عهد النبي
لعلي
ثمانين
عهدا:ً
المفيد، عن الجعابي، عن ابن عقدة، عن أبي عوانة موسى بن
يوسف، عن عبد السَلام بن عاصم بن إسحاق بن إسماعيل، عن عمرو بن أبي
قيس، عن ميسرة بن حبيب، عن المنهال بن عمرو قال: أخبرني رجل من بني
تميم قال:
كنَّا مع علي بن أبي طالب «عليه السلام» بذي قار، ونحن
نرى أنَّا سنختطف في يومنا، فسمعته يقول: والله لنظهرن على هذه الفرقة،
ولنقتلن هذين الرجلين، يعني طلحة والزبير، ولنستبيحن عسكرهما.
قال التميمي:
فأتيت إلى عبد الله بن العباس، فقلت: أما ترى إلى ابن
عمك وما يقول؟!
فقال:
لا تعجل حتى ننظر ما يكون.
[قال:]
فلما كان من أمر البصرة ما كان أتيته، فقلت: لا أرى ابن
عمك إلا قد صدق.
فقال:
ويحك، إنا كنا نتحدث أصحاب محمد: أن النبي «صلى الله
عليه وآله» عهد إليه ثمانين عهداً لم يعهد شيئاً منها إلى أحد غيره،
فلعل هذا مما عهد إليه([1]).
ونقول:
إن هذا النص يتضمن أموراً يحسن التذكير بها، وهي
التالية:
إن تأثير الإخبارات الغيبية في النفوس يزداد ويتعاظم
حين تكون جميع الأجواء وكل المعطيات والدلائل تشير إلى ضد ما تضمنه ذلك
الخبر. وهذا بالذات هو ما كان ظاهراً فيما يرتبط بالحرب المتوقعة بين
علي «عليه السلام» من جهة، وبين عائشة، وطلحة والزبير من جهة أخرى.
فإن الذين كانوا مع عائشة وطلحة والزبير في البصرة،
كانوا أضعاف الذين كانوا مع علي «عليه السلام» في ذي قار، كما أن قيادة
ذلك الجيش تتمثل بعائشة زوجة رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وبنت أبي
بكر، ومدللة عمر بن الخطاب، وقد ميزها عمر في العطاء على جميع
المسلمين، بما فيهم نساء النبي «صلى الله عليه وآله»..
يليها في مقام القيادة والزعامة في
ذلك الجيش:
أناس معروفون من الصحابة، أحدهما صهر أبي بكر، والآخر
قريبه، بالإضافة إلى ثلة من الرجال الذين حكموا البلاد، ولهم علاقات
وارتباطات واسعة مع رؤساء القبائل، ولهم خبرة واسعة في البلاد والعباد،
ولهم معرفة قريبة وحسية بهم، كمعرفتهم بأزقتهم، وبساتينهم وأهلهم.
وهم يرفعون شعاراً تمازج فيه التظاهر بالتقديس، مع
المظاهر الخادعة المتمثلة بالولاء والوفاء والفورة العاطفية المزعومة،
والعصبية الجاهلية العمياء تجاه خليفة مقتول، له في عنقهم بيعته، يدعون
أنه قتل مظلوماً..
وهم في مجتمع لا يعرف الكثير عن علي «عليه السلام»،
وليس له مع الرؤساء وسائر الجماعات أية علاقة، أو مصلحة، ولم يكن لهم
حتى معرفة كافية بشخصيته، وبطروحاته، وجهاده وتضحياته وبموقعه من النبي
«صلى الله عليه وآله»، ومن هذا الدين بصورة عامة.
بل إن ذلك المجتمع قد تربى على أيدي مناوئ علي «عليه
السلام»، وعرف الإسلام من خلالهم.. ولكنه إسلام فيه الكثير من التمويه
والتشويه، وقلة الإلتزام.
يضاف إلى ما تقدم:
أنهم يسمعون من هؤلاء الذين يعرفونهم ما يثير الشبهة في سلامة نهجه
«عليه السلام»، فهم يقولون لهم: إنه مالأ على قتل خليفتهم عثمان، أو
آوى قتلته، واتخذهم منهم أولياءه وأحباءه وأصفياءه، وبعضهم قادة عنده..
وإذا كان لم يستطع عزل أبي موسى الأشعري عن الكوفة، إلا
بعد عناء طويل، فهل يستطيع أن يحشد أهلها لحرب أعدائه؟! فضلاً عن أن
الناس في سائر البلاد كانوا إلى أعدائه أميل وإلى نصرتهم أسرع، لأنهم
أشبه بهم، وأقرب إليهم، فكيف يتصور الناس أن يتمكن من تحقيق النصر على
مناوئيه، وناكثي بيعته، فضلاً عن أن يتمكن من قتل قادة ذلك العسكر، ثم
أن يستبيح عسكرهم؟!
إن هذا الخبر الغيبي الغريب قد جاء
في وقت يتوقع فيه أنصاره:
أن تختطفهم السيوف في الساعات الأولى من بدء القتال،
كما صرح به ذلك التميمي.
وقد أثار هذا الخبر استغراب واستهجان ذلك التميمي إلى
حد أنه لم يستطع حتى السكوت عنه، فعبر عن هذا الإستهجان لابن عباس
«رحمه الله»..
إن قول ابن عباس لذلك التميمي لا تعجل! حتى نرى ما
يكون، يثير الريب في درجة يقين ابن عباس بصدقه «عليه السلام» فيما أخبر
به، ولو كان متيقناً من ذلك لقال لذلك الرجل لا تعجل حتى ترى، لا أن
يقول له: «حتى نرى».
وكذلك الحال بالنسبة للتشكيك الذي
ألمح إليه بقوله:
«فلعل هذا مما عهد إليه».
فهل
ظن ابن عباس:
أنه «عليه السلام» قد قال ما قال اعتباطاً، أو على سبيل الحرب النفسية
للأعداء، على أمل أن ينقل ناقلٌ هذا القول لهم. أو أنه قاله لأجل رفع
معنويات أصحابه، حين رأى الفشل والضعف فاشياً فيهم؟!
ألم يكن ابن عباس يعرف:
أنه «عليه السلام» كان إماماً معصوماً عن التفوه بما
يخالف الواقع؟! أم أنه كان يرى: أنه كسائر الحكام الذين يهمهم تحقيق
أهدافهم، بغض النظر عن صحة الوسائل التي يستفيدون منها في ذلك؟! ولذلك
كان يحتمل أن يكون ما قاله «عليه السلام» من موارد التوسل بغير
المشروع، كما يحتمل أن يكون إخباراً عن رسول الله «صلى الله عليه
وآله».
وبتعبير أوضح وأصرح:
كان ابن عباس أمام احتمالين:
أحدهما:
أن كلامه «عليه السلام» لا مستند له، وإنما قاله «عليه السلام» ليشد به
العزائم، ويربط على القلوب..
الثاني:
من جملة الثمانين عهداً التي عهد رسول الله «صلى الله عليه وآله» بها
له «عليه السلام».. ظاناً (يعني ابن عباس) أن هذه العهود إليه لا تحتم
عصمته «عليه السلام»، ولا تشير إلى إمامته، فقد كان يمكن أن يعطي النبي
«صلى الله عليه وآله» عهوداً كثيرة لأشخاص متعددين، لأجل بعض الأهداف
التي يتوخاها من ذلك.
وشاهد ذلك:
أنه «صلى الله عليه وآله» قد عرَّف حذيفة بأسماء المنافقين، وعرف غيره،
كأبي موسى الأشعري أيضاً بأمور تحدث في مستقبل الأيام. ولم يكن لهم
مقام الإمامة. فراجع ذلك.
فإن كان ابن عباس يرى ذلك، فهو
يعني:
أنه لا يعرف علياً «عليه السلام» كمعرفة عمار وسلمان،
والمقداد، وأبي ذر، وقيس بن سعد، وأبي الهيثم بن التيهان، وغيرهم..
