صفحة : 81-102   

الفصل الثالث: الأشتر يعزل أبا موسى..

الأشتر إلى الكوفة:

قال الشيخ المفيد «رحمه الله»: «وبلغ أمير المؤمنين «عليه السلام» ما كان من أمر أبي موسى في تخذيل الناس عن نصرته، فقام إليه مالك الأشتر «رحمه الله تعالى»، فقال: يا أمير المؤمنين، إنك قد بعثت إلى الكوفة رجلاً من العنت، فما أراه [أحكم] شيئاً. وهؤلاء أخلف [أخلق] من بعثت أن يستتبَّ لك الناس على ما تحب. ولست أدري ما يكون. فإن رأيت ـ جعلت فداك ـ أن تبعثني في أثرهم، فإن أهل الكوفة أحسن لي طاعة، فإن قدمت عليهم رجوت أن لا يخالفني أحد.

فقال أمير المؤمنين «عليه السلام»: الحق بهم على اسم الله عز وجل.

فأقبل الأشتر حتى دخل الكوفة»([1]).

لكن أبا جعفر يقول: وأتت الأخبار علياً «عليه السلام» باختلاف الناس بالكوفة، فقال للأشتر: أنت شفعت في أبي موسى أن أقره على الكوفة، فاذهب فأصلح ما أفسدت.

فقام الأشتر، فشخص نحو الكوفة، فأقبل حتى دخلها والناس في المسجد الأعظم، فجعل لا يمر بقبيلة إلا دعاهم، وقال: اتبعوني إلى القصر، حتى وصل القصر، فاقتحمه وأبو موسى يومئذٍ يخطب الناس على المنبر، ويثبطهم، وعمار يخاطبه، والحسن «عليه السلام» يقول: اعتزل عملنا، وتنح عن منبرنا، لا أم لك!([2]).

قال المفيد «رحمه الله»:

إن الأشتر «انتهى إلى القصر في جماعة من الناس، فاقتحم وأبو موسى قائم في المسجد الأعظم يخطب الناس ويثبطهم عن نصرة أمير المؤمنين «عليه السلام»، وهو يقول:

«أيها الناس هذه فتنة عمياء صماء، تطأ في خطامها. النائم فيها خير من القاعد، والقاعد فيها خير من القائم، والقائم فيها خير من الماشي، والماشي خير من الساعي، والساعي خير من الراكب.

إنها فتنة نافذة كداء البطن، أتتكم من قبل مأمنكم، تدع الحليم فيها حيران.

[إنَّا معاشر أصحاب محمد «صلى الله عليه وآله» أعلم بالفتنة، إنها إذا أقبلت شبهت]([3])، فإذا أدبرت أسفرت»([4]).

وعمار يخاطبه، والحسن «عليه السلام» يقول: «اعتزل عملنا لا أم لك صاغراً، وتنح عن منبرنا».

وأبو موسى يقول لعمار: هذه يدي بما سمعت من رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقول: «ستكون فتنة، القاعد فيها خير من القائم»([5]).

فقال له عمار: إنما قال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: ستكون فتنة أنت فيها يا أبا موسى قاعداً خير منك قائماً([6])، ولم يقل ذلك لغيرك.

ثم قال له عمار: أرني يدك يا أبا موسى.

فأبرزها إليه، فقبض عليها عمار وقال: غلب الله من غالبه، ولعن من جاحده.

ثم قال عمار: أيها الناس، إن أبا موسى أوتى علماً، ثم انتفض عنه كما ينتفض الديك إذا خرج من الماء([7]).

وروى الطبري عن أبي مريم الثقفي، قال: والله إني لفي المسجد يومئذ إذ دخل علينا غلمان أبي موسى يشتدون ويبادرون أبا موسى: أيها الأمير، هذا الأشتر جاء، فدخل القصر، فضربنا وأخرجنا.

فنزل أبو موسى من المنبر، وجاء حتى دخل القصر، فصاح به الأشتر: أخرج من قصرنا لا أم لك، أخرج الله نفسك! فوالله إنك لمن المنافقين قديماً.

قال: أجلني هذه العشية.

قال: قد أجلتك، ولا تبيتن في القصر [الليلة].

ودخل الناس ينتهبون متاع أبي موسى، فمنعهم الأشتر، وقال: إني قد أخرجته وعزلته عنكم.

فكف الناس حينئذٍ عنه([8]).

