علي
وكليب الجرمي:
1 ـ
قال الطبري: إن كليب الجرمي قال:
«وانتهينا إلى علي، فسلمنا عليه، ثم سألناه عن هذا
الأمر، فقال: عدا الناس على هذا الرجل، وأنا معتزل، فقتلوه، ثم ولوني
وأنا كاره، ولولا خشية على الدين لم أجبهم.
ثم طفق هذان في النكث فأخذت عليهما، وأخذت عهودهما عند
ذلك، وأذنت لهما في العمرة، فقدما على أمهما حليلة رسول الله «صلى الله
عليه وآله»، فرضيا لها ما رغبا لنسائهما عنه، وعرضاها لما لا يحل لهما
ولا يصلح، فاتبعتهما لكيلا يفتقوا في الاسلام فتقاً، ولا يخرقوا جماعة.
ثم قال أصحابه:
والله، ما نريد قتالهم، إلا أن يقاتلوا، وما خرجنا إلا
لإصلاح.
فصاح بنا أصحاب علي:
بايعوا بايعوا.
فبايع صاحبي، وأما أنا فأمسكت،
وقلت:
بعثني قومي لأمر فلا أحدث شيئاً حتى أرجع إليهم.
فقال علي:
فإن لم يفعلوا.
فقلت:
لم أفعل.
فقال:
أرأيت لو أنهم بعثوك رائداً. فرجعت إليهم، فأخبرتهم عن
الكلأ والماء، فحالوا إلى المعاطش والجدوبة ما كنت صانعاً.
قال:
قلت: كنت تاركهم ومخالفهم إلى الكلأ والماء.
قال:
فمد يدك، فوالله ما استطعت أن أمتنع، فبسطت يدي
فبايعته، وكان يقول: علي من أدهى العرب.
وقال:
ما سمعت من طلحة والزبير؟!
فقلت:
أما الزبير فإنه يقول: بايعنا كرهاً. وأما طلحة فمقبل
على أن يتمثل الأشعار ويقول:
ألا أبـلـغ بـنـي بكـر رســولاً
فـلـيـس إلى بـنـي كـعب سبـيـل
سيرجع ظلمكم منكم عليكـم طـويـل
السـاعـديـن لـه فصــول
فقال ليس كذلك، ولكن:
ألم تـعـلـم أبـا سـمـعـان أنــا
نصـم
الشيـخ مثـلـك ذا الصـداع
ويـذهـل عـقـله بالحرب حتى
يـقـوم فـيـسـتـجـيـب لـغـير داع
ثم سار حتى نزل إلى جانب البصرة»([1]).
2 ـ
ونص آخر يقول: أرسل قوم من أهل البصرة لمَّا قرب «عليه
السلام» منها رجلاً يعرف بكليب الجرمي إليه «عليه السلام»، ليعلم لهم
منه حقيقة حاله مع أصحاب الجمل، لتزول الشبهة من نفوسهم.
فبيَّن
«عليه السلام»
له من أمره معهم ما علم به أنه على حق، ثم قال له: بايع.
فقال:
إني رسول قوم، ولا أحدث حدثاً حق أرجع إليهم.
فقال «عليه السلام»:
أرأيت لو أن الذين وراءك بعثوك رائداً تبتغي لهم مساقط
الغيث، فرجعت إليهم فأخبرتهم عن الكلاء والماء، فخالفوك إلى المعاطش
والمجادب ما كنت صانعاً؟!
فقال:
كنت تاركهم ومخالفهم إلى الكلاء والماء؟!
فقال «عليه السلام»:
فامدد إذاً يدك.
فقال
الرجل:
فوالله ما استطعت أن أمتنع عند قيام الحجة علي، فبايعته([2]).
3 ـ
وروى الواقدي، عن شيبان بن عبد الرحمن، عن عامر بن
كليب، عن أبيه قال: لما قتل عثمان ما لبثنا إلا قليلاً حتى قدم طلحة
والزبير البصرة.
ثم ما لبثنا بعد ذلك إلا يسيراً حتى أقبل علي بن أبي
طالب، فنزل بذي قار، فقال شيخان من الحي: اذهب بنا إلى هذا الرجل،
فننظر ما يدعو إليه.
فلما أتينا (ذا قار) قدمنا على أذكى العرب، فوالله لدخل
على نسب قومي، فجعلت أقول: هو أعلم به مني، وأطوع فيهم.
فقال:
من سيد بني راسب؟!
فقلت:
فلان.
قال:
فمن سيد بني قدامة؟!
قلت:
فلان، لرجل آخر.
فقال:
أنت مبلغهما كتابين مني؟!
قلت:
نعم.
قال:
أفلا تبايعاني؟!
فبايعه الشيخان اللذان كانا معي، وتوقفت عن بيعته.
فجعل رجال عنده قد أكل السجود وجوههم يقولون: بايع،
بايع.
فقال «عليه السلام»:
دعوا الرجل.
فقلت:
إنما بعثني قومي رائداً، وسأنهي إليهم ما رأيت، فإن
بايعوا بايعت، وإن اعتزلوا اعتزلت.
فقال لي:
أرأيت لو أن قومك بعثوك رائداً، فرأيت روضة وغديراً..
فقلت:
يا قومي، النجعة النجعة!
فأبوا ما كنت بمستنجع بنفسك؟!
فأخذت بإصبع من أصابعه وقلت:
أبايع على أن أطيعك ما أطعت الله، فإذا عصيته فلا طاعة
لك علينا.
فقال:
نعم. وطوَّل بها صوته، فضربت على يده.
ثم التفت إلى محمد بن حاطب، وكان في
ناحية القوم، فقال:
إذا انطلقت إلى قومك فأبلغهم كتبي وقولي.
فتحول إليه محمد حتى جلس بين يديه،
فقال:
إن قومي إذا أتيتهم يقولون: ما يقول صاحبك في عثمان؟!
فسب عثمان الذين حوله.
فرأيت علياً قد كره ذلك حتى رشح جبينه. وقال: أيها
القوم كفوا ما إياكم يسأل.
قال:
فلم أبرح عن العسكر حتى قدم على علي «عليه السلام» أهل
الكوفة، فجعلوا يقولون: نرى إخواننا من أهل البصرة يقاتلوننا؟! وجعلوا
يضحكون ويعجبون، ويقولون: والله لو التقينا لتعاطينا الحق. كأنهم يرون
أنهم لا يقتلون.
وخرجت بكتاب علي «عليه السلام»، فأتيت أحد الرجلين،
فقبل الكتاب وأجابه، ودللت على الآخر. وكان متوارياً، فلو أنهم قالوا
له: كليب، ما أذن لي.
فدخلت عليه، ودفعت الكتاب إليه،
وقلت:
هذا كتاب علي. وأخبرته الخبر، وقلت: إني أخبرت علياً
أنك سيد قومك، فأبى أن يقبل الكتاب، ولم يجبه إلى ما سأله وقال: لا
حاجة لي اليوم في السؤدد، فوالله إني لبالبصرة ما رجعت إلى علي حتى نزل
العسكر، ورأيت القوم الذين مع علي «عليه السلام» فطلع القوم([3]).
ونقول:
تفيد هذه القضية العديد من الأمور، نذكر منها ما يلي:
إن رؤيا كليب الجرمي لا تعنينا بقدر ما تعنينا
الخصوصيات التي حفل بها الحديث الذي رواه في دلالاتها وايحاءاتها على
حال الناس، وعلى الذهنية التي تكونت لديهم، وعلى طريقة تفكيرهم وفهمهم
للأمور، وتعاطيهم معها..
غير أن هذه الرؤيا سواء أصحت، أم لم تصح، تشير إلى ما
يلي:
1 ـ
إنها تجنبت الإشارة إلى دور عائشة المؤثر في قتل عثمان واكتفت بالإيماء
إلى أنها لم تردع عنه قاتليه.
2 ـ
إنها ألمحت إلى قدرة عائشة على منع القتل عن عثمان.. لو أرادت ذلك..
3 ـ
أشارت إلى حضور عائشة وإشرافها المباشر على قضايا عثمان، وما يجري له
وعليه.
4 ـ
إنها المحت أيضاً إلى ضعف عثمان وعدم قدرته على التصرف، حين اعتبرته
مريضاً على فراشه..
وأشارت رواية كليب أيضاً إلى أن الناكثين كانوا يزعمون
للناس أنهم خرجوا غضباً لعثمان، ثم يدعون التوبة مما صنعوا من خذلانه..
وهذا يعنى:
أنهم يعترفون بقعودهم عنه ويدعون التوبة مما أتوه إليه، ونقول:
إن ذلك يدعونا إلى تسجيل ما يلي:
أولا:
إنهم قد اعترفوا بالذنب فمن الذي يضمن للناس صدقهم في
ادعاء التوبة؟!
ثانياً:
إن نفس عدم اعترافهم بالمشاركة في قتل عثمان، أو في التحريض عليه،
واكتفائهم بالإعتراف بمجرد القعود عن نصرته يدل على عدم صدقهم في
توبتهم، أو هو على الأقل لا بد أن يرسخ الشك في صدقهم فيها، لأن
المفروض بمن يتوب هو أن يقر، بالذنب وهؤلاء لا يقرون بحقيقة ما فعلوه
في حق عثمان..
ثالثاً:
إن التوبة تفرض أن يؤدَّى الحق كاملاً إلى أهله، والإستسلام لإجراء حكم
الله في حق التائب، وعدم الإعتراف بحقيقة ما فعلوه في حق عثمان يدل على
أنهم يتهربون من إعطاء الحق من أنفسهم، ولا يريدون أن يأخذ العدل
مجراه.. وهذا ذنب أخر ربما يكون أعظم من الذنب الذي يدعون أنهم تابوا
منه لأنه يؤسس لسياسة إنحرافية خطيرة..
رابعاً:
إن هذه التوبة لا تتحقق بتنصيب أنفسهم قضاة وحكاماً على الناس، وسعيهم
في قتل الناس، فإنه إن كان للناس حاكم وأمير فيجب أن يرجعوا إليه، وأن
يضعوا الأمور بين يديه، ويساعدوه على إجراء حكم الله في المجرمين.
وإن لم يكن للناس حاكم وراع، فعليهم قبل كل شيء أن
يقيموا حاكماً، وراعياً وحافظاً لنظام الأمة، ليكون مرجعاً لها،
وليتولى هو القيام بما يفرضه الواجب الإلهي عليه في هذا المجال.
فتوبة هؤلاء القوم لا تكون بحمل السلاح، ومهاجمة حاكم
هم بايعوه. بل كانوا أول من بايعه من بين الناس جميعاً، بعد إصرار منهم
عليه. وملاحقته أياماً عديدة، وهو لا يرضى ذلك منهم..
والأكثر غرابة في موقف عائشة: أمران:
أولهما:
السحر والبريق الأخاذ للحجة التي أوردتها لتبرير خروجها.
الثاني:
أن هذه الحجة بالذات غير صحيحة، ولا هي منطقية:
أولاً:
لأن تأمير الفتيان، وضربة السوط والعصا وحمي موضع
الغمامة لا يبرر أمرها بقتل عثمان، ولا تشبيهه بيهودي اسمه نعثلاً، ولا
حكمها بكفره، فإن قولها المشهور الذائع: أقتلوا نعثلاً فقد كفر يجمع
هذه الأمور الثلاثة كلها، وذلك يدل على أن الأمر لم يكن كما ذكرته.
ثانياً:
إن غضبها لعثمان لا يبرر مخالفة أمر الله ورسوله بلزوم بيتها، وعدم
الخروج منه، فكيف إذا كان
«صلى الله
عليه وآله»
قد حذرها من مسيرها هذا بالخصوص، وذكر لها ما يجري لها عند ماء الحوأب،
ومن مضادة على «عليه السلام» وغير ذلك؟!
وحين اعترض الناس على الناكثين ببيعتهم لعلي «عليه
السلام» وأن عملهم هذا يعد نكثاً للبيعة، اعترف الناكثون بالبيعة،
ولكنهم ادعوا الإكراه، وهي دعوى لا تسمع، ومع ذلك فقد كان من المفروض
أن يسأل الناس عن صحة دعواهم هذه، ليتضح لهم أنها دعوى كاذبة..
يضاف إلى ذلك:
أن لعلي «عليه السلام» في عنقهم عهود وأيماناً أخرى، أخذها منهم حين
استأذنوه بالخروج إلى البصرة. فضلاً عن بيعة يوم الغدير في عهد رسول
الله
«صلى الله عليه وآله»،
فلا بد من سؤالهم عن مصير تلك العهود والأيمان!..
وحين قيل لهم:
هذا علي قد أظلكم فإنما أريد به أن بإمكان الناس أن
يستوضحوا حقيقة الأمر من علي «عليه السلام»، فإنه قريب منهم، وهذا هو
السبب في إرسال كليب، ورفيقيه إلىه «عليه السلام».
وقد لفت نظرنا وصف كليب الجرمي لمحمد بن أبي بكر، بأنه
رجل جميل، ثم شبَّه عائشة به، وأنهم لما عرفوا أن محمداً أخاها إزدادوا
لأمرها كراهية..
ثم ما ذكرته الرواية من تهديد محمد بن أبي بكر لهم،
ليعترفو له بما كانوا يتحدثون به.
لنا مع هذه المزاعم وقفات ثلات:
إحداها:
فيما يرتبط بسلوك محمد بن أبي بكر الذي صوروه لنا بأنه يتسم بالفظاظة
والعدوانية، فإنه إذا كان حقه أن يسألهم عما يشاء، فإن من حقهم أن لا
يجيبوه على سؤاله، وليس من أن يجبرهم على البوح له بما كانوا يتحدثون
عنه، مادام أنه لم يظهر له أنهم بصدد الإضرار به، فما معنى أن يعاقبهم
بحبسهم في مواقعهم حتى يخبروه بما قالوا؟!
وما معنى أن يخوفهم ويرهبهم في أمر لا دليل له على أنه
ينتهي إلى الإساءة إليه، أو النيل منه، ولو كلامياً؟!
الثانية:
لماذا إزدادوا كرهاً لأمر عائشة لما عرفوا أن لتلك
المرأة التي رأها في المنام هي عائشة؟!
إننا لم نجد سببا لذلك إلا أن أخاها أساء إليهم حين فرض
عليهم البوح له بما قالوه عنه؟!
وواضح أن ذلك لا يقتضى الكراهة، إذ لا يؤخذ أحد بذنب
غيره حتى لو كان ذلك الغير أخاه، فقد قال تعالى:
﴿وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ
أُخْرَى﴾.
الثالثة:
ما ذكره الجرمي من جمال محمد بن أبي بكر وشبه عائشة به من هذه الجهة،
وإن كان يمكن أن يكون مقبولاً بالنسبة لجمال محمد بن أبي بكر إذ ليس
لدينا ما ينفي هذه الصفة عنه.. إلا أن إثبات صفة الشبه له بعائشة، ومن
ثم إثبات صفة الجمال لها عن هذا الطريق غير مقبول، لأن لدينا ما يدل
على عكس ذلك، كما ذكرناه في بعض فصول الكتاب، و اشرنا إليه في كتابنا
الصحيح من سيرة النبي الأعظم
«صلى الله عليه وآله»
فقد ذكرنا ما ملخصه:
أولاً:
لم يرو ذلك كله إلا من طريق عائشة، أو عروة ابن أختها
كما يظهر من تتبع الروايات؟!
ثانياً:
إن ابن عباس يواجهها بعد حرب الجمل بحقيقة: أنها لم تكن
أحسن نساء النبي «صلى الله عليه وآله» وجهاً، ولا بأكرمهن حسباً([4]).
كما أن عمر إنما يصف زينب بالحسن، دون عائشة؛ فإنه لم
يشر إليها بشيء منه في قليل ولا كثير؛ كما سيأتي.
ثالثاً:
قال علي فكري:
«وما
رواه ابن بكار: من أن الضحاك بن أبي سفيان الكلابي كان رجلاً دميماً
قبيحاً؛
فلما بايعه النبي «صلى
الله عليه وآله»
«قال:
إن عندي امرأتين أحسن من هذه الحميراء (يريد عائشة، وذلك قبل أن تنزل
آية الحجاب)؛ أفلا أنزل لك عن إحداهما فتتزوجها؟! وعائشة جالسة تسمع؛
فقالت: أهي أحسن أم أنت؟!
فقال:
بل أنا أحسن وأكرم.
فضحك رسول الله
«صلى
الله عليه وآله»
من سؤالها إياه «لأنه كان دميماً قبيح الوجه»([5]).
رابعاً:
قال عباد بن العوام لسهيل بن ذكوان: صف لي عائشة.
قال:
كانت أدماء.
وقال يحيى:
قلنا لسهيل بن ذكوان: رأيت عائشة؟!
قال:
نعم.
قيل:
صفها.
قال:
كانت سوداء([6]).
وخامساً:
إن من يتتبع
سيرة زوجات النبي «صلى
الله عليه وآله»
يجد: أن عائشة هي التي كانت تحسد وتغار من كل زوجة وسُرّيّةٍ له
«صلى
الله عليه وآله».
ويدرك بما لا مجال معه للشك:
أن أكثرهن ـ إن لم يكن كلهن ـ كن أكثر حظوة لدى النبي
«صلى
الله عليه وآله»
منها. إن لم نقل أنهن أجمل وأضوء منها أيضاً؛ فإن من الطبيعي أن نجد
الدميم هو الذي يحسد على الجمال ويغار، أما الجميل فليس من الطبيعي أن
يحسد الدميم، أو أن يغار منه.
يلاحظ هنا:
1 ـ
أن إرسال أولئك القوم هذا الرجل إلى علي
«عليه السلام»
كان عملاً حكيماً، وسليماً، حيث لم يقدموا على اتخاذ أي موقف قبل
التأكد من حقيقة ما يجري..
2 ـ
أنهم أرسلوا رسولهم إلى صاحب العلاقة مباشرةً، ولم يأخذوا من أفواه
الناس، الذين يلوكون الكلام، كيفما اتفق، ومن دون أية بصيرة أو أناة في
الأمور.
3 ـ
أن تصرفهم هذا يدلنا على أنهم ما كانوا يعتقدون بإمامة علي
«عليه السلام»،
وما كانوا يعرفون نهجه، وموقعه من هذا الدين، ومن رسول الله «صلى الله
عليه وآله»، ولا يرون عصمته. ويظنون أنه مجرد حاكم له في عنقهم بيعة
يجب عليهم الوفاء بها، ضمن شروط وضوابط. وإن بيعتهم له لا تختلف عن
البيعة لمن سبقوه. ولعل ما كان يهمهم هو حفظ خط الرجعة بالنسبة إليهم،
حتى لا يورطوا أنفسهم فيما لا قبل لهم به.
4 ـ
صرح النص المتقدم: بأن شبهة كانت قد علقت في أذهانهم، نتيجة ما أثاره
أعداؤه ضده فيما يرتبط بأمر عثمان، فبادروا إلى العمل على كشف الحقيقة
على النحو المذكور..
وذلك يشير إلى إنصافهم وتعقلهم، وإلى عدم اطلاع الناس
على حقائق الأمور، لا بالنسبة لعلي «عليه السلام»، ولا بالنسبة
لعثمان..
1 ـ
ومن الأمور المهمة التي تشير إليها هذه القضية: أنها تبين: أنه «عليه
السلام» يريد أن يعطي الناس درساً مفاده: أنه ليس للحاكم أن يعتصم
بمقامه، ليجعل منه درعاً تحميه عن السؤال عن مبررات أفعاله وأقواله،
ومواقفه.. ولا هو شعار يحجبه عن أنظار المستفهمين والسائلين، عما يهمهم
من أمر دينهم ودنياهم.
وإذا كانت هناك عصمة لأحد، فالله سبحانه هو الذي يخبر
عنها. ويجب أن تتجلى في المعصوم فعلاً وسلوكاً، وموقفاً، وفكراً.. وليس
مقامه هو الذي يعصمه، ويجعله دائماً محقاً، ولا يحرم الناس من حق
السؤال عن الحق، ومن مناقشته في ما يهمهم من أمور، ولا يمنعهم من
استيضاح مبررات ما يطلب منهم أن يخاطروا حتى بأرواحهم من أجله، فضلاً
عما هو أدنى من ذلك..
2 ـ
وعملاً بما أوجبه الله تعالى على الأئمة «عليهم السلام» من هداية الناس
إلى الحق، بادر
«عليه السلام»
إلى بيان الحق لذلك الرجل، حتى أسفر الصبح لذي العينين. ومكنه من أن
يميز الحق من الباطل.
ولكن ظهر أن ذلك الرجل كان يعاني من اختلال في معاييره،
حين خلط بين ما يقضي به عقله، وتسوقه إليه فطرته، وبين أعراف الجاهلية
التي تنطلق من أوهام باطلة، أو من حقائق مجتزأة، ومنقوصة، أو مشوهة.
وقد تجلى ذلك في قراره بتأجيل بيعته له إلى ما بعد
الرجوع إلى قومه الذين أرسلوه، ليطلعهم على ما جرى، وليتخذ معهم قرار
القبول أو الرفض..
ولم يدر أن هذا خطأ فاضح، ورزء فادح، لأنه خلط للحق
بالباطل، قد يؤدي إلى تضييع الحق، وإلى الضلال والوبال..
وذلك لأنه توهم:
أن كونه رسولاً لهم يسمح له بأن يؤخر اعترافه بالحق،
ونصرته له. مع أن كونه رسولاً لا يحمله أكثر من مسؤولية إبلاغهم ما
أرسلوه من أجل الحصول على المعرفة به، وإيصالها إليهم، ولا يجعل لهم
سبيلاً على قراره، ولا على مساره، ولا على ما يريده الله منه، ويأمره
به، بحيث يكون بمقدورهم إبطال أوامر الله تعالى له، وتبديلها بأوامر
وزواجر أخرى..
فإن الحق الذي بيَّنه
«عليه السلام»
له يحمل معه أوامر وزواجر إلهية، لا بد له من التعرض لامتثالها، بمجرد
اطلاعه عليها، ولا تسمح له بالتأجيل والتواني، ومنها: الاعتراف بالحق
والالتزام به. وهي نفسها تفرض عليه الدفاع عن ذلك الحق أيضاً، والتضحية
من أجل حفظه وحمايته بكل غالٍ ونفيس، وترك العيال، والمال، والنساء
والأطفال في هذا السبيل حين يقتضي الأمر ذلك..
وهذا هو الذي قصده
«عليه السلام»
حين وضعه أمام معادلة فطرية ساقته إلى القول: بأن عليه أن يترك قومه،
وينحاز إلى موضع الماء والكلاء الذي ارتاده لهم، وخالفوه إلى غيره..
حيث ظهر له: أن قراره لا يرتبط بقرار غيره، إذا اختار غيره الخطأ، بل
هو لا يرتبط بقرار ذلك الغير حتى وإن اختار الصواب، واختار هو الصواب
أيضاً، حتى وإن توافق وانسجم معه، فإن التوافق شيء، والارتباط شيء آخر.
ونرجح:
أن يكون النص الذي ذكره المفيد «رحمه الله» هو الأقرب
والأصوب، مع ضرورة ضم سائر الفقرات التي لا يرد عليها أي إشكال مما
قدمنا الإشارة إليه..
وقد تضمن النص الذي ذكره المفيد:
أن علياً «عليه السلام» سأل الجرمي عن سيد بني راسب،
وسيد بني قدامة، فلما أخبره طلب منه أن يحمل إليهما كتابين منه..
ولسنا بحاجة إلى التذكير:
بأن سياق رواية الجرمي يعطي أن علياً «عليه السلام» لم
يكن جاهلاً باسمي سيد بني راسب، وسيد بني قدامة.. فقد ذكر: أنه «عليه
السلام» أذكى العرب، وقد دخل على نسب قوم كليب الجرمي، حتى جعل كليب
يقول: هو أعلم مني، وأطوع فيهم..
فمن كان كذلك، يصعب التصديق بأنه كان يجهل من هو سيد
الراسبيين، وبني قدامة؟!
ويبدو لنا:
أنه «عليه السلام» أراد أن يمهد السبيل لموافقة كليب
على حمل رسالته إلى ذينك الرجلين، فلذلك سأله عن اسميهما..
وقد كان كليب جريئاً حين شرط في بيعته لأمير المؤمنين
«عليه السلام» ـ كما ذكره المفيد «رحمه الله» ـ: أن يطيعه ما أطاع
الله، ولم يجد لدى أمير المؤمنين «عليه السلام» غير القبول والرضا،
لأنه وإن كان يحزنه أن يبلغ جهل الناس به ـ وهو إمامهم المنصوص عليه من
الله ورسوله ـ إلى الحد الذي يرون أنه كغيره من الناس الذين يحتمل في
حقهم الطاعة والمعصية.
ويؤلمه أن يبلغ الأمر في عدم معرفة الناس بالقرآن
وآياته، وموارد نزولها في حقه «عليه السلام»، وجهلهم بما قاله النبي
«صلى الله عليه وآله» فيه، ومواقفه منه، وبيعة يوم الغدير التي أخذها
له من جميع الصحابة..
نعم..
إنه وإن كان يحزن لذلك كله، ولكنه كان يفرح ـ بلا شك ـ
وهو يرى هذا الوعي، وهذه الجرأة لدى كليب في آن واحد، فهذا الرجل قد
أدرك أن الطاعة في معصية الله مرفوضة عقلاً، وفطرةً، ووجداناً.. وكان
يملك من الجرأة ما جعله يجاهر بهذا الاشتراط حتى أمام الشخصية الأولى
في العالم الإسلامي كله..
وقد طوَّل «عليه السلام» صوته بكلمة نعم، ليلفت نظر من
لم يلتفت، وليتساءل الناس عن الداعي إلى هذا التصرف، ليعرفوا أن أمر
علي «عليه السلام» لا يشبه أمر أي من الخلفاء، والحكام قبله وبعده، إلا
إن كان الحاكم من أهل بيته الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيراً.
فإذا بلغ هذا الأمر الناس وعرفوه، فإنه سيشجعهم إلى
مطالبة حكامهم به، وتوقعه منهم. ومحاسبتهم عليه..
وقد ذكرت رواية المفيد «رحمه الله»:
أن علياً «عليه السلام» كره ما صدر من الذين كانوا
حوله، من سبهم لعثمان بن عفان.. لأسباب عديدة:
فأولاً:
إن هذا السب ربما يكون سبباً في التعصب لعثمان، إلى حد
عدم قبول الحق من أهله.
ثانياً:
إن السب ليس من الشيم المرضية عند أهل الكرامة
والشهامة، ولذا ورد: أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» لم يكن سباباً([7]).
ثالثاً:
إن هؤلاء قد حشروا أنوفهم في أمر لا يعنيهم، ولذلك قال
لهم «عليه السلام»: «أيها القوم، كفوا. ما إياكم يسأل..».
رابعاً:
ليس من الأدب أن يقدموا بين يدي إمامهم المعصوم، والمنصوب من قبل الله
تعالى، الذي هو نفس رسول الله «صلى الله عليه وآله» بنص آية المباهلة..
وبالمراجعة إلى رواية الشيخ المفيد «رحمه الله»:
بدا لنا أهل الكوفة كأنهم غير مصدقين بأن أهل البصرة
سيقاتلونهم، ربما لأنهم رفقاء سلاح، وشركاء جهاد، قد عملوا جنباً إلى
جنب فيما عرف باسم الفتوحات، واختلطت دماؤهم بدمائهم، وشاركوهم في حلو
الحياة ومرّها، فلم يكن ليدور في خلدهم: أن يشير إليهم إخوانهم
بالسلاح، فضلاً أن يغمدوا سيوفهم في صدورهم، أو أن يمكنوها من رقابهم.
أو لأنهم كان يستعظمون أن يقدم مسلم على سفك دم مسلم،
مهما اختلفت الأهواء، وعظمت الرزايا.. فكيف إذا كان الأمر سينتهي بقتل
الألوف من أهل الإسلام؟!
([1])
تاريخ الأمم والملوك ج4 ص391 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص505 و
506 ومستدركات أعيان الشيعة ج1 ص155.
([2])
نهج البلاغة (بشرح عبده) ج2 ص82 و 83 قسم الكتب، الكتاب رقم
168 وقضاء أمير المؤمنين «عليه السلام» للتستري (ط مؤسسة
الأعلمي) ص215 ومناقب آل أبي طالب ج1 ص324 و (ط أخرى) ج2 ص46
وبحار الأنوار ج40 ص161 وج32 ص83 وربيع الأبرار ج1 ص710 وشرح
نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص299.
([3])
الجمل للمفيد ص290 ـ 292 و (ط مكتبة الداوري ـ قم) ص156 ـ 157
وأشار في هامشه إلى المصادر التالية: المصنف لابن أبي شيبة ج7
ص532 ـ 534 والعقد الفريد ج4 ص305 ونهج البلاغة ص244 ـ 245
الخطبة 170 ومناقب آل أبي طالب ج2 ص46 وقارن بتاريخ الأمم
والملوك ج4 ص490 ـ 492 وربيع الأبرار ج1 ص710. وراجع نهج
السعادة ج1 ص269 ـ 271.
([4])
الفتوح لابن أعثم (ط الهند) ج2 ص337 و (ط دار الأضواء) ج2
ص483.
([5])
السمير المهذب ج2 ص8 ـ 9.
([6])
تاريخ ابن معين ج1 ص369 والكامل لابن عدي ج3 ص446 والضعفاء
الكبير للعقيلي ج2 ص155.
([7])
صحيح البخاري ج4 ص37 و 38 و (ط دار الفكر) ج1 ص81 ودلائل الصدق
ج1 ص417 و 416 وصحيح مسلم ج8 ص24 والغدير ج11 ص91 وج8 ص252
ومسند أحمد ج3 ص144 والسنن الكبرى للبيهقي ج2 ص210 وفتح الباري
ج6 ص419 وعمدة القاري ج22 ص116 ومسند أبي يعلى ج7 ص222 ونظم
درر السمطين ص59 ونصب الراية ج2 ص151 وكنز العمال (ط مؤسسة
الرسالة) ج7 ص209.
|