لا نريد أن نتوسع في نقد النصوص المتقدمة، أو في
شريح مقاصدها.. بل نكتفي باليسير من ذلك، لأن هذا الحدث وإن كانت
له علاقة له بعلي «عليه السلام»، إلا أنه يعبر عن أخلاق وسلوك أناس
آخرين أرادوا أن يكون هذا الحدث مدخلاً عملياً لإضعاف علي «عليه
السلام» وطرد عماله، واقتطاع جزء مهم من مناطق نفوذه. وإيجاد ركيزة
انطلاق لمناوأته، وشن الحرب عليه، وإسقاط حكومته كلها..
إلا أن التوسع فيه لن يكون له كبير جدوى، وسيكون
مملاً، وربما ممجوجاً.. إذا كان سيخرج سيرة إمام معصوم عن سياقها،
وسيكون سبباً في التفريط بما هو أهم ونفعه أعم، ألا وهو بيانات،
ومواقف أمير المؤمنين «عليه السلام».. التي هي شرع ودين، وسياسة،
ومفاهيم، وقيم، وأخلاق، وسلوك، وعلم وحكمة، وتدبير معصوم، لا بد من
اتخاذه منهجاً وعقيدة وسلوكاً و.. و..
من أجل ذلك رأينا أن نقتصر على الأمور التالية:
وأول ما يطالعنا هنا هو كتاب
طلحة والزبير لعثمان بن حنيف:
أن اخل لنا دار الإمارة..
ومن الواضح:
أولاً:
أن نفس إصدار هذا الأمر إلى ابن حنيف يعتبر إعلاناً
منهم للحرب، فضلاً عن أنه نكث البيعة، وعدوان على صلاحيات الخليفة
الذي نصب ابن حنيف..
وهو كاف لمبادرة ابن حنيف للتصدي له، ودفع المعتدين
والناكثين.. ولم يكن بحاجة لاستدعاء الأحنف بن قيس، وحكيم بن جبلة
لأخذ رأيهما..
ولا حاجة أيضاً إلى ادعاء أن السبأية هم الذين
أشعلوا نار الحرب..
كما لا مجال بعد لتصويرات الطبري في النصوص التي
نقلها لنا عن سيف ـ أن عائشة وفريقها مظلومون ـ وقد تحملوا وصبروا
على تعديات واستفزازات عثمان بن حنيف، وفريقه.. ولا يجديهم إظهارهم
على أنهم متسامحون، كافون وأن العدوان جاء من الفريق الآخر،
فدافعوا عن أنفسهم!!
ثانياً:
يبدو: أن طلحة والزبير وعائشة كانوا يعتمدون على
أمور:
الأول:
القوة العسكرية.
الثاني:
القوة المعنوية المتمثلة بعائشة من حيث هي زوجة
الرسول، وبنت أبي بكر..
الثالث:
ادعاء الطلب بدم عثمان، بما يمثله ادعاء مظلوميته
وتوبته، من شحن عاطفي، وتهييج مشاعر وإنفعالات، ثم تخويف للناس من
اختلال نظامهم، وتعرضهم للأخطار الجسام، إذ أصبح قتل الخلفاء سنة،
من حيث أن ذلك يعرض الناس لعبث الأوباش في أمنهم، وفي كل حياتهم..
الرابع:
الشبهات والأضاليل التي يثيرونها حول شراكة علي في
قتل عثمان، وفي إيوائه لقتلته..
وقد قال الأحنف بن قيس في قوله
لابن حنيف:
بادرهم قبل أن يكونوا معك في دار واحدة، فيكون
الناس لهم أطوع منهم لك، فألمح بذلك إلى نفس العناصر التي ذكرناها
آنفاً، لأنهم سوف يؤثرون على كثير من الناس من الناحية العاطفية،
بشبهاتهم حول المشاركة في قتل عثمان، وحول إيواء قتلته، بالإضافة
إلى تأثير عائشة كزوجة للرسول، والتي سوف يبهرهم حضورها وغير ذلك.
فإن هذا كله يشير إلى أن كثيراً من الناس سوف
ينساقون مع طلحة والزبير.
أما علي «عليه السلام» فهم لا يعرفون عنه الشيء
الكثير، ومجرد كونه الخليفة، لا يمنع ـ بنظرهم ـ من أن يتبين لهم
أن بيعتهم له لم تكن في محلها..
وقد كان رأي ابن حنيف هو الأقوم والأسلم، فهو من
جهة يحصن موقعه، ويستعد للمفاجآت كي لا يؤخذ على حين غرة..
ومن جهة أخرى يكون قد قام بحق الخليفة الذي نصبه،
فإن من حقه أن يطلعه على الأمور، وأن يطلب منه أن يطلعه على رأيه،
لينتهي إليه، وأن يصدر إليه أوامره ليلتزم بها..
وهذا هو معنى الانضباط المطلوب الذي تقوم به
الأمور، وتساس به العباد، لأن ذلك يمكن مصدر القرار من اتخاذ
القرار الصائب في الموقع المناسب لوضوح الأمور له.. ويجعله مطمئناً
إلى مسارها، عارفاً بمآلها، مستعداً لكل طارئ.. بعيداً عن كل
إبطاء، وتضييع، ينشأ عن ضبابية الصورة لديه..
ولا نبعد إذا قلنا:
إن عثمان بن حنيف كان أكثر من منصف في تعامله مع
البغاة، فإنه برغم تلقيه رسالة منهم تأمر بإخلاء دار الإمارة،
وتسليمه إليهم، وهذا يعني إعلان خلعه، والتوطئة للدخول في حرب
معه.. التزم بمضمون رسالة أمير المؤمنين إليه ولم يحفل برسالتهم،
بل أرسل إليهم من يستعلم خبرهم مباشرة، ويرى ما الذي جاء بهم. وعاد
إليه رسله بما دل على قوة عزمهم على الفتنة، وأن مطلوبهم هو أن
ينكث الناس بيعتهم لعلي «عليه السلام»، وأن يخلعوه، ويعيدوا الأمر
شورى..
واحتجاجات أبي الأسود عليهم، وإن أسكتتهم وأفحمتهم،
ولكنها لم تؤثر على عزمهم على مواصلة الفتنة، والعصيان، وممارسة
الجريمة والعدوان..
وملاحظة كلمات عائشة وطلحة
والزبير، حول عثمان تعطي:
أنهم لم
يجدوا له من الفضائل ما يميزه عن غيره، فاكتفوا بإيراد شعارات
فضفاضة، وعبارات عامة، لا تسمن ولا تغني من جوع، مثل كونه مهاجراً
وصحابياً، وأن له فضيلة وسابقة، وأن القرآن نزل بفضله وأنه من
الأئمة الوالين على الناس
ـ من دون أن يبينوا لنا مفردات تلك الفضائل التي يشيرون إليها
ويعولون عليها، ولا ذكروا لنا أية فضيلة يقصدون، وعن أية آية نزلت
في حقه يتحدثون فلم يذكروا له مقاماً يذكر في بدر واحد، والأحزاب،
وخيبر
وحنين، وذات السلاسل، وسواها..
ولم يذكروا له فضلاً في عبادة، ولا تميزاً في زهادة
ولا شهرة في علم ولا مأثرة تخير إلى حلم.. ولا قولاً يؤثر عن رسول
الله «صلى الله عليه وآله» في حقه، ولا غير ذلك.
نعم.. هم قد ذكروا:
أنه أحد من تولوا أمور الناس. مع أن هذه الولاية
نفسها قد أظهرته على حالات دعت الناس إلى قتله، بسبب كثرة ما أخذوه
عليه..
مع أن طلحة والزبير وعائشة كانوا في أمس الحاجة إلى
تصيد الفضائل والمكرمات له، ولو كانت رؤيا منام، أو خيالات
وأوهام..
وقد صرح البغاة في النصوص
السابقة، ولا سيما في كلام طلحة:
أن هدفهم هو أن يقتلوا إمامهم الذي فرض الله طاعته
ورسوله «صلى الله عليه وآله». أعني علياً «عليه السلام» ومن معه من
المؤمنين، إن تمكنوا من ذلك.. وقد جاؤوا إلى البصرة يطلبون مساعدة
أهلها في ذلك.
فما يدعيه بعض الناس..
بل قد ورد ذلك على لسان عائشة نفسها، من أن غرضهم
كان هو الصلح، غير صحيح، بل هي مكيدة تهدف إلى تبرئة طلحة والزبير،
وعائشة، ومن معهم من هذه المخالفات الكبيرة والخطيرة.. وكيف تكون
المعصية ومخالفة أوامر الله ورسوله، والتمرد عليها أساساً للصلح؟!
وأي صلح؟! ومع من؟! ولما؟! إلا إن كان مقصود بعضهم بالحديث عن
الصلح هو الصلح على طريقته، أي الصلح الذي يأتي بعد قتل علي «عليه
السلام» ومن معه، يكرس لهم خلافتهم، وزعامتهم، ونهجهم، وسياساتهم..
وقد زعموا للناس:
أولاً:
أن علياً «عليه السلام» ابتز الأمة أمرها.. مع أن
هذا غير صحيح، فإن الصحابة بما فيهم طلحة والزبير والمهاجرون،
والأنصار، وأهل بدر، وسائر الناس بقوا ثمانية أيام ـ وربما خمسة ـ
كما في تاريخ الطبري، وابن الأثير، وغيرهما يلاحقونه «عليه السلام»
من مكان إلى مكان، ويلحون عليه بقبول البيعة، وهو يأباها.. هذا
فضلاً عن كون إمامته منصوصاً عليها من الله ورسوله، وله بيعة في
أعناقهم، هي بيعة يوم الغدير، فضلاً عن بيعة الخلافة بعد قتل
عثمان.
ثانياً:
إنه «عليه السلام» هو الذي قتل عثمان، وساعده على
ذلك قوم غير أتقياء ولا أبرار..
مع أن الأمر على عكس ذلك أيضاً، فإن طلحة والزبير
هما اللذان توليا أمر حصار عثمان وقادوا الناس في مهاجمته حتى قتل.
وليس لعلي «عليه السلام» في هذا الأمر أي دور ولا من قريب ولا من
بعيد..
كما أن الذين ساعدوا على قتله هم أكثر الصحابة،
وأهل المدينة. فضلاً عمن حضر إلى المدينة من سائر الأمصار، مثل
الكوفة، والبصرة ومصر..
ثالثاً:
إنهم زعموا أيضاً أن عثمان قد قتل بريئاً تائباً.
مع أنه قد تقدم: أنه أصر على التراجع عن وعوده التي قطعها، ولم يرض
بالتراجع عن شيء مما صنعه..
وتقدم في كلام طلحة والزبير:
أن من أخذ الأمر من غير رضا العامة، ولا مشورة
منها، ابتزازاً كان ملكاً عضوضاً. وحدثاً كبيراً.. أي أن الميزان
عندهما في صحة الخلافة هو مشورة العامة ورضاهم..
وهذا يخالف ما عليه أكثر المسلمين، فإن الشيعة يرون
أن الخلافة لا تكون إلا بالنص من المعصوم. أما أهل السنة.. فيرون
إنعقادها بعهدٍ من الخليفة السابق([1]).
ولكنهم تناسوا: أن بيعة أبي بكر لم تكن بعهد، ولا كانت برضا الناس
ومشورتهم.
ويقولون أيضاً:
إن أبا بكر قد نص على عمر، وقالوا: إن الخلافة تنعقد أيضاً بالقهر
والغلبة([2])،
وببيعة أهل الحل والعقد([3])،
فإذا انعقدت، لم يجز لأحد نقضها، ووجبت طاعته.
وأهل الحل والعقد هم نخبة تمتاز
بأمور ثلاثة:
العلم، والعدالة والرأي والتدبير..([4]).
وقال النووي، فإن انعقدت بواحد اعتبر فيه الاجتهاد،
وإن انعقدت بأكثر من واحد، اعتبر أن يكون فيهم مجتهد([5]).
وأما عدد من تنعقد بهم، فقيل:
تنعقد بواحد، وقيل: باثنين، وقيل: بثلاثة.
وقيل:
بأربعة.
وقيل:
بخمسة.
وقيل:
بأربعين.
وقيل:
بمن تيسر([6]).
فأين موقع رضى العامة ومشورتهم من هذا كله؟!
وكيف يدَّعي طلحة أو غيره جعل أمر نصب الإمام
إليهم؟!
وهل يمكن أن يتفق العامة على إمام واحد؟!
وهل يختار العامة من تجتمع فيه الصفات المطلوبة؟!
أم يختارون وفق أهوائهم ومصالحهم، ومن يكون الأقدر على خداعهم،
وتضليلهم. ومن يلبي لهم مطالبهم، ويرضي شهواتهم؟!
1 ـ
لست أدري كيف يمكن تبرير ما ذكرته بيانات عائشة عن
ذنوب عثمان، التي نقموها عليه، وقتلوه من أجلها.. فإنها قد سخفت
وصغرت ذنوبه إلى حد غير معقول.. تخالفه كل الوقائع والنصوص وتبين
أن الأمر كان أخطر بكثير مما تريد عائشة أن تسوق له..
ويكفي أن نذكرها هنا بقولها المشهور:
اقتلوا نعثلاً قتل الله نعثلاً.
وقولها:
أقتلوا نعثلاً فقد كفر.
وقد قال الشاعر لها:
فـمـنـك الـبـداء ومـنـك الغير ومـنـك
الـرياح ومـنـك المطــر..
وأنـت أمـرت بـقـتـل الإمــام وقـلـت
لـنـا: إنــه قـــد كـفـر..
فهل أمرتهم بقتله وحكمت بقتله لمجرد أنه حمى الحمى،
وضرب بالسوط، وأمَّر الشبان؟!
وهل رضي الصحابة بقتله لمجرد أنه أقدم على هذه
الأمور؟!
2 ـ
لست أدري ما الذي قصدته عائشة بقولها: «فقتلوه
محرماً» هل كان عثمان محرماً حقاً؟! ولماذا لم يحدثنا التاريخ عن
إحرامه هذا؟! وقد بدأ حصاره قبل حضور وقت الحج بزمن طويل، واستمر
عشرات الأيام، فهل أحرم في حال حصاره؟!
وهل تاب حقاً عن أفاعيله التي نقموها عليه؟! ألم
يَعِدْ علياً «عليه السلام» بالتراجع عنها، ثم أخلف وعده، ونقض
عهده؟!
وقد حاولت عائشة:
أن تجاري أمير المؤمنين «عليه السلام» في علومه
الظاهرة، وكراماته الباهرة، فمنيت بالفشل الذريع، وذلك انها اعتمدت
طريقة الإخبار عن الغيب، لتوهم الناس بأن لديها علوماً خاصة بها..
ولا بد أن يجمح بالناس خيالهم، ويتوهموا أن مصدر هذه الأخبار هو
الرسول نفسه، وقد اختصها بها لمكانتها عنده.. وهنا بطبيعة الحال
سيشد الناس إليها، وسيترددون كثيراً في مخالفة أمرها. أو على الأقل
سوف يؤدي بهم الشك والريب إلى عدم اختيار علي «عليه السلام». وتهيب
الدخول معها في صراع دموي يريد علي منهم أن يخوضوه ضدها. إذا لزم
الأمر..
كما أن هذه الأخبار بالغائبات صيغت بطريقة لا تسمح
باكتشاف خطلتها وفسادها في المدى المنظور، فهي إذن في مأمن من هذه
الناحية. وما عليها إلا أن تستثمر هذه الأخبار إلى أقصى حد ممكن..
وقد قالت عائشة للناس:
«بايعتم ابن أبي طالب بغير مشورة من الجماعة،
ابتزازاً وغصباً».
ونقول:
1ـ
شتان ما بين هذا وبين ما قرره أمير المؤمنين «عليه
السلام»، من أن بيعته هي التي تحققت فيها الشورى الحقيقية، فقد بقي
الناس كل الناس، عل اختلاف طبقاتهم ومشاربهم أياماً كثيرة: خمسة
أيام أو ثمانية، بل قال بعضهم أربعين يوماً يتشاورون، ويلحون عليه
بالبيعة له، وهو يأبى ذلك.. فهل هناك مشورة أظهر، وأوسع؟! وأصدق
وأدق منها؟!
2ـ
هل يصح القول بأن بيعة كهذه لم تكن من الجماعة. أو
لم يكن باختيارهم، بما فيهم طلحة والزبير ومروان. باستثناء بعض
الأشخاص من عمال عثمان، الذين قتل عثمان بسببهم؟!
3ـ
هل من يبقى كل هذه المدة الطويلة يأبى قبول البيعة،
ويحاول أن يخفي نفسه عن الناس ليتركوه وشأنه، ثم بايعه المهاجرون
والأنصار، بما فيهم أهل بدر وأهل بيعة الرضوان، وجميع أهل المدينة،
وأهل الأمصار طائعين غير مكرهين.. وهل يكون قد أخذ الخلافة
ابتزازاً وغصباً؟!
4 ـ
من هم الذين سمتهم عائشة بـ «الجماعة» هل هم عمال
عثمان الذين هم أصل المشكلة، وقد قتل عثمان بسببهم، وهم بضعة أفراد
مثل معاوية، ومن هرب منهم خوفاً من الناس إلى مكة؟! مثل الوليد بن
عقبة، وعبد الله بن عامر وغيرهما.
أما طلحة والزبير فكانا في طليعة المصرين عليه
بالبيعة له، وكانا أول من بايعه..
ومن الغريب هنا قول عائشة:
اجعلوا الأمر شورى بين الرهط الذي اختارهم عمر بن
الخطاب، ولا يدخل فيهم من شرك في دم عثمان..
فأولاً:
إن هذا يقتضي أن يبايع الناس علياً دون سواه، فإنه
هو الوحيد الذي لم يشرك في دم عثمان بل دافع عنه، وحاول حل مشكلته،
ولكن عثمان لم يف للناس بوعوده التي قطعها على نفسه..
ثم إنه، بالرغم من ذلك كله كان هو الذي أرسل إليه
بالماء حين منعه منه محاصروه ثم أرسل ولديه الإمامين الحسنين
عليهما السلام، ليدافعا عنه، فطلب منهما عثمان العودة، حسب
رواياتهم التي تقدم بعض ما نقوله فيها وحولها..
أما طلحة فكان من أشد الناس عليه، وهو الذي تولى
حصاره ومنع الماء عنه، وقيادة الهجوم عليه.. وكذلك الحال بالنسبة
للزبير الذي اعترف
ـ مرات كثيرة ـ بتحريضه، وكان شديداً عليه. وكذلك
الحال بالنسبة لسعد بن أبي وقاص، فإنه كان من الناقمين والمحرضين
أيضاً..
ثانياً:
كيف نجمع بين ما تطلبه عائشة من الناس هنا وبين ما
يطلبه طلحة والزبير، فإن عائشة طلبت من الناس إعادة شورى عمر،
المتمثلة بأفراد أربعة خرج منها ثلاثة لمشاركتهم في أمر عثمان،
وبقي واحد. أما طلحة والزبير، فقد قالا للناس: إن كل من أخذ الأمر
من غير رضا العامة وغير مشورةٍ منها ابتزازاً، كان ملكه ملكاً
عضوضاً، وحدثاً كبيراً..
وهذا يعني:
أنهم لا يرضون بالشورى العمرية.
ثالثاً:
تقدم: أن الشورى العمرية قد تحققت في البيعة لعلي
«عليه السلام» بصورة تامة، وذلك ببيعة طلحة والزبير وسعد له بإلحاح
منهم، وما يقال من امتناع سعد، فإنما كان امتناعاً عن الخروج لحرب
الخارجين عليه، لا امتناعاً عن البيعة، وتحققت المشورة العامة
أيضاً، ومشورة كل كبير وصغير بما فيهم جميع المهاجرين والأنصار
بإصرارهم على علي بالبيعة له «عليه السلام».
فلماذا إذن تطلب عائشة نقض هذه البيعة؟!
وقد أوضح النص الذي نقلناه عن ابن ميثم. أن فريق
طلحة والزبير هو الذي بدأ بالعدوان على عثمان بن حنيف وأصحابه،
فإنهم جاؤوا إلى مواضع الدباغين، فاستقبلهم ابن حنيف، فشجرهم طلحة
والزبير بالرماح، فحمل عليهم حينئذٍ حكيم بن جبلة، فقاتلهم هو
وأصحابه حتى أخرجوهم من جميع السكك..
ومن يلاحظ النصوص المتقدمة وسواها يلمح بوضوح وجود
ظاهرتين مختلفتين:
فيجد الاحتياط، والصدق، والسلامة، والدقة في نقل
الوقائع، وكرم النفس، والأخلاق الرضية، والوفاء بالعهود، والوقوف
عند حدود الشرع والدين، بل ويجد الكثير من مظاهر التواضع، والعفو،
والإيثار، والإنصاف للعدو وللصديق يجد ذلك وسواه مما هو على شاكلته
في فريق علي «عليه السلام».
ويجد نقيض ذلك في الفريق الآخر، حيث تطغى على
كلماتهم، وإخباراتهم، وحكاياتهم للوقائع، وتعاملهم وممارستهم
وموافقتهم الكذب الصريح، والتناقضات الواضحة، والغدر، والعدوان
والظلم، والنكث، وعدم المبالاة بأحكام الشرع والدين، والعجرفة،
والتكبر، والشح، والكيل بمكيالين، والحيف على القريب والبعيد.
مع أن كلا الفريقين قد عاشا في بيئة واحدة، ومحيط
واحد..
وقد ذكر المعتزلي المتوفى 656هـ أي بعد مئات السنين
من استشهاد علي «عليه السلام»، سجاحة الأخلاق، وبشر الوجه، وطلاقة
المحيا، والتبسم عند علي.. وأشار إلى قول صعصعة بن صوحان وغيره من
شيعته، وأصحابه: كان فينا كأحدنا لين جانب، وشدة تواضع، وسهولة
قياد..
ثم قال ـ وهنا بيت القصيد ـ:
«..وقد بقي هذا الخلق متوارثاً متناقلاً في محبيه،
وأوليائه إلى الآن. كما بقي الجفاء والخشونة والوعورة في الجانب
الآخر. ومن له أدنى معرفة بأخلاق الناس يعرف ذلك».
غير أنني أقول:
إن ابن أبي الحديد يريد أن يعزو ذلك إلى تأثر أصحاب
علي «عليه السلام» به في أخلاقه بسبب عشرتهم له.. ولكن ما أريد
الإشارة إليه: هو أن الأمر لا يقتصر على ذلك، بل تعداه إلى ما هو
أعلى من ذلك. فإن الفريق الذي ذكرته النصوص المتقدمة وقد عنيته في
كلامي لم يكن قد عاشره «عليه السلام»، بل لعل أكثرهم لم يكن قد
رآه..
وهذه الملاحظة تأخذ بأيدينا إلى الإعتقاد بأن نفس
تولي علي «عليه السلام»، والانتساب إليه، والكون في حزبه له بركات
وآثار، وتوفيقات خاصة: لأن ولايته ومحبته نعمة إلهية لها آثار
وضعية، ولو لم تتحقق معها المخالطة والعشرة.. وقد نلمح ذلك في قوله
تعالى:
﴿فَأَصْبَحْتُمْ
بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً﴾([7]).
وغير ذلك..
ورغم عدوان طلحة والزبير، وفريقهما على أصحاب ابن
حنيف، وما جرى بينهم من قتال في اليوم الأول.. نلاحظ: أن عثمان بن
حنيف لا يتعامل مع ما جرى على أنه أمر واقع يلغي أية محاولة لدرء
الفتنة والقتل عن الناس، فضلاً عن أن يتخذه ذريعة لإيراد ضربته
القاصمة بالناكثين والمعتدين، بعد أن برروا ذلك له بعدوانهم.
فعاد «رحمه الله» لموعظتهم، والسعي للحيلولة دون
تفاقم الأمور، رفقاً منه بهم وبالناس، وحباً بالسلامة، والسلام في
الأمة..
ولكنه «رحمه الله» لم يغفل عن تسجيل إدانة لهما حين
ذكرهما ـ يعني طلحة والزبير ـ بيعتهما. لكي يمنع من استغلالهما
كلامه لادعاء أن لهما حقاً، أو شبهة حق..
وكان جزاؤه «رحمه الله» منهما الشتم والسب، ورفض
طلبه، والتطاول على أمه.. فظهر للناس كلهم: أنهما هم الباغيان
والمعتديان، اللذان لا يهتمان لسلامة الناس، ولا مانع لديهما من أن
تسفك الدماء ويشيع الخوف، وتتقطع أوصال المجتمع الإسلامي، وتحل به
المآسي والنكبات والكوارث من أجل الدنيا.
فشتموه شتماً قبيحاً، وذكروا أمه كما قلنا. فأظهروا
بذلك للناس مدى إسفافهما، وأنهما لا حجة لهما، ولا منطق لديهما
يعتمدان عليه.. وإلا، فلماذا لا يقابلان الحجة بالحجة، والدليل
بالدليل لو كان لديهما ما يصلح أن يعد حجة ودليلاً ولو ضعيفاً؟!
فكان عثمان بن حنيف ذلك الرجل الصفوح، والمترفع عن
السفاسف الذي ينزه نفسه عن الفحش في القول، وعن الدناءة في الفعل.
وأظهر المزيد من الإحترام والمحبة والتعظيم لرسول الله «صلى الله
عليه وآله»، وأنه مسيطر على نفسه، مالك لغضبه.. حين يقتضي الأدب،
والشرع والدين ذلك.. فقال للزبير: لولا صفية ومكانها من رسول الله
«صلى الله عليه وآله»، فإنها أذرتك إلى الظل.. أي أنها هي التي
جعلت الزبير في موضع الأمن من جواب عثمان بن حنيف القوي والحازم.
ولا حاجة إلى التذكير:
بأن طلحة والزبير بعد نكثهما البيعة، وعدوانهما على
أصحاب ابن حنيف حتى نشب القتال بينهما، ثم سبهما لابن حنيف ولأمه..
قد غدرا به، حين هاجماه في مسجده، ومنعاه من الصلاة.. ثم تماديا في
الغدر والعدوان، فأمرا بأخذ عثمان بن حنيف وضرباه ضرب الموت، وجرى
عليه ما جرى..
وقد لفت نظرنا هنا:
أن الذي تصدى للصلاة حين تم لهم عزل ابن حنيف عنها
هو الزبير، وليس طلحة، ولعل السبب في ذلك: هو أن الزبير يمت إلى
رسول الله «صلى الله عليه وآله» بصلة القرابة، وهو كونه ابن عمته..
وقد أشار عثمان بن حنيف نفسه إلى ذلك حين قال للزبير: لولا صفية،
ومكانها من رسول الله «صلى الله عليه وآله»..
فتقديمه للصلاة هنا قد يخفف من حدو نقد الناس
للناكثين.
أما طلحة فهو تيمي، وليس بالضرورة أن يرجحه الناس
على الزبير، فإن لقرابة النبي «صلى الله عليه وآله» وقعاً، وهي
أعظم أثراً في وجدان الناس من أية قرابة أخرى، حتى لو كانت قرابة
لأبي بكر.. وأول من ادعى واستغل عنصر القرابة من النبي «صلى الله
عليه وآله» هو أبو بكر، وتبعه عمر. وكل من طلب أمر لخلافة، ورشح
نفسه وسعى لها من الأمويين والعباسيين نجد أنه ادعى واستغل أمر
القرابة من النبي «صلى الله عليه وآله».. لكن قربى رسول الله «صلى
الله عليه وآله» الحقيقية لم تراع.. وقد أشار أهل البيت إلى هذا
الأمر في أحاديثهم «صلوات الله وسلامه عليهم».
وقد أمرت عائشة ـ كما تقدم ـ أبان بن عثمان بقتل
عثمان بن حنيف، وقالت: «اضرب عنقه، فإن الأنصار قتلت أباك، وأعانت
على قتله».
وأرسلت إلى الزبير:
«أن اقتل السبابجة، فإنه قد بلغني الذي صنعوا بك
قبل.
فذبحهم ـ والله ـ كما يذبح الغنم. ولي ذلك عبد الله
ابنه. وهم سبعون رجلاً.. ثم قتل خمسين أسيراً فيهم أبو سالمة الزطي([8])
صبراً. وبلغ عدد المقتولين من السبابجة آنئذٍ أربع مئة رجل»([9]).
ونقول:
أولاً:
سيأتي ـ إن شاء الله ـ: أنه ليس للمرأة أن تتولى
السلطة، ولا أن تتولى القضاء. فما معنى أن تأمر عائشة بقتل الناس؟!
ثانياً:
هل صحيح أن الأنصار هم الذين قتلوا عثمان؟! ولماذا
نسيت عائشة تزعُّم طلحة للمهاجمين لعثمان، والمشاركين في قتله، وهو
مهاجري؟!
ولماذا نسيت مشاركة الزبير، ومشاركتها هي، وسعد بن
أبي وقاص وغيرهم.. في تحريض الناس على قتل عثمان. وقولها: «اقتلوا
نعثلاً فقد كفر»؟!
ولماذا نسيت المصريين والكوفيين وسائر من قدم إلى
المدينة لمطالبة عثمان بإنصافهم، وبالتراجع عن سياساته، وعن تأييده
لممارسات عماله.. وشاركوا في حصاره الذي انتهى بقتله؟!
ثالثاً:
لنفترض
صحة قولها: إن الأنصار قتلوا عثمان.. فهل ذلك يجوِّز لها قتل ابن
حنيف إذا كان لم يشاركهم في قتله؟! ألم يقل الله تعالى: ﴿وَلَا
تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى﴾؟!([10]).
رابعاً:
إذا كانت عائشة قد قبلت التوبة من طلحة والزبير،
فلماذا لا تتأكد من أن ابن حنيف قد شارك في القتل، أو أعان عليه،
أو رضي به؟! أو لم يكن شيء من ذلك. وعلى فرض حصول شيء من ذلك،
لماذا لا تتأكد من توبته كما تاب طلحة والزبير بزعمهما؟! ولماذا لم
تسأله عن كل هذه الأمور وسواها مما قد يفيد في الحكم عليه بالقتل،
أو بتبرئته مما تنسبه إليه؟!
خامساً:
بالنسبة لقتل السبابجة فالأمر أعظم وأدهى.. فقد
كانوا مجرد موظفين وموكلين بحفظ بيت المال، فلا يمكنهم تسليمه لأي
من الناس إلا إلى الذي وكلهم به. فإذا هاجمهم أحد ليأخذ بيت المال
منهم، فلا ملامة عليهم إذا دفعوه عن ذلك. ودافعوا عن أنفسهم.
سادساً:
إن الزبير لم يقتل، فلماذا يقتل بسببه سبعون رجلاً،
ثم خمسون. فإن كان ذلك على سبيل القصاص، فإنهم لم يفعلوا ما يوجب
القصاص.. والذي فعلوه، لا يوجب قتلهم؟! بل هو ليس بالأمر الكبير
ولا الخطير أصلاً.
وإن كان على سبيل إجراء حكم الله فيهم لأنهم عصوا
أمر الزبير، فإن الزبير لم يكن حاكماً ولا أميراً عليهم، ولا كانت
له في عنقهم بيعة، ولا يعد دفعهم له عن أنفسهم عما في أيديهم
خروجاً على الإمام ولا إفساداً في الأرض.. ولا يحمل أي عنوان آخر
يستحقون به القتل؟!
سابعاً:
كيف يصح قتل الأسير المسلم صبراً؟! ولا سيما بعد
مهاجمتهم غدراً، وكان الكتاب قد كتب بين الناكثين، وبين عثمان بن
حنيف. وكان بيت المال في جملة ما تعهد الناكثون بعدم التعرض له،
وإبقائه تحت سلطته.
إن من يلقي نظرة على مسار الأمور في حرب الجمل يدرك
أن عائشة كانت هي المرجع والقائد الحقيقي لتلك الحرب، ولها الإشراف
التام على ما يجري، بدليل:
أولاً:
أنها كانت تتولى حل المشكلات التي تحصل بين طلحة
والزبير. حتى إنهم في نفس الليلة التي غدروا فيها بعثمان بن حنيف،
وقتلوا أربعين رجلاً من الصالحين، نتفوا لحية عثمان بن حنيف، وشعر
حاجبيه، وأشفار عينيه، وأصبح الصباح، واجتمع الناس إليهم «وأذن
مؤذن المسجد لصلاة الغداة، فرام طلحة أن يتقدم للصلاة بهم. فدفعه
الزبير، وأراد أن يصلي بهم فمنعه طلحة. فما زالا يدافعان حتى كادت
الشمس أن تطلع، فنادى أهل البصرة: الله، الله، يا أصحاب رسول الله
في الصلاة، نخاف فوتها.
فقالت عائشة:
مروا أن يصلي بالناس غيرهما.
فقال لهم يعلى بن منية:
يصلي عبد الله بن الزبير يوماً، محمد بن طلحة يوماً
حتى يتفق الناس على أمير يرضونه. فتقدم ابن الزبير وصلى بهم ذلك
اليوم»([11]).
وفي مورد آخر ذكروا:
إنه لما نزل الناكثون ذات عرق أذن مروان ثم جاء حتى
وقف على طلحة والزبير، فقال: على أيكما أسلم بالإمرة وأؤذن
بالصلاة.
فقال عبد الله بن الزبير:
على أبي [أبي عبد الله].
وقال محمد بن طلحة:
على أبي [أبي محمد].
فأرسلت عائشة إلى مروان، فقالت:
تريد [ما لك أتريد] أن تفرق [أمرنا] جماعتنا؟! ليصل
ابن أختي بالناس؟!
فكان يصلي بهم عبد الله بن الزبير حتى قدم البصرة،
فكانوا يقولون [فكان معاذ بن عبيد الله يقول]: [والله] لو ظفرنا
لاقتتلنا [لافتتنا] وما كان ليخلي [ما خلى] الزبيريون [الزبير بين
طلحة] والأمر لطلحة، ولا الطلحيون [خلى طلحة بين الزبير والأمر]
الأمر للزبير([12]).
ولكن اليعقوبي يصرح:
بأن عائشة هي التي أمرت بأن يصلي بالناس عبد الله
بن الزبير يوماً، ومحمد بن طلحة يوماً..([13]).
ولعل يعلى بن منية هو الذي نقل كلام عائشة للناس،
إذ لو نقله ابن الزبير عنها فلربما اتهم بأنه يجر الناس إلى قرصه.
ثانياً:
لقد قتل الزبير وطلحة، ولم ينهزم الجيش، بل تواصل القتال بتحريض
عائشة، ولم يتوقف حتى قطعت قوائم الجمل، واحدة بعد الأخرى، وسقط
إلى الأرض.
ثالثاً:
ورد أن علياً «عليه السلام» قال لأهل البصرة: كنتم
جند المرأة، وأتباع البهيمة، رغا فأجبتم، وعقر فهربتم([14]).
ولعل محاولة بعض الناس تهميش دور عائشة في حرب
الجمل، وإظهارها على أنها مجرد امرأة ساذجة، يستغلها طلحة والزبير
للوصول إلى مآربهما، ولم تكن تظن أن الأمور تبلغ إلى حد الذي
بلغته.. وتصويرها على أنها كانت تسعى في الصلح ورأب الصدع، ولكن
الأحداث غلبتها..
ولعل ذلك كله كان يهدف إلى التوطئة والتمهيد
لتبرئتها من دماء ألوف من المسلمين الأبرياء، وفيهم الأخيار
والصلحاء والأتقياء، وفاءً منهم لها، وحباً بها وبأبيها أبي بكر،
وتوطئة لاتهام السبأية بهذه الفتن العظيمة التي أخبر الرسول «صلى
الله عليه وآله» بها، وبعظيم إثم مرتكبيها..
وقد تحدثنا عن موضوع ابن سبأ، وبينّا أن أمره قد
انتهى وتلاشى بقتله، وأن قضيته كانت منحصرة به، وأنه لم ينشأ له
مذهب خاص به. أما محاولة تضخيم أمره. وتعظيم شأنه، فالمقصود به هو
تأكيد اتهام الشيعة بالسبأية، ومن الواضح: أن عقائد الشيعة لا
تنسجم مع مقولات ابن سبأ، بل الشيعة يعلنون عقائدهم، وشعائرهم،
وفقههم، ويستدلون عليه بآيات القرآن، وبما ثبت من سنة رسول الله
«صلى الله عليه وآله»، وروى عن أهل بيت العصمة «عليهم السلام» ضمن
ضوابط وقواعد دقيقة وحاسمة لا يتعدونها، وهي ضوابط مدونة ومنتشرة
في كل البلاد والأصقاع، وليس لديهم شيء يخبئونه، أو يتسترون عليه..
بل هم ملتزمون برفض كل ما يثبت مخالفته للقرآن، ولما ثبت عن
الأنبياء المعصومين، ولكل ما يتناقض مع أحكام العقل الصريحة
والصحيحة..
إلا إن كانوا يقصدون بالسبأية صحابة الرسول
الأخيار، وأصحاب الأئمة الأطهار، من أمثال: عمار بن ياسر وأبي
أيوب، وقيس بن سعد، وذي الشهادتين، وسائر أهل بدر وأهل بيعة
الرضوان. ومن أمثال: محمد بن أبي بكر، وحجر بن عدي، والأشتر، وسائر
محبيه «عليه السلام»..
ولو كان لابن سبأ دور وشأن لأفردوا فيه التصانيف،
ولذكروا أدلته وشبهاته، وأقواله وأفعاله، وسيرته وأحواله. ولكنك لا
تجد إلا الاتهام والنبز، والحيلولة على اعتقادات الشيعة التي هي
عين ما جاء به القرآن، وبيَّنها لنا الرسول وأهل البيت الطاهرون
«عليهم السلام».
وبعد قتل حكيم بن جبلة ومئات من الناس معه أقام
طلحة والزبير، وبايع لهما أهل البصرة، واستخفهما هذا الظفر حتى راق
لهما أن يعجلا النتيجة قبل استتمام مقدماتها، فقد روى الطبري: أن
الزبير قال لما بويع لهما:
ألا ألف فارس أسير بهم إلى علي، فإما بيته وإما
صبحته، لعلي أقتله قبل أن يصل إلينا؟!
فلم يجبه أحد.. فقال:
«إن هذه لهي الفتنة التي كنا نتحدث عنها».
فتربصا وأصحابهما ليس معهما بالبصرة ثأر إلا حرقوص
بن زهير.
وكتبوا بما تم لهم من الظفر كتاباً لأهل الشام،
وآخر إلى أهل المدينة، وآخر إلى اليمامة، ورابعاً إلى أهل الكوفة.
ولا حاجة لذكر جميع هذه الكتب([15]).
ونقول:
1 ـ
إذا كان طلحة والزبير قد فتكا بالسبابجة وهم أربع
مئة رجل ذلك الفتك الذريع، حتى لم يبقوا منهم أحداً، ثم فتكا بأهل
المسجد، وهم خمسون رجلاً، وغدرا بحراس ابن جبلة، وهم كثيرون أيضاً
رغم إعطائهم الأمان، بعد كتابة كتاب العهد بينهم، بعدم التعرض لأحد
بشيء إلى حين قدوم علي أمير المؤمنين «عليه السلام»..
وإذا كانا قد قتلا حكيم بن جبلة ومعه العشرات أو
المئات.. وإذا كان أهل البصرة قد بايعوا لهما.. فما معنى: أن لا
يستجيب ألف فارس للزبير ليغير بهم على علي «عليه السلام» ويبيته هو
وأصحابه، ويقضي عليه وعليهم، ويرتاح الناس من حرب يعرفون أنها لن
تكون نزهة لهم؟!
وأين هي سلطة القائد الحازم، الذي يقتل الأسرى،
ويغدر ويفتك بالآمنين؟! ويخشاه الناس، حتى ليكادون يموتون رعباً
وفزعاً من فتكه، وبطشه، وغدره؟!
2 ـ
كيف رضي الناس بالخروج مع الزبير لحرب علي «عليه
السلام» في الجمل الأكبر، ودارت رحى حرب ضروس قتل ألوف الرجال، حتى
قيل: إن القتلى أنافوا على الثلاثين ألفاً كما سنرى؟!
ولماذا استجاب الناس للزبير في حرب الجمل، وأسلموا
أنفسهم لهذا القتل الذريع، وهم عشرات الألوف، ولم يستجب له ولو ألف
فارس هنا ليريحهم من علي، ويوفر عليهم كل هذه الخسائر؟!
3 ـ
إذا كان الزبير قد تيقن أن هذه هي الفتنة التي
كانوا يتحدثون عنها، فلماذا لم يتراجع قبل فوات الأوان؟! وإن كان
في شك من أمره، فلماذا مضى على شكه، وغرر بنفسه وبالناس؟!
4 ـ
ألا نفهم من ذلك: أن الزبير لم يكن جاداً في طلبه
الألف فارس، بل كان يريد الاستعراض للاستنهاض، وإثارة الحماس لدى
الناس، وإيهامهم أن لا خطورة من مواجهة علي «عليه السلام»..
([1])
الأحكام السلطانية للفراء ص23 وشرح المواقف ج3 ص365 ومآثر
الإنافة ج3 ص39.
([2])
راجع: شرح المقاصد للتفتازاني ج2 ص272 وج5 ص252 و 253 ومآثر
الإنافة ج1 ص39 والأحكام السلطانية للفراء ص21 و 20 وشرح
المواقف ج3 ص365.
([3])
الأحكام السلطانية للفراء ص23 وشرح المواقف ج3 ص365 وشرح
المقاصد ج5 ص252 و 253 ومآثر الإنافة ص39
([4])
الأحكام السلطانية أبي يعلى الفراء ص19 والنووي في الروضة.
([5])
مآثر الإنافة ج1 ص45.
([6])
مآثر الإنافة ج1 ص42 وراجع: الأحكام السلطانية للماوردي ص6.
([7])
الآية 103 من سورة آل عمران.
([8])
بحار الأنوار ج32 ص119 وراجع: فتوح البلدان ج2 ص463 و 464.
([9])
الجمل لابن شدقم ص115 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص321 وفتوح
البلدان ج2 ص463 و 464.
([10])
الآية 164 من سورة الأنعام، والآية 15 من سورة الإسراء، والآية
18 من سورة فاطر، والآية 7 من سورة الزمر.
([11])
الجمل للشيخ المفيد ص281 و 282 و (ط مكتبة الداوري ـ قم ـ
إيران) ص151 و 152 والجمل لابن شدقم ص39 و 40 وراجع: أنساب
الأشراف ج1 ص227 و 228 وتاريخ الأمم والملوك ج4 ص468 و 469
ومروج الذهب ج2 ص358 وراجع: شرح نهج البلاغة ج9 ص320 ـ 211
والنص والإجتهاد ص446.
([12])
تجارب الأمم ج1 ص303 و 304 وشذرات الذهب ج1 ص42 ومرآة الجنان
ج1 ص95.
([13])
تاريخ اليعقوبي ج2 ص181.
([14])
نهج البلاغة الخطبة (بشرح عبده) ج1 ص44 والأمالي للطوسي ص702 و
703 والأخبار الطوال ص151 ومروج الذهب ج2 ص368 وعيون الأخبار
لابن قتيبة ج1 ص217 والعقد الفريد ج4 ص328 وتفسير القمي ص655 و
(ط مطبعة النجف) ج2 ص339 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة)
ج2 ص18 والإحتجاج ج1 ص250 وبحار الأنوار ج32 ص225 و 226 و 236
و 245 و 254 وج57 ص224 وشجرة طوبى ج2 ص322 ومستدرك سفينة
البحار ج1 ص153 و 361 و 364 ونهج السعادة ج1 ص322 و 325 وشرح
نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص251 وتفسير نور الثقلين ج5 ص172
ومعجم البلدان ج1 ص436 وأعيان الشيعة ج1 ص197 والجمل للشيخ
المفيد ص217 والمناقب للخوارزمي ص189.
([15])
راجع: عائشة والسياسة ص147 عن تاريخ الأمم والملوك ج3 ص491.