ونقول:

لاحظ ما يلي:

النبي يحذر أبا موسى:

ظهر مما تقدم: أن أبا موسى قد حاول تزوير كلام رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فصده عمار، وأظهر الحق.

ويبدو: أن هذه هي ليست المرة الأولى التي يحاول فيها أبو موسى الهروب من حديث الفتنة هذا، فقد روى أبو يعلى في مسنده، قال:

«حدثنا عقبة بن مكرم، حدثنا يونس بن بكير، حدثنا علي بن أبي فاطمة، عن أبي مريم قال: سمعت عمار بن أبي ياسر يقول: يا أبا موسى، أنشدك الله، ألم تسمع رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقول: من كذب علي متعمداً فليتبوأ مقعده من النار؟!

فأنا سائلك عن حديث، فإن صدقت وإلا بعثت عليك من أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله» من يقررك!

ثم أنشدك الله، أليس إنما عناك أنت رسول الله «صلى الله عليه وآله» بنفسك، فقال: إنها ستكون فتنة في أمتي أنت يا أبا موسى فيها نائم خير منك قاعداً، وقاعد خير منك قائماً، وقائم خير منك ماشياً. فخصك رسول الله «صلى الله عليه وآله» ولم يعم الناس؟!

فخرج أبو موسى ولم يرد عليه شيئاً»([9]) [واعتزل ناحية عنه].

فاتضح لنا: كيف أن أبا موسى كان يحاول التدليس على الناس في حديث الفتنة، ويتصرف في كلام رسول الله «صلى الله عليه وآله» الموجَّه إليه دون سواه ليوهم الناس أنه عام لهم جعله عاماً للناس جميعاً. وقد جاء حديث أبي يعلى ليؤيد هذه الحقيقة التي تجاهلها الطبري، ومن يسير على منهاجه، ويقتطع النص الذي تضمنها، ويسقطه بالكلية، خيانة منه لدينه ولأمته، وللأجيال كلها..

فيا بؤسى لأمة يكون هؤلاء علماؤها، وحفظة تراثها.. وليتأمل بدقة كيف حذفوا جزءاً هاماً من النص، إبتداءً من قوله: «ولم يقل ذلك لغيرك إلخ..».

هل المشورة إفساد؟!:

إننا وإن كنا نرى: أن الذي تقدم عن الشيخ المفيد «رحمه الله» عما جرى بين علي «عليه السلام» والأشتر، هو الأقرب والأصوب. وإن الأشتر لم يفسد الأمور بمشورته على أمير المؤمنين بإبقاء أبي موسى إذا كان يمكن لأمير المؤمنين «عليه السلام» أن لا يرضى بتلك المشورة.

كما أن المشورة على إنسان بأمر لا يعد إفساداً..

نعم.. وإن كنا نرى ذلك، ولكننا سنحاول أن نجاري الطبري في النص الذي ذكره، ونتلمس له المبررات المعقولة التي تحل الإشكال، وتنسجم معها النصوص، وتتوافق مع خلق وسياسات علي «عليه السلام» مع أصحابه، فنقول:

1 ـ إنه على فرض صحة نص الطبري، فالذي يبدو: هو أن أمير المؤمنين «عليه السلام»، أراد أن يفهم الأشتر وغيره: أن المشورة التي يعمل بها إن كانت فاسدة، فإنه يصح نسبة ما حصل بسببها من فساد إلى من أشار بها.

ليؤكد «عليه السلام»: على أن المشورة شأن خطير وحساس، لا يصح التهاون به، ولا يقبل التملص من تبعاته، وكأن هذا ينسجم ويتوافق مع ما روي عنهم «عليهم السلام»: من كنت سبباً في بلائه وجب عليك التلطف في علاج دائه.

نقول هذا مع علمنا: بأن المشير لا يجبر أحداً على العمل بمشورته، فالقرار يبقى بيد من تشير عليه، فله أن يرفض، أو أن يقبل.. ولكن ذلك لا يعني أن المشورة كانت بلا أثر.

قد يقال: إنه «عليه السلام» قد رضي بأن يعمل بما هو باطل وفاسد، فإنه كان «عليه السلام» قد علم ببطلانه ثم عمله، فهو ـ والعياذ بالله ـ شريك في الإفساد والفساد.. وإن كان يجهل بفساده، فذلك يعني: أن ما تقرر قرآنياً وعقلياً من عصمته «عليه السلام» وتسديده لم يكن صحيحاً، فيتطرق الشك إلى القرآن، والعياذ بالله..

ويجاب:

بأن أبا موسى وإن لم يكن أهلاً للولاية، ولكن عزله عن الكوفة مع رغبة أهل الكوفة بإبقائه، سيوجب اختلالاً في بعض الجهات التي لا يصح الإخلال بها.. فكان لا بد من إبقائه ـ كما قال الأشتر ـ إلى أن يكتشف الناس حقيقة أمره، ويتلمسوا بأنفسهم فساده وإفساده.

3 ـ وكان المطلوب أيضاً: أن يتم عزله على يد نفس ذلك الذي أشار بإبقائه، لكي لا يسبق إلى وهم أحد: أن للرغبة في الحكم والتفرد في الأمر أثراً في استعجال عزله، وأنه لم يكن في سوئه بذلك المستوى الخطير الذي يفرض عزله..

أسلوب العزل:

1 ـ إن الأشتر قد باغت أبا موسى بحركته تلك، وضيع عليه فرصة المطاولة والمماطلة.. وبدا واضحاً: أن أبو موسى قد فقد زمام المبادرة، ولم يعد أمامه خيار سوى أحد أمرين: إما الرضوخ. وقبول العزل، أو المواجهة. وحيث إنه يعلم أنه لا طاقة له بالمواجهة، فقد استسلم لقرار..

2 ـ إن الأشتر حين صار يمر بالقبائل، ويأمرهم باتباعه، قد وضع أبا موسى أمام الرأي العام كله، فلم يبق لديه أية فرصة لأي ادعاء يثير الشبهة، أو يفسح المجال للتستر على شيء مما يتخذ من غموضه وسيلة لتعمية الأمور على الناس.

تنح عن منبرنا:

وقد جاء هذا التحرك الصاعق من قبل الأشتر في وقت كان أبو موسى يصر على منع الناس من الانقياد للخليفة الذي بايعوه.

وكان الإمام الحسن «عليه السلام» وعمار «رحمه الله» يعلنان: أن أبا موسى في موقع المعتدي والغاصب، الذي يستحق أن يردع ولو بالقوة.. ولذلك كان الإمام الحسن «عليه السلام» يقول له: «اعتزل عملنا، وتنح عن منبرنا، لا أبا لك..».

مشيراً بهذه الطريقة من التعبير إلى تمامية وصحة البيعة لأمير المؤمنين، حتى صارت الولاية والمنبر له «عليه السلام»، وعلى أبو موسى أن يطيع الأمر بالتنحي والاعتزال.. وأصبحت مماطلته وجرأته على الخلاف، اغتصاباً وعدواناً على موقع لا يحق له اغتصابه، ويجب على الناس أن يردعوه عن ذلك ولا يمكنهم السكوت عليه..

يبقى هنا سؤال: أنه لماذا لم يتخذ الإمام الحسن وعمار وكل من سبقوا الأشتر إلى الكوفة هذا الموقف، وينتهي الأمر؟!

ونجيب:

بأن للأشتر في الكوفة نفوذاً عظيماً، فتوليته لمهمة عزله بهذه الطريقة، وتولي عمار مهمة تعريته أمام الناس، وإظهار دخائله بصورة علنية، وصبرهم على ترهاته كان مطلوباً أيضاً بنفس القدر الذي كان هذا التصرف مطلوباً من الأشتر.

ضرب غلمان أبي موسى ليس ظلماً:

ولا يصح عد ضرب الأشتر غلمان أبي موسى من مفردات الظلم والعدوان، فإن الأشتر كان الرجل الورع والتقي الذي لا يعتدي على أحد..

ولكن ظواهر الأمور تشير: إلى أن الأشتر الذي هو من أقرب الناس إلى علي «عليه السلام»، قد جاء إلى القصر، ومعه تلك الجموع الغفيرة، وأصدر أمره لهم بتخلية القصر، وكان يتكلم بلسان، وباسم الخليفة فالامتناع عن تنفيذ أوامره يعتبر اعتراضاً على أمير المؤمنين «عليه السلام»، وتمرداً عليه، فلا بد من تأديب من يفعل ذلك، وإجباره على امتثال الأمر ولو بالضرب.

