صفحة :103-149   

الفصل الثالث: وقفات مع لقاء علي والزبير..

تقديم وبيان:

قد يتخيل متخيل: أن الروايات التي ذكرناها في الفصل السابق متضاربة ومختلفة، مما يعني: أن بعضها مكذوب أو محرف.. غير أن الأمر ليس بهذه المثابة، فربما يكون الحوار قد امتد بين الرجلين، فذكر كل راو منه ما لفت نظره، واختار ما وجد أنه أكثر حساسية وأهمية مما عداه. ومن المحتمل أن يتكون لدينا من مجموع نصوصها ما يحكي جانباً كبيراً مما حصل.. ولذلك يصبح التعامل مع جميعها على قدم المساواة هو الأجدر والأولى.

ويؤكد ذلك: أن بعض النصوص يشير إلى أن الرواة قد اختصروا الحديث، والرواية المتقدمة برقم [2] تصرح: بأنه «عليه السلام» عظَّم على الزبير أشياء لم تذكرها الرواية. غير أن من الضروري أن لا يصرف النظر عن الرصد الواعي للنصوص، لكي لا يتسلل إليها بعض ما يحاول المغرضون دسَّه، أو التحريف فيه لأهداف دنيئة ورخيصة، فإن هؤلاء المغرضين فرضوا علينا أن نكون حذرين في أي موقع كنا فيه، ونريد التعامل مع نصوصه.

كلام المجلسي رحمه الله:

قال العلامة المجلسي «رحمه الله»:

واعلم: أن الدلائل على بطلان ما ادعوا من ورود الحديث ببشارة العشرة أنهم من أهل الجنة كثيرة، قد مر بعضها. وكفى بإنكاره «عليه السلام» وردَّه في بطلانه، ومقاتلة بعضهم معه «عليه السلام» أدل دليل على بطلانه، للأخبار المتواترة بين الفريقين عن النبي «صلى الله عليه وآله». كقوله «عليه السلام»: «لا يبغضك إلا منافق». وقوله: «حربك حربي» وغير ذلك([1]).

أبو الصلاح وطلحة بن عبيد الله:

قال أبو الصلاح «رحمه الله» في تقريب المعارف بعد أن ذكر بعض ما قدمناه عن طلحة:

«وقول عثمان لطلحة وقد تنازعا: والله، إنك أول أصحاب محمد تزوج بيهودية.

فقال طلحة: وأنت والله لقد قلت: ما يحبسنا ها هنا! ألا نلحق بقومنا؟!

وقد روي من طريق موثوق به ما يصحح قول عثمان لطلحة، فروي أن طلحة عشق يهودية، فخطبها ليتزوجها، فأبت إلا أن يتهود، ففعل!!

وفيه قال الشاعر:

يهودية قالت وأومت بكفها                       حرام عليك الدهر حتى تهودا

وقدحوا في نسبه: بأن أباه عبيد الله كان عبداً راعياً بالبلقاء، فلحق بمكة، فادعاه عثمان بن عمرو بن كعب التيمي، فنكح الصعبة بنت دُزَّمِهْرٍ الفارسي وكان بعث به كسرى إلى اليمن، فكان بحضرموت خرَّازاً.

وفيه يقول حسان بن ثابت:

ألم تر أن طلحة في قريش                        به مَنُّ الغطارفة العظام

وكان أبوه بالبلقاء عبداً                           في يده الشوك في جنح الظلام

هو العبد الذي جلب ابن سعد                    وعثمان من البلد الشآم

وقول الآخر:

بني دُزَّمِهْرٍ والدعي أبوهم                       رجيع قد ألصقت بالأكارع (كذا)

بني . . . في أبوكم . . .                            في الـوادي يفتق الضـفادع (كذا)

وأنتم ببيع اللحم أحذق منكم             بقرع الكماة بالسيوف القواطع([2])

وقال العلامة «قدس الله روحه» في كشف الحق، ومؤلف كتاب إلزام النواصب، وصاحب كتاب تحفة الطالب: ذكر أبو المنذر هشام بن محمد الكلبي من علماء الجمهور: أن من جملة البغايا وذوات الرايات: صعبة بنت الحضرمي، كانت لها راية بمكة، واستبضعت بأبي سفيان، فوقع عليها أبو سفيان، وتزوجها عبيد الله بن عثمان بن عمرو بن كعب بن سعد بن تيم، فجاءت بطلحة بن عبيد الله لستة أشهر، فاختصم أبو سفيان وعبيد الله في طلحة، فجعلا أمرهما إلى صعبة. فألحقته بعبيد الله.

فقيل لها: كيف تركت أبا سفيان؟!

فقالت: يد عبيد الله طلقة، ويد أبي سفيان نكرة([3]).

وقال [العلامة] في كشف الحق أيضاً: وممن كان يلعب به ويتخنث عبيد الله أبو طلحة، فهل يحل لعاقل المخاصمة مع هؤلاء لعلي «عليه السلام»؟! انتهى([4]).

الزبير بن العوام:

وقال أبو الصلاح الحلبي عن الزبير: وأما الزبير، فكان أبوه ملاحاً بجدة، وكان جميلاً، فادعاه خويلد، وزوجه عبد المطلب صفية([5])

وقال العلامة المجلسي «رحمه الله»:

وقال مؤلف كتاب إلزام النواصب، وصاحب تحفة الطالب: قد ورد (فقد رووا): أن العوام كان عبداً لخويلد، ثم أعتقه وتبناه، ولم يكن من قريش. وذلك أن العرب في الجاهلية كان إذا كان لأحدهم عبد وأراد أن ينسب (ينسبه) إلى نفسه ويلحق به نسبه (ويلحقه بنسبه)، أعتقه وزوجه كريمة من العرب، فيلحق بنسبه. وكان هذا من سنن العرب (الجاهلية)([6]).

ويصدق ذلك: شعر عدي بن حاتم في عبد الله بن الزبير بحضرة معاوية، وعنده جماعة من قريش، وفيهم: عبد الله بن الزبير، فقال عبد الله لمعاوية: يا أمير المؤمنين، ذرنا نكلم عدياً، فقد زعم أن عنده جواباً.

فقال: إني أحذركموه.

فقال: لا عليك دعنا وإياه. [فرضي معاوية].

فقال: يا أبا طريف، متى فقئت عينك؟!

فقال: يوم فرَّ أبوك، وقتل شر قتلة، وضربك الأشتر على أستك فوقعت هارباً من الزحف، وأنشد يقول:

أما وأبي يا ابن الزبير لو أنني          لقيتك يوم الزحف رمت مدى شحطا

وكان أبي في طيء وأبو أبي            صحيحين لم ينزع عروقهما القبطا([7])

قال معاوية: قد حذرتكموه فأبيتم.

وقوله: «صحيحين لم ينزع عروقهما القبطا»، تعريض بابن الزبير: بأن أباه، وأبا أبيه ليسا بصحيحي النسب، وأنهما من القبط. ولم يستطع ابن الزبير إنكار ذلك في مجلس معاوية.

أقول: وروى صاحب كتاب تحفة الطالب الأبيات هكذا:

أما وأبي يا ابن الزبير لو أنني          لقيتك يوم الزحف ما رمت لي سخطا

ولو رمت شقى عند عدل قضاؤه                لرمت به يا بن الزبير مدى شحطا([8])

متى التقى الزبير بعلي ؟!:

أكثر الروايات تذكر: أن لقاء علي «عليه السلام» بالزبير وطلحة كان قبل بدء القتال الشامل..

ولكن البلاذري يروي عن قتادة، قال: «لما اقتتلوا يوم الجمل كانت الدبرة على أصحاب الجمل، فأفضى علي «عليه السلام» إلى الناحية التي فيها الزبير، فلما واجهه قال له: يا أبا عبد الله، أتقاتلني بعد بيعتي، وبعد ما سمعت من رسول الله «صلى الله عليه وآله» في قتالك لي ظالماً؟!

فاستحيا الزبير، وانسل على فرسه منصرفاً إلى المدينة، فلما صار بسفوان لقيه رجل من مجاشع، يقال له: النعر بن زمام، فقال له: أجرني.

فقال له: أنت في جواري يا حواري رسول الله «صلى الله عليه وآله».

فقال الأحنف: يا عجباً! الزبير لف بين غارين من المسلمين، ثم قد نجا بنفسه، وهو الآن يريد أهله.

فاتبعه ابن جرموز وأصحابه وهو يقول: أذكركم الله أن يفوتكم.

فشدوا عليه فقتلوه، وأتى ابن جرموز علياً برأسه، فأمر أن يدفن مع جسده بوادي السباع»([9]).

ونلاحظ ما يلي:

1 ـ إن هذا النص لا ينافي النصوص التي ذكرت أن لقاء الزبير بعلي «عليه السلام» كان قبل بدء المعركة، وأن أصحابه، لم يرضوا منه بقرار الإنصراف عن الحرب، وأزعجوه عنه، واقترحوا عليه أن يعتق عبده مكحول كفارة عن يمينه، وقرَّر الإستمرار في الحرب.

فهنا لقاءان:

أحدهما: قبل شروع المعركة..

واقتصر الثاني على هذا التذكير العابر للزبير، فاستحيا الزبير..

2 ـ إن دعوى: أن الزبير قد استحيا من علي «عليه السلام»، فانسل بفرسه من ساحة القتال، وسار نحو المدينة غير مقبولة، فإن المفروض: أن هذا اللقاء قد حصل لحظة هزيمة جيش عائشة.. فلماذا لا يفسر هذا التحرك من الزبير بأنه كان على سبيل الهزيمة، مع سائر من انهزم؟! فإن هذا هو ما صرحت به النصوص الكثيرة.. التي ذكرنا طائفة كبيرة منها في هذا الكتاب..

ويشهد لذلك: إلتجاؤه إلى النعر بن زمام المجاشعي وطلبه منه أن يجيره، فأجاره.. فإنه لو كان قد انصرف عن الحرب فعلاً، فلماذا احتاج إلى الجوار، فإن علياً «عليه السلام» سيحميه، وسيمنع من التعرُّض له؟!

بل كان بإمكانه أن يخبر علياً «عليه السلام» بقراره، وسيرى أنه «عليه السلام» لن يمكِّن أحداً من إيصال أي أذى له..

وذهابه إلى المدينة لن يجعله في مأمن من أن يأخذه واليها ويسلمه إلى علي «عليه السلام».

إلا إن كان المطلوب: هو أن يكافئوا الزبير على قتاله لعلي «عليه السلام» إلى جانب عائشة، فلا يبوء الزبير بعار الهزيمة، مع سعيهم للحفاظ على ماء وجه ولده عبد الله، الذي صار خليفة في الحجاز والعراق عدة سنوات، ثم قتله الأمويون..

كما أن المطلوب: هو أن يموت الزبير تائباً، وشهيد الغدر الذي مارسه عليه ابن جرموز وأصحابه.. بدل أن يموت باغياً على إمامه، يتحمل وزر قتل عشرات الألوف بلا سبب إلا الطمع بالأموال والمناصب.

عتق مكحول لا يحل المشكلة:

وقد أعتق الزبير عبده مكحولاً, زاعماً: أن هذا العتق يجعله في حلٍ من اليمين الذي حلفه لعلي «عليه السلام»، مع أن من المعلوم: أن امتثال أمر رسول الله «صلى الله عليه وآله» واجب عقلاً وشرعاً، واجتناب ما حذره منه، وتجنب قتال علي «عليه السلام» على سبيل الظلم والتعدي كما اخبره به رسول الله «صلى الله عليه وآله» هو الأولى والأجدر بأهل الدين، والحكمة والتعقل والإلتزام كما أن عتق مكحول، لا يحل مشكلة الإقدام على نكث البيعة, والبغي على الإمام, والإيغال في الفتنة وقتل النّفوس المحترمة، وانتهاب بيوت الأموال.. وما إلى ذلك.

فإذا حلف على امتثال حكم الله ورسوله, وعدم الدخول في المعصية, فإن حلفه هذا يزيد في إلزامه بما أوجبه الله عليه, وذلك ظاهر.

وا حرباه بأسماء:

قالوا: إن عائشة حين أخبرت بلقاء علي «عليه السلام» بالزبير قالت «وا ثكل أسماء» أو قالت: «وا حرباه بأسماء»، فهنا ملاحظات:

أولاها: إن قولها: «وا ثكل أسماء» يدل على أنها على يقين بأن أختها ستثكل بزوجها، لأنه لن ينجو من علي «عليه السلام».

أما قولها: «وا حرباه بأسماء»، فيشير إلى أن الزبير سوف يقتل، وأن أسماء ستموت أيضاً حزناً عليه. فتصبح عائشة مثكولة بأختها أيضاً.

وهذا يشير إلى شدة علاقة أسماء بزوجها، وتفانيها فيه..

وربما تكون عائشة قد قالت كلتا الكلمتين على التعاقب، فأطلقت قولها: «وا ثكل أسماء» أولاً، ثم إنها بعد أن تأملت بالأمر وآثاره أطلقت كلمتها الثانية، ولكن الأحداث بينت: أن أسماء لم تحقق ظن عائشة فيها، فقد قتل زوجها، ثم قتل ولدها عبد الله، وبقيت هي على قيد الحياة.

الثانية: إن هذا اليقين المستقر في قلب عائشة بأن مواجهة الزبير لعلي «عليه السلام» في الميدان تعني قتل الزبير، والمباشرة بإقامة مناحة عليه قبل قتله، من دون أن تفسح المجال حتى للصدفة، أو لاحتمال عقلي مجرد لحدوث ما هو خلاف المألوف يعطي: أنها لا ترى أن الأمر مرتبط بالمسار الطبيعي للأمور. لأن هذا المسار لا ينفك عن احتمال قيام الخلاف.

وعلى هذا.. فإن كانت ترى الأمر مرتبطاً بخصوصية غيبية لعلي «عليه السلام» عمَّقت يقينها بنصرته على أعدائه، وهذا يفتح أمامنا باب التساؤل عن سبب دخولها في الحرب مع شخص ترى أن هذا هو حاله. وأن أحداً لن يثبت أمامه..

وإن كانت ترى أن الذي يحسم الحرب مع علي «عليه السلام» هو الكثرة الكاثرة التي تغلب الشجاعة، فإن جيش علي «عليه السلام»، وإن كان أقل من جيش عائشة.

ولكن هذا الأمر أيضاً لا يخرج مجيئها لحربه عن دائرة المجازفة بأرواح الناس بلا مبرر، لا سيما وأنها تعرف بأن الله تعالى يقول: ﴿كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللهِ﴾([10]). وقد شهدت حروب رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وكان النصر فيها يأتيه على يد قلة قليلة في مقابل كثرة هائلة، بل كان النصر يتحقق على يد علي «عليه السلام» بالذات في أكثر الأحيان، بل في أشدها خطورة وحساسية..

وعلى هذا الأساس نقول:

لعلها ظنت أن علياً «عليه السلام» سوف يتراجع ويستسلم للأمر الواقع إذا رأى أن دماء الآلاف ستراق وأرواحهم ستزهق.

ولعلها ربما تكون قد قاست الأمر على ما جرى يوم السقيفة والشورى، غافلة عن التكليف الإلهي قد اختلف بسبب اختلاف الظروف، وقيام الحجة عليه «عليه السلام» بوجود الناصر.

الثالثة: إن الزبير خرج شاكاً سلاحه، مع أن علياً «عليه السلام» حاسر، وقد رضيت عائشة هذه الحالة، ولم تبد أي قلق بعد هذا، مع أن كون الزبير شاكاً سلاحه لم يكن يمنع علياً «عليه السلام» من الإستيلاء على سلاحه، وقتله به. وله سابقة في ذلك حين هاجمه بعض أعدائه في عهد عمر، وكذلك حين هوجم ليلة الهجرة، فثار على المهاجمين، وأخذ سلاح بعضهم، وواثبهم به، وطردهم.

الرابعة: لا شك في أن الزبير كان ناكثاً لبيعته، وغادراً كما صرح به «عليه السلام»، حيث أخبر بأنه كان يعرف الغدر بوجه طلحة والزبير، وأنهما حين استأذناه بالعمرة، قال لهما: ما العمرة تريدان، وإنما تريدان الغدرة.

فكيف لم يحتط «عليه السلام» من غدر الزبير، وخرج إليه حاسراً، والزبير شاكاً سلاحه؟!

ألا يدل ذلك على أنه كان يعرف أنه أجبن من أن يبدأه بقتال وجهاً لوجه؟!

وربما يشير إلى جبن الزبير هذا: ما روي من أنه دخل على رسول الله «صلى الله عليه وآله» وبيده سفرجلة، فقال له رسول الله «صلى الله عليه وآله»: ما هذه بيدك؟!

قال: يا رسول الله، هذه سفرجلة.

فقال «صلى الله عليه وآله»: كُل السفرجل، فإن فيه ثلاث خصال.

قال: وما هن يا رسول الله؟!

قال: يجم الفؤاد، ويسخي البخيل، ويشجع الجبان([11]).

فإن للسفرجل خصوصيات عديدة، وقد اختار «صلى الله عليه وآله» ثلاثة منها.. أحدها: أنه علاج لعاهة الجبن..

فلعله «صلى الله عليه وآله» أراد التنبيه بذلك على أن الزبير، يعاني من هذه العاهة..

ويؤكد ما قلناه: أنه «صلى الله عليه وآله» قد وجد علياً «عليه السلام» يأكل السفرجل أيضاً، فذكر خصوصيات السفرجل. ولكن ليس من بينها هذه العاهة، ولا أي شيء آخر فيه توهين وانتقاص.

بل فيه كل الفضل والكرامة له «عليه السلام»، فراجع([12]).

أما ما روي من أنه «صلى الله عليه وآله» قد أعطى جعفر بن أبي طالب سفرجلة، وقال له نحو ما قاله للزبير([13])، فقد روي بنحو آخر ليس فيه ذلك أيضاً، بل فيه: أنه قال له: إنه يصفي اللون، ويحسِّن الولد([14]).

هل اعتنق الزبير علياً ؟!:

وما ذكرته الرواية رقم [1] من أن عناقاً جرى بين علي «عليه السلام» والزبير في الميدان، حيث قالت الرواية: «واعتنق كل واحد منهما صاحبه».

غير دقيق، بل هو تحريف سيء، لعبارة: «اختلفت أعناق فرسيهما»، التي وردت في سائر الروايات الأخرى. أي أنهما قد اقتربا من بعضهما البعض حتى أصبح عنق فرس علي «عليه السلام» في موازاة عنق فرس الزبير.

قتل الله أولانا بدم عثمان:

وحين ادَّعى الزبير: أنه جاء ليطلب بدم عثمان، فإنه قد عبَّر عن وقاحة متناهية، لا ينفع معها الحِجاج والاحتجاج، بعد أن تجاوز حدود إنكار البديهيات، ليصل إلى حد قلب الحقائق.. فلم يعد ينفع معه في هذه الحال الإستدلال، وتلاشى الأمل بأن يجد لديه من الإنصاف، ما ينفع النفي والإثبات، فاختار «عليه السلام» طريقة تضمنت أموراً أربعة هي:

1 ـ عدم نفي هذا الأمر عن نفسه صراحة، وعدم الإشارة إلى القاتل الحقيقي باسمه وشخصه.

2 ـ إن بغي الزبير عليه لم يخرجه عن حالة الإعتدال، بل دعاه لأن يختار طريقة هي الغاية في العدل والإنصاف.

3 ـ إنه اختار طريقة تخاطب الروح والوجدان الإنساني.

4 ـ إنه أراد أن تكون هذه الطريقة دافعاً للناس للبحث بأنفسهم عن قاتل عثمان.. وبذلك يكون قد دلَّل على مدى حرصه على تعريفهم بالقاتل، وعلى أنه لا يخشى هذا الأمر، بل هو سيكون لمصلحته.

وهذه الطريقة هي قوله «عليه السلام»: «قتل الله أولانا بدم عثمان» التي تعتمد على مخاطبة وجدان الناس، الذي يفرق بين من يتهم جزافاً، وبين من يجعل نفسه أمام القضاء الحق مساوياً بين نفسه وبين خصمه في التعرض للعقاب إن كان قد فعل ما يقربه من مورد التهمة.

زهو علي :

وقد ذكرت الرواية: أن الزبير قد اعتبر أن علياً «عليه السلام» مصاب بالزهو المذموم، لمجرد أنه ضحك لرسول الله «صلى الله عليه وآله» حين لقيه..

مع أن هذا لو صح لتوجهت التهمة بالزهو إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» نفسه، فقد ضحك لعلي «عليه السلام» كما ضحك علي له.

وأي زهو ظهر للزبير من مجرد ضحك علي «عليه السلام» لمن ضحك له. والزهو هو شعور داخلي بالعظمة والرضا، والإعجاب بالنفس يظهر على حركات الشخص وفي تصرفاته.. وليس منها أن يضحك الإنسان سروراً بمن يضحك له.

ألا يعد الاتهام بهذا الأمر مجازفة غير مسؤولة من قبل شخص ينقاد لدواعي الحسد المتغلغلة في صدره ويستجيب لها، ولا يبالي بما صدر منه، ولا يشعر بالمسؤولية عنه؟!

ولكن النبي «صلى الله عليه وآله» الذي ربى علياً «عليه السلام»، كان يعرف علياً «عليه السلام» في روحياته وصفاته وميزاته.. وأنه يضع نفسه دائماً بالموضع اللائق بها، وينظر إليها ويتعامل معا بصورة صحيحة وقويمة، فلا يتيه، ولا يزهو، ولا يتعاظم، ولا يخرج عن طوره، فبادر «صلى الله عليه وآله» إلى إظهار كلمة الحق، وصدم بها الزبير، ولم يترك له سبيلاً، حين بادر إلى نفي الزهو عن علي «عليه السلام»، عن علم ومعرفة دقيقة به.. فقال: ليس به زهو.

النبي يقرر الزبير ثم يحكم عليه:

ثم بادر «صلى الله عليه وآله» فسأل الزبير: أتحبه يا زبير؟!

فقال: «والله إني لأحبه».

ولا أدري أي حب هذا الذي لا يمنعه من أن يتهمه بالباطل؟! ومن دون أي مبرر أو دليل؟! وكيف يقسم بالله على صحة حبه هذا، ثم يؤكده باللام؟!

وكيف نفهم سؤال النبي «صلى الله عليه وآله» إياه عن خصوص هذا الأمر، وهو حبه له؟!

ألا يمكن أن يكون «صلى الله عليه وآله» قد أراد أن يظهر تناقض الزبير في مواقفه، وأنه لا يتورع عن الكذب والكيد مرة بعد أخرى؟!

ويدلنا على ذلك: أنه بعد أن كذَّبه رسول الله «صلى الله عليه وآله» فيما ادعاه لم يتورع عن إطلاق كذبة أخرى مدعمة بقسم كاذب، هي ادِّعاؤه حب علي «عليه السلام»، فمهد بذلك مرة أخرى لمعاودة النبي «صلى الله عليه وآله» إلى تكذيبه، وليجد المبرر لتقديم الشاهد على ذلك: بأنه سيقاتله من دون شبهة أو مبرر. بل سيقاتله ظالماً له..

ولعل الهدف، هو البيان الحسي والعملي: أن من يحسد ويتجنى، وينقاد لحسده، فإن حسده يرديه ويفضحه، لأنه يرسخ فيه صفات سيئة، ويدعوه إلى ممارسات مشينة، فهو لا يكاد ينهض من كبوة حتى تسقطه أخرى تكون أشد وأعظم ضرراً وخطراً. فإنه «صلى الله عليه وآله» في نفس الوقت الذي نفى فيه الزهو عن علي «عليه السلام»، وعالج فيه الظلم الذي تعرض له علي «عليه السلام» من قبل الزبير، مسجلاً أنها تهمة ظالمة وعدوانية وباطلة، فإنه «صلى الله عليه وآله» أعلن أن هذه لن تكون هي المرة الأخيرة التي يتعرض فيها علي «عليه السلام» للظلم والتعدي من قبل الزبير، بل هو سيتعرض لظلم آخر على يد الزبير، لا يقتصر على مجرد التهمة والقول، بل يتعداه للقتال وشن الحرب الظالمة عليه، فقال له: لتقاتلنه وأنت له ظالم.

العار الذي لا يغسل:

هناك منطقان لا يجتمعان، وهما:

الأول: منطق أهل الحق الذي يرى الرجوع عن الخطأ فضيلة، والتزام جانب الحق، والتضحية في سبيله بالغالي، وبالنفيس فلاح ونجاح، ورضا الله مقدم على رضا الخلق، على قاعدة: رضا الله رضانا أهل البيت.

الثاني: منطق أهل الباطل، الذين يشترون رضا المخلوق بسخط الخالق، فيرون أن عليهم أن يتشبثوا بباطلهم، وأن يضحوا في سبيله، وأن فواته منهم مصيبة، وخذلان، وعار، وخسران.

وقد جاءت حيرة الزبير في هذا الموقف، واعتبار رجوعه عاراً لا يغسل، لتحدد موقعه بدقة متناهية، حيث رأى أن العار الذي لا يغسل: هو الالتزام بالحق، والتراجع عن البغي والظلم الذي لا شك فيه، ولا شبهة تعتريه..

والغريب في الأمر: أن معرفته بهذا الحق لم تأت عن طريق الحِجاج والاستدلال وحسب، لكي يتوهم ـ ولو بنسبة واحد إلى مئات الملايين من الاحتمالات ـ أن يكون له بعض الحق في أن يتوهم خلافه، بل جاءت هذه المعرفة من خلال أظهر وأصح الدلائل والشواهد التي تضافرت على إبراز باطله وظلمه، وتجسيده له، ليتلمسه بفكره وبعقله، ووجدانه، وبكل وجوده، وبكل وسائل الإثبات التي يمكن تصورها، حتى إن الغيب والوحي الإلهي قد تدخل فيه، فقد أخبره به النبي «صلى الله عليه وآله» قبل أكثر من ربع قرن، حيث قال له: «لتقاتلنه وأنت له ظالم» في وقت كان يعلن فيه حبه لعلي «عليه السلام»، ويقسم على هذا الحب، ويؤكده بما توفر لديه من وسائل تأكيد..

فكيف يصح بعد هذا أن يعتبر الزبير رجوعه عن الظلم عاراً لا يغسل، ولا يعتبر نفس ظلمه عاراً لا يغسل؟! فإن هذا إن دل على شيء، فهو يدل على سقوط معنى الإنسانية والقيم الإيمانية في نفسه، وعلى أن جاهليته قد استيقظت من سباتها، لتكون هي التي تمسك بقياده، وتحركه في الإتجاه الذي يناسبها.

من أضله الله على علم:

لقد كان الزبير بصدد ارتكاب جريمة عظمى، ويسعى لهدم أحد أهم دعائم الدين، وهي الإمامة من خلال قتل الإمام، وطمس الحقائق وتزويرها، ويريد خيانة الأمة في أهم مرتكزات سعادتها ونجاتها، وأن يفرض عليها التيه والضلال إلى يوم القيامة، وذلك بقتل أخي رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ووصي الأوصياء، ووارث علم الأنبياء، واستئصال أهل بيت النبوة، وارتكاب مجزرة هائلة بحق المسلمين تحصد عشرات الألوف منهم، وإظهاره بمظهر المعتدي الظالم، الذي لا أهلية له للإمامة..

وهذا يحتم على أهل العقل والدين، والحكمة: أن يكشفوا نوايا هذا الرجل، ويعملوا على تعريته، وإظهاره على حقيقته، والتعريف بألاعيبه ومكائده، وأنه يستأكل الدنيا بالدين، ولا يتورع عن سفك دماء المؤمنين، وتمزيق أوصالهم، وهتك حرمة نبيهم، واستغلال قدسيته بتحريض زوجته على مخالفة أمر الله تعالى لها بالقرار في بيتها، وإخراجها لتقود الجحافل، ولتجعل من نفسها ـ وهي على جملها ـ علماً للعسكر الذي يريد أن يفتك بأهل الصلاح في هذه الأمة..

وقد كان لهذه المواجهة الميدانية بين علي «عليه السلام» والزبير أثراً عظيماً في فضح الزبير، فإن نفس اعتراف الزبير بقول رسول الله «صلى الله عليه وآله»: بأنه سيقاتل علياً «عليه السلام» وهو له ظالم، وإظهار أنه لا يريد الإنصياع لأمر العقل والدين والوجدان، ولما اخبره به رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ثم قبوله بالإنصراف عن الحرب، وإنشاده الشعر الذي يعلن فيه ذلك، وأنه قد اختار عاراً على نار مؤججة.

ثم تملصه من قراره هذا بما كشف به عن باطن شيطاني بشع وخبيث، ينضح بالقذارات والمخزيات، مفعم بالروائح الكريهة، نضاح بالصنان المؤذية، والرواشح التي تضج بالمؤذيات المهلكات.

ولم يقتصر الأمر في      ذلك على الزبير، بل تعداه إلى كل من أسدى له النصائح بالعودة إلى القتال، فإنها كانت لأصحابها من أقبح الفضائح.

أسباب عودة الزبير للقتال:

ثم إن ما قاله له ولده عبد الله، وعائشة، وطلحة، فيما يرتبط بلزوم عودته للقتال ـ كما ورد في الروايات المختلفة ـ يرجع إلى ما يلي:

1 ـ اتهامه بالجبن والخوف من سيوف بني عبد المطلب.

2 ـ إن نساء قريش ستتحدثن بأنه قد جبن.

3 ـ تخويفه مما ستقوله عنه قريش غداً.

4 ـ إن ذلك يشمت بهم الأعداء.

أضاف طلحة إلى اتهامه إياه بالجبن قوله: سحرك ابن أبي طالب؟!

وكل هذه الأمور يجمعها قول الزبير لعلي «عليه السلام»:

«كيف أرجع الآن وقد التقت حلقتا البطان. هذا ـ والله ـ العار الذي لا يغسل».

ونستطيع أن نستشف من أقوالهم هذه أموراً عديدة، نذكر منها:

1 ـ إنهم كانوا يدركون ما كان يتمتع به علي «عليه السلام» من قدرة على الإقناع، لأنهم يعرفون: أن الحق دائماً معه وإلى جانبه، وأنه من الوضوح بحيث لا يستطيع أحد مقاومته، أو التملص منه، مهما كان مغرقاً في الباطل، وممعناً في الضلال، ولن ينفعه تزويق الكلام، والتلاعب والتحايل، وإن ذهب بعيداً في الوقاحة والجرأة.

ولكنهم يخشون من الإعتراف بهذه الحقيقة، فيسمونها بالسحر، لخداع العامة، وتخويفهم من الإقتراب منه، والتعاطي معه «عليه السلام».

2 ـ إنهم يسعون إلى إثارة العصبية العشائرية، العمياء، من خلال نسبة السيوف التي يواجهونها إلى بني عبد المطلب، مع أن أهل الدين، والملتزمين بالقيم والأخلاق وذوي العقول، وأهل البصائر، يرون: أن بني عبد المطلب لا يعلنون حرباً عشائرية، وإنما هم يدافعون عن حق جعله الله تعالى لهم، لمصلحة الناس في دنياهم وفي آخرتهم..

والواجب يقضي على كل عاقل يملك قدراً من العقل والحكمة، ويلتزم جانب الحق والعدل والشرع بأن ينصر بني عبد المطلب في هذا الأمر، ويكون معهم وإلى جانبهم، لأن في ذلك نصرة الله ورسوله، ودينه وحقه ضد المعتدين والظالمين.

فالإنتساب إلى بني عبد المطلب شرف وكرامة، وصواب، وليس مما ينتقص به ويعاب.

3 ـ قد أظهرت كلماتهم المتقدمة: أن قريشاً هي التي تشن الحرب على علي «عليه السلام»، وقد ذكَّروا الزبير: بأن انسحابه هذا سوف يزعج قريشاً، وسيكون لها منه موقف بعد وضع الحرب أوزارها..

وهذا يذكرنا بموقف قريش من رسول الله «صلى الله عليه وآله» في حال حياته، حيث أصرت على مواجهته بالحرب والأذى منذ بعثته «صلى الله عليه وآله»، ولم تستسلم إلا قبيل وفاته في فتح مكة، وكان استسلامها ظاهرياً كما أكدته سائر مواقفها بعد الفتح، حتى كانت واقعة كربلاء، فصبت جام حقدها على الإمام الحسين «عليه السلام»، وارتكبت أبشع جريمة في حقه وفي حق أهل بيته واصحابه.. مصرحين له: بأنهم إنما يقاتلونه بغضاً منهم لأبيه علي بن أبي طالب «عليه السلام»([15]).

وقد أعلم النبي «صلى الله عليه وآله» علياً «عليه السلام» بأمرهم:

تارة: بأنه سيقاتلهم على التأويل كما قاتلهم على التنزيل..

وتارة: بأنه سيقاتلهم مفتونين كما قاتلهم كافرين.

ولم تبغض قريش علياً إلا لما فعله بأشياخها في بدر، وأحد، والخندق، وحنين، وغيرها. كما دل عليه الشعر الذي تمثل به يزيد وهو ينكت ثنايا أبي عبد الله الحسين «عليه السلام» بمخصرته، فقد قال:

ليت أشياخي ببدر شهدوا                 جزع الخزرج من وقع الأسل

لأهلوا واستهلوا فرحاً                     ثم قالوا لي هنيئاً لا تشل

حين حكّت بفناء بركها                    واستحر القتل في عبد الأسل

قد قتلنا الضعف من أشرافكم            وعدلنا ميل بدر فاعتدل

لعبت هاشم بالملك فلا                     خبر جاء ولا وحي نزل

وفي نص آخر:

فجزيناهم ببدر مثلها                       وأقمنأ ميل بدر فاعتدل

لست من عتبة إن لم أنتقم               من بني أحمد ما كان فعل([16])

وهذا يدل على أن بغض قريش لعلي «عليه السلام» ناشئ عن بغضها لرسول الله «صلى الله عليه وآله» ورفضها لدينه، لأن علياً «عليه السلام» إنما قتل أشياخهم تحت رايته.

وهو «عليه السلام» أخو رسول الله «صلى الله عليه وآله»، بل هو نفسه ـ كما دلت عليه آية المباهلة ـ ولكنهم لم يكونوا قادرين على أن يقولوا للإمام الحسين «عليه السلام»: إنما نقاتلك بغضاً برسول الله «صلى الله عليه وآله».. فاستعاضوا عنه بأخيه، ونفسه، علي «عليه السلام».

وقد أشار «عليه السلام» إلى موقف قريش منه، في العديد من الموارد، ومنها قوله: «اللهم عليك بقريش، فإنهم قطعوا رحمي، وأكفأوا إنائي، وصغَّروا عظيم منزلتي»([17]).

4 ـ لست أدري ما قيمة حديث نساء قريش عن جبن الرجال وشجاعتهم في محاربة الحق وأهله، إذا كان في مقابل الحقائق التي قررها الأنبياء والأوصياء، والكمَّل من النساء، مثل فاطمة «عليها السلام»، وخديجة بنت خويلد، وحديث أم سلمة، وزينب، وسائر الصالحات من نساء المؤمنين في الثناء على الرجل في دينه وورعه، واستقامته، ونصرته للحق، وعن سيطرته على شهواته، وعن مواقعه الرسالية؟!

أخزاك الله من ولد ما أشأمك؟!:

ولسنا بحاجة إلى تذكير القارئ: بأن ابن الزبير قد جمع بين أنواع من العظائم والمآثم التي تفرقت في غيره من الناس، فهو ناكث لبيعته، خارج إلى إمامه ناصب للعداء لسيد الأوصياء، ولسيدي شباب أهل الجنة «عليهم السلام».. قاتل للنفس المحترمة، ورأس في الفتنة، ومتوثب على ما ليس له، ومشارك في اتهام أبرأ الناس من دم عثمان، أعني علياً «عليه السلام»، إلى غير ذلك مما شاركه فيه أبوه وطلحة وغيرهما من رؤساء الناكثين..

ولا نريد أن نتحدث عن رذيلتي اللؤم والبخل فيه، ولا عن مدى جهله بالدين وأحكامه، وما إلى ذلك.. ولكننا نود لفت نظر القارئ إلى أمرين ظهرا لنا جلياً في سلوكه تجاه أبيه، وهما:

الأول: أنه قد تغاير في غير موضع الغيرة، حين منع أباه من وطء أمه، محتجاً عليه بقوله: «مثلي لا توطأ أمه»([18]). فدل بذلك على:

1 ـ على غروره الفارغ الأجوف، وشدة ضجيج الأنا في داخله. وإلا فكيف ولد هو وأخوته؟! وهل امتنع هو عن إتيان النساء، أو التغوط؟!

2 ـ إنه قد أساء بذلك إلى أبيه وأمه، وآذاهما وأحرجهما في أمر مخجل لهما.

3 ـ إنه منعه من حقه وظلمه فيه، وحرمه مما أحله الله تعالى له، بسبب عقدة حقارة في داخله أراد أن يسترها بإظهار تكبر وعنجهية مفتعلة ومصطنعة، وتعاظم مفضوح.

4 ـ إنه إنما فعل ذلك بتوهم ساذج وسخيف أن وطء الأم يسيء إلى مكانة الرجل السري والشريف، وليس الأمر كذلك، وإلا لكان قد طالب أي كان من الشرفاء آباءهم بذلك.

الثاني: إنه خاطب أباه بصورة مسيئة ومؤذية ومهينة حين اتهمه بالجبن، وبأنه يجلب له العار، وبغير ذلك من تعابير، بعيدة عن الأدب، ومنافية للخلق الكريم.. وهذه رذيلة مخزية لا يرضاها أهل الشرف لأنفسهم، فكيف يرضاها من يدَّعي أنه أهل لمنصب الخلافة بعد الرسول الأعظم «صلى الله عليه وآله»؟!

والأغرب من ذلك: أن نرى عائشة من أشد الناس إعجاباً ومحبة لابن أختها هذا، وقد فوضت إليه أمر الصلاة بالناس حين اختلف طلحة والزبير على هذا الأمر.

ولست أدري ما الذي أثار أعجابها به، وأوجب محبتها له؟! أبخله، أم شؤمه، أم سوء أدبه مع والديه، أم شدة بغضه لعلي بن أبي طالب «عليه السلام» وبني هاشم الذي صرح هو نفسه بأنه كان يخفيه منذ أربعين سنة، حتى لقد ترك الصلاة على النبي «صلى الله عليه وآله» أربعين جمعة، ولما عوتب على ذلك ادعى: أن هذا الحي من بني هاشم إذا سمعوا ذكره «صلى الله عليه وآله» اشرأبوا واحمرت ألوانهم وطالت رقابهم، وأبغض الأشياء إليه ما يسرهم. وفي رواية: إن له أهيل سوء الخ؟!([19]).

وحسبه قول أبيه فيه كما ورد في رواية ابن أعثم: أخزاك الله من ولد! ما أشأمك!([20]).

وقول محمد بن أبي بكر حين جاء به إلى عائشة وهو جريح: اجلس يا ميشوم.

أبالجبن تعيرني؟!:

والأغرب من ذلك والأعجب: أن نجد الزبير الذي كان لا يزال يتمضمض بقوله:

اخترت عارا على نار مؤججة           أنى يقوم بها خلق من الطين؟!

والذي أقسم لتوه لعلي «عليه السلام» أنه سيرجع عن حربه، لأنه ذكره قول رسول الله «صلى الله عليه وآله».. إن هذا الرجل قد نُكِسَ على رأسه من فوره، لمجرد سماعه بضع كلمات من ولده دغدغ بها خاطره حين اتهمه بالجبن والخوف من بني عبد المطلب، فنسي الله ورسوله، والجنة والنار، والقسم وكل شيء قاله وسمعه، وبادر إلى إثبات شجاعته لابنه بهجوم قتالي عدواني على علي «عليه السلام» وعلى المؤمنين معه، يبرهن به عملياً أنه لا يقيم وزناً، لدماء المؤمنين، ولا لِقَسَم تبرع به، ولا لعهد أعطاه، أو وعد قطعه على نفسه. غير مبال بالتحذير الذي تذكَّر أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» وجهه إليه.

الزبير لم ينصرف عن الحرب:

وزعمت بعض الروايات المتقدمة: أن الزبير بعد أن أثبت لولده أنه ليس بجبان مضى منصرفاً عن الحرب، حتى لقيه عمرو بن جرموز في وادي السباع فقتله غيلة.

وزعمت المعتزلة: أنه تاب ورجع([21]).

غير أننا نقول:

إن ذلك غير صحيح، فإن قول النبي «صلى الله عليه وآله»: لتقاتلنه وأنت له ظالم يدل على عدم انصرافه عن القتال.

وستأتي نصوص كثيرة أيضاً تصرح: بأنه قد حارب وانهزم، فقتل وهو منهزم على يد عمرو بن جرموز.

فلعل قول الرواية المتقدمة برقم[1]: «ثم مضى منصرفاً» ليس هو الإنصراف عن الحرب، وإنما انصرف إلى أصحابه بعد أن قضى هجمته، فكان معهم إلى أن باشر الحرب معهم، ثم انهزم فقتل.

بل إن نفس الروايات المتقدمة قد صرح بعضها، وهي الرواية رقم [2]: بأنه قام في صف المقاتلين بعد أن كفَّر عن يمينه بعتق غلامه سرجس.

وفي نص آخر أنه أعتق غلامه مكحولاً.

وفي نص ثالث، وهو الذي نقلناه عن سليم يقول: فقتل طلحة، وانهزم الزبير.

وأما الرواية المتقدمة التي تقول بأن الزبير قال لعلي «عليه السلام»: لا جرم والله لا قاتلتك. ورجع متوجهاً نحو البصرة، فلعله أراد منها: أنه توجه نحو البصرة ثم ردُّوه بكلامهم الذي تضمن اتهامه بالجبن، وبغير ذلك.. ثم أقنعوه بعتق غلامه مكحول كفارة عن يمينه، فعاد إلى القتال فقاتل وانهزم.

المفيد رحمه الله وتوبة الزبير:

قال الشيخ المفيد «رحمه الله» ما ملخصه: إن الزبير قتل وهو منهزم بلا ندم ولا توبة، ولو كان قد تاب لكان قد صار إلى علي «عليه السلام»، وأظهر نصرته ومعونته.

ولو جاز القطع بأنه تاب، لوجب على المسلمين القول بتوبة كل من حارب النبي «صلى الله عليه وآله» ثم انهزم عنه، وإن لم يلجأ إليه «صلى الله عليه وآله»، ولم يظهر الإقرار بنبوته([22]).

وقد استدلوا على توبته بدليلين:

الدليل الأول:

إن الروايات تصرح بتوبته ورجوعه، ولكن ولده اتهمه بالجبن، فرجع وكرَّ على أصحاب علي «عليه السلام»، فقال «عليه السلام»: افرجوا للشيخ، فإنه محرج.

فقول علي «عليه السلام» هذا، ومنعه أصحابه من قتله يدل على ندمه وتوبته.

ويجاب:

أولاً: بأنه إن كان رجوعه منصرفاً توبة، فإن كرته على أصحاب علي «عليه السلام» بعد تحريض ابنه نقض للتوبة.

ثانياً: إن هذا أسوأ حالاً، لأن تذكير علي «عليه السلام» قد أزال الشبهة عنه، ولأنه ترك أمر الله للحمية والعصبية، ومحبة الرياسة.

ثالثاً: قول علي «عليه السلام»: فإن الشيخ محرج لا بد أن يكون على سبيل السخرية منه، لأن الحرج لا يدعو إلى الفسق.

وحتى لو كان الزبير محرجاً، فإن إحراجه لا يجيز لعلي «عليه السلام» تمكينه من حربه، وتسويغه إظهار خلافه.

وهذا يوجب الشك في صحة هذه الرواية من الأساس.

رابعاً: إن ما قاله ابن الزبير لأبيه، ليس مما يوجب الحرج لأهل الدين، ولا يلجئهم لارتكاب المعاصي والطغيان، وإنما أمرهم «عليه السلام» بتركه تفضلاً منه، ومنة منه «عليه السلام» بهدف استصلاحه.

والعفو عن الجاني لا يدل على الرضا بجنايته.

الدليل الثاني:

واستدلوا أيضاً بقوله «عليه السلام» لابن جرموز، لمَّا جاءه برأس الزبير وسيفه: سمعت رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقول: بشر قاتل ابن صفية بالنار([23]).

فلو لم يكن الزبير تائباً ومن أهل الجنة لما كان قاتله من أهل النار.

ويجاب:

أولاً: إن وجوب النار بقتل نفس لا يدل على أن النفس المقتولة من أهل الجنة. فقتل المعاهد، وقتل الغيلة، وقتل الكافر بشفاء الغيظ أو للرياء، أو للعبث، أو نحو ذلك يوجب للقاتل النار، ويكون المقتول في النار أيضاً.

ثانياً: إن ابن جرموز كان يوم الجمل مع عائشة في جماعة من بني سعد، فَقَتَل من أصحاب أمير المؤمنين «عليه السلام»، ثم انهزم ولحق بالأحنف، فلما علم أن الزبير بوادي السباع في طريقه إلى المدينة، وعلم رغبة الأحنف بقتل الزبير قام ابن جرموز ومعه رجلان من بني عوف بن سعد. أحدهما: فضالة بن حابس، والآخر: جميع بن عمير، وتوجهوا نحو الزبير، فسبقهم إليه عمرو بن جرموز، فتحذَّر منه الزبير، فقال له ابن جرموز لا بأس عليك، فأنا منطلق في طريقي ومصاحبك.

ثم غدر به ابن جرموز، وطعنه بالرمح فقتله.

ثم جاء برأسه وسيفه إلى علي «عليه السلام»، متقرباً به إليه، يريد الخروج مما صنع في قتاله وقتل أصحابه.

ولم يقتله تديناً ولا بصيرة في الدين، وكان ذلك معلوماً لأمير المؤمنين «عليه السلام» بما سمعه من رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فأخبر «عليه السلام» بما سمع. ولا يدل ذلك على استحقاق الزبير الجنة، ولا على توبته.

ثالثاً: إنه استحق النار بإعطائه الأمان للزبير، ثم قتله بعد الأمان، ثم استحقها بقتله إياه غيلة.

رابعاً: إن ابن جرموز خرج على علي «عليه السلام» بعد ذلك مع الخوارج، وكان حامل رايتهم، فقتل معهم.

وقد أخبر النبي «صلى الله عليه وآله» عن عاقبة أمره، لئلا يلتبس أمره، فيظن أن قتله الزبير عاصم له عن استحقاق العقاب.

ويشبه هذا قصة قزمان الذي قاتل يوم أحد، فقتل ستة من المشركين، فقيل لرسول الله «صلى الله عليه وآله»، فقال «صلى الله عليه وآله»: إنه من أهل النار.

ثم جرح قزمان، وأخبرهم بأنه إنما قاتل عن أحساب قومه، ثم اشتد به ألم الجراح فقتل نفسه.

وإنما أخبرهم «صلى الله عليه وآله» بأمر قزمان لئلا يشتبه أمره، فيعتقد الناس أنه مؤمن بالرغم من أنه قاتل نفسه.

خامساً: إن علياً «عليه السلام» نادى يوم الجمل: ألا لا تتبعوا مدبراً، ولا تجهزوا على جريح، فخالفه ابن جرموز فيما فعله بالزبير. فاستحق ابن جرموز النار لمخالفته لإمامه. ولا ربط لهذا بمصير الزبير، هل هو إلى الجنة؟! أم إلى النار؟!

ولعلك تقول:

إن قول النبي «صلى الله عليه وآله» عن ابن جرموز: إنه من أهل النار، إنما هو للإشارة إلى أنه استحق النار، لأجل أنه قتل رجلاً من أهل الجنة.

ويجاب:

أولاً: بأن الأمر لا ينحصر بما ذكر، فهناك وجه آخر، وهو أنه بما أن الزبير كان رأس الفتنة، وأمير أهل الضلالة، وقائد الناكثين، فقد يظن ظانٌّ: أن قتله يوجب لقاتله المقام المحمود عند الله.. وحيث إن الأمر هنا ليس كما يظن فيه، لأن ابن جرموز كان من أهل النار، فقد نبَّه رسول الله «صلى الله عليه وآله» وعلي «عليه السلام» على هذه الحقيقة، وأنه من أهل النار، ليزيل الشبهة فيه.

وهذا كقول النبي «صلى الله عليه وآله» في حق من يرونهم عُبَّاداً وزهاداً، ويحقرون صلاتهم إلى صلاتهم ـ كالخوارج ـ: إنهم من أهل النار، لكي لا ينخدع الناس بهم([24]).

ثانياً: إن ابن جرموز سيكون في جملة الخوارج الذين يخرجون على أمير المؤمنين «عليه السلام»، ويقتلون. ولا ريب في أن الخوارج يمرقون من الدين مروق السهم من الرمية.

بين رواية الأربلي، ورواية البلاذري:

وبعدما تقدم يتضح: أن الرواية التي نقلها الأربلي، المصرحة بخروج الزبير من الحرب طوعاً إلى وادي السباع، قد جاءت لتزوير الحقيقة، التي لا مهرب منها.. ولكنها حين بدت وحيدة فريدة، وقد تضافرت الروايات على معارضتها، وإسقاط مضمونها عن الإعتبار جاءت رواية البلاذري لتدَّعي: أن علياً «عليه السلام» قد التقى بالزبير لقاء آخر غير اللقاء الذي كان قبل بدء القتال، حيث حلف الزبير لعلي «عليه السلام» بأن لا يقاتله، ثم أقنعوه بعتق غلامه مكحولٍ كفارة عن يمينه، فأعتقه ثم عاد إلى القتال.

فادعى قتادة: أن علياً «عليه السلام» التقى بالزبير بعد وقوع الهزيمة على جيش الناكثين، فعاتبه «عليه السلام»، فاستحيا الزبير، وانسل على فرسه منصرفاً إلى المدينة.

ونحن لا نمنع من حدوث هذا اللقاء، ولكننا نقول:

إن تصويرهم للأمر، وما رتبوه عليه غريب وعجيب، فـ:

أولاً: إن هذا اللقاء إن كان قد حصل بعد هزيمة أصحاب الجمل، فمعنى ذلك: أنه لقيه وهو منهزم، فما معنى قول الراوي: إنه انسل منصرفاً إلى المدينة؟! أليس هذا من التدليس المفضوح، الذي لا معنى له إلا ذر الرماد في العيون، بوقاحة لا نظير لها، ولا تنتهي إلى حد..

ثانياً: إذا كان الزبير قد انصرف عن الحرب، وندم على ما كان منه، فإن قتل ابن جرموز له يجعل ابن جرموز مجرماً وقاتلاً لرجل مسلم غيلة وغدراً، ويحتِّم على أمير المؤمنين «عليه السلام» أن يعاقب قاتله، أو أن يحبسه إلى أن ينجلي الأمر، ويتوقع في هذه الحال أن يستفهم من قاتله عن مبرر قتله، وعن سبب غدره به.

ثالثاً: كيف رضي النعر بن زمام الذي استجار به الزبير فأجاره حسب ما ذكرته الرواية ـ كيف رضي ـ بما فعله عمرو بن جرموز؟! ولماذا لم يحم رجلاً لجأ إليه، واستجار به؟! ولماذا لم يلاحق قتلته، ولم يشكهم إلى علي «عليه السلام»، أو إلى غيره؟! إلا إن كان ابن زمام هذا يخشى من أن يعاتبه علي «عليه السلام» على تخلفه عنه..

اللقاء بالزبير أكثر من مرة:

ولكننا مع ذلك نقول:

إنه لا مانع من تكرر لقاء الزبير بعلي «عليه السلام»، وتكرر إظهاره الندم، ثم عودته إلى القتال، حتى انهزم، وقتله عمرو بن جرموز غيلة بعد ذلك، فإن الروايات قد صرحت بلقائه هو وطلحة بعلي «عليه السلام» قبل القتال، كما أن الرواية عن سليم بن قيس تشير إلى أن أحد اللقاءات بين الزبير وبين علي «عليه السلام» قد كان بعد قتل طلحة، ويدل على ذلك: رثاء الزبير لطلحة حين أدبر عن علي «عليه السلام» فقد قال:

فاخترت عاراً على نار مؤججة          أنى يقوم لها خلق من الطين

نبئت طلحة وسط القوم منجدلاً          ركن الضعيف ومأوى كل مسكين

قد كنت انصره حينا وينصرني          في النائبات ويرمي من يراميني([25])

وهذا يؤيد: أن يكون «عليه السلام» قد واجه الزبير في تلك الحرب هو وطلحة تارة، فقرر الزبير الرجوع، ثم عدل عنه.. ثم واجهه بعد قتل طلحة. ولعل المواجهة الثانية كانت حين كان الزبير في حال الفرار إلى وادي السباع، فزعموا: أنه انصرف عن الحرب.

الزبير جاء ليصلح بين الناس:

ولا نكاد نصدق ما زعمته رواية سليم: من أن الزبير قال لعلي «عليه السلام»: جئت لأصلح بين الناس، فإن من جاء ليصلح لا يقول: جئت للطلب بدم عثمان، ولا يجمع الجيوش الجرارة التي تعد بعشرات الألوف، ولا ينكث بيعته، ولا يطلب من إمامه أن يعتزل ليرد الأمر شورى، ولا يقتل المئات في البصرة، ولا ينهب بيت مال المسلمين، ولا يقتل من كان في المسجد، ولا يقتل السبابجة، ولم يكن هناك خلاف بين أحد سوى الخلاف الذي أثاره هو على إمامه.. إلى غير ذلك مما يعلم بمراجعة الأحداث التي عرفنا شطراً منها في هذا الكتاب.

لا يرى علياً أهلاً، ولا أولى بالأمر:

والذي أذهلنا حقاً أن نجد الزبير يقول لعلي «عليه السلام»: «ولا أراك لهذا الأمر أهلاً، ولا أولى به منا».

وهو كلام يثير الأسئلة في أكثر من اتجاه، فلاحظ ما يلي:

أولاً: إن الله سبحانه هو الذي اختار علياً «عليه السلام» للإمامة والخلافة بعد رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وأمر رسوله بنصبه إماماً يوم الغدير، وقد نفَّذ رسول الله «صلى الله عليه وآله» أمر الله، فأخذ له البيعة من عشرات الألوف من الصحابة في يوم الغدير، قبل استشهاده «صلى الله عليه وآله» بسبعين يوماً.

وقد أعلن هذا الإختيار بصورة صريحة في أكثر من آية قرآنية، ومنها قوله تعالى: ﴿إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ([26]).

وقد أكد رسول الله «صلى الله عليه وآله» اختيار الله تعالى ورسوله «صلى الله عليه وآله» له «عليه السلام» في عشرات النصوص على إمامته وخلافته من بعده.

فما قيمة أن يرى الناكثون العاصون لله ولرسوله أنه «عليه السلام» أهل للخلافة، أو ليس أهلاً لها؟!

ثانياً: إن الزبير نفسه، ومعه طلحة وسائر المسلمين، هم الذين أصروا عليه بقبول بيعتهم له، وأعلنوا أنه أهل لهذا الأمر قولاً وعملاً، وبقي عدة أيام يمتنع عن قبول البيعة، وهم يلاحقونه من موضع إلى موضع، ويلحون عليه بالقبول، وهو يأبى ذلك.

فلما لم يجد بداً من القبول كان طلحة والزبير أول من بايعه، ثم كانا من المسلمين أول من نكث بيعته، غير مبالين بالأيمان التي أقسموها، والعهود التي أخذوها وقطعوها على أنفسهم. فكيف يكون الناكث لبيعته، الناقض لأيمانه، المخلف لوعوده وعهوده أولى ممن لم يزل على ما كان عليه في عهد رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ولم يغيِّر ولم يبدل؟!

ثالثاً: إن طلحة والزبير كانا من أشد الناس على عثمان، وقد شاركا في قتله، والتحريض عليه بكل ما أمكنهم، وكان علي «عليه السلام» هو الذي يحاول أن يدفع القتل عنه. وقد أرسل ولديه إليه لهذا الغرض. وها هو الزبير يدَّعي أنه جاء ليطالب بدم عثمان، مما يعني: أنه ممن قال الله فيهم ﴿وَمَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْمًا ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئًا فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا([27]). فكيف يصير البريء من دمه، الملتزم بعهوده، ليس أهلاً للإمامة، ويصير المشارك في التحريض، وفي الهجوم، وفي القتل، ثم يرمي الأبرياء بما اقترفت يداه من آثام ـ يصير ـ أهلاً للإمامة والخلافة؟!

رابعاً: إذا لم يكن علي «عليه السلام» أهلاً للخلافة، فهل صار الزبير أو طلحة أهلاً لها.. إن الزبير حتى في هذا الموقف لم يستطع أن يدَّعي أنه أولى من علي بالخلافة، ولا سيما مع تصريحه «عليه السلام» له بقوله في نفس الرواية المتقدمة برقم [2]: أتطلب مني بدم عثمان، وأنت قتلته؟! فكيف سوَّغ لنفسه نكث بيعته، والخروج لحربه؟!


([1]) راجع: بحار الأنوار ج32 ص217.

([2]) تقريب المعارف ص357 ـ 359 وراجع: بحار الأنوار ج32 ص118 عنه.

([3]) بحار الأنوار ج32 ص218 و 219 وج31 ص647 وكشف الحق ونهج الصدق (ط بيروت) ص356.

([4]) كشف الحق ونهج الصدق (ط بيروت) ص356 وبحار الأنوار ج31 ص647 و 648 وج32 ص219.

([5]) تقريب المعارف ص359 وراجع: بحار الأنوار ج32 ص118 عنه، ومستدرك سفينة البحار ج10 ص36.

([6]) بحار الأنوار ج32 ص219 وراجع: إلزام النواصب ص174.

([7]) بحار الأنوار ج32 ص219 و 220 وج3 ص251 و 252 والدرجات الرفيعة ص360 وكشف الغمة ج1 ص244 و 245 وراجع: إلزام النواصب ص177 و 178.

([8]) بحار الأنوار ج32 ص220 والدرجات الرفيعة ص360 وإلزام النواصب ص177.

([9]) أنساب الأشراف للبلاذري (بتحقيق المحمودي، ط سنة 1961م) ص168 و 169 و (ط مؤسسة الأعلمي سنة 1394هـ) ص258.

([10]) الآية 149 من سورة البقرة.

([11]) المحاسن للبرقي (ط دار الكتب الإسلامية ـ طهران) ج2 ص550 والخصال للصدوق ص157 ووسائل الشيعة (آل البيت) ج25 ص165 و 168 و (الإسلامية) ج17 ص129 و 131 وبحار الأنوار ج63 ص166 و 167 ومكارم الأخلاق للطبرسي ص171 ومستدرك سفينة البحار ج5 ص63.

([12]) بحار الأنوار ج39 ص12 وج63 ص167 و 168 عن عيون أخبار الرضا ج2 رقم 73 و (ط أخرى) ص229 و 230 و (ط مؤسسة الأعلمي) ج1 ص78 ووسائل الشيعة (آل البيت) ج25 ص169و (الإسلامية) ج17 ص132 ومدينة المعاجز ج1 ص374 ومسند الإمام الرضا للعطاردي ج2 ص341.

([13]) المحاسن للبرقي (ط دار الكتب الإسلامية ـ طهران) ج2 ص549 و 550 وبحار الأنوار ج63 ص169 و 170 و 177 و 178 وعن مكارم الأخلاق ص195 وعن دعائم الإسلام ج2 رقم 113 والكافي ج6 ص357 ومستدرك الوسائل ج16 ص399.

([14]) المحاسن للبرقي (ط دار الكتب الإسلامية ـ طهران) ج2 ص549 وبحار الأنوار ج63 ص170 عنه، ووسائل الشيعة (آل البيت) ج25 ص167 و (الإسلامية) ج17 ص131.

([15]) راجع: مقتل الحسين «عليه السلام» ومصرع أهل بيته ص132 وينابيع المودة ص416 مع اختلاف يسير، ومعالي السبطين ج2 ص12 عن أبي مخنف.

([16]) راجع: البداية والنهاية (ط دار إحياء التراث) ج8 ص187 ومناقب آل أبي طالب (ط مكتبة مصطفوي ـ قم ـ إيران) ج4 ص114 و (ط المكتبة الحيدرية) ج3 ص261 والفتوح لابن أعثم (ط دار الأضواء) ج5 ص129 والمنتظم ج5 ص343 وتذكرة الخواص ص261 و 262 وآثار الجاحظ ص130 وسؤال في يزيد ص14 فما بعدها، ومقتل الحسين للمقرم ص449 و 450 واللهوف لابن طاووس ص75 و 76 و (ط أنوار الهدى ـ قم) ص105 وروضة الواعظين ص191 والمسترشد ص510 والإحتجاج للطبرسي ج2 ص34 والخرائج والجرائح ج2 ص580 ومدينة المعاجز ج4 ص140 وبحار الأنوار ج45 ص133 و 157 و 167 و 186 والعوالم (الإمام الحسين «عليه السلام») للبحراني ص397 و 401 و 403 و 433 ولواعج الأشجان ص226 والغدير ج3 ص260 وتفسير القمي ج2 ص86 والصافي (تفسير) ج3 ص388 ونور الثقلين ج3 ص518 وقاموس الرجال للتستري ج10 ص115 وتاريخ الأمم والملوك ج8 ص187 وبلاغات النساء لابن طيفور ص21 وينابيع المودة ج3 ص31 و 42 و 244 والنصائح الكافية ص263 وحياة الإمام الحسين «عليه السلام» للقرشي ج2 ص187 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج33 ص680 ومصادر ذلك لا تكاد تحصى.

([17]) راجع: نهج البلاغة (بشرح عبده) ج2 ص85 ومصباح البلاغة (مستدرك نهج البلاغة) ج4 ص175 والغارات للثقفي ج1 ص308 وج2 ص570 و 767 والمسترشد ص416 وكتاب الأربعين للشيرازي ص172 و 186 وبحار الأنوار ج29 ص605 وج33 ص569 والمراجعات ص390 والنص والإجتهاد ص444 ونهج السعادة ج6 ص327 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج4 ص103 وج6 ص96 وج9 ص305 والإمامة والسياسة (تحقيق الزيني) ج1 ص134 و (تحقيق الشيري) ج1 ص176.

([18]) راجع: أسد الغابة ج5 ص392 والكامل في التاريخ ج4 ص364 وقاموس الرجال للتستري ج12 ص183 والبداية والنهاية (ط دار إحياء التراث العربي) ج8 ص381.

([19]) راجع المصادر التالية: العقد الفريد (ط دار الكتاب العربي) ج4 ص413 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج20 ص128 وأنساب الأشراف ج4 ص28 وقاموس الرجال ج5 ص452 ومقاتل الطالبيين ص474 .

([20]) راجع: شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج2 ص166 والشافي في الإمامة ج4 ص325.

([21]) الفصول المختارة ص41.

([22]) الفصول المختارة ص142 ـ 149.

([23]) مسند أحمد ج4 ص198 والطبقات الكبرى لابن سعد ج3 ص261 ومختصر تاريخ دمشق ج18 ص219 والجوهرة ج2 ص261 وتاريخ الإسلام للذهبي ص582 ومجمع الزوائد ج9 ص297 وكنز العمال ج11 ص724 والغدير ج9 ص27.

([24]) راجع ما تقدم في الفصول المختارة ص142 ـ 149.

([25]) شرح نهج البلاغة للمعتزلي ج1 ص234 ورسائل المرتضى ج4 ص72 والإحتجاج للطبرسي ج1 ص238 وحلية الأبرار ج2 ص352 وبحار الأنوار ج32 ص198 والوافي بالوفيات ج14 ص122 وفضائل أمير المؤمنين للكوفي ص167 والمناقب للخوارزمي ص180.

([26]) الآية 55 من سورة المائدة.

([27]) الآية 112 من سورة النساء.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان