حتى الهجرة إلى الحبشة
SHAPE \*
MERGEFORMAT
فاصدع بما تؤمر:
وبعد أن أنذر
>صلى
الله عليه وآله<
عشيرته الأقربين،
وبعد أن انتشر أمر نبوَّته
>صلى
الله عليه وآله<
في مكة، بدأت قريش تتعرض لشخص النبي
>صلى الله
عليه وآله<
بالاستهزاء والسخرية، وأنواع التهم، كما يظهر؛ إذ أنهم قد عرفوا جدية
القضية، وأدركوا أبعادها.
فبادروا إلى تلك الأساليب بهدف الحط منه
>صلى
الله عليه وآله<
أمام الرأي العام، وابتذال شخصيته،
على الرغم من أنه
>صلى الله
عليه وآله<
كان
يتبع سبيل الحكمة والهدوء، حين يطلع بعض الناس على دعوته وما
جاء به، كل ذلك حسداً
وبغياً
منهم، وتخوفاً
من المستقبل، ليس إلا.
وكـان لذلك الاستهزاء تأثير على إقبال الناس على الدخول
في الإسلام؛ فاغتم النبي
>صلى
الله عليه وآله<
لذلك جداً، واعتبر ذلك عائقاً في سبيل انتشار دعوته، وأداء مهمته.
فأنزل
الله عليه
قرآناً،
يأمره
بإظهار الدعوة، والطلب
من كل أحد،
حتى من جبابرة قريش، ومن جميع القبائل والفئات:
أن تسلم لربها، مشفوعاً
ذلك بوعدٍ أكيد،
بأن الله سوف يكفيه المستهزئين؛ فيجب أن لا يهتم لهم، وأن يتجاهلهم،
وذلك حين نزل قوله تعالى:
{فَاصْدَعْ
بِمَا تُؤْمَرُ وَأَعْرِضْ عَنِ المُشْرِكِينَ، إِنَّا كَفَيْنَاكَ
المُسْتَهْزِئِينَ}([1]).
هذا إذا كان المقصود أنه سوف يكفيه أولئك الذين صدر
منهم فعل الاستهزاء.
أما إذا كان المراد:
مَنْ سوف يصدر منهم هذا الأمر، فإن الآية لا تكون ناظرة
إلى ما سبق كما هو ظاهر لا يخفى.
وقد بين الله تعالى له:
خطة العمل المستقبلية، فأمره أن يأخذ بالصفح الجميل،
وبالإعراض عن المشركين، وأن لا يحزن عليهم، ولا يضيق صدره بما يقولون؛
فإن جزاءهم على الله المطلع على كل صغيرة وكبيرة.
فامتثل النبي
>صلى
الله عليه وآله<
أمر الله، وأظهر دعوته، وطلب من الناس جميعاً: أن يسلموا لربهم.
ويقولون:
إنه قام على
الحجر، فقال: يا معشر قريش، يا معشر العرب أدعوكم إلى شهادة أن لا إله
إلا الله، وأني رسول الله، وآمركم بخلع الأنداد والأصنام؛ فأجيبوني
تملكون بها العرب، وتدين لكم العجم، وتكونون ملوكاً في الجنة،
فاستهزؤوا به، وقالوا: جن محمد بن عبد الله، ولم يجسروا عليه لموضع أبي
طالب([2]).
وجاء أيضاً:
أنه
>صلى
الله عليه وآله<
قام على الصفا، ونادى قريشاً؛ فاجتمعوا له، فقال لهم: أرأيتم لو
أخبرتكم أن خيلاً في سفح هذا الجبل قد طلعت عليكم، أكنتم مصدقيّ؛
قالوا: نعم، أنت عندنا غير متهم، وما جربنا عليك كذباً قط.
فقال:
{فإني نَذِيرٌ لَّكُم بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ}([3]).
إلى أن قال:
فنهض أبو لهب، وصاح به:
تباً
لك سائر اليوم، ألهذا جمعت الناس؟ وتفرقوا عنه،
فأنزل
الله تعالى: {تَبَّتْ
يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}([4])
إلى آخر السورة.
قال ابن إسحاق وغيره:
فلما بادى
رسول الله >صلى
الله عليه وآله<
قومه بالإسلام، وصدع به، كما أمره الله، لم يبعد منه قومه، ولم يردوا
عليه ـ فيما بلغني ـ حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك أعظموه
وناكروه، وأجمعوا على خلافه وعداوته، إلا من عصم الله تعالى منهم
بالإسلام، وهم قليل مستخفون.
وحدب على رسول الله
>صلى
الله عليه وآله<
عمه أبو طالب، ومنعه، وقام دونه، ومضى رسول الله
>صلى
الله عليه وآله<
على أمر الله مظهراً لا يرده شيء.
فلما رأت قريش:
أن
رسول الله >صلى
الله عليه وآله<
لا يعتبهم من شيء أنكروه عليه، من فراقهم، وعيب آلهتهم،
ورأوا أن عمه أبا طالب قد حدب عليه، وقام دونه، فلم يسلمه لهم، حاولوا
مفاوضة أبي طالب.
وهذه المفاوضات ـ كما يرى ابن إسحاق وغيره ـ قد مرت
بثلاث مراحل، انتهت كلها بالفشل الذريع.
الأولى:
إنه مشى رجال من أشراف قريش إلى أبي طالب.
فقالوا:
يا أبا طالب،
إن ابن أخيك قد سب آلهتنا، وعاب ديننا، وسفه أحلامنا، وضلل آباءنا،
فإما أن تكفه عنا، وإما أن تخلي بيننا وبينه، فإنك على مثل ما نحن عليه
من خلافه، فنكفيكه، فقال لهم أبو طالب قولاً
رفيقاً،
وردهم رداً
جميلاً،
فانصرفوا عنه.
الثانية:
إنهم حين رأوا
أن رسول الله >صلى
الله عليه وآله<
قد استمر على ما هو عليه، يظهر دينه، ويدعو إليه، حتى شرى الأمر بينه
وبينهم، وحتى تباعد الرجال، وتضاغنوا، وأكثرت قريش ذكر رسول الله
>صلى
الله عليه وآله<
بينها، ذهبوا إلى أبي طالب، فتهددوه: إن لم يكف ابن أخيه عن شتم
آبائهم، وتسفيه أحلامهم، وشتم آلهتهم، فلسوف ينازلونه وإياه حتى يهلك
أحد الفريقين، ثم انصرفوا.
فأرسل أبو طالب إلى رسول الله
>صلى
الله عليه وآله<
فأخبره، وطلب إليه أن يبقي على نفسه وعليه، ولا يحمله ما لا يطيق،
فظن أنه قد بدا لعمه فيه بداء، وأنه قد ضعف عن نصرته والقيام دونه،
فقال له >صلى الله
عليه وآله<:
يا عم، والله، لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في
شمالي على أن أترك هذا الأمر حتى يظهره الله، أو أهلك فيه، ما تركته،
فوعده أبو طالب النصر.
الثالثة:
عرضوا على أبي
طالب: أن يتخذ عمارة بن الوليد ولداً له، ويسلمهم النبي
>صلى
الله عليه وآله<،
الذي فارق دين أبي طالب ودين آبائه، وفرق جماعتهم وسفه أحلامهم ليقتلوه،
فإنما هو رجل برجل.
فقال أبو طالب:
والله، لبئس ما تسومونني أتعطونني ابنكم أغذوه لكم،
وأعطيكم ابني تقتلونه، هذا والله ما لا يكون أبداً.
فقال المطعم بن عدي:
والله يا أبا طالب، لقد أنصفك قومك وجهدوا على التخلص
مما تكرهه؛ فما أراك تريد أن تقبل منهم شيئاً.
فقال أبو طالب:
والله ما أنصفوني، ولكنك قد أجمعت على خذلاني، ومظاهرة
القوم علي؛ فاصنع ما بدا لك..
أو كما قال:
فحقب الأمر، وحميت الحرب، وتنابذ القوم، وبادى بعضهم
بعضاً([5]).
وربما تكون هذه المراحل متداخلة، أو مترتبة،
فإن ما ذكرناه لا يعدو عن أن يكون فهماً منا للسير الطبيعي للأحداث
ـ لا أكثر ولا أقل ـ وقبل المضي في الحديث؛ نسجل النقاط التالية:
ألف:
قريش لم تصل إلى نتيجة:
لقد رأينا:
أن مشركي مكة ما كانوا يرغبون بادئ ذي بدء في توريط أنفسهم في مواجهة
أبي طالب والهاشميين؛ فحاولوا أن يحملوا أبا طالب نفسه على حسم الموقف،
والقضاء على ما يعتبرونه مادة متاعبهم، ومصدر مخاوفهم، وحاولوا أن
يثيروا هذا الرجل، ويشحنوه نفسياً ضد ابن أخيه، على اعتبار أن ابن أخيه
قد جاء بما يضر بمصالح ويجرح كرامة وعاطفة عمه نفسه، فضلاً عن غيره،
ولذا، فإن من الطبيعي أن يبادر أبو طالب نفسه لوضع حد لتصرفات ابن
أخيه، ويكفيهم مؤونة ذلك.
ولكنهم حينما وجدوا:
أن أبا طالب لم يستجب لأي من أباطيلهم، ولم يحرك ساكناً في سبيل وضع حد
لمصدر الخطر عليهم وعلى مصالحهم، لجأوا إلى التهديد والوعيد، ثم إلى
أسلوب المكر والخداع كما في قضية عرض عمارة على أبي طالب ليتخذه ولداً،
ويسلمهم محمداً ليقتلوه،
الأمر الذي كشف عن حقيقة ما يكنونه في صدورهم، وتشتمل عليه نفوسهم
واتضح لأبي طالب ولغيره أن هدفهم ليس إلا القضاء على الدين الحق،
وإطفاء نور الله، الأمر الذي زاد في تصلب أبي طالب في الدفاع عن الحق
والدين، وعن نبي الإسلام الأعظم
>صلى
الله عليه وآله<.
ولعل سر استكبار مشركي مكة، ومحاولاتهم إطفاء نور الله
تعالى يرجع إلى:
1 ـ
أنهم
كانوا يستغلون أولئك الفقراء، والعبيد، والضعفاء في مكة وغيرها في
مصالحهم؛ فجاء الرسول
>صلى
الله عليه وآله<،
وبث في هؤلاء الفقراء روحاً
جديدة، وبدأ يؤكد لهم مفهوم كرامة الإنسان، وحريته.
ثم هو يناصرهم، ويعيش قضيتهم وآلامهم، ويفتح أعينهم على
واقعهم،
ويبث فيه تعاليم الإسلام، وفي مقدمتها وجوب تحررهم من سيطرة وغطرسة
أولئك الطغاة المتجبرين.
2 ـ
لقد أدرك أولئك المتجبرون، مما عرفوه من طبيعة الدعوة وأهدافها: أنهم
سوف لن يتمكنوا في ظلها من الاحتفاظ بتلك الامتيازات الظالمة، التي
جعلوها لأنفسهم؛ والتي كان يرفضها النبي الأعظم
>صلى
الله عليه وآله<،
ويؤكد على أن الناس كلهم سواسية أمام عدالة السماء، وفي ميزان الحكم
والقضاء.
وسوف لن يتمكنوا أيضاً في ظل هذا الدين الجديد، الذي
جاء ليتمم مكارم الأخلاق؛ من الاستمرار في ممارساتهم اللاأخلاقية،
واللاإنسانية أيضاً، والتي كانوا يحرصون عليها كل الحرص، أكثر من حرصهم
على آلهتهم التي كانوا يدعون
إنهم
يحافظون عليها، مع أننا رأينا بعض العرب يأكل إلهه الذي صنعه من الحيس
حين جاع!!([6]).
3 ـ
ما أشارت إليه الآية الكريمة:
{وَقَالُوا
إِن نَّتَّبِعِ الهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا}([7])
أي
إنهم
اعتذروا عن عدم إيمانهم:
بأنهم
إن آمنوا فإن العرب المشركين سوف لا يرضون بإيمانهم، ورفض أوثانهم، فرد
عليهم القرآن، فقال:
{أَوَلَمْ
نُمَكِّن لهُم حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ
رِزْقاً مِن لَّدُنَّا}([8])،
فلا موجب إذن لخوفهم هذا.
مع أن
اختيارهم
الشرك خوفاً من ذلك لا يمنع ذلك؛ فكم أهلك الله من قرية
بطرت معيشتها، فتلك مساكنهم لم تسكن من بعدهم.
بل ربما كان ذلك هو سبب هلاكهم في الدنيا، حيث ينشأ عنه
المنازعات والاستكبار، وغير ذلك من
انحرافات
مدمرة للمجتمعات وللأمم،
إن لم يكن ثمة ضوابط وروادع معينة تجعل كل تلك الإمكانات في مجراها
الصحيح، وفي الجهة النافعة للفرد وللمجتمع، حاضراً
ومستقبلاً.
على أن الأمر لله تعالى فليس لأحد
أن يتمرد عليه، ويخرج على أوامره، فإنه يعرض نفسه والحالة هذه إلى
الهلاك الدنيوي والأخروي، ثم ضرب لهم مثالاً
بقارون، الذي كان لديه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي
القوة، فلما استكبر وطغى، وتمرد على أوامر الله، خسف الله به وبداره
الأرض.
وفي آيات السورة ـ سورة القصص ـ دقائق عجيبة ومعانٍ
رائعة في هذا المجال، تحتاج إلى دراسة مستقلة ومعمقة، لا مجال لها هنا.
ونكتفي هنا بهذه الإشارة الإجمالية
إليها،
والله هو الموفق والمعين.
وبعد فشل المفاوضات، فقد ظهر لأبي
طالب:
أن
السيل قد بلغ الزبى، وأنه على وشك الدخول في صراع مكشوف مع المشركين،
فلا بد من الحذر والاحتياط للأمر؛
فجمع بني هاشم، وبني المطلب، ودعاهم إلى منع الرسول، والقيام دونه،
فأجابوه، وقاموا معه، باستثناء أبي لهب لعنه الله تعالى،
ومنع الله عز وجل رسوله، فلم يكن لهم إلى أن يضروه في شعره وبشره سبيل،
غير أنهم يرمونه بالجنون، والسحر، والكهانة، والشعر، والقرآن ينزل عليه
>صلى
الله عليه وآله<
بتكذيبهم.
ورسول الله
>صلى
الله عليه وآله<
قائم بالحق، ما يثنيه ذلك عن الدعاء إلى الله عز وجل سراً
وجهراً.
وذلك لأن المشركين بعد أن أدركوا:
أن الاعتداء
على شخصه >صلى
الله عليه وآله<
سوف يتسبب في صراع مسلح لم يعدوا له عدته، وليسوا على يقين من أن تكون
نتائجه لصالحهم، خصوصاً مع ما كان لبني هاشم من علاقات، ومن أحلاف مع
القبائل، كحلف المطيبين، وحلف عبد المطلب مع خزاعة التي كانت تقطن خارج
مكة.
بل قد توجب هذه الحرب ـ لو نشبت ـ التمكين لمحمد
>صلى
الله عليه وآله<
من نشر دعوته([9]).
فمن أجل كل ذلك آثر المشركون أن يبتعدوا عن الحرب،
ويتبعوا أساليب أخرى لتضعيف أمر محمد
>صلى
الله عليه وآله<،
والوقوف في وجه دعوته؛ فنجدهم:
أ ـ
ينهون الناس عن الالتقاء بالنبي
>صلى
الله عليه وآله<،
وعن أن يسمعوا ما جاء به من قرآن، قال تعالى:
{وَهُمْ
يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ..}([10]).
وقال تعالى:
{وَقَالَ
الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ
لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ}([11]).
ب:
يتبعون أسلوب السخرية والاستهزاء، وإلصاق التهم
الباطلة، بهدف:
1 ـ
التأثير على شخص النبي الأعظم
>صلى
الله عليه وآله<
علّه ينهزم نفسياً، وجعله يعيش عقدة الحقارة والضعة، فلربما يتخلى عن
هذا الأمر، ويكذب نفسه.
2 ـ
الحط من كرامة النبي
>صلى
الله عليه وآله<،
وابتذال شخصيته، بهدف تنفير أصحاب النفوس الضعيفة من متابعته، وصرفهم
عن الدخول فيما جاء به.
ولهذا نجدهم:
يغرون سفهاءهم بإيذائه وتكذيبه، وأحياناً كان يتولى ذلك منه سادتهم
وكبراؤهم، بل لقد رأيناهم يأمرون غلاماً منهم بأن يلقي عليه سلا جزور
وفرثه، وهو قائم يصلي، فيلقيه بين كتفيه، فيغضب أبو طالب، ويأتي فيمر
السلا على سبالهم جميعاً، وقد ألقى الله الرعب في قلوبهم([12]).
وكانوا أيضاً يلقون عليه التراب([13])،
ورحم الشاة([14])،
وغير ذلك.
وقد أثر ذلك إلى حد ما في صرف الناس، وإبعادهم عن
الدخول في الإسلام، حتى ليقول عروة بن الزبير وغيره:
>..
وكرهوا ما قال لهم، وأغروا به من أطاعهم؛ فانصفق عنه عامة الناس<([15]).
كما أنهم قد تذامروا بينهم على من في القبائل منهم، من
أصحاب رسول الله
>صلى
الله عليه وآله<
الذين أسلموا معه، فوثبت كل قبيلة على من فيهم من المسلمين يعذبونهم،
ويفتنونهم عن دينهم، ويعذبونهم بالحبس، والضرب، والجوع، وبرمضاء مكة،
وبغير ذلك من الأساليب الوحشية، واللاإنسانية.
وقد عذب المشركون عدداً من المسلمين؛ فعذب عمر بن
الخطاب، الذي أسلم قبيل الهجرة جارية بني مؤمل ـ حي من بني عدي ـ وكانت
مسلمة؛ فكان يضربها، حتى إذا مل، قال: إني أعتذر إليك، إني لم أتركك
إلا ملالة([16]).
ولعل بني مؤمل كانوا قد سمحوا لعمر بن الخطاب أن يتولى
تعذيب جاريتهم، وإلا فإن وضعه الاجتماعي لم يكن يسمح له بأمر
من هذا القبيل.
وعذب المشركون أيضاً خباب بن الأرت، وأم شريك، ومصعب بن
عمير، وغيرهم ممن لا مجال لذكرهم، وبيان ما جرى عليهم.
وقد ضرب هؤلاء لنا المثل الأعلى في الصمود والجهاد من
أجل المبدأ والعقيدة، مع معرفتهم بأنهم لا يملكون قوة تستطيع أن ترد
عنهم، غير إرادة الله تعالى، وأنهم إنما يتحدون بإسلامهم العالم كله،
الذي كان بكل ما فيه ضدهم.
وهنا تكمن عظمتهم، وهذا هو سر امتيازهم على غيرهم.
وممن عذب في سبيل الله بلال الحبشي، وعامر بن فهيرة،
ويقولون: إن أبا بكر قد اشتراهما وأعتقهما، فكانت نجاتهما من العذاب
بسببه. ولكنا نشك في أن يكون أبو بكر هو الذي اشتراهما، وذلك:
أولاً:
لما ذكره
الإسكافي، الذي قال:
>أما
بلال، وعامر بن فهيرة، فإنما أعتقهما رسول الله
>صلى
الله عليه وآله<،
روى ذلك الـواقدي،
وابن إسحاق<([17]).
وعدَّ
ابن شهرآشوب
بلالاً من موالي النبي
>صلى
الله عليه وآله<([18]).
ثانياً:
إنهم يروون روايات متناقضة في هذا المجال، حتى لا تكاد
تلتقي رواية مع أخرى، ويكفي أن نذكر اختلافها في الثمن الذي أعطاه أبو
بكر.
فرواية تقول:
إنه أعطى ثمنه غلاماً له أجلد منه.
وأخرى:
إنه أعطى غلاماً وزوجته، وابنته، ومائتي دينار.
وثالثة:
اشتراه بسبع أواق.
ورابعة:
بتسع.
وخامسة:
بخمس.
وسادسة:
برطل من ذهب.
وسابعة:
إنه اشتراه بعبده قسطاس، الذي كان صاحب عشرة آلاف
دينار، وجوار، وغلمان، ومواش.
وثامنة:
ببردة، وعشر أواق من فضة، إلى غير ذلك من وجوه الاختلاف
والتناقض([19]).
ثالثاً:
إنهم يقولون:
إن قوله تعالى:
{فَأَمَّا
مَن أَعْطَى وَاتَّقَى، وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى، فَسَنُيَسِّرُهُ
لِلْيُسْرَى}([20])
نزل في أبي بكر بهذه المناسبة([21]).
ونقول:
أ ـ
لقد رد الإسكافي على ذلك: بأن هناك من يقول: إن هذه الآية نزلت في مصعب
بن عمير([22]).
ويروي الشيعة:
أن الآية نزلت
في علي >عليه
السلام<.
ويورد الحلبي عليهم: بأن علياً
>عليه
السلام<
كان
للنبي >صلى
الله عليه وآله<
عليه نعمة تجزى، وهي تربيته له، والآية تقول:
{وَمَا
لأَحَدٍ عِندَهُ مِن نِّعْمَةٍ تُجْزَى}([23])
وبمثل ذلك أورد الرازي عليهم أيضاً([24]).
ولكن قد فات الرازي والحلبي:
أن المقصود هو
أن هذا المال الذي ينفقه لا يريد أن يجازي بإنفاقه له نعمة من أحد
عليه، وإنما ينفقه لوجه الله، ولوجه الله فقط،
لا أنه تعالى يريد وصف الأتقى بأنه ليس لأحد عليه نعمة.
ب ـ
قد ورد: عن
ابن عباس وغيره، وحتى عن النبي
>صلى الله
عليه وآله<
نفسه، تفسيرها بمعنى عام لا يختص بأحد فراجع كتب التفسير للاطلاع على
ذلك.
ج ـ
وأخرج ابن أبي
حاتم ما ملخصه: أن هذه السورة قد نزلت في رجل (هو سمرة بن جندب) الذي
كان له نخلة فرعها في دار رجل، فكان إذا جاء ليأخذ عنها التمر،
وصعد عليها ربما تقع
تمرة،
فيأخذها صبيان الفقير؛ فينزل من نخلته؛ فيأخذ التمرة
من أيديهم، وإن وجدها في فم أحدهم أدخل إصبعه، حتى يخرج تمرة من فيه؛
فشكاه الفقير إلى رسول الله
>صلى
الله عليه وآله<،
ثم لقي الرسول صاحب النخلة؛ فطلب منه أن يعطيه النخلة وله مثلها في
الجنة، فقال:
لقد أعطيت، وإن لي نخلاً كثيراً، وما فيه نخل أعجب إلي
ثمرة منها.
فسمع رجل ما دار بين النبي وبينه؛ فجاء إلى الرسول
>صلى
الله عليه وآله<
فقال: أعطني ما أعطيت الرجل إن أنا أخذتها؟
قال:
نعم.
فذهب الرجل، ولقي صاحب النخلة، وفاوضه واشتراها منه
بأربعين نخلة، ثم ذهب إلى النبي، فوهبها له.
فذهب رسول الله
>صلى
الله عليه وآله<
إلى صاحب الدار، فقال: النخلة لك ولعيالك، فأنزل الله:
{وَاللَّيْلِ
إِذَا يَغْشَى}
إلى آخر السورة([25]).
ولأجل هذا نجد السيوطي يقول عن:
>سورة
الليل: الأشهر أنها مكية؛ وقيل: مدنية لما ورد في سبب نزولها من قصة
النخلة، كما أخرجناه في أسباب النزول<([26]).
وهذه القضية هي المناسبة للآيات؛ لأنها تذكر أن بعضهم
أعطى واتقى، وبعضهم بخل واستغنى.
إلا أن يكونوا ـ والعياذ بالله ـ يقصدون بمن بخل النبي
>صلى
الله عليه وآله<
نفسه،
مع أن فرض عدم مال له ينافي صدق البخل عليه.
ويشير إلى عدم المال عنده قولهم:
إنه
>صلى
الله عليه وآله<
هو الذي قال: لو كان عنده مال لاشترى بلالاً، أو يقصدون بمن بخل،
العباس، الذي تقول الروايات: إنه ذهب فاشترى بلالاً، فأرسله إلى أبي
بكر، فأعتقه.
د ـ
لسوف يأتي إن شاء الله في حديث الغار، قول عائشة: إنه لم ينزل في آل
أبي بكر شيء من القرآن، إلا أن الله أنزل عذرها،
يعني الآيات المرتبطة بالإفك، وحتى عذرها هذا؛ فإنه لم ينزل فيها، كما
حققناه،
فراجع([27]).
رابعاً:
لم نفهم معنى قوله
>صلى
الله عليه وآله<
إنه لو كان عنده مال لاشترى بلالاً، وكيف نوفق بين هذا وبين قولهم: إنه
>صلى
الله عليه وآله<
طلب من أبي بكر الشركة في بلال فأخبره أنه أعتقه؟!([28]).
ثم أوليست أموال خديجة تحت تصرفه
>صلى
الله عليه وآله<؟!
ألم يكن هو الذي ينفق على المسلمين في مكة، كما قالت أسماء بنت عميس
لعمر حينما عيرها بأنها لا هجرة لها، حيث قالت له:
إنه ومن معه من المسلمين كانوا مع رسول الله يطعم
جائعهم، ويعلِّم
جاهلهم؟!!([29]).
وستأتي هذه القضية في موضعها إن شاء الله،
واحتمال أن تكون قصة بلال في أواخر سني ما قبل الهجرة، لا يقبل به
المؤرخون؛ فإن النووي يذكر: أنه أسلم أول النبوة، وهو من أول من أظهر
إسلامه([30]).
إلا أن يقال:
إن إسلامه،
وإن كان متقدماً، لكن شراءه وعتقه يمكن أن يتأخرا
لعدة سنوات.
هذا كله عدا عما تذكره بعض الروايات من أن العباس هو
الذي ذهب فاشتراه، ثم أرسله إلى أبي بكر فأعتقه!([31]).
وروايات أخرى تقول:
بل اشتراه نفس أبي بكر مباشرة، وأعتقه.
وفي بعض الروايات:
أنه لما توفي
رسول الله >صلى
الله عليه وآله<
قال بلال لأبي بكر: إن كنت إنما اشتريتني لنفسك فأمسكني، وإن كنت إنما
اشتريتني لله فذرني([32]).
وهذا يشير إلى أنه لم يكن قد أعتقه حتى وفاته
>صلى
الله عليه وآله<!!.
وبالنسبة لشراء العباس له؛ فإن العباس إن كان قد اشتراه
لنفسه، فلماذا لم يعتقه هو نفسه؟
وإن كان إنما اشتراه لأبي بكر فلا
ندري:
متى كان العباس وكيلاً لأبي بكر؟
ومتى كان العباس يهتم بأمور كهذه، وهو الذي لم يسلم إلا
عام الفتح، أو في بدر، كما يقولون؟.
وحاول بعضهم أن يدعي:
أن العباس فاوض أمية بن خلف، ثم جاء أبو بكر فاشتراه!
([33])
وهذا أعجب!! وما عشت أراك الدهر عجباً!!.
وأيضاً، فإن حالة أبي بكر الإقتصادية
لم تكن تسمح له بأن يدفع تلك المئات من الدنانير، فضلاً عن أن يكون أحد
مواليه يملك عشرة آلاف دينار، وجواري، ومواشي، وغير ذلك، لو فرض أن
العرب كانوا يملّكون عبيدهم الأموال،
حيث إن أبا بكر لم يكن تاجراً، وإنما كان معلماً، فمن أين تأتيه تلك
الآلاف أو حتى المئات من الدراهم والدنانير لشراء سبعة أو تسعة
وإعتاقهم؟!
ولسوف يأتي إن شاء الله البحث عن ثروة أبي بكر حين
الكلام حول قضية الغار،
بل لقد شك البعض في أن يكون كثير ممن ذكروا في مواليه شخصية حقيقية أو
خيالية، ولا سيما مثل
>زنيرة<،
التي قال السهيلي عنها:
>ولا
تعرف زنيرة في النساء<([34]).
ويقول العلامة السيد الحسني:
>إن قريشاً
كانت تعذب من آمن؛ من أجل أن لا ينتشر الإسلام، وكانت تود أن تبذل
لمحمد كل غال ونفيس، ليتراجع عما جاء به، ودعا إليه؛ فكيف تتنازل قريش
عن ملكيتهم لأبي بكر، وتترك تعذيبهم بهذه السهولة<؟!([35]).
إلا أن يقال:
إن حبها
للمال، ثم اليأس من محمد
>صلى
الله عليه وآله<
هو الذي يدفعها إلى ذلك كما يقوله البعض.
هذا ويذكرون:
أن أبا بكر قد
تعرض للعذاب في سبيل الإسلام حيث إن عمر بن عثمان أخذه وقرنه مع طلحة
بن عبيد الله التيمي في حبل حين أسلما، وعذبهما نوفل بن خويلد، وفتنهما
عن دينهما، فلذلك سمي أبو بكر وطلحة بـ
>القرينين<.
ويرى البعض أن الذي قرنهما وعذبهما هو نوفل فقط، وليس
لعمر بن عثمان ذكر في شيء([36]).
ونحن نسجل هنا ما يلي:
1 ـ
إنهم يقولون: إن أبا بكر قد منعه الله بقومه([37])،
وهذا يتناقض تماماً مع قولهم: إنه قد عذب، كما أنه يناقض قوله الآتي
لابن الدغنة: إن قومه قد أخرجوه.
2 ـ
إنه يظهر من مراجعة كتب السيرة: أن كل قبيلة كانت تتولى تعذيب من يدخل
في الإسلام منها، ولم يكن منهم من يجرؤ على تعذيب من كان من قبيلة
أخرى، كما سنرى.
3 ـ
لقد قال الإسكافي:
>إنا
لا نعلم: أن العذاب كان واقعاً إلا بعبد أو عسيف،
(وهو الأجير)، ولمن لا عشيرة له تمنعه<([38]).
مع أنهم يقولون:
إن أبا بكر كان رئيساً متبعاً، وكبيراً مطاعاً([39])
ينتظره عظماء قريش ولا يقطعون أمراً دونه، حتى يأتيهم ليبتوا في أمر
محمد
>صلى
الله عليه وآله<،
(كما تقدم في حديث إسلام أبي بكر).
وعلى حسب تعبيراتهم:
كان ذا مكانة علية، وصدراً معظماً، ورئيساً في قريش مكرماً([40])
فكيف يعذب أبو بكر من قبل جماعة ليسوا من قبيلته؟
وكيف يترك قومه رئيسهم، وصاحب مجدهم الباذخ يتعرض
للمهانة من قبل هؤلاء؟.
وعلى حد تعبير ابن هشام وغيره:
كان >مآلفاً
لقومه، محبباً، سهلاً.
إلى أن قال:
وكان رجال
قومه يأتونه، ويألفونه لغير واحد من الأمر<([41]).
وعلى حد التعبير المزعوم لابن
الدغنة:
>لا
يخرج مثله،
أتخرجون رجلاً يكسب المعدوم، ويصل الرحم، ويحمل الكل، ويقري الضيف،
ويعين على نوائب الحق<؟([42]).
ويلاحظ:
أن هذه
الكلمات هي ـ تقريباً ـ نفس الكلمات التي تنسب إلى خديجة في وصف النبي
>صلى
الله عليه وآله<
حين بعثته، قالها ابن الدغنة حين هجرة أبي بكر إلى الحبشة ـ وسيأتي عدم
صحتها ـ فاقرأ، واسمع، واعجب ما بدا لك!!
إننا إنما ذكرنا هذا الذي سبق آنفاً، لبيان تناقض
كلماتهم، إذ لو صح هذا لم يمكن أن يصح ذاك، وإلا فنحن نشك في أن يكون
أبو بكر رئيساً، معظماً، وكبيراً مطاعاً، ويدل على ذلك:
1 ـ
إن أبا بكر حج، ومعه أبو سفيان، فرفع صوته عليه، فقال أبو قحافة: إخفض
صوتك يا أبا بكر عن ابن حرب.
فقال أبو بكر:
يا أبا قحافة، إن الله بنى في الإسلام بيوتاً كانت غير مبنية، وهدم
بيوتاً كانت في الجاهلية مبنية، وبيت أبي سفيان مما هدم([43]).
2 ـ
وحين بويع أبو بكر نادى أبو سفيان:
>غلبكم على
هذا الأمر أذل أهل بيت في قريش<.
وفي نص الحاكم:
>ما
بال هذا الأمر في أقل قريش قلة، وأذلها ذلة، يعني أبا بكر<([44]).
وعلى حد تعبير البلاذري:
إن أبا سفيان
جاء إلى علي >عليه
السلام<
فقال: يا علي، بايعتم رجلاً من أذل قبيلة من قريش؟
([45]).
3 ـ
ويقول عوف بن عطية:
وأمــا الألأمــان بــنــو عـــدي
وتـيـــم حين تــزدحــم الأمــور
فـــلا تشهـد بهـم فتيـان حــرب ولــكــن أدن مــن حـلـب
وعير
إذا رهـنـوا رمـــاحهــم بـزبـــد فـإن رمـــاح تيـــم لا
تـضـيـر([46])
وأخيراً، فإن ما يذكرونه:
من أن أبا بكر هو أول من أظهر إسلامه، فمنعه قومه،
أو أنه ضُرب حتى كاد يموت([47]).
يكذبه الكثير مما قدمناه، ونزيد
هنا:
أن النبي كان
أول من أعلن الدعوة،
وليس أبا بكر.
هذا عدا عن أنهم يذكرون تارة: أن ابن مسعود هو أول من
أعلن، وأخرى عمر بن الخطاب، وهنا يذكرون: أبا بكر.
كما أن الرواية تنص على أن إظهار أبي بكر للإسلام قد
كان حينما كان المسلمون ثمانية وثلاثين رجلاً والنبي
>صلى
الله عليه وآله<
في دار الأرقم.
وقد تقدم:
أن أبا بكر لم
يكن قد أسلم بعد،
لأنه إنما أسلم بعد أكثر من خمسين رجلاً.
إلا أن يكون المقصود هو بلوغ المسلمين الذين أسلموا بعد
الهجرة إلى الحبشة ثمانية وثلاثين رجلاً،
لكن ذلك لا يتلاءم مع تصريح الرواية بأن ذلك قد كان يوم إسلام حمزة،
حينما كان النبي
>صلى
الله عليه وآله<
في دار الأرقم.
وعلى كل حال؛
فلقد عذب آل ياسر أشد العذاب، واستشهدت سمية أم عمار
على يد فرعون قريش أبي جهل لعنه الله، فكانت أول شهيدة في الإسلام([48])
ثم استشهد ياسر
>رحمه
الله<
تعالى.
ولكنهم ذكروا:
أن أول قتيل
في الإسلام هو الحارث بن أبي هالة، حيث إنه لما أُمر رسول الله
>صلى الله
عليه وآله<
أن يصدع بما يؤمر، قام
>صلى
الله عليه وآله<
في المسجد، فقال: قولوا: لا إله إلا الله تفلحوا؛ فوثبت إليه قريش؛
فأتى الصريخ أهله؛ فكان أول من أتاه الحارث هذا؛ فضرب في القوم فصرفهم
عنه وعطفوا عليه حتى قتلوه([49]).
وهذا لا يصح؛ لما تقدم من أن الله قد منع النبي
>صلى
الله عليه وآله<
بأبي طالب وقومه، ولم يجرؤوا على أن ينالوه بسوء في شعره وبشره.
وكذلك الحال بالنسبة إلى من أسلم من بني هاشم، حيث لم
يعذب جعفر، ولا علي ولا غيرهما، وذلك لمكان أبي طالب
>رحمه
الله<،
كما قلنا،
وأيضاً فإن كلمة المؤرخين تكاد تكون متفقة على أن أول شهيد في الإسلام
كان سمية وزوجها.
أضف إلى ذلك:
أن كل ما يقال في كيفية إعلانه بالدعوة يتنافى ويتناقض
مع ما ذكروه هنا (راجع ما تقدم تحت عنوان: فاصدع بما تؤمر).
والذي يمكن أن نفهمه:
هو أنه ربما
يكون الهدف من وضع هذه القضية هو أن يثبتوا أن خديجة قد تزوجت قبل
النبي >صلى
الله عليه وآله<
برجل أو أكثر، وولد لها منهما.
وقد تقدم ما يوجب الشك في ذلك، حين الكلام على زواجها
بالرسول الأعظم
>صلى الله
عليه وآله<.
وعذب عمار أيضاً عذاباً شديداً من قبل بني مخزوم، حتى
أكره على التفوُّه بما يعجب المشركين، فتركوه؛ فأتى النبي
>صلى
الله عليه وآله<
باكياً، وقال له: لم أُترك يا رسول الله، وقد أكرهوني حتى نلت منك،
وذكرت آلهتهم بخير،
فقال له النبي >صلى
الله عليه وآله<:
كيف تجد قلبك يا عمار؟
قال:
إنه مطمئن
بالإيمان يا رسول الله قال:
>لا عليك،
فإن عادوا إليك فعد لما يريدون؛ فقد أنزل الله فيك:
{إِلاَّ
مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}<([50]).
ونقول:
1 ـ
إن ما جرى لعمار ونزول الآية فيه دليل على مشروعية التقية، إذا خاف
الإنسان على نفسه وماله.
وقد صرحوا بجواز التقية وإظهار الموالاة حتى للكفار،
إذا خيف على النفس التلف، أو تلف بعض الأعضاء، أو خيف من ضرر كبير يلحق
الإنسان في نفسه([51]).
بل لقد قال محمد بن عقيل:
>التقية
مما أجمع المسلمون على جوازه، وإن اختلفت تسميتهم لها، فسماها بعضهم
بالكذب لأجل الضرورة أو المصلحة، وقد عمل بها الصالحون، فهي من دين
المتقين الأبرار،
وعكس القول فيها كذب ظاهر<([52]).
2 ـ
ويدل على ذلك أيضاً قوله تعالى:
{..وَمَن
يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ الله فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ
مِنْهُمْ تُقَاةً}([53]).
3 ـ
قال تعالى:
{إِنَّ
الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلآئِكَةُ ظَالِمِي أَنْفُسِهِمْ قَالُواْ
فِيمَ كُنتُمْ قَالُواْ كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الأَرْضِ..}([54])
إلى قوله:
{..
وَاجْعَل لَّنَا مِن لَّدُنكَ نَصِيراً}([55]).
قال البخاري:
>فعذر
الله المستضعفين الذين لا يمتنعون من ترك ما أمر الله، والمكره لا يكون
إلا مستضعفاً غير ممتنع من فعل ما أمر به<([56]).
الآية موجودة كما في سورة النساء الآية 97 ولكن الفقرة
الأخيرة غير موجودة فيها ولا في الآيات بعدها لكن البخاري قد ذكرها
كذلك. فذكرناها حسبما هي فيه رعايةً لأمانة النقل عنه.
4 ـ
وقال تعالى: {وَقَالَ
رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ
أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ الله..}([57]).
والقول بأن هذه الآية قد نسخت لا مثبت له، بل لقد روي
عن الإمام الباقر
>عليه
السلام<
ما يدل على خلاف ذلك، فقد روى الكليني عن عبد الله بن سليمان، قال:
>سمعت
أبا جعفر >عليه
السلام<
يقول ـ وعنده رجل من أهل البصرة، يقال له: عثمان الأعمى، وهو يقول: إن
الحسن البصري يزعم: أن الذين يكتمون العلم يؤذي ريح بطونهم أهل النار.
فقال أبو جعفر
>عليه
السلام<:
فهلك إذاً مؤمن من آل فرعون، ما زال العلم مكتوماً منذ بعث الله نوحاً
>عليه
السلام<؛
فليذهب الحسن يميناً
وشمالاً؛
فوالله ما يوجد العلم إلا ههنا<([58]).
فاستدلال الإمام
>عليه
السلام<
بالآية يدل على أن عدم كونها منسوخة كان متسالماً عليه
لدى العلماء آنئذٍ.
1 ـ
عن أبي ذر، عنه >صلى
الله عليه وآله<:
ستكون عليكم أئمة يميتون الصلاة، فإن أدركتموهم فصلوا الصلاة لوقتها،
واجعلوا صلاتكم معهم نافلة([59])
وثمة حديث آخر بهذا المعنى فليراجع([60]).
2 ـ ما جاء: أن مسيلمة الكذاب أتي برجلين، فقال
لأحدهما: تعلم أني رسول الله؟ قال بل محمد رسول الله،
فقتله.
وقال للآخر ذلك، فقال:
أنت ومحمد رسول الله؛ فخلى سبيله،
فبلغ ذلك رسول الله
>صلى
الله عليه وآله<،
فقال: أما الأول فمضى على عزمه ويقينه،
وأما الآخر، فأخذ برخصة الله فلا تبعة عليه([61]).
3 ـ
ما رواه السهمي عنه
>صلى
الله عليه وآله<:
لا دين لمن لا ثقة له([62]).
وهو تصحيف على الظاهر، والصحيح:
>لا
تقية<
كما يدل عليه ما رواه شيعة أهل البيت عنهم
>عليهم
السلام<([63]).
4 ـ
قصة عمار بن ياسر المعروفة، وقول النبي
>صلى الله
عليه وآله<
له: إن عادوا فعد،
وهي مروية في مختلف كتب الحديث والتفسير.
وفي هذه المناسبة نزل قوله تعالى:
{مَن
كَفَرَ بالله مِن بَعْدِ إيمَانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ
مُطْمَئِنٌّ بِالإِيمَانِ}<([64]).
5 ـ
إستعمال النبي >صلى
الله عليه وآله<
نفسه للتقية، حيث بقي ثلاث أو خمس سنوات يدعو إلى الله سراً، وهذا مجمع
عليه، ولا يرتاب فيه أحد، وإن كنا قد ذكرنا: أن الحقيقة ليست هي ذلك.
6 ـ
إن الإسلام يخيّر
الكفار في ظروف معينة بين الإسلام والجزية، والسيف.
وواضح:
أن ذلك إغراء بالتقية، لأن دخولهم في الإسلام في ظروف كهذه لن يكون إلا
لحقن دمائهم، وليس عن قناعة راسخة،
وهذا نظير قبول المنافقين في المجتمع الإسلامي، وتآلفهم على الإسلام،
على أمل أن يتفاعلوا مع هذا الدين، ويستقر الإيمان في قلوبهم.
7 ـ
وحين فتح خيبر قال حجاج بن علاط للنبي
>صلى الله
عليه وآله<:
إن لي بمكة مالاً وإن لي أهلاً وإني أريد أن آتيهم فأنا في حل إن أنا
نلت منك وقلت شيئاً؟! فأذن له رسول الله أن يقول ما شاء([65]).
فنذكر على سبيل المثال:
1 ـ
إن رجلاً سأل ابن عمر فقال:
>أدفع
الزكاة إلى الأمراء؟
فقال ابن عمر:
ضعها في الفقراء والمساكين.
قال:
فقال لي
الحسن: ألم أقل لك: إن ابن عمر إذا أمن الرجل قال: ضعها في الفقراء
والمساكين<؟([66]).
2 ـ
وقد ادَّعوا:
أن أنس بن مالك قد روى حديث القنوت قبل الركوع تقية من بعض أمراء عصره([67]).
3 ـ
وحين شاور العباس بن الحسن كتّابه وخواصه فيمن يولون الخلافة بعد موت
المكتفي، أشار عليه ابن الفرات بأن ينفرد بكل واحد منهم فيعرف رأيه وما
عنده >فأما
أن يقول كل واحد رأيه بحضرة الباقين فربما كان عنده ما يسلك سبيل
التقية في كتمانه وطيّه،
قال: صدقت،
ثم فعل ما أشار به عليه<([68]).
4 ـ
تقية النبي >صلى
الله عليه وآله<
والحمزة في بيعة العقبة،
وستأتي نصوصها في فصل مستقل.
5 ـ
عن أيوب قال: ما سألت الحسن عن شيء قط ما سألته عنها (أي عن الزكاة).
قال:
فيقول لي مرة: أدها إليهم.
ويقول لي مرة:
لا تؤدها إليهم([69])
أي للأمراء.
إلا أن يقال:
إن هذا التردد من الحسن، إنما هو لأجل عدم وضوح الحكم الشرعي له،
جوازاً أو منعاً.
6 ـ
وفي خطبة لمحمد بن الحنفية: لا تفارق الأمة، اتق هؤلاء القوم (يعني
الأمويين) بتقيتهم،
ولا تقاتل معهم.
قال:
قلت: وما تقيتهم؟
قال:
تحضرهم وجهك عند دعوتهم؛ فيدفع الله بذلك عنك، وعن دمك ودينك وتصيب من
مال الله الذي أنت أحق به([70]).
7 ـ
استفتي مالك بالخروج مع محمد بن عبد الله بن الحسن، وقيل له: في
أعناقنا بيعة لأبي جعفر المنصور.
فقال:
إنما بايعتم مكرهين،
وليس على مكره يمين([71]).
8 ـ
ونقل القرطبي، عن الشافعي، والكوفيين: القول بالتقية عند الخوف من
القتل، وقال: >أجمع
أهل العلم على ذلك<([72]).
9 ـ
عن حذيفة قال: كنا مع رسول الله
>صلى
الله عليه وآله<
فقال: أحصوا لي كم يلفظ الإسلام.
قال:
فقلنا: يا رسول الله، أتخاف علينا ونحن ما بين الستمائة إلى السبعمائة؟
قال:
إنكم لا تدرون لعلكم أن تبتلوا.
قال:
فابتلينا حتى جعل الرجل منا لا يصلي إلا سراً([73]).
وحذيفة قد مات بعد البيعة لعلي
>عليه
السلام<
بأربعين يوماً، فهذا النص يدل على أن الناس المؤمنين كانوا قبل ذلك
يعيشون في ضغط شديد، وأن الذين يسيطرون على الشارع هم الناس الذين
كانوا يحقدون على الدين والمتدينين، ويهزؤون ويحاربون كل شيء يمت إلى
الدين بصلة.
10 ـ
لقد اتقى عامة أهل الحديث، وكبار العلماء وأجابوا إلى القول بخلق
القرآن، وهم يعتقدون بقدمه، ولم يمتنع منهم إلا أحمد بن حنبل، ومحمد بن
نوح([74])،
وحتى أحمد؛ فإنه قد تاقى في ذلك، فكان إذا وصل إلى المخنق قال: ليس أنا
بمتكلم.
كما أنه حين قال له الوالي:
ما تقول في القرآن؟ أجاب:
هو كلام الله، قال: أمخلوق هو؟
قال:
هو كلام الله لا أزيد عليها([75]).
بل قال اليعقوبي:
إنه لما سئل أحمد عن ذلك قال:
>أنا
رجل علمت علماً ولم أعلم فيه بهذا.
وبعد المناظرة وضربه عدة سياط، عاد إليه إسحاق بن
إبراهيم فناظره، قال له: فيبقى عليك شيء لم تعلمه؟
قال:
بقي علي.
قال:
فهذا مما لم
تعلمه؛ وقد علّمكه أمير المؤمنين؟
قال:
فإني أقول
بقول أمير المؤمنين.
قال:
في خلق القرآن؟
قال:
في خلق القرآن.
قال:
فأشهد عليه، وخلع عليه، وأطلقه إلى منزله([76]).
مع أنه هو نفسه يقول:
إن من قال: القرآن كلام الله، ووقف؛ فهو من الواقفة الملعونة([77]).
وقد عمل ابن الزبير بالتقية في مواجهة الخوارج([78]).
واتقى أيضاً الشعبي ومطرف بن عبد الله من الحجاج.
واتقى عرباض بن سارية ومؤمن الطاق من الخوارج وصعصعة بن
صوحان من معاوية([79]).
وممن استعمل التقية في قضية خلق القرآن إسماعيل بن
حماد، وابن المديني، وكان ابن المديني يلزم مجلس القاضي أبي دؤاد
المعتزلي، ويقتدي به في الصلاة، ويجانب أحمد بن حنبل وأصحابه([80]).
11 ـ
ويقولون: إن إبراهيم
>عليه
السلام<
عندما سأله ذلك الحاكم الجبار عن امرأته قال:
>هذه
أختي<
وذلك في الله([81])
فراجع.
12 ـ
وعن عبيد الله بن معاذ العنبري، عن أبيه قال:
>كتبت
إلى شعبة أسأله عن أبي شيبة، قاضي واسط، فكتب إلي: لا تكتب عنه، ومزق
كتابي<([82]).
13 ـ
وقد عمل صعصعة بالتقية في خطبته في قصة خروج المستورد أيام معاوية([83]).
14 ـ
وفي غارة بسر بن أبي أرطاة على المدينة، وشكوى جابر بن عبد الله
الأنصاري لأم سلمة زوج النبي: أنه خشي أن يقتل، وهذه بيعة ضلال، قالت:
إذن، فبايع؛ فإن التقية حملت أصحاب الكهف على أن كانوا يلبسون الصلب
ويحضرون الأعياد مع قومهم([84]).
15 ـ
وقد خطب الإمام الحسين
>عليه
السلام<
مؤبناً أخاه الحسن السبط
>عليه
السلام<
حينما توفي، فكان مما تمدحه به: أنه قد آثر الله عند مداحض الباطل، في
مكان التقية بحسن الروية([85]).
16 ـ
والإمام الحسين >عليه
السلام<
لم يستجب لأهل الكوفة حينما طلبوا منه القيام ضد معاوية بعد سم الإمام
الحسن >عليه
السلام<،
وله موقف آخر >عليه
السلام<
يؤيد فيه موقف أخيه القاضي بعدم الثورة على معاوية ما دام حياً. فراجع([86]).
17 ـ
قال الحسن (البصري): التقية إلى يوم القيامة([87]).
18 ـ
وقال البخاري: >وقال
ابن عباس: في من يكرهه اللصوص، فيطلق، ليس بشيء،
وبه قال ابن عمر، وابن الزبير، والشعبي، والحسن<([88]).
19 ـ
وقال البخاري أيضاً:
>يمين
الرجل لصاحبه: أنه أخوه، إذا خاف عليه القتل أو نحوه، وكذلك كل مكروه
يخاف، فإنه يذب عنه الظالم، ويقاتل دونه ولا يخذله، وإن قاتل دون
المظلوم فلا قود عليه ولا قصاص.
وإن قيل له:
لتشربن الخمر، أو لتأكلن الميتة، أو لتبيعن عبدك، أو تقر بدَيْن، أو
تهب هبة أو تحل عقدة، أو لتقتلن أباك، أو أخاك في الإسلام وسعه ذلك..
إلى أن قال:
قال النخعي:
إذا كان المستحلف ظالماً
فنيّة الحالف، وإن كان مظلوماً؛
فنية المستحلف<([89]).
ولا بأس بمراجعة الشروح على صحيح البخاري على كتاب
الإكراه، ففيها توضيحات ومطالب مفيدة في هذا المجال([90]).
20 ـ
حتى المغيرة
بن شعبة فإنه يدعي أنه في عيبه علياً يعمل بالتقية فهو يقول لصعصعة:
>هذا
السلطان قد ظهر، وقد أخذنا بإظهار عيبه للناس، فنحن ندع كثيراً مما
أمرنا به، ونذكر الشيء الذي لا نجد منه بداً ندفع به هؤلاء القوم عن
أنفسنا تقية فإن كنت ذاكراً فضله فاذكره بينك وبين أصحابك وفي منازلكم
سراً الخ..([91]).
21 ـ
وفي حرب الجمل حمل محمد بن الحنفية على رجل من أهل البصرة، قال: فلما
غشيته قال: أنا على دين أبي طالب فلما عرفت الذي أراد كففت عنه([92]).
23 ـ
ويقول ابن سلام: إن رسول الله
>صلى
الله عليه وآله<
أمره أن يصلي الصلاة لوقتها ثم يصلي مع الأمراء الذين يؤخرون الصلاة
نافلة([93]).
24 ـ
وقد صرح الخدري بأنه يعمل بالتقية في ما يرتبط بموقفه من علي
>عليه
السلام<
ليحقن دمه من بني أمية واستدل بآية ادفع بالتي هي أحسن السيئة([94]).
وقد ذكرت في الصراط المستقيم للبياضي ج 3 ص 72 و73
موارد عديدة أخرى فراجع.
التقية ضرورة
فطرية عقلية دينية
إصلاحية:
إن تشريع التقية لهو خير دليل على شمولية الإسلام
ومرونته، واتساعه لكل الظروف والأحوال،
إذ لو كانت الرسالة جافة وقاسية، ولا تلاحظ الظروف الطارئة، والأحوال
العارضة، فلا بد أن تصطدم مع الواقع، وتنهار أمامه، دون أن تتمكن من
تجاوزه في حركتها الإصلاحية والتكاملية.
فهو بتشريعه للتقية، إنما يحافظ على الرسالة من خلال
حفاظه على رائدها، وحافظها، وحاملها في ذلك الظرف العصيب.
وخير شاهد على ذلك هو تلك الفترة التي مر بها النبي
>صلى
الله عليه وآله<
والمسلمون في أول البعثة حيث كانوا يتحاشون فيها الصدام مع المشركين.
وإن المحافظة على حامل الرسالة من خلال مرونة الرسالة،
تكون ضرورية جداً حينما لا يكون للتضحية به فائدة، ولا عائدة.
إن لم يكن في ذلك ضرر على الرسالة نفسها حينما تفقد
جندياً
أميناً من جنودها، ربما تكون في وقت
كانت
بأمس الحاجة إليه.
فكثيراً ما يكون الحفاظ على الإسلام من خلال الحفاظ على
جنوده الأبرار الأوفياء،
والذين يكونون دائماً على استعداد للتضحية في سبيله كلما اقتضى الأمر
ذلك.
فالتقية إنما شرعت للحفاظ على هؤلاء.
أما الآخرون، الذين لا يفكرون إلا في أنفسهم، فلا
ينفعهم تشريع التقية، ولا عدمه.
ومما يدلنا على أن تشريع التقية إنما هو للحفاظ على
الرسالة من خلال الحفاظ على جنودها، وليس ذلك نفاقاً، ولا انهزاماً،
لأن هؤلاء المخلصين الذين يراد الحفاظ عليهم هم دائماً على استعداد
للبذل والعطاء:
أن
الإمام الحسين >عليه
السلام<
الساكت في زمان معاوية هو نفسه الحسين الثائر على يزيد، تحت شعار:
إن كــان
ديـن محـمـد لــم يستقم إلا بـقـتـلي يــا سـيـوف خـذيني
فسكوته هناك كان حفاظاً على الدين والحق؛ تماماً كما
كانت ثورته هنا حفاظاً على الحق والدين،
وقد تكلمنا على هذه النقطة في حلف الفضول.
ولأجل ذلك نجد:
أنه إذا توقف الحفاظ على الحق على الفداء والتضحية؛ فإن الإسلام يأمر
به، ولا يتسامح مع من يمتنع عنه.
وأيضاً، فلو كان في الإسلام جفاف وقسوة؛ فربما يبعث ذلك
الكثيرين على التخلي عنه، أو بالأحرى على عدم الإقدام عليه.
ولسوف يأتي في إسلام وحشي وغيره:
أن البعض كان يسلم؛ لأنه يعرف أن محمداً لا يقتل أصحابه.
فمرونة الإسلام هذه هي التي أعطته قوة الدفع هذه،
ومكنته من أن يشق طريقه رغم كل التحديات الكبيرة، والمصاعب الخطيرة،
التي واجهته عبر التاريخ.
وواضح:
أن مرونة الإسلام هذه لا يجوز أن تفسر على أنها نوع من
التساهل في الأحكام؛ ليهون على البعض اعتناق الإسلام، بل هي من قبيل
الحفاظ على الإسلام والمسلمين، حيث لا ضرر على المبدأ والرسالة، وحيث
يكون في عدم التقية هدر للطاقات والإمكانات، حيث لا جدوى من هدرها.
وليكن ذلك هو الفرق بين التقية وبين النفاق الذي يحلو
للبعض أن يَنْبزَ
به ـ ظلماً وعدواناً ـ من يعتقد بمشروعية التقية.
وقد رأينا:
أنه
>صلى
الله عليه وآله<،
حينما جاءته بعض القبائل وهي قبيلة ثقيف، وطلبوا منه أن يعطيهم فرصة
لعبادة أصنامهم، وأن لا يفرض عليهم الصلاة لأنها صعبة عليهم، وأن لا
يكسروا صنمهم بيدهم، نرى أنه
>صلى
الله عليه وآله<
قبل بهذا الأخير، ورفض الأولين([95]).
كما أنهم قد طلبوا منه أن يسمح لهم بالزنى، وشرب الخمر،
والربا، وترك الصلاة([96]).
نعم فرفض ذلك، ولم يأخذ بنظر الاعتبار أن هذه قبيلة
تريد أن تسلم، فيتقوى بها الإسلام، ويضعف بذلك جانب أعدائه ومناوئيه،
وهي في خلال هذه السنة تكون قد تعرفت على الإسلام وتدربت عليه.
نعم، لقد رفض السماح لها بعبادة صنمها، الذي عبدته
عشرات الأعوام، ولو لمدة سنة واحدة أيضاً.
بل هو يرفضه ولو كان لساعة واحدة، لأنه لا يريد أن
يستفيد من أية وسيلة من أجل الوصول إلى أهدافه، لأنه يعتبر الوسيلة
جزءً من الهدف، ومنه تستمد قدسيتها، كما سبق.
ولكنه في مقابل ذلك:
لو أساء إليه أحد الناس مثلاً؛ فإنه على استعداد لأن يعفو عنه، ولكن
شرط: أن يعرف المعفو عنه أنه قد أذنب، وأن هذا عفو عنه، أما إذا فهم من
ذلك مشروعية الأمر الذي ارتكبه، فإن ذلك العفو يكون مرفوضاً
جملة وتفصيلاً.
([1])
الآيتان 94 و95 من سورة الحجر.
([2])
راجع: تفسير نور الثقلين ج3 ص34 عن تفسير القمي.
([3])
الآية 46 من سورة سبأ.
([4])
الآية 1 من سورة المسد.
هذا الحديث يرويه المفسرون ورواه السيوطي في الدر المنثور،
وكذلك المؤرخون من غير الشيعة حين الحديث عن إنذار عشيرته
الأقربين، ولكن قد بينا: أن المقصود ليس هو مطلق عشيرته في
الآية بل عشيرته الأقربون ليس إلا؛ فالرواية تناسب قوله تعالى:
{فَاصْدَعْ
بِمَا تُؤْمَرُ}
فقط.
([5])
راجع: سيرة ابن هشام ج1 ص282 ـ 286، والبدء والتاريخ ج4 ص147
و149 وتاريخ الطبري ج2 ص65 ـ 68.
([6])
الأعلاق النفيسة: ص217، والحيس: هو تمر ينزع نواه ويدق مع أقط
ويعجنان بالسمن ثم يدلك باليد حتى يبقى كالثريد. مجمع البحرين:
ج4 ص64.
([7])
الآية 57 من سورة القصص.
([8])
الآية 57 من سورة القصص.
([9])
ويرى بعض المحققين: أن من المحتمل: أن أبا طالب كان يستعمل
أسلوب اللين تارة والشدة أخرى؛ بهدف إثارة حرب كهذه، تهدف إلى
تمكين النبي من نشر دعوته، كما أشير إليه.
([10])
الآية 26 من سورة الأنعام.
([11])
الآية 26 من سورة فصلت.
([12])
الكافي: ج1 ص449 نشر مكتبة الصدوق، ومنية الراغب: ص75. وراجع:
الغدير: ج7 ص359 و388 وج8 ص4، وأبوطالب مؤمن قريش: ص73 عن
مصادر كثيرة.
([13])
راجع: السيرة الحلبية: ج1 ص291 و292، والسيرة النبوية لدحلان
(بهامش الحلبية): ج1 ص208 و202 و231.
([14])
راجع: البداية والنهاية: ج3 ص134.
([15])
تاريخ الطبري: ج2 ص68.
([16])
سيرة ابن هشام: ج1 ص341، والسيرة الحلبية: ج1 ص300، وراجع:
السيرة النبوية لابن كثير: ج1 ص493، والمحبر: ص184.
([17])
راجع: شرح النهج للمعتزلي: ج13 ص273، وقاموس الرجال: ج5 ص196
وج2 ص238.
([18])
المناقب لابن شهرآشوب: ج1 ص171.
([19])
راجع ما تقدم في: السيرة الحلبية: ج1 ص298 و299، وقاموس
الرجال: ج1 ص216، وسير أعلام النبلاء: ج1 ص353، والسيرة
النبوبة لابن هشام: ج1 ص340، وحلية الأولياء: ج1 ص148، وغير
ذلك كثير.
([20])
الآيات 5 إلى 7 من سورة الليل.
([21])
الدر المنثور ج6 ص358 ـ 390 عن عدد من المصادر والسيرة الحلبية
ج1 ص299، وشرح النهج للمعتزلي ج13 ص273 عن الجاحظ والعثمانية
ص35.
([22])
شرح النهج ج13 ص273.
([23])
الآية 19 من سورة الليل.
([24])
السيرة الحلبية ج1 ص299.
([25])
المصدر السابقالدر المنثور
ج6 ص357 عن ابن أبي حاتم عن ابن عباس، وتفسير البرهان ج4 ص470
عن علي بن إبراهيم، باختلاف مع ما عن الدر المنثور. وستأتي
بقية المصادر في حرب أحد في فصل: قبل نشوب الحرب، حين الكلام
حول إرجاع الصغار، والريب فيما ينقل عن سمرة.
([27])
راجع: كتابنا حديث الإفك، وراجع أيضاً الجزء الثالث عشر من هذا
الكتاب.
([28])
طبقات ابن سعد: ج3 ص165.
([29])
تقدمت من المصادر لذلك في الجزء السابق من هذا الكتاب في آخر
فصل: بحوث تسبق السيرة.
([30])
تهذيب الأسماء واللغات: ج1 ص136.
([31])
السيرة النبوية لدحلان: ج1 ص126، والسيرة الحلبية: ج1 ص299،
وراجع: المصنف: ج1 ص234 وغيره.
([32])
طبقات ابن سعد: ج3 ص170.
([33])
السيرة النبوية لدحلان: ج1 ص126، والسيرة الحلبية: ج1 ص299،
وراجع المصنف للصنعاني ج1 ص234، وغيره.
([34])
الروض الأنف ج2 ص78.
([35])
سيرة المصطفى ص149.
([36])
راجع في ذلك: العثمانية للجاحظ ص27 و28، وشرح النهج للمعتزلي
ج13 ص253، وسيرة ابن هشام ج1 ص301، ونسب قريش لمصعب الزبيري
ص230، والبداية والنهاية ج3 ص29، والبيهقي، ومستدرك الحاكم ج3
ص369 والبدء والتاريخ ج5 ص82 .
([37])
البداية والنهاية ج3 ص28، ومستدرك الحاكم ج3 ص284، وصححه هو
والذهبي في تلخيصه بهامشه، وحلية الأولياء ج1 ص149، والاستيعاب
ج1 ص141 وأحمد، وابن ماجة، والسيرة النبوية لدحلان ج1 ص126،
والسيرة النبوية لابن كثير ج1 ص436 وعن كنز العمال ج7 ص14 عن
ابن أبي شيبة، والطبقات الكبرى لابن سعد ط صادر ج3 ص233.
([38])
شرح النهج للمعتزلي ج13 ص255.
([39])
راجع: شرح النهج للمعتزلي ج13 ص255، والسيرة النبوية لدحلان ج1
ص123، والسيرة الحلبية ج1 ص273.
([40])
السيرة النبوية لابن كثير ج1 ص433، والبداية والنهاية ج3 ص26.
([41])
سيرة ابن هشام ج1 ص267 والسيرة النبوية لابن كثير ص437.
([42])
السيرة الحلبية ج1 ص301 وسيأتي العديد من المصادر لذلك حين
الكلام عن هجرة أبي بكر إن شاء الله.
([43])
راجع: النزاع والتخاصم للمقريزي ص19 والغدير ج3 ص353 عنه.
([44])
راجع المصنف لعبد الرزاق ج5 ص451، ومستدرك الحاكم ج3 ص78، عن
ابن عساكر، وأبي أحمد الدهقان، وراجع الكامل لابن الأثير ج2
ص326، وتاريخ الطبري ج2 ص944. والنزاع والتخاصم: ص19، وكنز
العمال: ج5 ص383 و385، عن ابن عساكر وعن أبي أحمد الدهقان في
حديثه.
([45])
أنساب الأشراف للبلاذري
(قسم حياة النبي
>صلى
الله عليه وآله<)
ص588.
([46])
طبقات الشعراء لابن سلام ص38.
([47])
السيرة النبوية لابن كثير ج1 ص439 و449 والبداية والنهاية ج3
ص30، وتاريخ الخميس ج1 ص294 والغدير ج7 ص322 عنه وعن الرياض
النضرة ج1 ص46.
([48])
الاستيعاب هامش الإصابة ج4 ص331 و330 و333، والإصابة ج4 ص335
و334 والسيرة النبوية لابن كثير ج1 ص495، وأسد الغابة ج5 ص481،
وتاريخ اليعقوبي ج2 ص28.
([49])
نور القبس ص275 عن الشرقي ابن القطامي، والإصابة ج1 ص293 عن
الكلبي، وابن حزم وعن العسكري والأوائل ج1 ص311 و312.
([50])
راجع: حلية الأولياء ج1
ص140 وتفسير الطبري ج4 ص112 وتفسير النيسابوري بهامشه وغير ذلك
كثير جداً.
([51])
راجع على سبيل المثال: أحكام القرآن للجصاص ج2 ص9.
([52])
تقوية الإيمان ص38.
([53])
الآية 28 من سورة آل عمران.
([54])
الآية 97 من سورة النساء.
([55])
الآية 75 من سورة النساء.
([56])
صحيح البخاري ط الميمنية ج4 ص128.
([57])
الآية 28 من سورة غافر.
([58])
الكافي (الأصول) ج2 ص40 و41 منشورات المكتبة الإسلامية،
والوسائل ج18 ص8.
([59])
مسند أحمد ج5 ص159.
([60])
مسند أحمد ج5 ص160و168.
([61])
محاضرات الأدباء للراغب الأصفهاني: ج4 ص408 ـ 409 وأحكام
القرآن للجصاص ج2 ص10 وسعد السعود ص137.
([62])
تاريخ جرجان: ص201.
([63])
راجع: الكافي (الأصول): ج2 ص217 ط الآخندي، ووسائل الشيعة: ج11
ص465. وراجع: ميزان الحكمة: ج10 ص666 و667.
([64])
راجع: فتح الباري: ج12 ص277 ـ 278.
([65])
دراسات في الكافي والصحيح ص338 عن السيرة الحلبية.
([66])
المصنف للصنعاني ج4 ص48.
([67])
راجع: المحلى ج4 ص141.
([68])
الوزراء للصابي ص130.
([70])
طبقات ابن سعد ج5 ص70.
([71])
مقاتل الطالبيين ص283، والطبري ط أورپا ج3 ص200.
([72])
تفسير القرطبي ج10 ص181.
([73])
صحيح مسلم: ج1 ص91، وصحيح البخاري ط سنة 1309 ه. ق: ج2 ص116
ومسند أحمد ج5 ص384.
([74])
تجارب الأمم المطبوع مع العيون والحدائق ص465.
([75])
تاريخ الطبري ج7 ص201 وراجع: آثار الجاحظ ص274، ومذكرات
الرماني ص47.
([76])
تاريخ اليعقوبي ج2 ص472.
([77])
بحوث مع أهل السنة والسلفية ص183 و184 عن: الرد على الجهمية
لابن حنبل في كتاب الدومي ص82.
([78])
راجع العقد الفريد لابن عبد ربه ج2 ص393.
([79])
العقد الفريد ج2 ص464 ـ 465.
([80])
راجع لسان الميزان ج1 ص339 ـ 400 متناً وهامشاً.
([81])
صحيح البخاري ط الميمنية: ج4 ص129 ومسند أحمد ج2 ص403 وأخرجه
أبوداود والترمذي، وقصص الأنبياء للنجار: ص98 ـ 99 ومسند أبي
يعلى ج10 ص427.
([82])
صحيح مسلم: ج1 ص18 ومعرفة علوم الحديث ص136.
([83])
راجع: بهج الصباغة: ج7 ص121.
([84])
تاريخ اليعقوبي: ج2 ص198.
([85])
راجع: تهذيب تاريخ دمشق: ج4 ص230 وعيون الأخبار لابن قتيبة: ج2
ص314، وحياة الإمام الحسن
>عليه
السلام<
للقرشي: ج1 ص439.
([86])
راجع: الأخبار الطوال ص220 و221 و222.
([87])
صحيح البخاري (ط الميمنية) ج4 ص128.
([88])
صحيح البخاري ج4 ص128.
([90])
راجع: عمدة القاري ج24 ص95 ـ 108، وفتح الباري ج12 ص277 ـ 289،
وإرشاد الساري ج10 ص93 ـ 102.
([91])
تاريخ
الأمم
والملوك ج4 ص12.
([92])
الطبقات الكبرى لابن سعد ج5 ص67.
([93])
تهذيب تاريخ دمشق ج6 ص205.
([94])
سليم بن قيس ص53، مؤسسة البعثة ـ قم ـ إيران.
([95])
تاريخ الخميس: ج2 ص135، والسيرة النبوية لدحلان (مطبوع بهامش
الحلبية): ج3 ص11، والكامل في التاريخ: ج2 ص284، والسيرة
النبوية لابن كثير: ج4 ص55، والسيرة النبوية لابن هشام: ج4
ص184 و185، والبداية والنهاية: ج5 ص30، والمواهب اللدنية: ج1
ص236.
وبهذا
يلاحظ:
أن عمر بن الخطاب لم يكن موفقاً حين أصر على الاقتصاص من جبلة
بن الأيهم الذي دخل في الإسلام جديداً، وكان ملكاً في قومه،
ولم يتعرف بعد بعمق على عظمة وخصائص الإسلام ومميزاته الفريدة،
إذ قد كان عليه أن يراعي الموقف، ويحل المشكلة بأسلوب مرن آخر.
([96])
السير النبوية لدحلان (مطبوع بهامش الحلبية): ج3 ص11، والمواهب
اللدنية: ج1 ص236، وتاريخ الخميس: ج2 ص135 و136 و137. وراجع
بالنسبة لترك الصلاة المصادر التالية: الكامل في التاريخ: ج2
ص284، وكذا في السيرة النبوية لابن هشام: ج4 ص185، والسيرة
النبوية لابن كثير: ج4 ص56، والبداية والنهاية: ج5 ص30.
|