أخرج من قصرنا:

وقد أكد الأشتر «رحمه الله» أمر غاصبية أبي موسى لذلك المقام بقوله: اخرج من قصرنا، حيث دل هذا التعبير: على أن علياً «عليه السلام» قد أصبح هو المتولي الذي يملك حق التصرف في الشؤون العامة، وهو المرجعية الصحيحة للناس، وأصبح الأمر يرجع إليه في الرد وفي القبول.

ولذلك أخبر الأشتر الناس: بأنه قد عزل أبا موسى، وأخرجه عنهم، ولم نجد أحداً منهم اعترض أو أثار أي سؤال عن مدى دقة وصحة قوله «رحمه الله»: «قد أخرجته، وعزلته عنكم».

خطب ومواقف بعد عزل أبي موسى:

وبعد أن تم عزل أبي موسى خطب الإمام الحسن «عليه السلام»، وعمار، والأشتر، وحجر بن عدي. فنحن نذكر كلماتهم وخطبتهم هذه وفق ما أورده المفيد «رحمه الله»، ثم نذكر بعض النقاط المرتبطة بها، مع مراعاة الاختصار قدر الإمكان، فنقول:

خطبة الإمام الحسن :

قال المفيد «رحمه الله»:

ثم صعد الحسن «عليه السلام» المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر جده فصلى عليه، ثم قال:

«أيها الناس! إن علياً أمير المؤمنين باب هدى، فمن دخله اهتدى، ومن خالفه تردى». ثم نزل.

خطبة عمار بن ياسر:

فصعد عمار، فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسول الله «صلى الله عليه وآله» ثم قال:

«أيها الناس! إنَّا لمَّا خشينا على هذا الدين أن تتهدم جوانبه ويتعرى أديمه، نظرنا لأنفسنا ولديننا، فاخترنا علياً «عليه السلام» خليفة، ورضينا به إماماً.

فنعم الخليفة، ونعم المؤدب، مؤدب لا يؤدب، وفقيه لا يعلَّم، وصاحب بأسٍ لا ينكر، وذو سابقةٍ في الإسلام ليست لأحد من الناس غيره.

وقد خالفه قوم من أصحابه، حاسدون له، باغون عليه، وقد توجهوا إلى البصرة، أخرجوا إليهم رحمكم الله، فإنكم لو شاهدتموهم وحاججتموهم تبين أنهم ظالمون»([10]).

خطبة الأشتر:

ثم خرج الأشتر «رحمه الله»، فصعد المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال:

«أيها الناس! أصغوا إلي بأسماعكم، وافهموا قولي بقلوبكم، إن الله عز وجل قد أنعم عليكم بالإسلام نعمةً لا تقدرون قدرها، ولا تؤدون شكرها. كنتم أعداءً يأكل قويكم ضعيفكم، وينتهب كثيركم قليلكم، وتنهتك حرمات الله بينكم، والسبيل مخوف، والشرك عندكم كثير، والأرحام عندكم مقطوعة، وكل أهل دين لكم قاهرون، فمنَّ الله عليكم بمحمدٍ «صلى الله عليه وآله»، فجمع شمل هذه الفرقة، وألَّف بينكم بعد العداوة، وكثركم بعد أن كنتم قليلين.

ثم قبضه الله عز وجل إليه، فحوى بعده رجلان.

ثم ولي علينا بعدهما رجل نبذ كتاب الله وراء ظهره، وعمل في أحكام الله بهوى نفسه.

فسألناه أن يعتزل لنا نفسه، فلم يفعل، وأقام على أحداثه، فاخترنا هلاكه على هلاك ديننا ودنيانا، ولا يبعد الله إلا القوم الظالمين.

وقد جاءكم الله بأعظم الناس مكاناً في الدين، وأعظمهم حرمةً، وأصوبهم في الإسلام سهماً، ابن عم رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وأفقه الناس في الدين، وأقرئهم لكتاب الله، وأشجعهم عند اللقاء يوم البأس.

وقد استنفركم فما تنتظرون؟! أسعيداً أم الوليد؟! الذي شرب الخمر، وصلى بكم على سكرٍ وهو سكران منها، واستباح ما حرمه الله فيكم.

أي هذين تريدون؟! قبح الله من له هذا الرأي!

ألا فانفروا مع الحسن ابن بنت نبيكم، ولا يتخلف رجل له قوة. فوالله ما يدري رجل منكم ما يضره مما ينفعه.

ألا وإني لكم ناصح شفيق عليكم، إن كنتم تعقلون، أو تبصرون.

أصبحوا إن شاء الله غداً عادين مستعدين، وهذا وجهي إلى ما هنالك بالوفاء».

خطبة حجر بن عدي:

ثم قام حجر بن عدي الكندي «رحمه الله»، فقال:

«أيها الناس! هذا الحسن بن علي بن أبي طالب، وهو من عرفتم، أحد أبويه النبي الأمي «صلى الله عليه وآله»، والآخر الإمام الرضي المأمون الوصي، وهو أحد اللذين ليس لهما في الإسلام شبيه، سيدي شباب أهل الجنة وسيدي سادات العرب، أكملهم صلاحاً، وأفضلهم علماً وعملاً، وهو رسول أبيه إليكم، يدعوكم إلى الحق، ويسألكم النصر، فالسعيد والله من ودهم ونصرهم، والشقي من تخلف عنهم بنفسه عن مواساتهم.

فانفروا معه رحمكم الله خفافاً وثقالاً، واحتسبوا في ذلك الأجر، فإن الله لا يضيع أجر المحسنين».

فأجاب الناس كلهم بالسمع والطاعة([11]).

ونقول:

سنكتفي هنا بالإلماح إلى كلمة الإمام الحسن «عليه السلام»، فنقول:

علي باب الهدى:

تضمنت كلمات الإمام الحسن «عليه السلام» أمراً عقائدياً، كان لا بد من إيقاف الناس عليه، وإقامة الحجة عليهم به، لأنه بمثابة الأساس والمنطلق، الذي يغني ويقني، ويحل المشكلات، وتنال الكرامة والسعادة والفوز في الدنيا والآخرة.

وسبب ذلك: أنه يبين للناس: أن أمر علي «عليه السلام» لا يشبه أمر الخلفاء الذين سبقوه، بل إن أولئك الخلفاء أنفسهم مأخوذون بهذا الأمر العقائدي ومؤاخذون عليه كما يؤخذ به، ويؤاخذ على التفريط به سائر الناس..

وقد صرح «عليه السلام»: بأن هذا الأمر العقائدي، ليس مما يعذر أحد بجهله، لأن نفس الدخول في باب الهدى مما لا بد للناس منه، وعدم الدخول فيه حتى لو كان ذلك بسبب الجهل سيكون من موجبات البوار والهلاك..

وبعبارة أخرى: هناك أمور عقائدية يكون الإعتقاد بها من موجبات زيادة المقام، والحصول على درجات أعلى من القرب والزلفى عند الله، ولا يضر الجهل بها، إذا لم يصاحبه جحود وإنكار.

وهناك اعتقادات مطلوبة على كل حال، ويكون نفس الجهل بها مضراً، كالاعتقاد بوجود الله سبحانه، وبوحدانيته. ومنها أيضاً ولاية أمير المؤمنين «عليه السلام»، الذي عبر عنه الإمام الحسن «عليه السلام» هنا: بأنه باب هدى. ومن المعلوم: أن الدخول في باب الهدى نجاة، وعدم الدخول فيه هلاك وبوار، لأنه يكون من الضلال الذي لا يرضاه الله لعباده.. وهذا التعبير يدل: على أن منكر ولايته «عليه السلام» لا يعذر عند الله في الآخرة.. وإن كان يحكم بإسلامه، وله حقوق المسلمين.

وسيفيده هذا الإسلام في الآخرة إذا كان جاهلاً قاصراً، حيث تعرض عليه الولاية في الآخرة، فإن قبلها صحت أعماله، وكان من الناجين.

وفي جميع الأحوال نقول:

إن كلمة الإمام الحسن «عليه السلام» هذه قد بينت أن البغاة على علي «عليه السلام» وناكثي بيعته هالكون، لأنهم يعرفون أنه باب هدى، ويرفضون دخوله، فلا يحوز لأحد الرضا بفعلهم، فضلاً عن أن يساعدهم، ويكون تحت لوائهم.

وبعد هذا، فإن هذا يعطي: أن على الناس أنفسهم أن يدركوا أن عليهم نصر باب الهدى، وهو علي «عليه السلام»، ودفع البغاة عنه، والتصدي لكل من خالفه.

فما أروعها من كلمة جمعت فأوعت، وقلت ودلت. فكانت خير الكلام.. وخير الكلام ما قل ودل.

كلمات عمار والأشتر وحجر:

وقد تضمنت كلمات عمار، والأشتر وحجر أموراً سبق أن نبهنا على عدد منها، ومنها على سبيل المثال، لا الحصر:

ألف: بالنسة لما ورد في كلام عمار نلاحظ ما يلي:

1 ـ إن بيعتهم لأمير المؤمنين «عليه السلام» تحفظهم وتحفظ الدين من التلاشي والزوال..

2 ـ إن علياً «عليه السلام» مؤدب لا يؤدب، وفقيه لا يعلم. وهذا يسقط دعوى غيره لمقام الإمامة، إذ لا يجوز في العقل اختيار من يحتاج إلى التأديب، والتعليم، مع وجود من هو مستغن منهما.

3 ـ إن سابقته في الإسلام ليست لأحد غيره..

4 ـ إن مخالفيه حاسدون له، باغون عليه.

5 ـ إن نفس مشاهدة البغاة عليه، والحجاج معهم تغني عن كل بيان، وتوضح أنهم ظالمون للعيان..

ب: ما ورد في كلام الأشتر يتضمن الأمور التالية:

1 ـ التذكير بنعمة الإسلام عليهم، وكيف بدل الأحوال السيئة والأمور المضطربة، وأصلحها وأشاع الأمن في البلاد والعباد. وحفظ الحرمات ومنع من انتهاكها، وأزال الشرك، ووصل ما انقطع من الأرحام، وأبدلهم بالضعف قوة، وجمع شملهم، وألف بينهم، وكثرهم بعد قلة.

2 ـ ثم وصف لهم أمر عثمان، وذكر أن إصراره على أحداثه، قد جعل الناس أمام خيارين، لا ثالث لهما، فإما أن يهلك هو، أو أن يهلك دينهم، فاختاروا إهلاكه على هلاك الدين.

3 ـ إن علياً «عليه السلام» أعظم الناس مكاناً في الدين. وأعظمهم حرمة، وأصوبهم في الإسلام سهماً، وأفقههم في الدين، وأقرئهم للكتاب، وأشجعهم، وأقربهم من الرسول.

فكيف يصح تقديم من هو دونه في ذلك عليه؟!

4 ـ إن عدم المبادرة إلى نصرته تعني قبولهم بولاية سعيد بن العاص، والوليد بن عقبة، الذي صلى بهم وهو سكران، واستباح فيهم ما حرم الله.

أقوال حجر بن عدي:

أما ما أشار إليه حجر بن عدي فهو:

1 ـ التعريف بمكانة الإمام الحسن «عليه السلام»..

2 ـ وصف أمير المؤمنين «عليه السلام» بالوصي، وبالمأمون الرضي.

3 ـ إن نصرهم له سعادة، والتخلف عنه شقاوة.

استجابة الناس:

وقد صرح النص المتقدم: بأن الناس كلهم أجابوا بالسمع والطاعة..

وهي استجابة اختيارية، لا تشوبها شائبة إكراه، أو خوف، أو طمع في حطام دنيا.. بل سبيلها الوعي، والرغبة بنصر الدين وأهله. والعصبية للحق، ولا شيء غير ذلك..

هذا على الرغم من أن أهل العراق لم يروا علياً «عليه السلام» من قبل، بل كانوا منذ فتح العراق تحت هيمنة الآخرين المناوئين المبغضين الشانئين له..

آثار عمار:

ولا نبعد إذا قلنا: إن عماراً كان قد تولى الكوفة برهة في عهد عمر بن الخطاب، كما أن سلمان الفارسي كان قد تولى المدائن.

وكان لأصحاب علي «عليه السلام» مشاركات مختلفة في الكوفة ومحيطها.

أما الأشتر، فكان له السهم الأوفر في كثير من التحولات هناك. وله شخصية فاعلة في الكوفة وفي الفتوحات، ولا شك في أن حضور هؤلاء: عمار، والأشتر، والإمام الحسن «عليه السلام» في الكوفة، لعزل أبي موسى، واستنفار أهلها، كان له الأثر الكبير في هذه الاستجابة الشاملة.

علي معيار النجاة والهلاك:

قال يونس النحوي: فكرت في أمر علي وطلحة والزبير: إن كانا صادقين أن علياً قتل عثمان فعثمان هالك، وإن كذبا عليه، فهما هالكان!!([12]).

ونقول:

إن هذه المعادلة التي ذكرها يونس النحوي متوافقة مع ما روي عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» من أنه قال: «علي مع الحق، والحق مع علي يدور معه حيث دار». وغير ذلك من النصوص التي تؤدي هذا المعنى.

فإن كان علي «عليه السلام» هو الذي قتل عثمان، فعثمان هالك، لأن علياً مع الحق، والحق معه.

وإن كان طلحة والزبير قد كذبا على علي «عليه السلام» فهما هالكان لكذبهما في اتهامهما علياً «عليه السلام» بأمر هو بريء منه، فكيف إذا انضم إلى ذلك أنهما قد استثمرا هذا الكذب في إهلاك الناس، وإثارة الفتنة في الأمة، وتعمدهما الباطل..

وبذلك يكون علي «عليه السلام» هو الميزان والمعيار للحق والباطل.

وهذه النتيجة يصل إليها كل من استضاء بنور آيات الله، ونور كلمات رسول الله «صلى الله عليه وآله»..


([1]) الجمل للمفيد ص251 و (مكتبة الداوري ـ قم) ص135 و 136 والغارات للثقفي ج2 ص921 وتاريخ الأمم والملوك (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص500 و 501 وأعيان الشيعة ج1 ص565.

([2]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج14 ص20 و 21 وتاريخ الأمم والملوك ج4 ص487 و 486 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص501 والغارات للثقفي ج2 ص921 والكامل في التاريخ ج3 ص231 ونهاية الإرب ج20 ص52 و 53 وعن العبر وديوان المبتدا والخبر ج2 ص614 وأعيان الشيعة ج1 ص565.

([3]) تاريخ الأمم والملوك ج4 ص486 و 487 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص498 و 501 والغارات للثقفي ج2 ص921 و 923 والفتنة ووقعة الجمل ص140 و 141 والجمل للمفيد ص136.

([4]) كنز العمال ج11 ص172 والغارات للثقفي ج2 ص921 والفتنة ووقعة الجمل ص140 و 141 وتاريخ الأمم والملوك (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص501 والجمل للمفيد ص136.

([5]) الجمل للشيخ المفيد ص252 و (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص136.

([6]) الجمل للمفيد ص251 و 252 و (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص136 وتاريخ الأمم والملوك ج4 ص482 و (ط مؤسسة الأعلمي) 498 و 501 وشرح الأخبار ج1 ص384 وتذكرة الخواص ص68 والكامل في التاريخ ج3 ص231 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج7 ص263 ونهاية = = الإرب ج20 ص48 و 52 و 53 والفصول المهمة ص73 و 74 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج14 ص21 وعن العبر وديوان المبتدأ والخبر ج2 ص614 والغارات ج2 ص922 و 923 وراجع ص919 والغدير ج9 ص112 وراجع: الفتنة ووقعة الجمل ص140

([7]) الغارات للثقفي ج2 ص922 و 923 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج14 ص15 و 16 وتاريخ الأمم والملوك ج4 ص484 و (ط مؤسسة الأعلمي) ص501 والدرجات الرفيعة ص266 وراجع: الجمل للمفيد ص252 و (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص136.

([8]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج14 ص20 و 21 وتاريخ الأمم والملوك (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص501 و (ط أوربا) ج1 ص3153 و 3154 و (ط أخرى) ج4 ص487 والجمل للمفيد ص253 و (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص136 و 137 والغارات ج2 ص922 والكامل في التاريخ ج3 ص231 ونهاية الإرب ج20 ص52 و 53 وعن العبر وديوان المبتدا والخبر ج2 ص614.

([9]) مسند أبي يعلى ج3 ص203 و 204 ومجمع الزوائد ج7 ص246 وكنز العمال (ط مؤسسة الرسالة) ج11 ص273 و 274 والكامل لابن عدي ج5 ص187 وتاريخ مدينة دمشق ج32 ص92 وسبل الهدى والرشاد ج10 ص150.

([10]) الجمل للمفيد ص254 و (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص137 والمعيار والموازنة ص117 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج14 ص14.

([11]) المعيار والموازنة ص121 والأخبار الطوال ص145 وتاريخ الأمم والملوك ج4 ص485 والبداية والنهاية ج7 ص236 والفصول المهمة ص74 ـ 75 والجمل للمفيد ص254 ـ 256 و (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص138.

([12]) مناقب آل أبي طالب (ط المكتبة الحيدرية ـ النجف) ج2 ص339 وبحار الأنوار ج32 ص122 عنه، و مستدركات علم رجال الحديث ج8 ص298.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان