قال الشيخ المفيد «رحمه الله»:
من كلامه «عليه السلام» ـ وقد نهض من ذي قار، متوجهاً
إلى البصرة ـ بعد حمد الله، والثناء عليه، والصلاة على رسول الله «صلى
الله عليه وآله»:
أما بعد..
فإن الله تعالى فرض الجهاد وعظمه، وجعله نصرة له.
والله، ما صلحت دنياً قط، ولا دين إلا به.. وإن الشيطان قد جمع حزبه،
واستجلب خيله ورجله، وشبه في ذلك، وخدع.. وقد بانت الأمور وتمخضت..
والله ما أنكروا علي منكراً، ولا جعلوا بيني وبينهم
نصفاً، وإنهم ليطلبون حقاً تركوه، ودماً سفكوه. فإن كنت شريكهم فيه فإن
لهم نصيبهم منه، وإن كانوا ولوه دوني فما الطلبة [تبعته] إلا قبلهم،
وإن أول عدلهم للحكم على أنفسهم [وإن أعظم حجتهم لعلى أنفسهم].
وإن معي لبصيرتي، والله ما لبست، ولا لبس علي، وإنها
للفئة الباغية فيها الحماء والحمة، والشبهة المغدفة.
[وفي الإرشاد للمفيد:
قد طالت هلبتها، وأمكنت درتها، يرضعون أماً فطمت،
ويحيون بيعة تركت، ليعود الضلال إلى نصابه ما اعتذر مما فعلت، ولا أبرأ
مما صنعت. فخيبة للداعي ومن دعا.. لو قيل له:
إلى ما دعواك؟! وإلى من أجبت؟!
ومن إمامك؟! وما سنته، إذن لزاح الباطل عن مقامه].
وفي نهج البلاغة:
وإن الأمر لواضح. وقد زاح الباطل عن نصابه، وانقطع
لسانه عن شغبه.
[وفي
الإرشاد:
لا يصدون عنه، ولا يلقون بعده رياً أبداً، وإني لراض
بحجة الله عليهم، وعذره فيهم، إذ أنا داعيتهم فمعذر والحق مقبول. وليس
على الله كفران. وإن أبوا أعطيتهم حد السيف، وكفى به شافياً من باطل،
وناصراً لمؤمن].
وفي نهج البلاغة:
وأيم الله لأفرطن لهم حوضاً أنا ماتحه، لا يصدرون عنه
بري، ولا يعبون بعده في حَسْيٍ.
[و] منها:
فأقبلتم إلي إقبال العوذ المطافيل على أولادها تقولون:
البيعة، البيعة. قبضت كفي فبسطتموها، ونازعتكم يدي فجاذبتموها
اللهم إنهما قطعاني، وظلماني، ونكثا بيعتي، وألبا الناس
علي، فاحلل ما عقدا، ولا تحكم لهما ما أبرما، وأرهما المساءة فيما أملا
وعملا، ولقد استَثَبتْهُمَا قبل القتال، واستأنيت بهما أمام الوقاع،
فغمطا النعمة، وردا العافية([1]).
ونقول:
علينا أن نبين هنا الأمور التالية:
يبدو:
أنه
«عليه السلام»
قد قال ذلك بعد نشوب القتال، وقبل قتل طلحة والزبير، كما دل عليه قوله
بعد أن دعا عليهما بأن لا يدركا ما أملا: «ولقد استثبتهما قبل القتال
إلخ..».
ولكن الشيخ المفيد «رحمه الله»
يصرح:
بأنه «عليه السلام» قد قال ذلك حين نهض من ذي قار
متوجهاً إلى البصرة، ويدل علىه قوله: إن أبوا أعطيتم حد السيف، وهناك
عبارات أخرى تدل على ذلك، فهل اختلط كلامه «عليه السلام» حين نهض من ذي
قار بكلام آخر له؟! أو أن الأمر قد اشتبه على الشيخ المفيد؟! أو أن
المقصود بأنه استثابهما: أنه طلب عودتهما عن بغيهما مرة بعد أخرى منذ
أعلنا نكثهما لبيعته. فإنّ ثاب بمعنى عاد.
الحمأة:
الطين الأسود النتن. وحمة العقرب: سمها.
المغدفة:
الخفية. والمغدِفة ـ بكسر الذال، أو الدال ـ من أغذف
إذا أظلم، إشارة إلى شبهتهم في الطلب بدم عثمان. وأصله: المرأة تغذف
وجهها بقناعها، أي تستره.
الهلب:
الشعر، وقيل: هو ما غلظ من شعر الذنب وغيره.
الدرة:
كثرة اللبن وسيلانه.
أفرط الحوض:
ملأه وأكثر من صب الماء فيه. أي ملأه.
الماتح:
المستقي بالدلو من أعلا البئر.
الحسي:
ماء يشربه الرمل، فينتهي إلى أرض صلبة تحفظه، ثم يحفر
عنه ويستخرج، فيكون بارداً عذباً. وهذه كناية عن الحرب، وتهديد بها،
وما يتعقبها من القتل والهلاك.
العوذ:
حديثات النتاج من الخيل، والإبل والظباء، واحدها عائذ. وذلك إذا ولدت
إلى أن يمضي عشرة أيام، أو خمسة عشر يوماً، ثم هي مطفل.
ألبا:
حرضا.
استثبتهما:
من ثاب بمعنى رجع، أي طلبت منهما الرجوع. ويحتمل: أن
تكون الثاء تاءً. أي طلب منهما التوبة.
استأنيت:
أي انتظرت.
غمطا:
أي حقرا.
1 ـ
لقد بدأ «عليه السلام» كلامه عن الجهاد في نفس اللحظة
التي تحرك فيها نحو البصرة ليواجه الناكثين، ومعه جماعة من المقاتلين..
وهي لحظة حساسة بالنسبة إليه، وبالنسبة للذين معه، والناس الغائبين
عنه.. وذلك لما تعطيه من تصور، وما توحي به من معانٍ، وما يرافقها من
خطرات وخلجات ومشاعر، وما ربما ترفعه أمام ناظري كل من يعيش تلك اللحظة
من أهداف، وآمال وتوقعات..
ونستطيع أن نختصر ذلك كله بالإشارة إلى بعض اللمحات في
هذا المسار، ضمن ما يلي من نقاط:
1 ـ
إنه «عليه السلام» أراد أن يدخل في وهم الناس أن القوة
بكل مظاهرها وأشكالها ودوافعها ليست هي السبيل لبناء الحياة والإنطلاق
فيها. كما أنها ليست مما يمكن تجاهلها أو الاستغناء عنها.
بل على الناس أن يميزوا بين القوة العسكرية والقتالية
التي يراها أهل الدنيا قيمة بحد ذاتها، وبين القوة القتالية التي
يقتضيها معنى الجهاد.. وأكد لهم: أن القوة التي تتحرك نحو البصرة هي من
هذا النوع بالذات، الذي يرسم أمام ناظري الجميع هدفاً تحدده الأوامر
والتوجيهات، والرعاية الإلهية.. ويتقدس هذا الهدف من حيث أنه يحمي
الدين، والدنيا من أخطار الذوبان والتلاشي..
2 ـ
وإذ قد تحدد ذلك، وتكرس في الموقف والممارسة، وصُوِّبَ
المسار، فإن المطلوب هو عدم الإقتصار في فهم هذا الأمر على العناوين
والأسماء، بل المطلوب هو تعميق الوعي لمعنى الجهاد إنطلاقاً من الوعي
العميق للحقائق الراهنة، التي يفترض بالإنسان المؤمن أن يتعامل معها،
من خلال ملاحظة الأمور التالية:
الأول:
إن الشيطان وحزبه لا يمكن أن يقر لهم قرار، لا في ليل
ولا في نهار دون الحيلولة بين الإنسان الإلهي المؤمن وبين بناء الحياة
على أسس صحيحة وسليمة، والحيلولة أيضاً بينه وبين نشر وإقامة وإصلاح
دين الناس..
وإذا تمكن الإنسان من فعل شيء من ذلك، فسيجند الشيطان
وحزبه كل قواهم، ويستجلبون خيلهم ورجلهم من كل حدب وصوب لهدم ما بُني،
وإفساد ما صلح من هذا وذاك.. إما بمباشرة الهدم، والإطاحة بالإنجازات
في الدين والدنيا.. أو بالتسبب في ذلك بواسطة الخدع والتزيينات، وتقديم
باطلهم في صورة الحق..
الثاني:
إن فطرة الإنسان وعقله، وكل وجوده لا يمكن أن يتقبل هذا
العمل الإجرامي والعدواني، وسيبادر إلى مقاومته بما يتوفر لديه من
إمكانات ووسائل..ولكن الشيطان وحزبه لن يهدأوا ولن يستقر لهم قرار،
وسيعودون من جديد إلى أعمالهم الشريرة، وسوف يستجلب الشيطان خيله
ورجله، ويمارس مرة عمليات خداع الناس وتشبيه الباطل لهم بصورة الحق،
ويتخذ منهم أداة بطش وتسلط، وسيفاً يحمي به ذلك الباطل، ويفرضه على
الناس، ويكرسه فيهم كأمر واقع لا مناص ولا خلاص منه، ولا محيد لهم
عنه..
الثالث:
فإذا بلغت الأمور إلى هذا الحد، وتمخضت عن مثل هذا الحال.. يصبح
الإنسان أمام خيارين:
أحدهما:
أن يستسلم، وينسحب، ويؤثر سلامته الشخصية والتلهي بلذات محدودة وآنية
لن تدوم له، بل ستكون كرامته ودينه، وحياته في الدنيا والآخرة، بل كل
جهات وجوده، في معرض الانتقاص والعدوان من قبل الباطل وأهله.. وربما
ينتهي الأمر بكل ما وهبه الله إياه إلى الذوبان والتلاشي..
الثاني:
وإما أن ينسجم مع ما يحكم به عقله، وتسوقه إليه فطرته،
ويأمره به الله ورسوله، وهو التصدي والتحدي لقوى الباطل والطغيان،
ومصائد الشيطان، ودفعها وتدميرها..
ولا شك في أن هذا الخيار هو الأمثل والأفضل، بل هو
المتعين لمن درى وتأمل، وأنصف نفسه وتعقل..
3 ـ
وقد جاءت كلمات أمير المؤمنين «عليه السلام» هنا لتدلنا
على أن فرض الجهاد من الله، وتعظيمه تعالى له، واعتباره نصرة له سبحانه
قد جاء على سبيل الإرشاد إلى أن به صلاح الدنيا والدين. وأن التخلي عنه
معناه التخلي عن الحياة الدنيا والآخرة على حد سواء..
وهذا الإهتمام الإلهي بأمر الجهاد إلى هذا الحد إنما هو
لأجل مساعدة الإنسان على حفظ نفسه، وبناء حياته بصورة صحيحة وسليمة،
وهو يعبر عن قيمته وعظمة الإنسان عند الله، وكرامته عليه ولديه.. إلى
حد أنه تعالى يعتبر حتى ما ينساق الإنسان بعقله وفطرته، وما هو من
ضروريات حياته يثيبه عبادة عليها، ويدخله الجنة بسببها، لمجرد أنه يخشى
عليه من تزيينات الشيطان وتسويلاته وخدعه، ويريد أن يصونه منها..
لقد
حدد «عليه السلام»:
أن بيعة طلحة والزبير وسائر الناس قد ألزمتهم بالطاعة، والنصرة
والمعونة، ولا مبرر للإخلال بهذه الواجبات إلا في حالتين:
الأولى:
أن يكون «عليه السلام» قد ارتكب منكراً يخرجه عن صفة
العدالة، ويجعله غير مؤهل لإقامة سنة العدل، وإجراء أحكام الشريعة..
الثانية:
أن يكون قد خالف شروطاً أخذت عليه من قبل مبايعيه..
وحيث إن كلا الأمرين لم يحصل، فإن التمرد يصبح بلا معنى
ولا مبرر، ويدخل في نطاق الظلم والبغي، والعمل على فرض الرأي، والتحكم
غير المقبول..
على أن مجرد ادعاء المخالفة، ثم الخروج للقتال، ليس له
مبرر أيضاً. والحقيقة هي أن هناك آلية مضبوطة، ومرجعية صحيحة، لا بد من
رعايتها والإنتهاء إليها في ذلك، وهي الشرع والدين. ويمكن التأكد من
رعايتها من خلال الطلب إلى حكم منصف مقبول من الطرفين لا يتحيز لفريق
دون فريق، عارف بما أوجبه الله، مؤتمر بأوامره، منزجر بزواجره، يكون هو
المرجع لهم عند الاختلاف.. وهو الذي يبين مواضع المخالفة والموافقة
والرعاية الصحيحة، أو عدم الرعاية لأحكام الله.
ولو جاز لكل من تخيل أمراً في حق الحاكم الذي له في
عنقه بيعة أن يبادر إلى نقض بيعته وقتاله من دون سؤال وجواب، ومن دون
عرض الأمر على قانون شرعي، أو على حَكَم منصف، عارف بالشريعة، التي
يفرض العقل والدين الرجوع إليها، لفض النزاعات ـ لو جاز ذلك ـ لاختلط
الحابل بالنابل، ولم يستقم للناس أمر، ولم تقم لهم قائمة، ولفقدت
الحاكمية معناها، وضيعت مغزاها. ولسقطت الأمة في حمأة الخلافات التي
ستؤدي بها إلى المآزق والمهالك، ثم إلى التلاشي والضياع. ولا يجدي بعد
ذلك ندم، ولا ينفع عض الأصابع، بعد أن أصبحت الديار بلاقع.
وهذا هو ما أشار إليه «عليه السلام»
بقوله:
«ولا جعلوا بيني وبينهم نصفاً».
وقد بين «عليه السلام»:
مدى الإسفاف الذي بلغه مناوؤوه، والظلم الذي يحيق به:
أنهم يطلبون حقاً هم تركوه.. ودماً هم سفكوه.
وهذا يدل على ما يلي:
1 ـ
فقدان المعايير الصحيحة عند هؤلاء.
2 ـ
شدة جرأتهم، وعظيم وقاحتهم.
3 ـ
قلة دينهم، وعدم التزامهم بأبسط المعايير، وأبدهها..
4 ـ
ظهور مظلوميته معهم..
5 ـ
إنسداد أبواب الحوار، وعدم جدوى أية محاولة في هذا
الاتجاه، وانحصار الحل باستعمال القوة لدفع شر العاتي والظالم..
6 ـ
إنهم غير مأموني الجانب، بل لا بد من توقع النكث كلما
سنحت لهم الفرصة.
7 ـ
إن المقصود بالحق الذي تركوه: هو ما يسمونه حقاً. لا
الحق بمعناه الواقعي، إذ لم يكن لهم حق، وقد أخذ منهم، أي أنه «عليه
السلام» قد أجرى الكلام حسب منطقهم ودعواهم..
أو أن المقصود:
أنهم رأوا الحق، وتركوا الأخذ به، والانقياد له.
8 ـ
إنهم حين تركوا أمر الخلافة إليه، وحملوه بإصرار على
قبولها، وكانوا أول من بايعه قد سدوا على أنفسهم أبواب المطالبة بها..
حتى لو كانت حقاً لهم. فإن الخلافة إذا عقدت لا يمكن نقضها، ويسقط
الخيار والإختيار فيها.. فكيف إذا كانت ليست من حقهم من الأساس؟!
9 ـ
إن الكلام عن سفكهم الدم يتضمن برهاناً صريحاً على عدم
الحق لهم بالخلافة، بجميع المعايير.. فكيف إذا كان الذين سفكوا ذلك
الدم هم الذين يطالبون به؟!
وذلك لأن مطالبتهم بذلك الدم
معناها:
أنه قد سفك بغير حق، فمن يعترف بذلك، ثم يكون هو الذي
سفك ذلك الدم الحرام، هل يكون أهلاً للخلافة؟!
10 ـ
زد على ذلك: أن هذا القاتل بالذات يرمي به بريئاً، كان
قد نهاهم عن ارتكاب ذلك القتل، وحاول حل الإشكال بينهم وبين المقتول..
بل إنهم يرمون به الإمام المعصوم، الذي كانت له في عنقهم بيعة أعطاها
له تحت رقابة وإشراف، وبأمر من الله ورسوله..
إنه «عليه السلام» يقول:
إن هؤلاء إذا كانوا يدَّعون: أن الحق في حكم الناس لهم
دون سواهم، ويرفعون شعار إقامة العدل، وإرجاع الحقوق إلى أهلها.. فحري
بهم أن يجروا هذا العدل على أنفسهم أولاً، فإنهم قتلته، وناكثون
للبيعة، وغادرون.
وقد زاد «عليه السلام» في إحراجهم حين بالغ في
التنازلات الإفتراضية التي أظهرت: أنه لا مجال لتبرير ما يقدمون عليه
بأي وجه. فقد بين «عليه السلام»: أن تبرئتهم أنفسهم من دم عثمان لا
يمكن تصورها، وهم أنفسهم يعترفون بأن لهم دوراً مباشراً في قتله،
ولكنهم يدَّعون: أن علياً «عليه السلام» قد شارك في التحريض.
ولكنهم يزعمون:
أنهم تابوا مما فعلوه، وندموا على ما ارتكبوه.
وقد رضي أمير المؤمنين «عليه
السلام»:
أن يجاريهم
حتى في قولهم هذا رغم أنه يتضمن الكذب والاتهام بالباطل.. فقرر
«عليه السلام»
أموراً لا يمكنهما الخروج منها:
الأول:
أن توبتهما لا تعفيهما من العقوبة التي ثبتت عليهما حتى باعترافهما.
الثاني:
أن من يرتكب جريمة قتل لم يأذن له الشارع بارتكابها لا
يحق له التصدي لمقام الإمامة والزعامة..
الثالث:
أن اتهام علي
«عليه
السلام»
بالمشاركة فيما جرى، لا تجعل لهما أولوية في أمر الخلافة، بل غاية ما
يمكن أن يقال: هو تساويهما معه في هذا الأمر، فما معنى سعيهما
للاستئثار به دونه؟!
فكيف إذا كانا هما اللذان أصرا عليه بالبيعة له،
واعترفا له بالأحقية به؟! وكيف إذا كانا يفتريان عليه في أمر كان موقفه
فيه على الضد مما ينسبانه إليه؟! وكيف؟! وكيف؟!
فاتضح بذلك:
بعض ما أشار
إليه
«عليه السلام»
في قوله المتقدم: «فإن كنت شريكهم فيه، فإن لهم نصيبهم منه. وإن كانوا
ولوه دوني، فما الطلبة إلا قبلهم، وإن أول عدلهم للحكم على أنفسهم».
ثم أشار
«عليه السلام»
إلى أنه على بينة من أمره، وأن بصيرته لم تغب عنه بسبب ضغوط الأهواء،
وطغيان الشهوات، كما أن ظلمات الشبهات لم تستطع حجب بصيرته عنه، ولا
تمكنت من الاستئثار بها دونه.
وإنما تأتي الشبهة لو فرض أن الرسول «صلى الله عليه
وآله» الذي يفترض فيه أن يوضح الأمر لعلي «عليه السلام» لم يقم بما يجب
عليه. والحال أن ذلك باطل، فإن أقوال الرسول «صلى الله عليه وآله»
وأفعاله ليس فيها أية شائبة. وليس فيها تلبيس عليه، أما الآيات، فإنها
هي الأخرى بينات واضحات.
وحجب البصيرة قد يكون بسبب سعي الإنسان نفسه إلى
التلبيس على نفسه، بداع من الأهواء والشهوات، أو بسبب خضوعه لتلبيسات
غيره. ومن كانت بصيرته معه كان في مأمن من الإنزلاق في حمأة الأضاليل،
والأباطيل، وبكل الصور والأشكال..
1 ـ
ثم قال
«عليه السلام»:
«وإنها
للفئة الباغية، فيها الحماء والحمة، والشبهة المغدفة إلخ..».
فنرى:
أنه
«عليه السلام»
لم يتكل على منطق الاستدلال، الذي يعتمد مخاطبة العقل، بل تجاوز العقل،
ليعود إليه من خلال الوجدان. حين أطلق خبراً غيبياً يذكر أن طلحة
والزبير يمثلان مرحلة بغي يتعرض لها الحكم الإسلامي، كان النبي «صلى
الله عليه وآله» قد حذَّر منها.
وهذا ما لا سبيل للعقل إلى إثباته أو إنكاره، بل
الوقائع والأحداث هي التي تتولى ذلك، فإذا أثبتت الوقائع ذلك بادر
العقل إلى الربط بين هذا الواقع وبين الحق، ويتخذ منه سبيلاً لتحديده،
وطريقاً لاستكشافه. فيتأكد ويترسخ دور العقل على أساس العينية
والمعاينة، التي هي الركيزة الأقوى، والأصلب، والتي يستطيع العقل أن
يستند إليها، ويدفع بالإنسان إلى البناء الأكثر تناسقاً والأدق ضبطاً،
والأشد تماسكاً وقوة، في مواجهة العواصف، والأنواء مهما كانت عاتية
هوجاء.
2 ـ
ذكر «عليه السلام»: أنه موعود بخروج فئة باغية عليه،
وهذه الفئة الباغية تحمل معها أموراً ثلاثة، هي:
الأول:
الحمأ، وهو الطين الأسود المنتن، وقد أشار به «عليه
السلام» إلى التغير والظهور بأسوأ الحالات، ويحس هذا التحول بالحواس
الظاهرة: الباصرة، والذائقة، واللامسة والشامة، حيث يظهر بحالته
وبخصائصه الطينية التي ليست هي الحالة الطبيعية له، ثم بلونه الدال على
تحوله نحو الأفسد.. حتى ينتهي الأمر به إلى حد أنه أصبح مؤذياً بروائحه
الكريهة المنبعثة عنه، وبنتنه الذي يحمل الأسواء والأدواء..
وهذا هو حال الفئة الباغية التي تحولت إلى محض شر وفساد
مشهود تنتشر روائحه في كل اتجاه، ليلمسها الناس بصورة مباشرة، ولم تزل
تنشر الأدواء والأمراض والأوبئة في داخل المجتمع، بما تشيعه من ترهات
وأضاليل، وبما تحدثه من اختلال في أمنه، وفي حركته، وفي مجمل حياته.
الثاني:
إن هذه الفئة تحمل معها الحمة، وهي السموم الفتاكة
والقاتلة، التي تقضي على النبضات الحية في الأمة، تستهدف أمن الناس
واعتقاداتهم، وكل حياتهم.
الثالث:
إنها تدس الشبهات الخفية في الناس. ولا تكتفي بالظاهر،
بل هي تعمل على إلباس الباطل لباس الحق، وتتسلل إلى عقول ونفوس الناس،
لتفتك بها وبهم، وبعقائدهم، وبفكرهم وإيمانهم، وهم لا يشعرون.
وحين قال «عليه السلام»:
«وإن الأمر لواضح، وقد زاح الباطل عن نصابه، وانقطع
لسانه عن شغبه»، يكون قد بين بذلك:
1 ـ
أن شدة وضوح الأمر قد ألجأت أهل الباطل إلى تصرف ظاهر
الفساد، بيِّن الغي، جسد أمام أعينهم، وأمام كل ناظر، بغيهم عليه،
وظلمهم له..
2 ـ
إنه لم يعد للباطل أي ثبات، أو ثقل يمكنه من أن يرسو
ويستقر، وسبب ذلك هو ظهور بغيهم، وفضيحتهم في باطلهم..
3 ـ
إنه لم يعد هناك أي مجال لتبرير ذلك الباطل، فقد أصبحت
جميع التبريرات مفضوحة. ولم يعد لباطلهم لسان يستطيع أن يهيج الشر بين
الناس، إلا على سبيل البغي المفضوح، الذي لن يكون في صالحهم.
ثم إنه «عليه السلام» بيّن أنه هو الذي يهيمن على قرار
أولئك البغاة ويتحكم به، حين قال «عليه السلام»:
«وأيم الله، لأفرطن لهم حوضاً أنا ماتحه، لا يصدرون عنه
بري، ولا يعبون بعده في حَسْيٍ».
فقد تضمنت هذه الكلمات:
1 ـ
إنه «عليه السلام» كان لديه كل الوثوق بما يقول، حتى
إنه ليقسم على أنه فاعل ذلك..
2 ـ
إنه باستعمال اللام والنون الثقيلة المؤكدة يدلل على
أنه سوف يفرط ـ أي يملأ ـ لأولئك البغاة حوضاً، يكون هو ماتحه الذي
يستقي منه من فوقه، مما يعني: أنه هو الذي يهيمن على حركتهم، ويتحكم
بها..
3 ـ
وهو يشير بكلامه هذا إلى أنه سوف يسقيهم كأساً من الغصص
والبلايا والمصائب، يكون هو الذي يختار مفرداتها في مضامينها، وإشكالها
وأحجامها، وما يسقيهم إياه فيها.
والخلاصة:
إنه
هو الذي يتحكم بمسار الأحداث، وهو الذي يسوق عدوه بالإتجاه الذي يريد.
4 ـ
إنه يشير إلى استمرار هيمنته هذه، لتشمل قراره بملء
الحوض، وتستمر إلى حين يحين الإستقاء منه.
5 ـ
إنه هو الذي سيتولى الإستقاء لهم من ذلك الحوض..
6 ـ
إن هذا الإستقاء سيكون من موقع الهيمنة والتسلط، لأنه
قال: إنه سيكون هو ماتح ذلك الحوض..
7 ـ
إن هذا الذي يسقيهم إياه ليس مما يتحقق به الري..
8 ـ
بل إن صَدَرَهُم أي رجوعهم عن ذلك الحوض لن يكون باختيارهم..
9 ـ
إنه «عليه السلام» يتهدد البغاة بأن ورودهم لذلك الحوض
سيكون آخر عهدهم بالورود، فإنهم لن يعبوا بعده حتى ما تحتفظ به الرمال
من بقايا الماء.
10 ـ
إنه «عليه السلام» حين وصف شربهم من الحوض بالعب، يكون
قد شبههم بالدواب، التي تعب الماء، أي تشربه بلا مص. وبشرب الماء عباً
من أسباب وجع الكبد.
11 ـ
وقد ضاءل «عليه السلام» من آمال البغاة بالورود الموجب للري، بعدوله عن
ذكر الحوض، إلى ذكر أقل ما يمكن أن يطمع فيه الشارب، وهو الماء الذي
تختزنه الرمال إذا بلغ إلى أرض صلبة، ويقال له: «حِسْي».
قال بعضهم:
إنه لا مجال للجمع بين العوذ وبين المطافيل إلا على نحو
المجاز، لأن المطفل هي التي زال عنها اسم العياذ، ومعها طفلها([2]).
وقالوا:
العائذ هي حديثة النتاج، وتسمى عائذ إلى عشرة أيام أو
خمسة عشر يوماً، ثم هي مطفل. ولا تكون مطفلاً قبل مضي هذه الأيام([3]).
ويرد عليه:
أولاً:
أن جمع علي «عليه السلام» بينهما في هذا النص يرد قوله
هذا..
ثانياً:
لعل كلمة العوذ هي التي لا تجتمع مع المطافيل بعد مضي
هذه الأيام، بسبب انتفاء موضوعها. أما المطافيل فتجتمع مع العوذ في
أيام النتاج الأولى. وتنفرد عنها بعد مضيها.. فبينهما عموم وخصوص مطلق.
ثالثاً:
يمكن أن يقال:
إن بين الكلمتين عموماً وخصوصاً من وجه، فإن نفس ترديد
هذا القائل في معنى العوذ بين عشرة أيام وخمسة عشر يوماً يدل على عدم
حسم الأمر في الأيام الخمسة الأخيرة، فتطلق الكلمتان معاً في خصوص هذه
الأيام. فهما تجتمعان فيها، وتنفرد كلمة العوذ في الأيام العشرة
الأولى، وتنفرد المطافيل بما يكون بعد مضي خمسة عشر يوماً.
وقد وصف أمير المؤمنين «عليه السلام» حالة الناس حين
أرادوه على البيعة: بالعوذ المطافيل، ليقدم صورة عن الحالة التي كانت
مهيمنة على الناس في تلك الفترة. حيث إنهم كانوا يعيشون اللهفة إلى
ولايته «عليه السلام» والحرص عليها، ليؤكد للناس أنه «عليه السلام» لم
يكن هو الطالب لهذا الأمر، بل الناس بما فيهم طلحة والزبير هم الذين
فرضوه عليه بمثل هذه اللهفة، وذلك الحرص. معتبرين أن في ذلك نجاتهم،
وهو يحقق مصلحتهم، صغاراً وكباراً، وهو الخيار الأنفع لهم ولأبنائهم،
الذين يريدون لهم الحفظ والسلامة، والنجاح. والفلاح والصلاح.
ثم إننا نشير إلى ما يلي:
ألف:
إنه «عليه السلام» قد دعا على طلحة والزبير، وقد استجاب
الله تعالى دعاءه، ولكنه دعاء يحمل مبرراته معه، فقد تضمن:
1 ـ
أن طلحة والزبير قد قطعاه. ولا شك في أن الله تعالى
أمرهما بصلته بما هو مؤمن، وبما هو إمام، وبما هو حاكم، وبما له من
بيعة في عنقهما..
2 ـ
إنهما قد ظلماه بتقلباتهما، وادعائهما الباطل عليه، حين
اتهماه بما يعلمان أنه برئ منه..
3 ـ
إنهما قد نكثا بيعته، التي كانا من أكثر المصرين عليه
في قبولها منهما ومن الناس..
4 ـ
إنهما لم يقتصرا على النكث، بل حرضا الناس عليه، ودعوهم
إلى منابذته، وجمعاهم لمحاربته.
5 ـ
إنهما افتريا عليه، واتهماه بما فعلاه..
ب:
إنه «عليه السلام» لم يضمن دعاءه أي شيء يختص بأشخاصهما، فلم يطلب من
الله ابتلاءهما بالأمراض، أو أن يميتهما، أو أن يقطع نسلهما أو
رزقهما.. وإنما دعا عليهما فيما يختص بالذي ظلماه فيه، فقال «عليه
السلام»:
«فاحلل ما عقداه، ولا تحكم لهما ما أبرما، وأرهما
المساءة فيما أملا وعملا».
والسبب واضح، فإن ما يهمه «عليه السلام» هو حفظ السلامة
العامة، وتجنيب الناس مشكلة اختلال النظام، وشيوع الفوضى، والأهم من
ذلك: أن لا يتسلط عليهم من لا يرحمهم، ومن يريد أن يستغلهم، ويجعل منهم
مطية لأهوائه وأغراضه، وطموحاته الشخصية. ولو بقيمة أن يخسروا حياتهم،
ودينهم وكراماتهم.
1 ـ
إنه «عليه السلام» رغم معرفته بإصرارهما على متابعة
حركتهما حتى النهاية لم يكف عن دعوتهما إلى العودة إلى الحق، والتراجع
عن الباطل، لأنه يريد للناس أن يعرفوا أنهم هم الذين فرضوا عليه «عليه
السلام» هذا الموقف، وأنهم هم المندفعون له، المجازفون بأرواح الناس في
سبيل حصولهما عليه، وهو وحده الحريص عليهم وعلى الناس كلهم مهما تجنوا
عليه، وأساؤوا له. ولتكون مواقفه هذه إسهاماً في دفع ما يثيرونه من
شبهات، وما يحاولون خداع الناس به من أضاليل وترهات..
2 ـ
وقد لوحظ: أنه يعتبر إعطاءهما هذه الفرصة، وفسح المجال
لهما للتراجع حتى لحظة بدء القتال، من نعم الله تعالى التي كان يفترض
فيهما أن يقبلاها وأن يشكراها..
ولكنهما أمعنا في كفران النعمة، وأصرا على جحودها
وتضييعها، فلم يبق لهما بذلك أي عذر، واستحقا النقمة والنكال، من ذي
العزة والجلال..
3 ـ
كما أنهما هما اللذان أوقعا أنفسهما بالدمار والبوار،
حين ردا نعمة الله، واستبدلاها بالنقمة.. فلا يلوما غير نفسيهما.
([1])
نهج البلاغة (بشرح عبده) ج2 ص19 قسم الخطب، الخطبة رقم 137
والإرشاد للمفيد (ط دار المفيد) ج1 ص251 وبحار الأنوار ج32 ص78
وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص33 ـ 38 وراجع: الجمل لابن شدقم
ص114 ـ 116 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج2 ص270
وجواهر المطالب لابن الدمشقي ج1 ص324.
([2])
شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج9 ص38.
([3])
بحار الأنوار ج32 ص79 وراجع: مجمع البحرين ج3 ص275.
|