وهذا يدعو إلى الشك في صحة ما يقال، من أن النبي «صلى
الله عليه وآله» دعا لابن عباس بأن يفقهه في الدين، ويعلمه التأويل.
قالوا:
ومن كلامه
«عليه السلام»
في ذكر السائرين إلى البصرة لحربه
«عليه السلام»:
«فقدموا على عمالي، وخزان بيت المال المسلمين الذي في
يدي. وعلى أهل مصر كلهم في طاعتي، وعلى بيعتي، فشتتوا كلمتهم، وأفسدوا
علي جماعتهم.
ووثبوا على شيعتي، فقتلوا طائفة منهم غدراً، وطائفة
عضوا على أسيافهم، فضاربوا حتى لقوا الله صادقين([2]).
ونقول:
إنها نفس الوتيرة الملتزمة بحدود لا تتجاوزها، وهي حدود
الشرع، والحق، فلا تجريح، ولا توهين، ولا توجه كلمة إهانة واحدة
للأعداء. وإنما وصف دقيق لما يجري بالكلمات المطابقة لحركة الواقع
بصورة دقيقة.
1 ـ
إنه «عليه السلام» حين يتكلم عن العمال على البلاد، وينسبهم إلى نفسه
ولا يطلق التعبير، فلم يقل:
«العمال
على البلاد»، ولكنه حين يذكر بيت المال ينسبه إلى المسلمين، ولا ينسبه
إلى نفسه. وقد كان يمكنه أن يعكس الأمر، أوان يساوي بينهما..
2 ـ
ولعل السبب في هذا التنويع هو: أنه إذا نسب العمال إلى
نفسه، فإنه سيكون مطالباً بالرقابة عليهم، وتحمل المسؤولية عن أعمالهم،
والمبادرة إلى رفع كل مظلمة تصدر منهم، وإصلاح كل خلل، ورفع كل تقصير
ينسب إليهم.
وإذا نسب بيت المال إلى نفسه فقد تذهب بعض الأوهام
مذاهب غير محمودة في التفسير والتأويل الذي سيلقي بظلاله السلبية على
نظرتهم، وعلى تعاملهم.
أما إذا نسبه إلى أصحابه الحقيقيين، وهم المسلمون،
فسيراه الناس مجرد حافظ وأمين على أموالهم..
كما أن هذه النسبة، ربما تؤثر في تنشيط الدافع للعمل
على صد المعتدين على بيوت الأموال، لأنهم صاروا يشعرون أنها تعنيهم،
وأن العدوان عليها يستبطن العدوان عليهم، والإنسان بطبيعته يرفض التعدي
والظلم إذا كان على نفسه بصورة أشد وأقوى مما لو كان على غيره..
إنه «عليه السلام» قد أكد هذه
الحقيقة بقوله:
«الذي
في يدي». فأعطى لنفسه صفة الأمين على المال. لا صاحب المال، فلم يقل
بيت مالي..
بل لم يعط لنفسه صفة الشريك، فلم
يقل:
«بيت
مالنا».. ليشير إلى أن بيت المال ليس ملكاً لأي كان من الناس، وإنما
أجاز الله تعالى لهم الاستفادة منه ضمن شروط معينة.
فلو أن إنساناً لم يشأ أن يستفيد من هذه الرخصة، فإن ما
كان يمكنه أن يستفيد منه لا يرتبط به، وليس له حق التدخل في مصرفه في
أي مجال آخر، لا بالإجازة ولا بالمنع.. مما يعني: أن علاقة الولي أو
الخليفة بأموال بيت المال علاقة رخصة بالصرف.. وليست علاقة مالكية
وشراكة حقيقية في عين المال..
وعن إفساد الناكثين الناس عليه، أراد «عليه السلام» أن
يرشدهم إلى أن ما يخصهم من هذا الإفساد هو أن يفهموا البيعة بالطريقة
الصحيحة في معناها ومغزاها، ليدركوا سبب هذا التعظيم لأمر نكثها،
والاهتمام بإرجاع الناكثين إلى الطاعة..
فعرفهم خطورة النكث من خلال الآثار السلبية الظاهرة
والملموسة له، والتي لا تخص شخص علي «عليه السلام»، ولا تعنيه هو، بل
هي تعنيهم في صميم واقعهم، وفي عمق وجودهم.
ومن هذه الآثار التي يمكن أن يروها بأم أعينهم:
ألف:
إنفراط العقد الاجتماعي الحاضن لهم، والناظم لحياتهم، والضامن لأمنهم،
والموجب لسكينتهم، والمؤثر في زيادة قوتهم، وفي رقيهم، ونمو اقتصادهم..
وهذا ما اختصره «عليه السلام»
بقوله:
«فشتتوا كلمتهم».
ب:
إن ذلك يفسد الجماعة ـ وهم أهل تلك البلاد ـ على
الحاكم، فيفقد بذلك نصيحتهم، وعونتهم وقوتهم. وتتحول قوتهم ومعونتهم
وولاؤهم إلى مناوئيه. ولم يعد بالإمكان توجيههم، ولا تصحيح مسارهم
ج:
وقد نتج عن هذا النكث أيضاً: أعمال إفسادية، وجرائم لا يرضى بها الشرع
والدين، وذكر «عليه السلام» مثالين لذلك هما:
1 ـ
وثوب الناكثين على شيعته «عليه السلام»، فقتلوا طائفة
منهم غدراً، وطائفة لم يستسلموا بل جاهدوا حتى قتلوا في ساحة الحرب.
ومعلوم:
أن قتل الناس، ولا ذنب لهم سوى ولاءهم لشخص بعينه جريمة يأباها الشرع
والعقل ويمقتها الوجدان. فكيف إذا كان ولاؤهم لإمامهم الذي له في
عنقهم، وفي عنق قتلتهم أيضاً بيعة صحيحة وشرعية، وقد بادروا إليها،
وأصروا عليها بملء اختيارهم؟!
ويزيد هذا الأمر قبحاً إذا كان تشيعهم الذي اتخذ ذريعة
لقتلهم مما أمر الله تعالى به الناس جميعاً في محكم كتابه، كقوله
تعالى:
﴿لَا
أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى﴾([3]).
وغيرها من الآيات، بالإضافة إلى الأوامر النبوية الكثيرة.
2 ـ
قتل طائفة من هؤلاء الشيعة بطريقة الغدر، بعد أسرهم
وإعطائهم الأمان..
ولما نزل [«عليه السلام»] بذي قار أخذ البيعة على من
حضره، ثم تكلم فأكثر من الحمد لله والثناء عليه، والصلاة على رسول الله
«صلى الله عليه وآله» ثم قال:
قد جرت أمور صبرنا عليها وفي أعيننا القذى، تسليماً
لأمر الله فيما امتحننا به، رجاء الثواب على ذلك. وكان الصبر عليها
أمثل من أن يفترق المسلمون، ويسفك دماؤهم.
نحن أهل البيت، وعترة الرسول، وأحق الخلق بسلطان
الرسالة، ومعدن الكرامة التي ابتدأ الله بها هذه الأمة. وهذا طلحة
والزبير ليسا من أهل النبوة، ولا من ذرية الرسول، حين رأيا أن الله قد
رد علينا حقنا بعد أعصر لم يصبرا حولاً واحداً، ولا شهراً كاملاً، حتى
وثبا على دأب الماضين قبلهما، ليذهبا بحقي، ويفرقا جماعة المسلمين عني.
ثم دعا [«عليه السلام»] عليهما([4]).
ونقول:
يلاحظ:
أن أمير المؤمنين «عليه السلام» قد أخذ البيعة مجدداً من الناس، حين
رأى أنهم مقدمون على أمر خطير، تتضافر الدوافع والنوازع على التملص
منه، والتخلص من تبعات العهود التي كانوا قد أعطوها..
إذ لعل الكثيرين من الناس بعد نكث طلحة والزبير، وتسلم
عائشة زمام الزعامة، والقيادة لجيوش الناكثين، قد وقعوا في الشبهة، أو
في حرج أخلاقي، أو اجتماعي.. ولا سيما أولئك الناس البعيدون عن
المدينة، الذين لا يعرفون الشيء الكثير عما كان يدور بين الصحابة، ولم
يطلعوا على تفاصيل ما جرى لأمير المؤمنين، وللزهراء، وما كان يجري في
زمن الرسول للرسول نفسه، من مواجهات وأذايا على يد بعض الفئات، وما
كانوا يدبرونه تجاه علي «عليه السلام» وأهل البيت «عليهم السلام».
كما أنهم لم يعرفوا ربما سوى نزر يسير من السياسات التي
اتبعت، والممارسات التي حصلت بعد الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله»،
فكان أكثر الناس يحسنون الظن بكل من رأى الرسول. وعاش معه، وينقادون
لهم.
فكيف إذا جاءتهم زوجة نبيهم، وبنت خليفتهم، وذات
المكانة المرموقة لدى سائر الخلفاء، لتقود الجيوش ضد شخص بعينه، لا
يعرف الناس عنه الكثير، لأن سياسات الخلفاء قبله تعمدت إخماد ذكره،
وإذهاب صوته وصيته؟!
فلعل الشيطان يوسوس لهم:
أن الأمر لو لم يكن أكبر من موضوع نكث البيعة، بل أكبر
من قتل عثمان لِم لم تقدم هذه المرأة على هذا الأمر العظيم، الذي لم
يعهد في كل تاريخهم الطويل؟!
وإذا أضيف إلى ذلك:
ما قد يزينه الشيطان لكثيرين منهم من أن هذه الشبهة تكفي مبرراً لتجنب
الدخول في حرب تحمل معها لهم أخطار القتل أو الجرح، أو قطع بعض
الأعضاء.. وتهدد علاقاتهم مع قبائل أخرى يعيشون في جوارها للإخلال.
بسبب ما ينشأ عن تلك الحرب، من قتل متبادل أو متفرق بين تلك القبائل..
وقد يستسهل الناس نكث البيعة التي أخذت منهم قبل مدة
طويلة، حيث يوهمون أنفسهم أن بعض الأمور التي استجدت، أو التي أثيرت
تشير إلى أن بيعتهم الأولى كانت في حال الجهل ببعض الخفايا، ولعلها لم
تكن جامعة للشرائط بسبب هذا الخفاء، فيأتي تجديد البيعة لتذكيرهم
بخطورة نكثها، لأنها إذا أخذت مرة أخرى بعد كل هذه المستجدات، فذلك
يعني أنهم قد بايعوا على علم منهم بالأمور السابقة واللاحقة على حد
سواء، فلا عذر لهم في النكث، لا عند أنفسهم، ولا أمام الله والناس..
إن ما قدمناه كان هو السبب في أنه «عليه السلام» أشار
إلى أمور تصب في اتجاه التوعية، وإزالة أية شبهة قد تراود ذهن بعض
الناس. وهذه الأمور هي التالية:
ألف:
الإكثار من الحمد والثناء على الله سبحانه وتعالى، والصلاة على رسوله.
لكي يعيد الناس إلى رحاب الله، وأجواء الورع والتقوى، واستحضار ما يوجب
ذكر الحساب والعقاب والثواب، والآخرة.. ليسهل عليهم إقناع أنفسهم
بالتخفيف من تعلقها بالدنيا..
ب:
إنه «عليه السلام» أثار أموراً تدعو من كان يعلم بها إلى استحضارها،
وأخذ العبرة منها، ليزيد يقينه بدينه وتتضاعف صلابته في مواقفه..
أما من لم يكن يعرف بتلك الأحداث، فإنه سيجد الدافع
للبحث عنها، ومعرفة ما يمكنه معرفته من تفاصيلها، ووجوهها..
ج:
لقد بيَّن
«عليه السلام»
أنه كان مظلوماً من قبل الخلفاء السابقين إلى حد أن ما أتوه في حقه كان
بمثابة القذى في العين..
وهذا يدعو الناس أيضاً إلى إعادة النظر في مجمل
التصورات التي تكونت لديهم عن الصحابة، وعن الحاكمين، وتهيئة النفوس
لتقبل حقيقة أن هناك أموراً كثيرة وخطيرة جداً يجهلونها، وأنها ـ لو
اطلعوا عليها ـ قد تغير الكثير من المسلمات عندهم.. لأنها تمس وحدة
الأمة، وأمنها، وتؤثر في حفظها من سفك الدماء، وغير ذلك.
د:
فهم من كلامه
«عليه
السلام»: أنه
ومن معه قد وجدوا أنفسهم خيارين: إما الصبر، وإما الفرقة بين المسلمين
وسفك الدماء، فاختاروا الصبر.
هـ:
رأينا أنه «عليه السلام» قد عبر بالصبر، فقال: «صبرنا عليها»، ولم يقل:
«قبلنا بها»، لأن التعبير بالقبول قد يوحي بإسقاط الحق.. وكلمة الصبر
توحي بالتمسك به..
و:
ثم زاد في البيان، فأعلن: أنه هو صاحب الحق في الخلافة
بعد الرسول.. فدل بذلك على الذين تصدوا لهذا الأمر، إنما أخذوا حقه
بالعدوان والقوة..
ز:
إنه
«عليه السلام»
لم يقتصر على مجرد إيراد هذا الخبر، بل ذكر مثبتاته الواقعية والعملية،
فهم أهل البيت.. ولا بد أن يكون الناس قد سمعوا وقرأوا آية تطهيرهم.
وهم عترة الرسول
من حيث هو رسول. فهو لا يتحدث إذن عن مجرد القرابة، بل عن العترة التي
هي اسم لجماعة بعينها، وهم أهل بيت النبوة، وذلك لأن بيت النبوة غير
بيت الشخص، من حيث هو أب أو أخ، أو عم.. فإن الابن قد لا يكون في خط
النبوة، ولا من أهلها، ولا من أهل الرسالة، ليكون مخبراً عن الله، وعن
شرائعه، وقيمه ومبادئه..
بل قد يكون عدواً لخط النبوات كابن نوح، وكأبي لهب عم
النبي «صلى الله عليه وآله»، وكأخوة يوسف «عليه السلام». وكآزر الذي
كان في موقع الأب بالنسبة لإبراهيم «عليه السلام».. وإن لم يكن أباً
على الحقيقة..
ولأجل ذلك جاء تحديد أهل بيت النبوة في حديث الكساء
ليدل على أن القرابة بمجردها ليست هي المعيار..
ولذلك قال «عليه السلام» هنا أيضاً
عن طلحة والزبير:
إنهما ليسا من أهل النبوة ليحق لهما ادعاء الإمامة،
وليطلبا سلطان الرسالة..
أضف إلى ذلك:
أنه ربما يكون الكثيرون قد سمعوا حديث الثقلين المصرح
بجعل العترة عدلاً للقرآن في هداية الأمة..
ح:
وحين قال «عليه السلام»: «ولا من ذرية الرسول»، فإنما
أراد به الإشارة إلى النص الذي حدد الأئمة الإثني عشر بأنهم من ذرية
رسول الله، فليس لهما أن يدعيا هذا الأمر لأنفسهما بأي حال.
ط:
وبعد تحديد الأئمة الاثني عشر إماماً، وبعد أن عُلم
أنهم من ذرية الرسول «صلى الله عليه وآله» لم يكن لأحد من الأمة أن
يدعي لنفسه: أنه من أهل البيت، أو من العترة، لا أبو بكر، ولا عمر، ولا
عثمان، ولا طلحة ولا الزبير..
ولكنه
«عليه السلام»
لم يذكر أبا بكر وعمر وعثمان بشيء، لكي لا يثير أية حساسية. بل اقتصر
على ذكر طلحة والزبير، علماً بأن ما يريد أن يطبقه عليهما ينطبق ـ
بالبداهة ـ على غيرهما.
ي:
إن هذا النص الذي نعالجه، ونحاول استخلاص القيم
والمبادئ، والسياسات وسواها من دلالاته، قد صرح: بأن وثوب طلحة والزبير
قد جاء قبل أقل من شهر من البيعة له «عليه السلام».. مشيراً إلى أنهما
قد سارا على درب الماضين قبلهما، فإنهما وثبوا على حقه في الإمامة،
واغتصبوه منه بمجرد استشهاد رسول الله «صلى الله عليه وآله» وقبل أن
يمضي يوم واحد على ذلك. كما لم يمض على بيعتهم له يوم الغدير بأمر من
الله ورسوله سبعون يوماً..
قال أبو مخنف:
«لما
بلغ حذيفة بن اليمان أن علياً
«عليه
السلام»
قد قدم ذا قار، واستنفر الناس دعا أصحابه، فوعظهم، وذكرهم الله، وزهدهم
في الدنيا، ورغبهم في الآخرة. وقال لهم: الحقوا بأمير المؤمنين، ووصي
سيد المرسلين، فإن من الحق أن تنصروه. وهذا الحسن ـ ابنه ـ وعمار قد
قدما الكوفة يستنفران الناس، فانفروا.
فنفر أصحاب حذيفة إلى أمير المؤمنين «عليه السلام»،
ومكث حذيفة بعد ذلك خمس عشرة ليلة، وتوفي رحمه الله تعالى»([5]).
ونقول:
1 ـ
إن هذا النص يدل على عدم صحة ما يذكرونه من أن حذيفة قد
مات بعد البيعة لأمير المؤمنين «عليه السلام» بأربعين يوماً([6])،
أو سبعة أيام([7])،
أو في أوائل سنة ست وثلاثين([8])،
بل تأخر موته إلى أواسط سنة ست وثلاثين، ولعله مات قبيل أو بعيد حرب
الجمل، كما دل هذا النص..
2 ـ
بل لقد صرح ابن سعد بقوله: «قال
محمد بن عمر (أي الواقدي): مات حذيفة بالمدائن بعد قتل عثمان، وجاء
نعيه وهو يومئذ بالمدائن، ومات بعد ذلك بأشهر، سنة ست وثلاثين»([9]).
3 ـ
ربما يكون الهدف من تقديم موت حذيفة وجعله بعد البيعة علي«عليه
السلام»
بسبعة أيام، أو بأربعين يوماً.. هو التشكيك في هذا الخبر بالذات أي حتى
لا يتهم الخارجون على أمير المؤمنين «عليه
السلام»،
والناكثون لبيعته بما يزيد من حدة نقدهم، ويثقل صحيفة أعمالهم، ويصِّعب
على محبيهم الدفاع عنهم، ولا سيما إذا انضم ذلك إلى موقف عمار الذي أمر
رسول الله «صلى
الله عليه وآله»
الناس بأن يسلكوا الوادي الذي يسلكه عمار.
وقال «صلى الله عليه وآله» عن عمار:
«إنه
مع الحق»([10])،
فكيف إذا انضم إلى ذلك موقف خزيمة ذي الشهادتين، وغيرهم من الصحابة،
وموقف العشرات من البدريين، والمئات من أهل بيعة الرضوان؟!
4 ـ
وتتأكد الرغبة في إبعاد حذيفة عن الساحة، ما عرف عنه من أن رسول الله «صلى
الله عليه وآله»
كان قد أخبره بأسماء المنافقين..
وهو وإن كان يتكتم على تلك الأسماء، حرصاً على مشاعر
الناس، وعلى وحدة المسلمين، إلا أن عمر كان قد علَّم الناس طريقة
لمعرفتهم.. وهي مراقبة عمل حذيفة تجاه الأشخاص. فمثلاً كان لا يصلي على
من جهل حاله حتى يصلي عليه حذيفة، لأنه كان يعلم أعيان المنافقين، فإن
صلى عليه حذيفة يعلم أن ذلك الميت لم يذكر اسمه في جملة المنافقين
الذين أخبره «صلى
الله عليه وآله»
بأسمائهم. وإن لم يصل عليه علم أنه من المنافقين([11]).
4 ـ
إن حذيفة يصف علياً «عليه
السلام»:
بأنه وصي سيد المرسلين. وقد ذكرنا أن إطلاق هذا الوصف على علي «عليه
السلام»
من قبل الصحابة، وغيرهم لا يكاد يمكن عده وحصره.. مما يعطي: أن ذلك كان
من المسلمات في ذلك العصر..
([1])
قال في هامش بحار الأنوار ج32 ص104 و 105: رواه الشيخ المفيد
في الحديث (5) من المجلس (39) من أماليه ص205.
ورواه
عنه الشيخ الطوسي في الحديث (27) من الجزء الرابع من
أماليه112.
وللحديث مصادر أخرى ذكر بعضها في ذيل المختار (89) من نهج
السعادة (ط2) ج1 ص284.
وراجع: الإيضاح لابن شاذان ص452 والأمالي المفيد (ط دار
المفيد) ص335 والأمالي للشيخ الطوسي (ط دار الثقافة ـ قم) ص114
و 115 ونهج السعادة (ط مؤسسة الأعلمي) ج1 ص272 و 273 وفضائل
أمير المؤمنين لابن عقدة ص86 وبشارة المصطفى ص379 وكشف الغمة
ج2 ص9 و 13.
([2])
نهج البلاغة (بشرح عبده) ج2 ص202 و 203 الخطبة رقم 218 وبحار
الأنوار ج32 ص82 و 83 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج11 ص121.
([3])
الآية 23 من سورة الشورى.
([4])
بحار الأنوار ج32 ص114 و 115 والإرشاد للمفيد (ط النجف) ص133 و
(ط دار المفيد) ج1 ص249 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة)
ج1 ص289 ونهج السعادة ج1 ص267 وأعيان الشيعة ج1 ص454.
([5])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص187 و 188 والامالي للطوسي ص486
والدرجات الرفيعة ص287 وأعيان الشيعة ج4 ص598 .
([6])
رجال الشيخ الطوسي ص35 ورجال ابن داود ص71 وقاموس الرجال (ط
سنة 1379) ج3 ص95 و 96 عنه، وعن مروج الذهب للمسعودي،
والمستدرك للحاكم ج3 ص380 والإصابة (ط دار الكتب العلمية) ج2
ص39 والاستيعاب (بهامش الإصابة) ج1 ص278 وأعيان الشيعة (ط سنة
1364 = = هـ ـ دمشق) ج20 ص247 و (ط دار التعارف) ج4 ص591 و 593
و 604 والدرجات الرفيعة ص288 ونقد الرجال للتفرشي ج1 ص408
ومعجم رجال الحديث ج5 ص226.
([7])
مروج الذهب ج2 ص وقاموس الرجال (ط سنة 1379 هـ) ج3 ص96.
([8])
راجع: طبقات خليفة بن خياط ص98 وفتح الباري ج13 ص33 وتحفة
الأحوذي ج6 ص338 وتاريخ خليفة بن خياط ص136 وتاريخ مدينة دمشق
ج12 ص261 و 263 و 300.
([9])
راجع: الطلبقات الكبرى لابن سعد.
([10])
راجع: قاموس الرجال ج8 ص42 ووضوء النبي للشهرستاني ج1 ص90
وحياة الإمام الحسين للقرشي ج2 ص62.
([11])
تفسير القرآن العظيم ج2 ص394 والسنن الكبرى للبيهقي ج8 ص199
وكتاب العين للخليل بن أحمد ج7 ص367 ومعرفة السنن والآثار ج6
ص304 ومستدرك سفينة البحار ج10 ص126 والغدير ج6 ص241 وشذرات
الذهب ج1 ص44.
|