن جوارهم ما داموا عندك، وإن أبوا إلا التمسك بحبل النكث والخلاف فناجزهم القتال حتى يحكم الله بينك وبينهم وهو خير الحاكمين.

وكتبت كتابي هذا من الربذة، وأنا معجل السير إليك إنشاء الله.

وكتب عبيد الله بن أبي رافع في صفر سنة ست وثلاثين.

فلما وصل الكتاب إلى عثمان، بعث أبا الأسود الدؤلي وعمران بن الحصين إليهم، فدخلا على عايشة، فسألاها عما جاء بهم.

فقالت لهما: إلقيا طلحة والزبير.

فقاما ولقيا الزبير، فكلماه، فقال: جئنا لنطلب بدم عثمان، وندعو الناس أن يردوا أمر الخلافة شورى، ليختار الناس لأنفسهم.

فقالا له: إن عثمان لم يقتل بالبصرة لتطلبا دمه فيها، وأنت تعلم قتلة عثمان وأين هم، وإنك وصاحبك وعايشة كنتم أشد الناس عليه وأعظمهم إغراء بدمه، فأقيدوا أنفسكم.

وأما إعادة أمر الخلافة شورى فكيف وقد بايعتم علياً طائعين غير مكرهين؟!

وأنت يا أبا عبد الله لم يبعد العهد بقيامك دون هذا الرجل يوم مات رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وأنت آخذ قائم سيفك تقول: ما أحد أحق بالخلافة منه.

وامتنعت من بيعة أبي بكر. فأين ذلك الفعل من هذا القول؟!

فقال لهما: اذهبا إلى طلحة.

فقاما إلى طلحة، فوجداه خشن الملمس، شديد العريكة، قوي العزم في إثارة الفتنة.

فانصرفا إلى عثمان بن حنيف، فأخبراه بما جرى.

وقال له أبو الأسود:

يا ابـن حـنـيـف قـد أُتِيت فانفر     وطـاعـن القـوم، وجـالد  واصبر
وأبـرز لـهـم مـسـتـلـئماً وشمر

فقال ابن حنيف: أي والحرمين لأفعلن، وأمر مناديه فنادى في الناس: السلاح السلاح.

فاجتمعوا إليه، وأقبلوا حتى انتهوا إلى المربد. فمُلئ مشاة وركباناً، فقام طلحة، فأشار إلى الناس بالسكوت ليخطب، فسكتوا بعد جهد، فقال:

أما بعد..

فإن عثمان بن عفان كان من أهل السابقة والفضيلة، ومن المهاجرين الأولين الذي رضي الله عنهم ورضوا عنه، ونزل القرآن ناطقاً بفضلهم، وأحد الأئمة الوالين عليكم بعد أبي بكر وعمر صاحبي رسول الله.

وقد كان أحدث أحداثاً نقمناها عليه، فأتيناه واستعتبناه، فأعتبنا، فعدا عليه امرؤ ابتز هذه الأمة أمرها غصباً بغير رضى ولا مشورة فقتله، وساعده على ذلك قوم غير أتقياء ولا أبرار، فقتل محرماً بريئاً تائباً.

وقد جئناكم أيها الناس نطلب بدمه، وندعوكم إلى الطلب بدمه، فإن نحن أمكننا الله قتلهم قتلناهم به، وجعلنا هذا الأمر شورى بين المسلمين، وكانت خلافته رحمةً للأمة جميعاً، فإن كل من أخذ الأمر من غير رضى العامة ولا مشورة منها ابتزازاً كان ملكه ملكاً عضوضاً وحدثاً كبيراً.

ثم قام الزبير فتكلم بمثل كلام طلحة.

فقام إليهما ناس من أهل البصرة، فقالوا لهما: ألم تبايعا علياً فيمن بايعه، ففيم بايعتما ثم نكثتما؟!

فقالا: ما بايعناه، ولا لأحد في أعناقنا بيعة، وإنما استكرهنا على بيعة.

فقال ناس: قد صدقا، ونطقا بالصواب.

وقال آخرون: ما صدقا ولا أصابا. حتى ارتفعت الأصوات.

فأقبلت عايشة على جملها، فنادت بصوت مرتفع:

أيها الناس!! أقلوا الكلام واسكتوا.

فسكت الناس لها.

فقالت: إن أمير المؤمنين عثمان قد كان غيَّر وبدَّل. ثم لم يزل يغسل ذلك بالتوبة حتى قتل مظلوماً تائباً، وإنما نقموا عليه ضربه بالسوط، وتأميره الشبان، وحمايته موضع الغمامة، فقتلوه محرماً في حرمة الشهر، وحرمة البلد، ذبحاً كما يذبح الجمل.. مع أن الجمل لا يذبح، بل ينحر..

ألا وإن قريشاً رمت غرضها بنبالها، وأدمت أفواهها بأيديها. وما نالت بقتلها إياه شيئاً، ولا سلكت به سبيلاً قاصداً.

أما والله، ليرونها بلايا عميقة تنبه النائم وتقيم الجالس، وليسلطن عليهم قوم لا يرحمونهم، يسومونهم سوء العذاب.

أيها الناس!! إنه ما بلغ من ذنب عثمان ما يستحل به دمه مصتموه كما يماص الثوب الرحيص، ثم عدوتم عليه فقتلتموه بعد توبته من ذنبه، وبايعتم ابن أبي طالب بغير مشورة من الجماعة، ابتزازاً وغصباً.

أتراني أغضب لكم من سوط عثمان ولسانه ولا أغضب من سيوفكم؟!

ألا إن عثمان قتل مظلوماً فاطلبوا قتلته، فإذا ظفرتم بهم فاقتلوهم، ثم اجعلوا الأمر شورى بين الرهط الذين اختارهم أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، ولا يدخل فيهم من شرك في دم عثمان.

قال: فماج الناس واختلطوا، فمن قايل يقول: القول ما قالت.

ومن قائل يقول: وما هي من هذا الأمر، إنما هي امرأة مأمورة بلزوم بيتها.

وارتفعت الأصوات، وكثر اللغط، حتى تضاربوا بالنعال، وترامو بالحصا.

ثم تمايزوا فرقتين: فرقة مع عثمان بن حنيف، وفرقة مع طلحة والزبير.

ثم أقبلا من المربد يريدان عثمان بن حنيف، فوجدوه وأصحابه قد أخذوا بأفواه السكك، فمضوا حتى انتهوا إلى مواضع الدباغين.

فاستقبلهم أصحاب ابن حنيف، فشجرهم طلحة والزبير وأصحابهما بالرماح، فحمل عليهم حكيم بن جبلة، فلم يزل هو وأصحابه يقاتلونهم حتى أخرجوهم من جميع السكك، ورماهم النساء من فوق البيوت بالأحجار.

فأخذوا إلى مقبرة بني مازن، فوقفوا بها ملياً حتى ثابت إليهم خيلهم، ثم أخذوا على مسناة البصرة حتى انتهوا إلى الزابوقة.

ثم أتوا سبخة دار الرزق، فنزلوها.

فأتاهما عبد الله بن حكيم التميمي لما نزلا السبخة بكتب كتباها إليه، فقال لطلحة:

يا أبا محمد، أما هذه كتبك إلينا؟!

فقال: بلى.

فقال: فكنت أمس تدعونا إلى خلع عثمان وقتله، حتى إذا قتلته أتيتنا ثائراً بدمه؟! فلعمري ما هذا رأيك، ولا تريد إلا هذه الدنيا. مهلاً إذا كان هذا رأيك. قبلت من علي ما عرض عليك من البيعة، فبايعته طائعاً راضياً، ثم نكثت بيعتك، وجئتنا لتدخلنا في فتنتك.

فقال: إن علياً دعاني إلى بيعته بعدما بايع الناس، فعلمت أني لو لم أقبل ما عرضه علي لا يتم لي، ثم يغرى بي من معه.

ثم أصبحا من غد، فصفا للحرب، وخرج إليهما عثمان في أصحابه، فناشدهما الله والإسلام، وأذكرهما بيعتهما ثلاثاً.

فشتماه شتماً قبيحاً وذكرا أمه.

فقال للزبير: أما والله، لولا صفية ومكانها من رسول الله «صلى الله عليه وآله» ـ فإنها أذرتك إلى الظل، وإن الأمر بيني وبينك يا ابن الصعبة. يعني طلحة أعظم من القول ـ لأعلمتكما من أمركما ما يسؤكما.

اللهم إني قد أعذرت إلى هذين الرجلين.

ثم حمل عليهم، فاقتتل الناس قتالاً شديداً.

ثم تحاجزوا واصطلحوا على أن يكتب بينهم كتاب صلح. فكتب:

هذا ما اصطلح عليه عثمان بن حنيف الأنصاري، ومن معه من المؤمنين والمسلمين من شيعة علي بن أبي طالب، وطلحة والزبير، ومن معهما من المؤمنين والمسلمين من شيعتهما:

أن لعثمان بن حنيف الأنصاري: دار الأمارة، والرحبة، والمسجد، وبيت المال، والمنبر.

وأن لطلحة والزبير ومن معهما: أن ينزلوا حيث شاؤوا من البصرة، ولايضار بعضهم بعضاً في طريق، ولا سوق، ولا فرضة، ولا مشرعة، ولا مرفق، حتى يقدم أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، فإن أحبوا دخلوا فيما دخلت فيه الأمة، وإن أحبوا ألحق كل قوم بهواهم، وما أحبوا من قتال أو سلم، أو خروج أو إقامة.

وعلى الفريقين بما كتبوا عهد الله وميثاقه وأشد ما أخذه على نبي من أنبيائه من عهد وذمة.

وختم الكتاب.

ورجع عثمان حتى دخل دار الأمارة، وأمر أصحابه أن يلحقوا بأهلهم، ويداووا جراحاتهم، فمكثوا كذلك أياماً.

ثم خاف طلحة والزبير من مقدم علي «عليه السلام» وهما على تلك القلة والضعف، فراسلوا القبائل يدعونهم إلى الطلب بدم عثمان، وخلع علي «عليه السلام».

فبايعهم على ذلك الأزد، وضبة، وقيس غيلان كلها إلا الرجل والرجلين من القبيلة. كرهوا أمرهم، فتواروا عنهم.

وبايعهما هلال بن وكيع بمن معه من بني عمرو بن تميم، وأكثر بني حنظلة وبني دارم.

فلما استوسق لهما أمرهما خرجا في ليلة مظلمة ذات ريح ومطر في أصحابهما، وقد ألبسوهم الدروع، وظاهروا فوقها بالثياب، فانتهوا إلى المسجد وقت صلاة الفجر، وقد سبقهم عثمان بن حنيف إليه، وأقيمت الصلاة.

فتقدم عثمان ليصلي بهم، فأخره أصحاب طلحة والزبير، وقدموا الزبير، فجاءت الشرط ـ حرس بيت المال ـ وأخروا الزبير، وقدموا عثمان.

فغلبهم أصحاب الزبير، فقدموه، وأخروا عثمان.

فلم يزالوا كذلك حتى كادت الشمس أن تطلع، فصاح بهم أهل المسجد: ألا تتقون الله أصحاب محمد؟! قد طلعت الشمس!

فغلب الزبير فصلى بالناس.

فلما انصرف من صلاته صاح بأصحابه المتسلحين: أن خذوا عثمان.

فأخذوه، بعد أن تضارب هو ومروان بن الحكم بسيفهما.

فلما أسر ضرب ضرب الموت، ونتفت حاجباه، وأشفار عينيه، وكل شعرة في رأسه ووجهه.

وأخذوا السبابجة وهم سبعون رجلاً، فانطلقوا بهم وبعثمان بن حنيف إلى عايشة، فأشارت إلى أحد أولاد عثمان: أن اضرب عنقه، فإن الأنصار قتلت أباك، وأعانت على قتله.

فنادى عثمان: يا عايشة، ويا طلحة، ويا زبير، إن أخي سهل بن حنيف خليفة علي بن أبي طالب على المدينة، وأقسم بالله إن قتلتموني ليضعن السيف في بني أبيكم وأهليكم ورهطكم، فلا يبقى منكم أحداً.

فكفوا عنه، وخافوا من قوله، فتركوه.

وأرسلت عايشة إلى الزبير: أن اقتل السبابجة، فإنه قد بلغني الذي صنعوا بك قبل.

فذبحهم والله كما يذبح الغنم.

ولي ذلك عبد الله ابنه، وهم سبعون رجلاً، وبقيت منهم بقية متمسكون ببيت المال، قالوا: لا نسلمه حتى يقدم أمير المؤمنين.

فسار إليهم الزبير في جيش ليلاً، وأوقع بهم، وأخذ منهم خمسين أسيراً، فقتلهم صبراً.

فحكي: أن القتلى من السبابجة يومئذ أربع مأة رجل.

وكان غدر طلحة والزبير بعثمان بن حنيف بعد غدرهم في بيعة علي غدراً في غدر.

وكانت السبابجة أول قوم ضربت أعناقهم من المسلمين صبراً. وإن كان مالك بن نويرة وأصحابه قد قتلوا صبراً أيضاً، وهم كانوا في عهد أبي بكر.

وخيروا عثمان بن حنيف بين أن يقيم أو يلحق بعلي، فاختار الرحيل، فخلوا سبيله، فلحق بعلي «عليه السلام»، فلما رآه بكى وقال له: شيخ وجئتك أمرداً.

فقال علي «عليه السلام»: إنا لله وإنا إليه راجعون. قالها ثلاثاً.

فذلك معنى قوله: فقدموا على عاملي بها، وخزان بيت مال المسلمين.. إلى آخره.

ثم أقسم «عليه السلام»: أنهم لو لم يصيبوا ـ أي يقتلوا ـ من المسلمين إلا رجلاً واحداً متعمدين قتله بغير ذنب جناه لحل له قتل ذلك الجيش كله. و ـ إن ـ زايدة([1]).


([1]) شرح نهج البلاغة لابن ميثم ج3 ص332 ـ 337. وراجع: مروج الذهب ص358.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان