صفحة :75-94   

الفصل الثاني: لا تصاب الفرصة من علي ..

الزبير، وتبييت علي :

قالوا:

«ولما استقر الأمر عند القوم بعد خروج عثمان بن حنيف، وعلم طلحة والزبير وعائشة: أن أمير المؤمنين «عليه السلام» بذي قار ينتظر الجموع، وأنه لا يصبر على ما فعلوه بصاحبه والمسلمين، أمرت عائشة الزبير أن يستنفر الناس إليه، فخطبهم الزبير، وأمرهم بالجد والاجتهاد، وقال لهم: إن عدوكم قد أظلَّكم. والله لئن ظفر بكم لا ترك لكم عيناً تطرف، فانهضوا إليه حتى نكبس عليه قبل أن تلحقه أنصاره»([1]).

وروى داود بن أبي هند عن أبي عمرة مولى الزبير: أن الزبير قال يومئذٍ: ألا ألف فارس؟! ألا خمسمائة فارس؟! ينهضون معي الساعة لأسير بهم إلى علي بن أبي طالب، فإما أن أبيته بياتاً، أو أصبحه صباحاً، لعلي أقتله قبل أن يأتيه مدده.

فلم يَخِّفَ معه أحد.

فاغتاظ لذلك وقال: هذه والله الفتنة التي كنا نتحدث بها.

فقال له مولاه أبو عمرة: رحمك الله يا أبا عبد الله، تسميها فتنة ثم ترى القتال فيها؟!

فقال: ويحك! إنا نبصر، ولكن لا نصبر.

ثم قال بعد ذلك بيوم أو يومين: والله ما كان أمر قط إلا علمت أين أضع قدمي فيه إلا هذا الأمر، فإني لم أدر أنا فيه مقبل أو مدبر؟!

فقال له ابنه عبد الله: والله ما بك هذا، وإنا لنتعامى! فما يحملك على هذا القول إلا أنك أحسست برايات علي بن أبي طالب قد أظلت، وعلمت أن الموت الناقع تحتها.

فقال له: أعزب ويحك! فإنه لا علم لك بالأمور([2]).

ونقول:

لقد قرر النص المذكور آنفاً: أن علياً «عليه السلام» لا يصبر على ما فعله الناكثون بعامله، وما فعلوه بالمسلمين، ولسنا نشك في صحة هذا الأمر، فعلي «عليه السلام» لا يرضى بتعرض الناس للتعديات الظالمة، ولا بد أن يدفع عنهم، ولا يصبر عن الاقتصاص لهم ممن اعتدى عليهم..

نعم.. لو أن الظلم وقع على علي «عليه السلام»، ورأى أن من مصلحة الإسلام والمسلمين الصبر عليه، فإنه لا يتردد في ذلك، وهذا هو نفس المضمون الذي صرح به «عليه السلام» حين قال: «لأسلمن (أو لأسالمن) ما سلمت أمور المسلمين، ولم يكن جور إلا علي خاصة».

وكان الناكثون يعرفون علياً «عليه السلام»، وقد عاشوا معه دهراً، وجربوه في حربه وسلمه، وفي حالات الرضا والغضب، والشدة والرخاء، وفي طفولته، وشبابه، وكهولته وشيخوخته، ورأوه حين يغضب لله فيقد الأبطال ويقطعهم في سيفه، ويقتلع أبواب الحصون، ويرمي بها بعيداً. وشهدوه صابراً محتسباً، حين يهاجم البعض بيته، ويضرب أعز الخلق عليه، ويسقط جنينها، ويضرم النار في بيته، ليحرقه بمن فيه، وفيه وصي الأوصياء، وسيدة النساء، وريحانتا الرسول، وسيدا شباب أهل الجنة..

فهذا علي الصابر المحتسب يتحمل هذا الأذى من أجل الله تعالى، هو نفسه الثائر، الظافر، والأسد الكاسر في بدر وأحد، والخندق، وخيبر، وذات السلاسل، وحنين، وسيخوض الغمرات لدفع الظلم الذي حاق بعثمان بن حنيف، وبالسبابجة، وغيرهم من أهل البصرة. وهو بطل حروب الجمل وصفين والنهروان.. وهو القائل: «لألف ضربة بالسيف أهون من موتة على فراش»([3]).

عائشة تأمر بجمع الجيوش:

وليت شعري إذا كانت عائشة قد جاءت لأجل الصلح بين الناس، فلماذا جاءت معها بهذا الجيش، ثم لماذا تأمر بجمع الرجال لحرب علي «عليه السلام»؟!

ولماذا لا تبادر عائشة إلى مساعدة علي «عليه السلام» على الاقتصاص ممن قتل ستة مئة رجل من أهل البصرة، ومنهم السبابجة الذين كانوا من العباد الصالحين. وبما فيهم المقتولون لتشيعهم لعلي «عليه السلام»، وعدم رضاهم بمساعدة عائشة وطلحة والزبير على تحقيق مبتغاهم في السيطرة على البصرة، وفي جمع الجيوش لحرب إمامهم الذي بايعوه بملء إرادتهم واختيارهم؟!

ثم إن عائشة هي التي أمرت بقتل عثمان بن حنيف، فأنجاه الله منها، وهي التي أمرت بقتل أولئك المئات من الناس في البصرة، كما ذكره علي «عليه السلام» في رسالته لها..

فكيف تكون قد جاءت لأجل الصلح بين الناس؟!

لو ظفر بهم علي :

وكلام الزبير قد تضمن أموراً يحسن لفت النظر إليها، وهي:

ألف: لقد خوَّف الزبير بن العوام الناس بأنهم إن ظفر بهم علي «عليه السلام»، لم يترك لهم عيناً تطرف.. وقد أظهرت الوقائع: أن الزبير كان كاذباً في دعواه هذه. ويكفي التذكير بالأمور التالية:

1 ـ إن علياً «عليه السلام» قد تأنى بالناكثين، واحتج عليهم، وأمهلهم، وحاول ثنيهم عن قرارهم الجائر بخوض غمار الحرب، ووعظهم، وخوفهم، ولم يدع فرصة تمر إلا واستفاد منها لدرء الفتنة، وجمع شمل الأمة، فلم يصل إلى نتيجة.

ولو كان مقصوده «عليه السلام» مجرد الظفر بهم، فربما كان يستطيع توجيه ضربته القاصمة لهم قبل أن يستفحل أمرهم، وتقوى شوكتهم، وقبل أن يجمعوا حولهم ثلاثين ألف مقاتل..

2 ـ إنه «عليه السلام» قد أرسل في حرب الجمل منادياً ينادي فيهم: اتقوا سيف الأشتر وجندب بن زهير([4]) ومن يرغب في الانتقام منهم إلى حد أن لا يترك لهم عيناً تطرف، لا يطلق هذا النداء.

3 ـ لو كان «عليه السلام» يريد الانتقام منهم، لكان قد خالف بين القبائل في ساحة القتال، فجعل همدان مقابل ربيعة، وربيعة مقابل بني تميم، وبكر بن وائل، مقابل حمير.. وهكذا.. ولكنه لم يفعل ذلك، بل جعل همدان، مقابل همدان، وتميماً لتميم، وربيعة لربيعة، وهكذا..([5]).

وهذا من شأنه أن يقلل من حدة الرغبة في القتل، لأن علاقة الرحم لا تسمح بالإمعان في القتل..

4 ـ إنه «عليه السلام» لم ينتقم من أحد بعد هزيمة عسكر عائشة والناكثين، بل عفا حتى عن أبغض الناس إليه، وأشدهم عليه، من أمثال مروان بن الحكم، وغيرهما من قادة تلك الحرب الظالمة، رغم أنه «عليه السلام»، قد أعلن بعد انتهاء حرب الجمل نظرته إلى بعض من عفا عنهم، كمروان، حيث قال: «لا حاجة لي في بيعته، إنها كف يهودية، لو بايعني بيده [عشرين مرة] لنكث [بإسته] بسبته»([6]).

ب: إن الزبير قد جعل أمير المؤمنين «عليه السلام» عدواً للناس، وأخرج نفسه ومن معه عن هذا الإطار بالكلية، حيث قال للناس: «إن عدوكم قد أظلكم. والله لئن ظفر بكم لا ترك لكم عيناً تطرف». ولم يدخل نفسه معهم، فلم يقل: إن عدونا قد أظلنا. والله، لئن ظفر بنا لا ترك لنا إلخ..».

وهذا يشبه قول فرعون لقومه عن موسى: ﴿قَالُوا إِنْ هَذَانِ لَسَاحِرَانِ يُرِيدَانِ أَنْ يُخْرِجَاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِمَا وَيَذْهَبَا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلَى([7]).

وقال تعالى: ﴿قَالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هَذَا لَسَاحِرٌ عَلِيمٌ يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَمَاذَا تَأْمُرُونَ([8]).

فترى فرعون «لعنه الله» قد أحال الأمر على شيء غامض، يخشاه الناس لأجل غموضه، وهو السحر، ثم جعل القضية قضيتهم، وجعل لهم اتخاذ القرار.. بشأن موسى «عليه وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام».

الزبير وتبييت علي :

ولا نستطيع أن نعتبر الزبير جاداً في طلبه من الناس أن ينهضوا معه ليكبسوا علياً «عليه السلام» على حين غفلة، قبل أن يجتمع إليه أنصاره.. وذلك لما يلي:

أولاً: قد روي: أن مروان بن الحكم حث الزبير على أن يبادر لتبييت علي «عليه السلام»، ويوقع به، فلم يرض الزبير بذلك، استناداً إلى أن علياً «عليه السلام» شديد الحذر، ولا يسمح لأحد بأن ينال منه بهذه الطريقة([9]). وسنذكر هذا النص فيما يأتي إن شاء الله تعالى..

ثانياً: إن الزبير كان قائداً مطاعاً، فكيف لا يجد حوله من يطيعه لإنجاز هذه المهمة؟! وتتأكد هذه المفارقة حين نقرأ في نص آخر سيأتي.. أنه طلب ألفاً أو خمس مئة فارس ليكبس بهم علياً، فلم يستجب له أحد..

فإذا كان هذا حاله، كيف دخل الحرب بمثل هؤلاء ضد من يعرف أن العرب كلها لو اجتمعت على قتاله لما ولى عنها مدبراً؟!..

لَعَليِّ أقتله:

ولنا أن نقول:

إن الزبير حين يطرح إمكانية قتل علي «عليه السلام» في عملية البيات التي تحدث عنها إما لم يكن جاداً في حديثه عن مهاجمة علي «عليه السلام»، بل كان يريد أن يختبر نظرة من معه إلى علي «عليه السلام»، لكي يرى إن كان يمكنه الاعتماد عليهم في مواجهته لعلي «عليه السلام»..

فأظهر له هذا الاختبار أن من معه لا يختلفون عنه في شدة خوفهم منه «عليه السلام».

وإما إن كان يعاني من اضطراب نفسي نشأ عنه هذا التناقض في الأفعال والأقوال.. فتارة يظن في نفسه الشجاعة أمام عظمة علي «عليه السلام»، فيتظاهر بالإقدام.

وتارة يتجلى له ضعفه فيحجم، ويتخاذل، ويندحر..

وربما كان الشيطان هو الذي زين له: أن بإمكانه أن يحقق النصر على علي «عليه السلام»، تماماً كما حصل للخوارج، فقد صرح علي «عليه السلام»: أن سبب إقدامهم على حربه: هو أن الشيطان قد زين لهم أنهم ظاهرون([10]).

الزبير بين الشك واليقين:

1 ـ وقد ذكر النص المتقدم: أن الزبير قد اعتبر أن ما يقدم عليه من حرب علي «عليه السلام» كان من مفردات الفتنة. والفتنة هي الأمر الملتبس الذي لم يعلم وجه الحق فيه، وإذا كان الأمر يتعلق بالدماء، وإزهاق أرواح.

والخروج على الإمام، والعبث بالنظام، فإنه سيكون مرفوضاً ومداناً من أي كان من الناس. ولن يجد من يساعده عليه..

وهذا ما لفت نظر الزبير إليه مولاه أبو عمرة، حين قال له: تسميها فتنة، ثم ترى القتال فيها؟!.

فبادر إلى التراجع، مدَّعياً: أنه يعرف الحق، ولكن رغبته في حسم الأمر، جعلته يطلق كلمات تائهة، هدفها التعبير عن هذه الرغبة الجامحة، ولا تحكي أي شك أو شبهة تراوده وراء ذلك.

2 ـ ثم ذكر النص نفسه أن الزبير قد عاد إلى التصريح بحيرته في أمره، وتشككه في صحة موقفه. وعدم قدرته على اتخاذ قرار حاسم في ذلك..

ونحن لا نشك في أن الزبير كان على يقين من باطله، وعلى بينة من صحة موقف علي «عليه السلام».

وسنرى في النص الذي سيأتي ذكره: ما يكفي لدفع أي لبس، ورفع أية شبهة في ذلك..

ابن الزبير في مواجهة أبيه!!:

وقد لاحظنا في خطاب عبد الله بن الزبير لابنه:

1 ـ سوء أدب ظاهر، لا يمكن تبريره إلا بالتخلي عن التوجيهات القرآنية، والإرشادات النبوية، وعدم الانصياع لأحكام الله سبحانه.

2 ـ إنه يتهم أباه بالجبن أمام شجاعة علي «عليه السلام»، وهو أعرف بأبيه، وأقرب من غيره إليه، وأكثر الناس قدرة على الاطلاع على دخائله، وحالاته.

3 ـ إنه اتهم أباه بالكذب، والتدليس وإرادة التضليل، والتعامي عن الحقيقة عن سابق علم وتصميم.

ولعبد الله بن الزبير مواقف أخرى مع أبيه أوضح وأصرح من هذا، وسيأتي إن شاء الله الحديث عن اتهامه أباه بالجبن مرة أخرى، حتى حمله على الحنث بقسمه. وألجأه إلى الموقف الصعب الذي انتهى به إلى الهزيمة والقتل..

وبعد ما تقدم، فإن لهذه القضية نصاً آخر يختلف عن النص السابق، فلاحظ ما يلي:

من القائل؟ طلحة، أم الزبير؟!:

قال ابن أعثم:

«دنا علي في أصحابه من البصرة، فقال طلحة بن عبيد الله لأصحابه: أيها الناس، إن علياً وأصحابه قد أضرَّ بهم السفر، وتعب الطريق، فهل لكم أن نأتيهم الليلة فنضع فيهم السيف؟!

فقال مروان بن الحكم: والله لقد استبطأت هذه منك أبا محمد! وليس الرأي إلا ما رأيت.

قال: فضحك الزبير من ذلك، ثم [قال:] أمن علي تصاب الفرصة، وهو من قد عرفتم؟! أما علمتم أنه رجل ما لقيه أحد قط إلا ثكلته أمه؟!

فسكت طلحة ولم يرد الزبير شيئاً.

قال: فلما كان الليل إذا بغلام من بني تيم بن مرة قد أقبل حتى وقف إلى جنب منزل طلحة بن عبيد الله وأنشأ أبياتاً مطلعها:

يا طلح يا ابن عبيد الله ما ظفرك                كفاك إذ رزت في عريسـة  الأســد

إلى آخره..

أضاف في الهامش الأبيات التالية:

لا تـطـمع المرء مرواناً وصحبته               في تلك منـك ولا تنـدب لهـا أحداً

وقل لمروان ومهاين(كذا) أبا حسن([11])              إن كنت تـطـلب مـنـه غـرة أبــداً

فإن أجـاب فـقد تمت  نصيحته           أو لم يجبك فـقـد أبـدا لك الحسـدا

والبد بأرضك حتى تستحلهـم            إن البصـير بـهـذا الأمـر قـد لبـدا

قال: ثم وثب رجل من أصحاب الزبير يكنَّى أبا الجرباء، فقال للزبير: أبا عبد الله! ما الرأي عندي إلا أن تبيتوا هذا الرجل، فإن الرأي في الحرب من النجدة.

فقال له الزبير: يا أبا الجرباء! إننا لنعرف من الحرب ما لم يعرفه كثير من الناس، غير أن القوم أهل دعوتنا، ونحن وهم مسلمون، وهذا أمر حدث في أمتنا لم يكن قبل اليوم، ولا كان فيه من رسول الله «صلى الله عليه وآله» قول.

وبعد ذلك، فهو علي بن أبي طالب «رضي الله عنه»، ومن لم يلق الله فيه بعذر انقطع عذره يوم القيامة، ونحن مع ذلك نرجو الصلح إن أجابوا إليه، وإلا فآخر الداء الكي»([12]).

مروان يجازف بغيره:

فقد دل هذا النص: على أن الذي دعا إلى تبييت علي «عليه السلام» هو طلحة، وهو المعروف بكبره وعنجهيته وتهوّره. وأن الزبير قد عارض هذه الفكرة، وضحك منهم، وبين لهم أنهم أعجز من أن يقدموا على ذلك..

وقد لفت نظرنا سكوت طلحة أمام صراحة الزبير.

أما مروان فالذي نراه: أنه لم يكن يهمه أن يظفروا بعلي «عليه السلام»، أو أن يظفر بهم علي «عليه السلام»، إذ هو يرى نفسه رابحاً في كلا الحالتين.

ويبدو: أن الشكوك حول نوايا مروان تجاه طلحة كانت تراود الأذهان آنئذٍ، ولذلك نجد الغلام التيمي ينصح طلحة في شعره بعدم الاستجابة لمقترح مروان، ويقترح عليه: أن يطلب من مروان أن يبادر هو إلى تبييت علي، فإن أجاب.. وإلا، فإن مشورته تكون مشورة من غير ناصح، بل يكون الحسد هو الدافع لها..

وهذا هو الأقرب والأصوب.

ولأجل ذلك، بادر إلى قتل طلحة حين فاته النصر على أمير المؤمنين «عليه السلام». واعتبر أنه قد حقق إنجازاً، وأنه قد ثأر لعثمان، الذي كان قد سلط مروان وأشباهه على الناس. وكان طلحة سبباً أساسياً في قتله. وحرمان مروان من شلال الذهب، الذي كان يصب عليه، وعلى سائر من هم على شاكلته.

أمن علي تصاب الفرصة؟!:

وقد كان تعبير الزبير دقيقاً في وصف حال علي «عليه السلام»، حيث بين لهم: أنه «عليه السلام» لا يترك أية ثغرة يمكن للعدو أن يخترقها، أو أن يتسلل إليه منها، مما يعني: أنه يستنفد كل طاقات العقل البشري في بلورة الاحتمالات، في مختلف الاتجاهات، وفي التعامل معها بصورة دقيقة، وصائبة، لا تدع مجالاً لأي اختراق في أي ظرف، وفي أي مستوى من مستويات الحشد والإعداد، والاستعداد..

وهذا يعطي درساً عملياً لكل القادة في شمولية التصدي، وفي دقة الرصد، وفي جدوى المعالجات، وهذا ما أشارت إليه كلمة الزبير التي أوردها متعجباً، وساخراً: «أمن علي تصاب الفرصة»؟!

مصير من يحارب علياً :

أما قول الزبير: «أما علمتم أنه رجل ما لقيه أحد قط، إلا ثكلته أمه»؟!

فهو يشير إلى أمرين:

أحدهما: أن الزبير يتحدث عن تاريخ شهده، وعاينه بنفسه، واطلع على خفاياه حتى أصبح قادراً على أن يختزل تلك المرحلة في حكم صريح وواضح، يستوعب كل لحظاتها، وحالاتها، وخصائصها. حيث قال عن أمير المؤمنين «عليه السلام»: «ما لقيه أحد إلا ثكلته أمه».

الثاني: إن المواجهات قد أسفرت عن نتائج حاسمة، وكلها ذات طابع واحد، لم يختلف رغم أن تلك المواجهات قد تواصلت دهراً طويلاً.

وهذا أمر عجيب، يدل على صحة وواقعية ما ذكرناه من رصد علوي دقيق لحركة الواقع، وإشراف مباشر على كل الحقائق والدقائق الكامنة فيه، واستنفاد كل الاحتمالات التي يمكن أن ينتجها العقل البشري، وتوظيفها في تحقيق تلك النتائج الحاسمة، التي تنهي الأمر، ليمكن الانصراف إلى مجالات أخرى، من دون أن تكون هناك أية دغدغة، من شأنها أن توزع الاهتمامات، وتفسح المجال للقلق والريب في تحقيق الأثر الذي يتوخى منه..

الزبير.. وأبو الجرباء:

وحين اقترح أبو الجرباء على الزبير المبادرة إلى تبييت علي «عليه السلام» حاول الزبير التملص والتخلص بلطائف الحيل، فادعى:

1 ـ أنه يعرف في شؤون الحرب أكثر من غيره.

2 ـ اعترف بأن علياً «عليه السلام» ومن معه مسلمون، وأن قتالهم يحتاج إلى مبرر يرضاه الله ورسوله.

3 ـ إنه عبر عن شكه وتحيره في موقفه، وادعى عدم وضوح حكم الله تعالى فيه.

4 ـ ادعى أن النبي لم يذكر شيئاً عن هذا الأمر الذي يقدمون عليه.

5 ـ ادعى أن قتال علي «عليه السلام» يختلف عن قتال كل أحد، إذ لا بد أن يجد العذر الذي يلقى فيه يوم القيامة.. في قتاله علياً..

6 ـ ادعى أنه يرجو الصلح مع علي «عليه السلام».

7 ـ ادعى: أن علياً «عليه السلام» هو الذي يقرر الصلح قبولاً ورفضاً، وأنه كان بانتظار موافقة علي «عليه السلام» على الصلح.

ونقول:

إن هذه الدعاوى كلها باطلة، ومشوبة بالتعمية، والكذب، والتدليس:

فأولاً: إن تبييت العدو ليس من الأمور التي تخفي وراءها أموراً تحتاج إلى علوم وخبرات عالية، يمتاز بها هذا على ذاك أو العكس، بل الأمر يدور مدار احتمالين:

أحدهما: أن يكون من يتعرض للبيات غافلاً، أو أن يكون متيقظاً.

ولكل حالة طريقة تناسبها في العمل العسكري، فلماذا يحاول الزبير إيهام الناس هنا، بأن ما يمنعه من هذا الأمر هو أن العلم العسكري لا يسمح بالإقدام.. والحال أن المانع هو جبنه وخوفه، ومعرفته بأن الفرصة لا يمكن أن تصاب من علي، وبأن كل من واجه علياً ثكلته أمه، كما صرح به في خطابه لطلحة ومروان؟!

ثانياً: إذا كان علي «عليه السلام» ومن معه مؤمنين ومسلمين، وكان الزبير متحيراً في أمره، غير مطمئن لموقفه، ولا يعرف حكم الله تعالى فيه، فكيف يقدم وهو شاك متحير على حرب يقتل فيها عشرات الألوف، وتهتك فيها الحرمات، وتقطع فيها الحبال الموصولة. وتنتج عنها المصائب والبلايا، والأهوال والنكبات؟! وكيف نوفق بين عدم درايته بحكم الله تعالى هنا، وبين حكمه البات والقاطع في قوله أخيراً: آخر الدواء الكي؟! فإن عليه أن يسلم الأمر إلى إمامه، الذي له في عنقه أكثر من بيعة، ويأتمر بأمره، وينتهي إلى رأيه، فيعاقب من يستحق العقوبة، ويسالم من يأمره بمسالمته..

ثالثاً: كيف يدعي الزبير أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يذكر شيئاً عن هذا الأمر الذي هم بصدده؟! ألم يسمع كلام عائشة حين نبحتها كلاب الحوأب؟! وألم ير امتناعه عن مواصلة مسيرها معهم، استناداً إلى ما أخبرها به رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟! حتى اضطروا إلى تلفيق شهادة زور لها، حيث جاؤوا بعشرات الأعراب ليشهدوا لها كذباً: بأن الماء ليس هو ماء الحوأب؟!

ولماذا أقر بعد ذلك بيسير، لأمير المؤمنين «عليه السلام»: بأن النبي «صلى الله عليه وآله» قال له عن علي «عليه السلام»: لتقاتلنه وأنت له ظالم؟!

رابعاً: إذا كان يريد أن يجد العذر يوم القيامة في قتاله علياً.. حيث إنه لم يجد هذا العذر إلى هذا الوقت، فلماذا جمع الجيوش وحزب الأحزاب، وسافر من المدينة إلى مكة، ثم إلى البصرة لدعوة الناس لحرب علي «عليه السلام»؟!. وهل يمكن أن يكون قد فعل ذلك كله، وهو في حال الشك والحيرة؟!

إن ما نعرفه: هو أن الاستعداد للحرب إنما يبدأ بعد أن تتضح الأمور، ويزول الريب، لا قبل ذلك..

خامساً: لقد ادعى الزبير: أنه يتوقع الصلح مع علي «عليه السلام»، وأنه ينتظر الرد منه، وكأنه يريد أن يدعي أن علياً «عليه السلام» هو الذي لا يزال يرفض الصلح، وهو الذي فرض عليهم الحرب، وبذلك يكون هو الذي يتحمل وزرها، وهو المسؤول عن تبعاتها، وعن سقوط ألوف القتلى فيها..

وهذا قلب للحقائق، وتلاعب بعقول الناس، وضحك على اللحى.. فإن علياً «عليه السلام» لم يزل يجهد لثني عزائمهم عن الحرب حتى آخر لحظة.. فما ازدادوا إلا حنيناً لها، وحباً وتعلقاً بها. وقد أمهلهم «عليه السلام» حتى بعد تقابل الجيشين عدة أيام فلم يتراجعوا عنها، وقد استطاع أن يقنع الزبير بصرف النظر عن الحرب، وجعله يقسم له على ذلك.. ولكنهم ولا سيما ولده عبد الله قد حملوه على الحنث بإيمانه، ونكث عهده مرة أخرى. كما هو معروف ومشهور.


([1]) الجمل للمفيد ص288 و (ط مكتبة الدواري ـ قم) ص154.

([2]) الجمل ص288 و (ط مكتبة الدواري ـ قم) ص154 وأشار في هامشه إلى المصادر التالية:

تاريخ الأمم والملوك ج4 ص475 ـ 476 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج3 ص491 و 492 والمغنى ج20 ق2 ص86 والكامل في التاريخ ج3 ص220 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج14 ص14 وج2 ص166 والدر النظيم ج1 الورقة 123. وقارن بتاريخ اليعقوبي ج2 ص182 ـ 183 والفتوح لابن أعثم ج2 ص296 ـ 297 ومروج الذهب ج2 ص372 والشافي ج4 ص335 والكامل في التاريخ ج3 ص220 وتذكرة الخواص ص71 ونهاية الأرب ج20 ص64. وراجع: الدر النظيم ص344 والغدير ج9 ص369.

([3]) راجع: نهج البلاغة (بشرح عبده) ج2 ص2 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج2 ص269 وج3 ص289 وبحار الأنوار ج32 ص61 و 100 و 189 و 194 وج33 ص455 وج34 ص146 وج68 ص264 وج74 ص403 وج97 ص11 و 14 و 40 وجامع أحاديث الشيعة ج13 ص7 و 127 والإرشاد للشيخ المفيد ج1 ص238 والأمالي للطوسي ص169 و 216 والكافي ج5 ص54 ووسائل الشيعة (ط مؤسسة آل البيت) ج15 ص14 و (ط دار الإسلامية) ج11 ص8 وعيون الحكم والمواعظ ص154.

([4]) راجع: لباب الآداب ص187 والإصابة ج1 ص248 والجمل ص194.

([5]) راجع: وقعة صفين للمنقري ص229 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج5 ص186 والأخبار الطوال للدينوري ص181 وتاريخ الأمم والملوك (ط مؤسسة الأعلمي) ج4 ص9 وراجع: أنساب الأشراف ج2 ص305 والفتوح لابن أعثم ج3 ص141 وراجع ج2 ص299.

([6]) راجع: نهج البلاغة الخطبة رقم 73 والخرائج والجرائح ج1 ص197 ح35 والجمل لابن شدقم ص149 وبحار الأنوار ج32 ص229 و 230 و 235 = = وج41 ص298 و 355 وشجرة طوبى ج1 ص130 والغدير ج8 ص261 ونهج السعادة ج1 ص336 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج6 ص146 وقاموس الرجال للتستري ج10 ص36 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج8 ص169 عن ربيع الأبرار (مخطوط) ص615.

([7]) الآية 63 من سورة طه.

([8]) الآيتان 34 و 35 من سورة الشعراء.

([9]) راجع: الفتوح لابن أعثم ج2 ص295 و 296 و (ط دار الأضواء) ج2 ص462.

([10]) راجع: تاريخ الأمم والملوك (ط دار الأعلمي) ج4 ص66 والكامل في التاريخ ج3 ص348 و البداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي ـ بيروت) ج7 ص320 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج32 ص536.

([11]) لعل الصحيح: وقل لمروان: رمها من أبي حسن.

([12]) الفتوح لابن أعثم ج2 ص295 ـ 297 و (ط دار الأضواء) ج2 ص462 ـ 463.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان