وبعد أن عاد أبو الأسود وعمران بن الحصين من مهمتها في
استكشاف أهداف مجيء الناكثين بجيوشهم إلى البصرة قام عثمان في أمره،
ونادى عثمان في الناس وأمرهم بالتهيؤ، ولبسوا السلاح، واجتمعوا إلى
المسجد الجامع، وأقبل عثمان على الكيد، فكاد الناس لينظر ما عندهم،
وأمرهم بالتهيؤ، وأمر رجلاً ودسه إلى الناس خدعاً كوفياً قيسياً، فقام،
فقال:
يا أيها الناس، أنا قيس بن العقدية الحميسي، إن هؤلاء
القوم الذين جاءوكم إن كانوا جاءوكم خائفين، فقد جاءوا من المكان الذي
يأمن فيه الطير. وإن كانوا جاءوا يطلبون بدم عثمان، فما نحن بقتلة
عثمان. أطيعوني في هؤلاء القوم، فردوهم من حيث جاءوا.
فقام
الأسود بن سريع السعدي، فقال:
أوزعموا أنَّا قتلة عثمان؟! فإنما فزعوا إلينا يستعينون بنا على قتلة
عثمان منا ومن غيرنا، فإن كان القوم أخرجوا من ديارهم كما زعمت، فمن
يمنعهم من إخراجهم الرجال، أو البلدان!
فحصبه الناس، فعرف عثمان:
أن لهم بالبصرة ناصراً ممن يقوم معهم، فكسره ذلك.
وأقبلت عائشة فيمن معها، حتى إذا انتهوا إلى المربد
ودخلوا من أعلاه أمسكوا ووقفوا حتى خرج عثمان فيمن معه.
وخرج إليها من أهل البصرة من أراد أن يخرج إليها ويكون
معها، فاجتمعوا بالمربد، فجعلوا يثوبون حتى غص بالناس([1]).
فافترق أصحاب عثمان بن حنيف فرقتين،
فقالت فرقة:
صدقت والله وبرت، وجاءت والله بالمعروف.
وقال الآخرون:
كذبتم والله ما نعرف ما تقولون.
فتحاثوا، وتحاصبوا، وأرهجوا. فلما رأيت ذلك عائشة
انحدرت وانحدر أهل الميمنة مفارقين لعثمان حتى وقفوا في المربد في موضع
الدباغين.
وبقي أصحاب عثمان على حالهم يتدافعون حتى تحاجزوا، ومال
بعضهم إلى عائشة، وبقي بعضهم مع عثمان على فم السكة.
وأتى عثمان بن حنيف فيمن معه، حتى إذا كانوا على فم
السكة، سكة المسجد عن يمين الدباغين استقبلوا الناس، فأخذوا عليهم
بفمها([2]).
وفيما ذكر نصر بن مزاحم، عن سيف، عن سهل بن يوسف، عن
القاسم بن محمد، قال: وأقبل جارية بن قدامة السعدي، فقال: يا أم
المؤمنين، والله لقتل عثمان بن عفان أهون من خروجك من بيتك على هذا
الجمل الملعون عرضةً للسلاح!
إنه قد كان لك من الله ستر وحرمة، فهتكت سترك وأبحت
حرمتك.
إنه من رأى قتالك فإنه يرى قتلك.
وإن كنت أتيتنا طائعة فارجعي إلى منزلك، وإن كنت أتيتنا
مستكرهة فاستعيني بالناس.
قال:
فخرج غلام شاب من بني سعد إلى طلحة
والزبير، فقال: أما أنت يا زبير فحواري رسول الله «صلى الله عليه
وآله»، وأما أنت يا طلحة فوقيت رسول الله «صلى الله عليه وآله» بيدك،
وأرى أمكما معكما، فهل جئتما بنسائكما؟! قالا: لا.
قال:
فما أنا منكما في شيء، واعتزل.
وقال السعدي في ذلك:
صـنتـم حلائلكم وقدتم أمكم هـذا لـعـمـرك
قـلـة الإنـصــاف
أمـرت بـجـر ذيـولهـا في بيتـها فـهـوت تـشـق
الـبـيـد بالإيجاف
غـرضـاً يـقـاتـل دونها أبناؤها بـالـنـبـل
والخـطِّـي والأسـيــاف
هتكت بطلحة والزبير ستورها هـذا المـخـبر
عـنـهـم والـكافي([3])
وأقبل غلام من جهينة على محمد بن
طلحة ـ وكان محمد رجلاً عابداً ـ فقال:
أخبرني عن قتلة عثمان!
فقال:
نعم، دم عثمان ثلاثة أثلاث: ثلث على صاحبة الهودج ـ
يعني عائشة ـ وثلث على صاحب الجمل الأحمر ـ يعني طلحة ـ وثلث على علي
بن أبي طالب.
وضحك الغلام وقال:
ألا أراني على ضلال! ولحق بعلي، وقال في ذلك شعراً:
سـألـت ابن طلحـة عن هالك بــجــوف
الـمـديـنـة لـم يـقـبر
فـقـال: ثـلاثـة رهـط هــــم أمــاتــوا
ابـن عـفـان واسـتـعـبر
فـثـلـث عـلى تلك في خدرها وثـلـث عــلى
راكــب الأحـمــر
وثـلـث عـلى ابـن أبي طــالب ونـحـن
بِــــدَوِّيـــــةٍ قــرقـــر
فـقـلـت: صدقت على الأولين وأخطـأت فـي
الثـالث الأزهر([4])
سيف عن محمد وطلحة قال:
فخرج أبو الأسود وعمران، وأقبل حكيم بن جبلة، وقد خرج
وهو على الخيل، فأنشب القتال، وأشرع أصحاب عائشة رماحهم وأمسكوا
ليمسكوا، فلم ينته ولم يثن، فقاتلهم وأصحاب عائشة كافون إلا ما دافعوا
عن أنفسهم، وحكيم يذمر خيله ويركبهم بها، ويقول: إنها قريش ليردينها
جبنها والطيش.
واقتتلوا على فم السكة، وأشرف أهل الدور ممن كان له
واحد من الفريقين هوىً، فرموا باقي الآخرين بالحجارة.
وأمرت عائشة أصحابها فتيامنوا حتى انتهوا إلى مقبرة بني
مازن، فوقفوا بها ملياً، وثار إليهم الناس، فحجز الليل بينهم.
فرجع عثمان إلى القصر، ورجع الناس إلى قبائلهم.
وجاء أبو الجرباء، أحد بني عثمان بن مالك بن عمرو بن
تميم إلى عائشة وطلحة والزبير، فأشار عليهم بأمثل من مكانهم، فاستنصحوه
وتابعوا رأيه، فساروا من مقبرة بني مازن، فأخذوا على مسناة البصرة من
قبل الجبانة حتى انتهوا إلى الزابوقة.
ثم أتوا مقبرة بني حصن وهي متنحية إلى دار الرزق،
فباتوا يتأهبون، وبات الناس يسيرون إليهم، وأصبحوا وهم على رجل في ساحة
دار الرزق.
وأصبح عثمان بن حنيف فغاداهم، وغدا حكيم بن جبلة وهو
يبربر وفي يده الرمح، فقال له رجل من عبد القيس: من هذا الذي تسب وتقول
له ما أسمع؟!
قال:
عائشة.
قال:
يا ابن الخبيثة، ألأم المؤمنين تقول هذا؟!
فوضع حكيم السنان بين ثدييه فقتله.
ثم مر بامرأة وهو يسبها ـ يعني عائشة ـ فقالت: من هذا
الذي ألجأك إلى هذا؟!
قال:
عائشة.
قالت:
يا ابن الخبيثة، ألأم المؤمنين تقول هذا؟!
فطعنها بين ثدييها فقتلها.
ثم سار، فلما اجتمعوا واقفوهم، فاقتتلوا بدار الرزق
قتالاً شديداً، من حين بزغت الشمس إلى أن زال النهار، وقد كثر القتلى
في أصحاب ابن حنيف، وفشت الجراحة في الفريقين، ومنادي عائشة يناديهم،
ويدعوهم إلى الكف، فيأبون، حتى إذا مسهم الشر وعضهم، نادوا أصحاب عائشة
إلى الصلح والمتاب.
فأجابوهم وتواعدوا، وكتبوا بينهم كتاباً على أن يبعثوا
رسولاً إلى المدينة، وحتى يرجع الرسول من المدينة، فإن كانا أكرها خرج
عثمان عنهما وأخلى لهما البصرة، وإن لم يكونا أكرها خرج طلحة والزبير.
الإتفاق
بين عثمان بن
حنيف والناكثين:
بسم الله الرحمن الرحيم
هذا ما اصطلح عليه طلحة والزبير ومن معهما من المؤمنين
والمسلمين، وعثمان بن حنيف ومن معه من المؤمنين والمسلمين:
إن عثمان يقيم حيث أدركه الصلح على ما في يده، وإن طلحة
والزبير يقيمان حيث أدركهما الصلح على ما في أيديهما، حتى يرجع أمين
الفريقين ورسولهم كعب بن سور من المدينة.
ولا يضار واحد من الفريقين الآخر في مسجد، ولا سوق، ولا
طريق، ولا فرضة، بينهم عيبة مفتوحة حتى يرجع كعب بالخبر.
فإن رجع بأن القوم أكرهوا طلحة والزبير، فالأمر أمرهما.
وإن شاء عثمان خرج حتى يلحق بطيته، وإن شاء دخل معهما.
وإن رجع بأنهما لم يكرها، فالأمر أمر عثمان، فإن شاء
طلحة والزبير أقاما على طاعة علي، وإن شاءا خرجا حتى يلحق بطيتهما،
والمؤمنون أعوان الفالح منهما.
فخرج كعب حتى يقدم المدينة، فاجتمع الناس لقدومه، وكان
قدومه يوم جمعة، فقام كعب فقال: يا أهل المدينة، إني رسول أهل البصرة
إليكم، أأكره هؤلاء القوم هذين الرجلين على بيعة علي، أم أتياها
طائعين؟!
فلم يجبه أحد من القوم إلا ما كان من أسامة بن زيد،
فإنه قام فقال: اللهم إنهما لم يبايعا إلا وهما كارهان.
فأمر به تمام، فواثبه سهل بن حنيف والناس، وثار صهيب بن
سنان وأبو أيوب بن زيد، في عدة من أصحاب رسول الله «صلى الله عليه
وآله»، فيهم محمد بن مسلمة، حين خافوا أن يقتل أسامة، فقال: اللهم نعم.
فانفرِجوا عن الرجل.
فانفرجوا عنه، وأخذ صهيب بيده حتى أخرجه فأدخله منزله،
وقال: قد علمت أن أم عامر حامقة، أما وسعك ما وسعنا من السكوت!
قال:
لا والله، ما كنت أرى أن الأمر يترامى إلى ما رأيت، وقد
أبسلنا لعظيم.
فرجع كعب، وقد اعتد طلحة والزبير فيما بين ذلك بأشياء
كلها كانت مما يعتد به، منها: أن محمد بن طلحة ـ وكان صاحب صلاة ـ قام
مقاماً قريباً من عثمان بن حنيف، فخشي بعض الزط والسبابجة أن يكون جاء
لغير ما جاء له، فنحياه، فبعثا إلى عثمان، هذه واحدة.
وبلغ علياً الخبر الذي كان بالمدينة من ذلك، فبادر
بالكتاب إلى عثمان يعجزه ويقول: والله ما أكرها (يعني طلحة والزبير)
إلا كرهاً على فرقة، ولقد أكرها على جماعة وفضل، فإن كانا يريدان الخلع
فلا عذر لهما، وإن كانا يريدان غير ذلك نظرنا ونظرا.
فقدم الكتاب إلى عثمان بن حنيف.
وقدم كعب، فأرسلوا إلى عثمان:
أن اخرج عنا.
فاحتج عثمان بالكتاب، وقال:
هذا أمر آخر غير ما كنا فيه.
فجمع طلحة والزبير الرجال في ليلة مظلمة باردة، ذات
رياح وندىً، ثم قصدا المسجد فوافقا صلاة العشاء ـ وكانوا يؤخرونها ـ
فأبطأ عثمان بن حنيف، فقدما عبد الرحمن بن عتاب، فشهر الزط والسبابجة
السلاح ثم وضعوه فيهم، فأقبلوا عليهم فاقتتلوا في المسجد وصبروا لهم،
فأناموهم وهم أربعون.
وأدخلوا الرجال على عثمان ليخرجوه إليهما، فلما وصل
إليهما توطؤوه، وما بقيت في وجهه شعرة.
فاستعظما ذلك، وأرسلا إلى عائشة بالذي كان، واستطلعا
رأيها، فأرسلت إليهما أن خلوا سبيله، فليذهب حيث شاء ولا تحبسوه.
فأخرجوا الحرس الذين كانوا مع عثمان في القصر ودخلوه.
وقد كانوا يعتقبون حرس عثمان في كل يوم وفي كل ليلة
أربعون، فصلى عبد الرحمن بن عتاب بالناس العشاء والفجر.
وكان الرسول فيما بين عائشة وطلحة والزبير هو، أتاها
بالخبر، وهو رجع إليهما بالجواب، فكان رسول القوم([5]).
عن سهل بن سعد، قال:
لما أخذوا عثمان بن حنيف أرسلوا أبان بن عثمان إلى
عائشة يستشيرونها في أمره، قالت: اقتلوه.
فقالت لها امرأة:
نشدتك بالله يا أم المؤمنين في عثمان وصحبته لرسول الله
«صلى الله عليه وآله»!
قالت:
ردوا أبانا.
فردوه، فقالت:
احبسوه ولا تقتلوه.
قال:
لو علمت أنك تدعيني لهذا لم أرجع.
فقال لهم مجاشع بن مسعود:
اضربوه، وانتفوا شعر لحيته.
فضربوه أربعين سوطاً، ونتفوا شعر لحيته، ورأسه،
وحاجبيه، وأشفار عينيه وحبسوه([6]).
وفي نص آخر:
فقدموا البصرة وعليها عثمان بن حنيف، فقال لهم عثمان:
ما نقمتم على صاحبكم؟!
فقالوا:
لم نره أولى بها منا، وقد صنع ما صنع.
قال: فإن الرجل أمَّرني، فأكتب إليه فأعلمه ما جئتم له،
على أن أصلي بالناس حتى يأتينا كتابه، فوقفوا عليه وكتب.
فلم يلبث إلا يومين حتى وثبوا عليه، فقاتلوه بالزابوقة
عند مدينة الرزق، فظهروا، وأخذوا عثمان فأرادوا قتله، ثم خشوا غضب
الأنصار، فنالوه في شعره وجسده.
فقام طلحة والزبير خطيبين فقالا:
يا أهل البصرة، توبة بحوبة، إنما أردنا أن يستعتب أمير
المؤمنين عثمان ولم نرد قتله، فغلب سفهاء الناس الحلماء حتى قتلوه.
فقال الناس لطلحة:
يا أبا محمد، قد كانت كتبك تأتينا بغير هذا.
فقال الزبير:
فهل جاءكم مني كتاب في شأنه؟!
ثم ذكر قتل عثمان وما أتى إليه، وأظهر عيب علي([7]).
رجع الحديث إلى حديث سيف، عن محمد وطلحة. قالا: فأصبح
طلحة والزبير وبيت المال والحرس في أيديهما، والناس معهما، ومن لم يكن
معهما مغمور مستسر، وبعثا حين أصبحا بأن حكيماً في الجمع.
فبعثت:
لا تحبسا عثمان ودعاه.
ففعلا، فخرج عثمان فمضى لطلبته.
وأصبح حكيم بن جبلة في خيله على رجل (أي مستعداً) فيمن
تبعه من عبد القيس [وكان من سادات عبد القيس وزهاد ربيعة ونساكها([8])]
ومن نزع إليهم من أفناء ربيعة، ثم وجهوا نحو دار الرزق وهو يقول: لست
بأخيه إن لم أنصره، وجعل يشتم عائشة، فسمعته امرأة من قومه، فقالت: يا
بن الخبيثة، أنت أولى بذلك!
فطعنها فقتلها.
فغضبت عبد القيس إلا من كان اْغتْمِر منهم.
فقالوا:
فعلت بالأمس وعدت لمثل ذلك اليوم! والله لندعنك حتى
يقيدك الله. فرجعوا وتركوه.
ومضى حكيم بن جبلة فيمن غزا معه عثمان بن عفان وحصره من
نزاع القبائل كلها، وعرفوا أن لا مقام لهم بالبصرة، فاجتمعوا إليه،
فانتهى بهم إلى الزابوقة عند دار الرزق.
وقالت عائشة:
لا تقتلوا إلا من قاتلكم، ونادوا من لم يكن من قتلة
عثمان فليكفف عنا، فإنا لا نريد إلا قتلة عثمان ولا نبدأ أحداً، فانشب
حكيم القتال ولم يرع للمنادي.
فقال طلحة والزبير:
الحمد لله الذي جمع لنا ثأرنا من أهل البصرة، اللهم لا
تبق منهم أحداً، وأقد منهم اليوم فاقتلهم. فجادُّوهم القتال، فاقتتلوا
أشد قتال ومعه أربعة قواد، فكان حكيم بحيال طلحة، وذريح بحيال الزبير،
وابن المحرش بحيال عبد الرحمن بن عتاب، وحرقوص بن زهير بحيال عبد
الرحمن بن الحارث بن هشام.
فزحف طلحة لحكم وهو في ثلاثمائة رجل، وجعل حكيم يضرب
بالسيف ويقول:
أضــــربـهـم بـالـيــــــابس ضــــرب
غــــلام عـــــــابس
مـــــــن الحـــيــــــاة آيس فــــي
الــغـــرفـــات نــــافس
فضرب رجل رجله فقطعها.
فحبا حتى أخذها فرمى بها صاحبه، فأصاب جسده فصرعه،
فأتاه حتى قتله، ثم اتكأ عليه وقال:
يـا فـــخـــذِ لـــن تـــراعي
إن مـــــعــــــي ذراعــــــــي
أحــمـــي
بــــه
كــــراعي
وقال وهو يرتجز:
ليس عـلي أن أمــــــوت عــار والـعـار في
الـنـاس هـو الـفــرار
والمــجـد
لا يـفـضـحه
الدمـار
فأتى عليه رجل وهو رثيث، رأسه على الآخر، فقال: ما لك
يا حكيم؟!
قال:
قُتلتُ.
قال:
من قتلك؟!
قال:
وسادتي.
فاحتمله، فضمه في سبعين من أصحابه.
فتكلم يومئذ حكيم، وإنه لقائم على رجل، وإن السيوف
لتأخذهم فما يتعتع، ويقول: إنَّا خلفنا هذين وقد بايعا علياً وأعطياه
الطاعة، ثم أقبلا مخالفين محاربين، يطلبان بدم عثمان بن عفان، ففرقا
بيننا، ونحن أهل دار وجوار. اللهم إنهما لم يريدا عثمان.
فنادى مناد:
يا خبيث، جزعت حين عضك نكال الله عز وجل إلى كلام من
نصبك وأصحابك بما ركبتم من الإمام المظلوم، وفرقتم من الجماعة، وأصبتم
من الدماء، ونلتم من الدنيا! فذق وبال الله عز وجل وانتقامه، وأقيموا
فيمن أنتم.
وقتل ذريح ومن معه، وأفلت حرقوص بن زهير في نفر من
أصحابه، فلجأوا إلى قومهم.
ونادى منادي الزبير وطلحة بالبصرة:
ألا من كان فيهم من قبائلكم أحد ممن غزا المدينة
فليأتنا بهم.
فجيء بهم كما يجاء بالكلاب، فقتلوا فما أفلت منهم من
أهل البصرة جميعاً إلا حرقوص بن زهير، فإن بني سعد منعوه، وكان من بني
سعد، فمسهم في ذلك أمر شديد، وضربوا لهم فيه أجلاً وخشنوا صدور بني
سعد، وإنهم لعثمانية حتى قالوا: نعتزل.
وغضبت عبد القيس حين غضبت سعد لمن قتل منهم بعد الوقعة،
ومن كان هرب إليهم إلى ما هم عليه من لزوم طاعة علي، فأمرا للناس
بأعطياتهم وأرزاقهم وحقوقهم، وفضَّلا بالفضل أهل السمع والطاعة.
فخرجت عبد القيس وكثير من بكر بن وائل حين زووا عنهم
الفضول، فبادروا إلى بيت المال، وأكب عليهم الناس فأصابوا منهم، وخرج
القوم حتى نزلوا على طريق علي.
وأقام طلحة والزبير ليس معهما بالبصرة ثأر إلا حرقوص.
وكتبوا إلى أهل الشام بما صنعوا
وصاروا إليه:
إنا خرجنا لوضع الحرب، وإقامة كتاب الله عز وجل بإقامة
حدوده في الشريف والوضيع، والكثير والقليل، حتى يكون الله عز وجل هو
الذي يردنا عن ذلك، فبايعنا خيار أهل البصرة ونجباؤهم، وخالفنا شرارهم
ونزاعهم، فردونا بالسلاح وقالوا فيما قالوا: نأخذ أم المؤمنين رهينة،
أن أمرتهم بالحق، وحثتهم عليه.
فأعطاهم الله عز وجل سنة المسلمين مرة بعد مرة، حتى إذا
لم يبق حجة ولا عذر استبسل قتلة أمير المؤمنين، فخرجوا إلى مضاجعهم،
فلم يفلت منهم مخبر إلا حرقوص بن زهير، والله سبحانه مقيده إن شاء
الله. وكانوا كما وصف الله عز وجل.
وإنَّا نناشدكم الله في أنفسكم إلا نهضتم بمثل ما نهضنا
به، فنلقى الله عز وجل وتلقونه، وقد أعذرنا وقضينا الذي علينا.
وبعثوا به مع سيار العجلي.
وكتبوا إلى أهل الكوفة بمثله، مع رجل من بني عمرو بن
أسد يدعى مظفر بن معرض.
وكتبوا إلى أهل اليمامة وعليها سبرة بن عمرو العنبري،
مع الحارث السدوسي.
وكتبوا إلى أهل المدينة مع ابن قدامة القشيري، فدسه إلى
أهل المدينة([9]).
وكتبت عائشة إلى أهل الكوفة مع رسولهم:
أما بعد..
فإني أذكركم الله عز وجل والإسلام، أقيموا كتاب الله
بإقامة ما فيه، اتقوا الله واعتصموا بحبله، وكونوا مع كتابه، فإنا
قدمنا البصرة، فدعوناهم إلى إقامة كتاب الله بإقامة حدوده، فأجابنا
الصالحون إلى ذلك، واستقبلنا من لا خير فيه بالسلاح، وقالوا: لنتبعنكم
عثمان، ليزيدوا الحدود تعطيلاً، فعاندوا فشهدوا علينا بالكفر وقالوا
لنا المنكر، فقرأنا عليهم:
﴿أَلَمْ
تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتَابِ يُدْعَوْنَ
إِلَى كِتَابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ﴾([10]).
فأذعن لي بعضهم، واختلفوا بينهم، فتركناهم وذلك.
فلم يمنع ذلك من كان منهم على رأيه الأول من وضع السلاح
في أصحابي، وعزم عليهم عثمان بن حنيف إلا قاتلوني، حتى منعني الله عز
وجل بالصالحين، فرد كيدهم في نحورهم.
فمكثنا ستاً وعشرين ليلة ندعوهم إلى كتاب الله، وإقامة
حدوده ـ وهو حقن الدماء أن تهرق دون من قد حل دمه ـ فأبوا واحتجوا
بأشياء، فاصطلحنا عليها، فخافوا، وغدروا، وخانوا.
فجمع الله عز وجل لعثمان ثأرهم، فأقادهم فلم يفلت منهم
إلا رجل.
وأردأنا الله، ومنعنا منهم بعمير بن مرثد، ومرثد بن
قيس، ونفر من قيس، ونفر من الرباب والأزد.
فالزموا الرضا إلا عن قتلة عثمان بن عفان حتى يأخذ الله
حقه، ولا تخاصموا الخائنين ولا تمنعوهم، ولا ترضوا بذوي حدود الله
فتكونوا من الظالمين.
فكتبتُ إلى رجال بأسمائهم. فثبطوا الناس عن منع هؤلاء
القوم ونصرتهم، واجلسوا في بيوتكم، فإن هؤلاء القوم لم يرضوا بما صنعوا
بعثمان بن عفان، وفرقوا بين جماعة الأمة، وخالفوا الكتاب والسنة، حتى
شهدوا علينا فيما أمرناهم به، وحثثناهم عليه من إقامة كتاب الله وإقامة
حدوده بالكفر، وقالوا لنا المنكر.
فأنكر ذلك الصالحون وعظموا ما قالوا، وقالوا: ما رضيتم
أن قتلتم الإمام حتى خرجتم على زوجة نبيكم «صلى الله عليه وآله» وأئمة
المسلمين!!
فعزموا وعثمان بن حنيف معهم، على من أطاعهم من جهال
وغوغائهم، على زطهم وسبابجهم.
فلذنا منهم بطائفة من الفسطاط، فكان ذلك الدأب ستة
وعشرين يوماً، ندعوهم إلى الحق، وألا يحولوا بيننا وبين الحق، فغدروا
وخانوا، فلم نقايسهم.
واحتجوا ببيعة طلحة والزبير.
فأبردوا بريداً فجاءهم بالحجة فلم يعرفوا الحق، ولم
يصبروا عليه.
فغادوني في الغلس ليقتلوني، والذي يحاربهم غيري، فلم
يبرحوا حتى بلغوا سدة بيتي، ومعهم عادٍ يهديهم إليَّ، فوجدوا نفراً على
باب بيتي، منهم عمير بن مرثد، ومرثد بن قيس، ويزيد بن عبد الله بن
مرثد، ونفر من قيس، ونفر من الرباب والأزد، فدارت عليهم الرحا، فأطاف
بهم المسلمون فقتلوهم.
وجمع الله عز وجل كلمة أهل البصرة على ما أجمع عليه
الزبير وطلحة، فإذا قتلنا بثأرنا وسعنا العذر.
وكانت الوقعة لخمس ليال بقين من ربيع الآخر سنة ست
وثلاثين. وكتب عبيد بن كعب في جمادى([11]).
عن عامر بن حفص، عن أشياخه، قال:
ضرب عنق حكيم بن جبلة رجل من الحدان يقال له: ضخيم. فمال رأسه، فتعلق
بجلده، فصار وجهه في قفاه([12]).
قال
ابن المثنى الحداني:
الذي قتل حكيماً يزيد بن الأسحم الحداني. وجد حكيم قتيلاً بين يزيد بن
الأسحم وكعب بن الأسحم، وهما مقتولان([13]).
عن أبي المليح، قال:
لما قتل حكيم بن جبلة أرادوا أن يقتلوا عثمان بن حنيف.
فقال:
ما شئتم، أما إن سهل بن حنيف والٍ على المدينة، وإن
قتلتموني انتصر. فخلوا سبيله.
واختلفوا في الصلاة، فأمرت عائشة عبد الله بن الزبير،
فصلى بالناس.
وأراد الزبير أن يعطي الناس أرزاقهم ويقسم ما في بيت
المال، فقال عبد الله ابنه: إن ارتزق الناس تفرقوا.
واصطلحوا على عبد الرحمن بن أبي بكر، فصيروه على بيت
المال([14]).
وعن الجارود بن أبي سبرة، قال:
لما كانت الليلة التي أخذ فيها عثمان بن حنيف، وفي رحبة
مدينة الرزق طعام يرتزقه الناس، فأراد عبد الله أن يرزقه أصحابه وبلغ
حكيم بن جبلة ما صنع بعثمان، فقال: لست أخاف الله إن لم أنصره.
فجاء في جماعة من عبد القيس، وبكر بن وائل، وأكثرهم عبد
القيس، فأتى ابن الزبير مدينة الرزق، فقال: ما لك يا حكيم؟!
قال:
نريد أن نرتزق من هذا الطعام، وأن تُخَلُّوا عثمان،
فيقيم في دار الإمارة على ما كتبتم بينكم حتى يقدم علي. والله لو أجد
أعواناً عليكم أخبطكم بهم ما رضيت بهذه منكم حتى أقتلكم بمن قتلتم.
ولقد أصبحتم وإن دماءكم لنا لحلال بمن قتلتم من
إخواننا.
أما تخافون الله عز وجل! بم تستحلون سفك الدماء؟!
قال:
بدم عثمان بن عفان.
قال:
فالذين قتلتموهم قتلوا عثمان! أما تخافون مقت الله؟!
فقال له عبد الله بن الزبير:
لا نرزقكم من هذا الطعام، ولا نخلي سبيل عثمان بن حنيف
حتى يخلع علياً.
قال حكيم:
اللهم إنك حكم عدل فاشهد.
وقال لأصحابه:
إني لست في شك من قتال هؤلاء، فمن كان في شك فلينصرف.
وقاتلهم فاقتتلوا قتالاً شديداً، وضرب رجل ساق حكيم
فأخذ حكيم ساقه فرماه بها، فأصاب عنقه فصرعه ووقذه، ثم حبا إليه فقتله،
واتكأ عليه.
فمر به رجل فقال:
من قتلك؟!
قال:
وسادتي.
وقتل سبعون رجلاً من عبد القيس.
قال الهذلي:
قال حكيم حين قطعت رجله:
أقـول لمـا جـد بـي زمـــاعــي للــرجــل
يـا رجــلي لـن تـراعي
إن مـعـي
مـن
نـجـدةٍ
ذراعــي
قال عامر ومسلمة:
قتل مع حكيم ابنه الأشرف، وأخوه الرعل بن جبلة([15]).
عن عوف الأعرابي قال:
جاء رجل إلى طلحة والزبير وهما في المسجد بالبصرة،
فقال: نشدتكما بالله في مسيركما! أعهد إليكما فيه رسول الله «صلى الله
عليه وآله» شيئاً.
فقام طلحة ولم يجبه.
فناشد الزبير، فقال:
لا، ولكن بلغنا أن عندكم دراهم، فجئنا نشارككم فيها([16]).
عن أبي عمرة مولى الزبير، قال:
لما بايع أهل البصرة الزبير وطلحة، قال الزبير: ألا ألف
فارس أسير بهم إلى علي، فإما بيتُّه، وإما صبَّحته، لعلي أقتله قبل أن
يصل إلينا!
فلم يجبه أحد، فقال:
إن هذه لهي الفتنة التي كنا نتحدث عنها.
فقال له مولاه:
أتسميها فتنة وتقاتل فيها!
قال:
ويحك! إنا نبصر ولا نبصر، ما كان أمر قط إلا علمت موضع
قدمي فيه، غير هذا الأمر، فإني لا أدري أمقبل أنا فيه أم مدبر!([17]).
وعن مجالد بن سعيد، قال:
لما قدمت عائشة البصرة كتبت إلى زيد بن صوحان: من عائشة
ابنة أبي بكر أم المؤمنين حبيبة رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى
ابنها الخالص زيد بن صوحان.
أما بعد..
فإذا أتاك كتابي هذا فأقدم، فانصرنا على أمرنا هذا، فإن
لم تفعل، فخذل الناس عن علي.
فكتب إليها:
من زيد بن صوحان إلى عائشة ابنة أبي بكر الصديق حبيبة
رسول الله «صلى الله عليه وآله».
أما بعد..
فأنا ابنك الخالص إن اعتزلت هذا الأمر، ورجعت إلى بيتك،
وإلا فأنا من نابذك.
قال زيد بن صوحان:
رحم الله أم المؤمنين! أمرت أن تلزم بيتها، وأمرنا أن
نقاتل. فتركت ما أُمِرَتْ به وأَمَرَتْنَا به، وصنعت ما أُمِرْنَا به
ونهتنا عنه!([18])..
([1])
تاريخ الأمم والملوك ج4 ص462 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص480 و
481 والفتنة ووقعة الجمل ص123.
([2])
تاريخ الأمم والملوك ج4 ص464 و 465 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3
ص481 و 482 والفتنة ووقعة الجمل ص124 و 125 والكامل في التاريخ
ج3 ص213 وإمتاع الأسماع ج13 ص234.
([3])
تـاريـخ الأمـم والملـوك ج4 ص465 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص482
= = والفتنة ووقعة الجمل ص125 والكامل في التاريخ ج3 ص214 و
215 وأعيان الشيعة ج1 ص452.
([4])
تاريخ الأمم والملوك ج4 ص465 و 466 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3
ص482 و 483 والنص والإجتهاد ص438 و 439 والغدير ج9 ص80 والفتنة
ووقعة الجمل ص125 و 126 وقاموس الرجال للتستري ج9 ص342 وشرح
إحقاق الحق (الملحقات) ج32 ص467 و 468.
([5])
تاريخ الأمم والملوك ج4 ص465 ـ 468 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج5
ص484 و 485 والجمل لابن شدقم ص40 والفتنة ووقعة الجمل ص127.
([6])
تاريخ الأمم والملوك ج4 ص468 و 469 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج5
ص485 و 486 والاستيعاب (ط دار الجيل) ج1 ص368 وقاموس الرجال
للتستري ج12 ص300 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج32 ص468.
([7])
تاريخ الأمم والملوك ج4 ص469 و (ط مؤسسة الأعلمي) ص485 و 486
والكامل في التاريخ ج3 ص216 و 217 وأعيان الشيعة ج1 ص453 وشرح
إحقاق الحق (الملحقات) ج32 ص469 و 470.
([9])
تاريخ الأمم والملوك ج4 ص470 ـ 472 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3
ص486 و 487 والفتنة ووقعة الجمل ص130 وأعيان الشيعة ج1 ص453.
([10])
الآية 23 من سورة آل عمران.
([11])
تاريخ الأمم والملوك ج4 ص474 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص489 و
490 والفتنة ووقعة الجمل ص133 و 134 وأعيان الشيعة ج1 ص453 و
454.
([12])
تاريخ الأمم والملوك ج4 ص474 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص490
وراجع: تاريخ خليفة بن خياط ص137 وأعيان الشيعة ج1 ص453.
([13])
تاريخ الأمم والملوك ج4 ص474 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص490
وراجع: تاريخ خليفة بن خياط ص137 وأعيان الشيعة ج1 ص453 وج6
ص214 والاستيعاب (ط دار الجيل) ج1 ص367.
([14])
تاريخ الأمم والملوك ج4 ص474 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص490
وراجع: البداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج7 ص260.
([15])
تاريخ الأمم والملوك ج4 ص475 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص490 و
491 وأعيان الشيعة ج1 ص453 و 454 وج6 ص213.
([16])
تاريخ الأمم والملوك ج4 ص475 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص491
والغدير ج9 ص369.
([17])
تاريخ الأمم والملوك ج4 ص475 و 476 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3
ص491 و 492 والغدير ج9 ص369 والكامل في التاريخ ج3 ص220 وأعيان
الشيعة ج1 ص454.
([18])
تاريخ الأمم والملوك ج4 ص476 و477 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص492
والكامل في التاريخ ج3 ص216 وإمتاع الأسماع ج13 ص235 وأعيان
الشيعة ج1 ص453.
|