جــثــــة خــبــيـــــب
عمرو بن أمية وجثة خبيب:
ويقولون:
إن جثة خبيب قد أنزلت عن الخشبة في وقت لاحق. وتذكر
قضية إنزالها على أنحاء مختلفة،
فاقتضى الأمر إيراد النص المطول الذي ذكره كثير من المحدثين والمؤرخين،
ثم نعطي رأينا فيه، وفي سائر المنقولات في هذا المجال،
فنقول:
قال الطبري:
«ولما قتل من وجهه النبي «صلى الله عليه وآله» إلى عضل
والقارة من أهل الرجيع، وبلغ خبرهم رسول الله «صلى الله عليه وآله»،
بعث عمرو بن أمية الضمري إلى مكة، مع رجل من الأنصار، وأمرهما بقتل أبي
سفيان بن حرب، فحدثنا ابن حميد قال: حدثنا سلمة بن الفضل، قال: حدثني
محمد بن إسحاق عن جعفر بن الفضل بن الحسن بن عمرو بن أمية الضمري عن
أبيه، عن جده ـ يعني عمرو بن أمية ـ قال: قال عمرو بن أمية: بعثني رسول
الله «صلى الله عليه وآله» بعد قتل خبيب وأصحابه، وبعث معي رجلاً
من الأنصار، فقال: إئتيا أبا سفيان بن حرب,
فاقتلاه.
قال:
فخرجت أنا وصاحبي، ومعي بعير لي، وليس مع صاحبي بعير،
وبرجله علة؛ فكنت أحمله على بعيري، حتى جئنا بطن يأجج فعقلنا بعيرنا في
فناء شعب، فأسندنا فيه.
فقلت لصاحبي:
انطلق بنا إلى دار أبي سفيان؛ فإني محاول قتله؛ فانظر؛
فإن كانت مجادلة، أو خشيت شيئاً؛ فالحق ببعيرك، فاركبه، والحق
بالمدينة، فأت رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فأخبره الخبر، وخل عني،
فإني رجل عالم بالبلد جريء عليه، نجيب الساق.
فلما دخلنا
مكة، ومعي مثل خافية النسر ـ يعني: خنجره ـ قد أعددته، إن عانقني([1])
إنسان
قتلته به،
فقال لي صاحبي: هل لك أن نبدأ؛ فنطوف بالبيت أسبوعاً،
ونصلي ركعتين؟!
فقلت:
أنا أعلم بأهل مكة منك، إنهم إذا أظلموا رشوا أفنيتهم،
ثم جلسوا بها، وأنا أعرف بها من الفرس الأبلق.
قال:
فلم يزل بي حتى أتينا البيت؛ فطفنا به أسبوعاً،
وصلينا ركعتين ثم خرجنا، فمررنا بمجلس من مجالسهم، فعرفني رجل منهم؛
فصرخ بأعلى صوته: هذا عمرو بن أمية!
قال:
فتبادرتنا أهل مكة، وقالوا: تالله ما جاء بعمرو خير،
والذي يحلف به ما جاءنا قط إلا لشر.
وكان عمرو رجلاً
فاتكاً،
متشيطناً
في الجاهلية.
قال:
فقاموا في طلبي وطلب صاحبي، فقلت له: النجاء، هذا والله
الذي كنت أحذر، أما الرجل فليس إليه سبيل، فانج بنفسك.
فخرجنا نشتد، حتى أصعدنا في الجبل؛ فدخلنا في غار فبتنا
فيه ليلتنا، وأعجزناهم،
فرجعوا، وقد استترت دونهم بأحجار حين دخلت الغار، وقلت لصاحبي: أمهلني
حتى يسكن الطلب عنا؛ فإنهم والله ليطلبنّا ليلتهم هذه ويومهم هذا حتى
يمسوا.
قال:
فوالله، إني
لفيه إذ أقبل عثمان بن مالك بن عبيد الله التيمي، يتخيل([2])
بفرس له، فلم يزل يدنو ويتخيل بفرسه حتى قام علينا بباب الغار، قال:
فقلت لصاحبي: هذا والله ابن مالك، والله، لئن رآنا ليعلمن بنا أهل مكة.
قال:
فخرجت إليه؛ فوجأته بالخنجر تحت الثدي، فصاح صيحة أسمع
أهل مكة، فأقبلوا إليه، ورجعت إلى مكاني، فدخلت فيه وقلت لصاحبي:
مكانك.
قال:
واتَّبع
أهل مكة الصوت يشتدون، فوجدوه وبه رمق، فقالوا: ويلك، من ضربك؟
قال:
عمرو بن أمية، ثم مات، وما أدركوا ما يستطيع أن يخبرهم
بمكاننا؛ فقالوا: والله، لقد علمنا: أنه لم يأت لخير،
وشغلهم صاحبهم عن طلبنا؛ فاحتملوه.
ومكثنا في الغار يومين، حتى سكن عنا الطلب.
ثم خرجنا إلى التنعيم، فإذا خشبة خبيب؛ فقال لي صاحبي:
هل لك في خبيب تنزله عن خشبته؟!
فقلت:
أين هو؟
قال:
هو ذاك حيث ترى.
فقلت:
نعم؛ فأمهلني وتنح عني.
قال:
وحوله حرس يحرسونه.
قال عمرو بن أمية:
فقلت للأنصاري: إن خشيت شيئاً، فخذ الطريق إلى جملك، فاركبه، والحق
برسول الله «صلى الله عليه وآله»؛ فأخبره الخبر.
فاشتددت إلى خشبته، فاحتللته، واحتملته على ظهري؛
فوالله، ما مشيت إلا نحو أربعين ذراعاً
حتى نذروا بي، فطرحته؛ فما أنسى وجبته حين سقط؛ فاشتدوا في أثري، فأخذت
طريق الصفراء؛ فأعيوا، فرجعوا.
وانطلق صاحبي إلى بعيره؛ فركبه، ثم أتى النبي «صلى الله
عليه وآله»؛ فأخبره أمرنا.
وأقبلت أمشي،
حتى إذا أشرفت على الغليل، غليل ضجنان([3])
دخلت غاراً
فيه، ومعي قوسي وأسهمي؛ فبينا أنا فيه إذ دخل علي رجل من بني الديل بن
بكر، أعور طويل، يسوق غنماً
له، فقال: من الرجل؟
فقلت:
رجل من بني بكر.
قال:
وأنا من بني بكر، ثم أحد بني الديل.
ثم اضطجع معي فيه، فرفع عقيرته يتغنى، ويقول:
ولست بمـسلـم مـا دمـت حيــاً ولـسـت أديـن
ديـن المسـلـمـينـا
فقلت:
سوف تعلم! فلم يلبث الأعرابي أن نام، وغط؛ فقمت إليه
فقتلته أسوأ قتلة قتلها أحد أحداً، قمت إليه؛ فجعلت سية قوسي في عينه
الصحيحة، ثم تحاملت عليه، حتى أخرجتها من قفاه.
قال:
ثم أخرج مثل السبع، وأخذت المحجة كأني نسر، وكان النجاء
حتى أخرج على بلد قد وصفه، ثم على ركوبة، ثم على النقيع؛ فإذا رجلان من
أهل مكة بعثتهما قريش يتحسسان من أمر رسول الله «صلى الله عليه وآله»؛
فعرفتهما؛ فقلت: استأسرا.
فقالا:
أنحن نستأسر لك؟!
فأرمي أحدهما بسهم، فأقتله، ثم قلت للآخر: استأسر؛
فاستأسر فأوثقته، فقدمت به على رسول الله «صلى الله عليه وآله».
حدثنا ابن حميد، قال:
حدثنا سلمة، عن ابن إسحاق، عن سليمان بن وردان، عن
أبيه، عن عمرو بن أمية، قال: لما قدمت المدينة، مررت بمشيخة من
الأنصار، فقالوا: هذا والله عمرو بن أمية؛ فسمع الصبيان قولهم،
فاشتدوا إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» يخبرونه؛ وقد شددت إبهام
أسيري بوتر قوسي، فنظر النبي
إليه؛
فضحك حتى بدت نواجذه،
ثم سألني فأخبرته الخبر، فقال لي خيراً،
ودعا لي بخير([4]).
ولكن بعض النصوص الأخرى تقول:
إن النبي «صلى الله عليه وآله» قد أرسل الزبير والمقداد
في إنزال خبيب عن خشبته؛ فوصلا إلى التنعيم، فوجدا حوله أربعين رجلاً
نشاوى يحرسونه.
فأنزلاه، فحمله الزبير على فرسه وهو رطب، لم يتغير منه
شيء فنذر به المشركون
«وكانوا
سبعين حسب بعض المصادر»
فلما لحقوهم قذفه الزبير، فابتلعته الأرض، فسمي بليع الأرض، وعند
العيني قالا:
«فأنزلناه
فإذا هو رطب لم يتغير بعد أربعين يوماً،
ويده على جرحه وهو ينبض يسيل دماً
كالمسك».
وزاد في بعض المصادر:
«أنهما
قدما على النبي محمد «صلى الله عليه وآله» وجبرئيل
«عليه السلام»
عنده، فقال جبرئيل: يا محمد، إن الملائكة تباهي بهذين من أصحابك، فنزل
فيهما:
﴿وَمِنَ
النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ الله وَاللهُ
رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ﴾([5])»([6]).
وأضافت بعض المصادر:
أن الزبير قال للمشركين: ما جرأكم علينا يا معاشر قريش؟
ثم رفع العمامة عن رأسه، فقال:
أنا الزبير بن
العوام، وأمي صفية بنت عبد المطلب، وصاحبي المقداد بن الأسود، أسدان
رابضان يدافعان عن شبليهما؛ فإن شئتم ناضلتكم، وإن شئتم نازلتكم، وإن
شئتم انصرفتم. فانصرفوا إلى مكة([7]).
ونحن نشك في هذه الرواية وسابقتها، وشكنا هذا يستند إلى
الأمور التالية:
إن بينها وبين سائر الروايات والنصوص وكذلك سائر
الروايات فيما بينها تناقضات ظاهرة، ونحن نكتفي هنا بالإشارة إلى
الموارد التالية:
ألف:
بالنسبة
لتاريخ بعث عمرو بن أمية نجد: أن هذه الرواية تقول: إنه «صلى الله عليه
وآله» قد أرسل عمرواً وصاحبه لقتل أبي سفيان فور وصول نبأ قتل عضل
والقارة أصحاب الرجيع، أو بعد مقتل خبيب وأصحابه([8])
في السنة الرابعة([9])
بعد أربعين يوماً
من قتله([10]).
لكن البعض ذكر:
بعث عمرو بن أمية في السنة السادسة، بعد سرية كرز بن
جابر، وقبل الحديبية، وعطفها عليها بكلمة
«ثم»([11]).
وصرح البلاذري بقوله:
«سرية
عمرو بن أمية الضمري إلى مكة، في صفر سنة ثمان، أو شهر ربيع الأول،
وجهه رسول الله «صلى الله عليه وآله» لقتل أبي سفيان، فوجده قد نذر به،
فانصرف»([12]).
ولم يذكر حديثه مع جثة خبيب.
ب:
وبالنسبة
للأنصاري، الذي كان مع عمرو بن أمية، سماه البعض سلمة بن أسلم بن حريش([13]).
وسماه بعض آخر:
جبار بن صخر([14]).
وفي بعض المصادر:
خيار بن صخر([15])،
ويبدو أنه تصحيف.
ج:
بعض المصادر
يذكر: أنه لم يكن مع صاحبه بعير كما في الرواية المتقدمة وبعضها يقول:
فحبسا جمليهما بشعب من شعاب يأجج([16]).
د:
والذي رأى
عمرو بن أمية: هل هو معاوية بن أبي سفيان([17])
أو غيره كما قيل([18]).
هـ:
وتقول الرواية المتقدمة: فدخلنا على غار فبتنا فيه
ليلتنا، وأعجزناهم، فرجعوا وقد استترت دونهم بأحجار حين دخلت الغار.
وثمة نص آخر يقول:
فدخلت في غار، فتغيبت عنهم حتى أصبحت،
وباتوا يطلبوننا في الجبل وعمى الله عليهم طريق المدينة أن يهتدوا له([19]).
وفي نص آخر:
فخرجنا نشتد،
حتى أصعدنا في جبل، وخرجوا في طلبنا، حتى إذا علونا الجبل يئسوا منا،
فرجعنا فبتنا في كهف في الجبل([20]).
و:
والرواية المتقدمة تقول: إن مجيء عثمان بن مالك كان
بمجرد دخول الضمري إلى الغار، واستتاره بالأحجار.
ونص آخر يقول:
فلما كان ضحوة
الغد أقبل عثمان بن مالك إلخ..([21]).
ز:
والذي جاء يتخيل بفرسه، هل هو عثمان بن مالك بن عبيد
الله كما ذكرته الرواية المتقدمة؟
أو هو عبيد
الله بن مالك([22])
أو عبد الله بن مالك([23]).
ح:
وهل ضربه بالخنجر تحت الثدي، كما في الرواية المتقدمة،
أم أنه ضربه على يده؟([24]).
إلا أن يكون الراوي أو الكاتب قد صحف الكلام هنا، فبدل
أن يكتب ضربه على ثديه، كتب: ضرب على يده.
ط:
والرواية المتقدمة مفادها: أنه بمجرد أن رأى جثة خبيب
اشتد نحوها، واحتله وحمله على ظهره، فما مشى إلا نحو أربعين ذراعاً
حتى نذروا به.
وفي نص آخر:
أنه بعد أن
حمل خبيباً ومشى به استيقظوا([25])
الأمر الذي يدل على أنهم كانوا نائمين حينئذٍ.
لكن رواية أخرى تفيد:
أنهم خرجوا ليلاً
يريدون المدينة، فمروا بالذين يحرسون جثة خبيب، فقال أحدهم: ما رأيت
كالليلة أشبه بمشية عمرو بن أمية، فلما حاذى عمرو الخشبة شد عليها؛
فاحتملها، وخرج بها شداً
وخرجوا وراءه([26]).
ي:
الرواية المتقدمة تقول: إنه شد على الخشبة، فاحتمل
خبيباً عنها، ثم احتمله على ظهره، ومشى به.
والنص الآخر يقول:
إنه اقتلع
الخشبة نفسها بما عليها([27]).
ك:
والرواية المتقدمة تقول: إنه بمجرد أن نذروا به رمى
الجثة، على بعد نحو أربعين ذراعاً،
فاشتدوا في أثره.
والنص الآخر يقول:
إنه بقي يعدو والخشبة معه، وهم خلفه، حتى أتى جرفاً
بمهبط سيل يأجج، فرمى بالخشبة بالجرف([28]).
ل:
وفي الرواية المتقدمة: أنه مشى نحو أربعين ذراعاً،
فنذروا به.
وفي نص آخر:
ما مشيت إلا عشرين ذراعاً([29]).
وفي نص ثالث:
أنه حين حله
عن الخشبة وقع إلى الأرض، فانتبذ غير بعيد، ثم التفت فلم يره، كأنما
ابتلعته الأرض([30]).
م:
تقول رواية: إنه بقي حاملاً
الخشبة التي عليها خبيب، حتى رمى بها بمهبط مسيل يأجج بالجرف، فغيبه
الله عنهم، فلم يقدروا عليه([31]).
ورواية تقول:
إنه حين أهبط عن الخشبة لم ير له رمة ولا جسداً([32]).
وفصلت رواية ثالثة، فقالت:
إنه حين ألقاه عن الخشبة سمع وجبة خلفه، فالتفت فلم ير
شيئاً، كأنما ابتلعته الأرض،
زاد بعضهم قوله: فلم تر لخبيب رمة حتى الساعة([33]).
ولكن نصاً آخر يقول:
عن عمرو بن
أمية: فطرحت الخشبة: فما أنسى وجبتها، يعني صوتها، ثم أهلت التراب عليه
برجلي([34]).
هذا كله،
عدا عن دعوى ابتلاع الأرض له في حديث إنزال الزبير والمقداد له، وأنه
سمي بليع الأرض([35]).
ن:
والرواية المتقدمة تنص على:
أن عمرو بن أمية هو الذي أنزل جثة خبيب عن الخشبة.
بينما نجد نصوصاً
أخرى نسبت ذلك إلى الزبير والمقداد([36]).
وبعض الروايات
نسبت قضية إنزاله إلى خباب بن الأرت([37]).
س:
ونجد في بعض النصوص:
أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يرسل عمرو بن أمية، بل أسر في بئر
معونة فقدموا به مكة، فهو دفن خبيباً([38]).
وقد حاول البعض رفع هذا التنافي الأخير:
بأن النبي «صلى الله عليه وآله» قد أرسل الضمري أولاً، ثم أرسل الزبير
والمقداد؛ فحين أنزله عن الخشبة كانا حاضرين، فأخذه الزبير، فلما
لحقوهم قذفه الزبير، فابتلعته الأرض([39])
فصح نسبة ذلك إلى كل منهم.
ولكن هذا المتبرع بالجمع قد نسي:
النصوص التي يقول بعضها: إن عمرو بن أمية قد حمله حتى
أتى جرفاً
بمهبط مسيل يأجج، فرمى بالخشبة، فكأنما ابتلعته الأرض.
والنصوص التي تقول:
إنه بمجرد أن وقع إلى الأرض ابتعلته الأرض.
والنصوص التي تقول:
إن الأرض ابتلعته بعد عشرين ذراعاً،
أو أربعين.
والنصوص التي تقول:
إن عمرو بن أمية قد دفنه، وأنه أهال عليه التراب برجله.
إلى آخر ما تقدم مما لا مجال لإعادته.
هذا كله، عدا عن أن ابن أبي شيبة
يقول:
إنهما حين
حلاه من الخشبة التقمته الأرض([40])،
فالذي حله إذاً اثنان وليس رجلاً
واحداً.
ع:
وقد تقدم: أن عمرو بن أمية قد شد على الخشبة فاحتلها
وذهب بها.
لكن نصاً آخر يقول:
إنه احتمله بخدعة ليلاً،
فذهب به فدفنه([41]).
ف:
تقدم أن الرسول قد أرسل عمرو بن أمية لأجل قتل أبي
سفيان.
لكن نصاً آخر يقول:
إنه قد بعثه عيناً
على قريش،
فجاء إلى خشبة خبيب فحله عنها([42]).
وصرحت بعض المصادر:
أنه «صلى الله
عليه وآله» قد بعثه إلى خبيب لينزله عن الخشبة([43]).
هذا كله،
بالنسبة لطائفة من الموارد، التي تظهر فيها التناقضات في ما بين
الروايات والنصوص.
وأما بالنسبة لسائر الأمور التي نود الإشارة إليها هنا،
مما يدل على ضعف هذه الروايات وسقوطها، فإننا نشير إلى ما يلي:
قد ذكرت رواية إنزال الزبير
والمقداد لجثة خبيب:
أن آية:
﴿وَمِنَ
النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ الله..﴾
نزلت فيهما، وأن الملائكة تباهي بهما من بين أصحابه «صلى الله عليه
وآله».
ونقول:
1 ـ
إن ذلك ينافي قولهم المتقدم: إن آية الشراء قد نزلت في
خبيب وابن الدثنة، فكيف يقولون:
إنها قد نزلت في الزبير والمقداد؟
كما أنهم يقولون:
إنها قد نزلت في صهيب، وهو ينافي ما يذكرونه هنا أيضاً،
ودعوى تكرر نزول الآية لا تدفع التناقض في قصة خبيب هنا.
2 ـ
قد تقدم: أن آية الشراء قد نزلت في علي «عليه السلام»
حين مبيته على فراش رسول الله «صلى الله عليه وآله» وقد ذكرنا عشرات
المصادر لذلك؛ فلا نعيد.
1 ـ
قد صرحت الروايات المقدمة: أن عمرو بن أمية ورفيقيه قد
ذهبا إلى الكعبة للطواف والصلاة بعد حلول الظلام؛ فكيف رآه معاوية
وعرفه إذاً.
2 ـ
قد صرحت الروايات المتقدمة: أنهما قد ذهبا إلى جثة خبيب
ليلاً،
فكيف رآهما ذلك الرجل، وعرف مشية عمرو بن أمية بخصوصها؟
3 ـ
وبعد أن رآه ذلك الرجل وأخبر رفقاءه بوجود غريب حولهم،
كيف استطاع أن يقتلع الخشبة، أو أن يحل الجثة منها، وهم حولها
يحرسونها؟!
وإذا كانوا حينئذٍ نائمين فكيف رآه ذلك الرجل وعرف
مشيته؟
وحين كان راجعاً
إلى المدينة، ودخل الغار، وجاءه الراعي، كيف عرف أنه من بني بكر؟!
وهل مجرد وضع سية قوسه في عينه الصحيحة، وقتله بهذه
الصورة يعتبر أسوأ قتلة؟! أليس ثمة أشكال وأنحاء أخرى أسوأ من هذه
القتلة؟!
الحديث كله، وعند جميع المؤرخين، يدور حول جثة خبيب،
فأين ذهبت جثة زيد بن الدثنة؟!
ولماذا لم ينزلها الضمري، ولا الزبير والمقداد، ولا
ذكرها الرسول، ولا حرسها المشركون، ولا ابتلعتها الأرض ولا.. ولا
الخ..؟!
وصاحبه الذي لا رجلة له، ولم يكن يستطيع المشي، لماذا
لم يأخذه حراس خبيب؟!
ولماذا لحقوا فقط بعمرو نفسه دونه، ولماذا لا يثير
وجوده تساؤلهم؟
وإذا كان لا يستطيع المشي، فكيف استطاع أن ينجو من أهل
مكة، حينما صرح معاوية أو غيره يعلمهم بوجوده، وكيف استطاع أن يرتقي
الجبل وهو لا يستطيع المشي ولا يرتقيه أهل مكة وهم يستطيعون المشي؟!
إنهما حين خرجا من الكعبة لماذا مرا على مجلس من مجالس
قريش؟ ألم يكن بوسعهم تحاشي المرور على ذلك المجلس؟! لا سيما وأن
الظلام كان يسترهما عن العيون؟!
كيف قام عليهم عثمان التيمي على باب الغار، وهو على
فرسه ولم يرهم فيه؟! وكيف قتله على باب الغار، وجاء أهل مكة إلى صاحبهم
الذي كان ملقى على باب الغار، ولم ينظروا فيه، بل لم يفطنوا لوجوده؟!
وحين أخبرهم المقتول بقاتله، كيف لم يبحثوا عنه، وهو لا
بد أن يكون قريباً
منهم؟!
وكيف تقول الرواية:
شغلهم موت صاحبهم عن البحث عنهما، مع أن نفس الرواية تقول: إنهما أقاما
في الغار يومين حتى سكن الطلب؟!
فإن ذلك يدل على أن المكيين قد واصلوا البحث عنهما.
إننا نلاحظ:
أن البطولات كلها تنسب إلى عمرو بن أمية الضمري، وليس
لصاحبه أي دور يذكر.
فهو نجيب الساق..
وهو أعرف بمكة من الفرس الأبلق، وهو معه خنجر مثل خافية النسر، وهو
يخرج من الغار مثل السبع، ويأخذ المحجة كأنه نسر وهو الرجل المعافى،
وصاحبه ذو علة، وهو صاحب الجمل، ولا جمل لصاحبه وهو.. وهو
الخ..
ولكننا لا نجده في سرية بئر معونة نجيب الساق، ولا كان
مثل السبع، ولا أخذ المحجة كأنه نسر، بل ألقي عليه القبض مباشرة ولم
يذكر لنفسه ولا ذكر غيره له أي شيء يشير إلى ذلك لا من قريب ولا من
بعيد كما تقدم.
لم ترو قصة عمرو بن أمية إلا عن عمر بن أمية نفسه، وهذا
أمر يثير الشبهة والريب فيها.
تقول الرواية:
إن أهل مكة حين رأوا عمرو بن أمية على رأس الجبل يئسوا.
ولكن النص الآخر يقول:
إن الله قد عمّى عن أهل مكة طريق المدينة أن يهتدوا له،
فهل كان ذلك الغار على طريق المدينة، أو أن ذلك الجبل كان على طريق
المدينة؟!
لم نعرف معنى لشد إبهام أسيره بسية قوسه، فلماذا لا يشد
يده مثلاً
أو رقبته، أو أي شيء آخر؟!
ولا ندري لماذا جاء الأمر بشد الوثاق في القرآن، ولم
يرد الأمر بشد الإبهام؟!
وهل شده لإبهامه يمنعه من التمرد عليه لو غفل عنه؟!
وأخيراً:
لماذا لم يعد إلى صاحبه، ويركبا معاً
الجمل، ويعودا إلى المدينة؟!
ولماذا؟ ولماذا؟
إلى آخر ما هنالك من الأسئلة الكثيرة التي لا مجال
لإيرادها.
عن الخزاعي، عن أبيه قال:
دعاني رسول الله «صلى الله عليه وآله» وقد أراد أن يبعثني بمال إلى أبي
سفيان، يقسمه في قريش بمكة بعد الفتح، فقال: التمس صاحباً.
قال:
فجاءني عمرو بن أمية الضمري.
فقال:
بلغني أنك تريد الخروج وتلتمس صاحباً.
قال:
قلت: أجل.
قال:
فأنا لك صاحب.
قال:
فجئت رسول الله «صلى الله عليه وآله»،
فقلت: قد وجدت صاحباً.
وكان رسول الله «صلى الله عليه
وآله» قال:
إذا وجدت صاحباً
فآذني.
قال:
فقال: من؟
فقلت:
عمرو بن أمية الضمري.
قال:
فقال: إذا هبطت بلاد قومه فاحذره، فإنه قد قال القائل:
أخوك البكري، ولا تأمنه.
قال:
فخرجنا، حتى إذا جئت الأبواء قال: إني أريد حاجة إلى
قومي بودّان، فتلبث لي.
قال:
قلت: راشداً.
فلما ولى ذكرت قول رسول الله «صلى الله عليه وآله»،
فشددت على بعيري، ثم خرجت أوضعه، حتى إذا كنت بالأصافر إذا هو يعارضني
في رهط، وأوضعت فسبقته، فلما رآني قد فته انصرفوا،
وجاءني، فقال: كانت لي إلى قومي حاجة.
قلت:
أجل.
فمضينا حتى
قدمنا مكة، فدفعت المال إلى أبي سفيان([44]).
لا نعرف كيف انصرف سبعون من المشركين عن الزبير
والمقداد، لمجرد تهديد الزبير لهم، وإذا كانوا قد خافوا منه إلى هذا
الحد، فلماذا لم يخافوا منه في أُحد،
حيث فر مع الفارين؟! وكذا في غيرها من المواطن الصعبة، ولماذا لم يبرز
لواحد منهم وهو عمر بن عبد ود في الخندق؟!
وإذا كان الحراس نشاوى، فهل أفاقوا من نشوتهم بعد أن
أتم الزبير عمله وأخذ الجثة من بينهم، وحمل الجثة على فرسه وذهب ولم
يستفيقوا قبل ذلك؟!
وغاية ما يمكن أن يطمئن إليه الباحث
هو:
أن جماعة من المسلمين كانوا قرب منازل هذيل في منطقة
الرجيع، فأتوا إليهم، وقتلوهم، وقد يبلغ عددهم الستة أشخاص، ومن بينهم
عاصم بن ثابت.
هذا بالإضافة إلى أسر اثنين آخرين
هما:
خبيب بن عدي، وزيد بن الدثنة،
وقد انتهى أمر هذين الأسيرين إلى أن أصبحا في أيدي مشركي مكة، فقتلوهما
حقداً
منهم وبغياً.
وما سوى ذلك فإنه إما لا ريب في كونه مكذوباً
ومختلقاً،
وإما يشك في صحته بنسبة كبيرة،
مع احتمال أن يكون ثمة أمور أخرى نالتها يد التحريف، والتحوير لأهداف
سياسية، أو غيرها.
([2])
يتخيل: أي يعجب بنفسه.
([3])
الغليل: واحد الغلان وهي منابت الطلح، وضجنان موضع بعينه.
([4])
تاريخ الأمم والملوك ج2
ص542 ـ 545 والقصة مع شيء من الاختلاف سيظهر إن شاء الله
موجودة في: السيرة النبوية لابن كثير ج3 ص135 ـ 138 عن البيهقي
والبداية والنهاية ج4 ص70 و 71 والكامل في التاريخ ج2 ص169،
170 وتاريخ الخميس ج1 ص458 و 459 والسيرة النبوية لابن هشام ج4
ص282 ـ 284 والسيرة النبوية لدحلان ج2 ص33 و 34 والسيرة
الحلبية ج3 ص184 و 185 وطبقات ابن سعد (ط دار صادر) ج4 ص249،
وذكر البعض حديث الضمري هذا، لكنه لم يذكر قصته مع جثة خبيب،
فراجع: طبقات ابن سعد (ط صادر) ج2 ص94 والمواهب اللدنية ج1
ص125 وأنساب الأشراف ج1 ص379 و 380.
([5])
الآية 206 من سورة البقرة.
([6])
راجع: تاريخ الخميس ج1 ص458 والسيرة الحلبية ج3 ص168 و184 و185
والسيرة النبوية لدحلان ج1 ص257 وج 2 ص34 وبهجة المحافل ج1
ص220 و 221 وشرحه بهامش نفس الصفحة، وراجع: الإصابة ج1 ص419
وعمدة القاري ج11 ص101.
([7])
شرح بهجة المحافل ج1 ص220 وتاريخ الخميس ج1 ص458 والسيرة
الحلبية ج3 ص168.
([8])
تاريخ الخميس ج1 ص458 عن الإكتفاء والسيرة الحلبية ج3 ص184.
([9])
تاريخ الخميس ج1 ص458 وراجع: التنبيه والإشراف ص213.
([10])
شرح بهجة المحافل ج1 ص220.
([11])
راجع: سيرة مغلطاي ص62 وتاريخ الخميس ج1 ص458 و 459 عنه وعن
المواهب اللدنية.
([12])
أنساب الأشراف ج1 ص379 و 380 (قسم حياة النبي «صلى الله عليه
وآله»).
([13])
طبقات ابن سعد (ط دار صادر) 2 ص93 و 94 والسيرة النبوية لابن
كثير ج3 ص136 والبداية والنهاية ج4 ص70 وراجع: المواهب اللدنية
ج1 ص125 والسيرة الحلبية ج3 ص184 وسيرة مغلطاي ص62، وتاريخ
الخميس ج1 ص459 والسيرة النبوية لدحلان ج2 ص33 والتنبيه
والإشراف ص213.
([14])
السيرة النبوية لابن هشام ج4 ص282 وراجع: البداية والنهاية ج4
ص71 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص138 كلاهما عنه، وتاريخ
الخميس ج1 ص459 والسيرة النبوية لدحلان ج2 ص33 والسيرة الحلبية
ج3 ص184 وسيرة مغلطاي ص62.
([15])
المواهب اللدنية ج1 ص125.
([16])
السيرة النبوية لابن هشام ج4 ص282 وتاريخ الخميس ج1 ص459
والسيرة الحلبية ج3 ص184.
([17])
البداية والنهاية ج4 ص70
والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص137 والمواهب اللدنية ج1 ص125
والسيرة الحلبية ج3 ص184 والسيرة النبوية لدحلان ج2 ص33.
([18])
راجع: السيرة النبوية لدحلان ج2 ص33.
([19])
البداية والنهاية ج4 ص70 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص137.
([20])
السيرة النبوية لابن هشام ج4 ص282 وتاريخ الخميس ج1 ص459
والسيرة النبوية لدحلان ج2 ص33.
([21])
السيرة النبوية لابن كثير ج3 ص137 والبداية والنهاية ج4 ص70.
([22])
طبقات ابن سعد (ط دار صادر) ج2 ص94 وج 4 ص249 وراجع السيرة
النبوية لدحلان ج2 ص33 وتاريخ الخميس ج1 ص459.
([23])
المواهب اللدنية ج1 ص125 والسيرة النبوية لدحلان ج2 ص33 عن ابن
هشام.
([24])
السيرة الحلبية ج3 ص184.
([25])
البداية والنهاية ج4 ص70 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص137.
([26])
راجع: السيرة النبوية لابن هشام ج4 ص283 والسيرة الحلبية ج3
ص184 وتاريخ الخميس ج1 ص459 والسيرة النبوية لدحلان ج2 ص34.
([27])
راجع: المصادر المتقدمة بالإضافة إلى البداية والنهاية ج4 ص70
والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص137.
([28])
راجع: المصادر المتقدمة باستثناء البداية والنهاية والسيرة
النبوية لإبن كثير.
([29])
السيرة النبوية لابن كثير ج1 ص137 والبداية والنهاية ج4 ص70.
([30])
تاريخ الخميس ج1 ص458 عن الصفوة والإصابة ج1 ص419.
([31])
السيرة النبوية لابن هشام ج4 ص283 والسيرة النبوية لدحلان ج2
ص34 والسيرة الحلبية ج3 ص184 وتاريخ الخميس ج1 ص459.
([32])
البداية والنهاية ج4 ص71 و67 والسيرة النبوية لابن كثير ج3
ص138 و131.
([33])
الإستيعاب بهامش الإصابة ج1 ص432 والاغاني ج4 ص230 وراجع
المصادر التالية: الإصابة ج1 ص524 و 419 وأسد الغابة ج2 ص105
وتاريخ الإسلام (قسم المغازي) ج1 ص191 وتاريخ الخميس ج1 ص458
عن الصفوة وصفة الصفوة ج1 ص622 والسيرة النبوية لدحلان ج1 ص257
والسيرة الحلبية ج3 ص168.
([34])
البداية والنهاية ج4 ص70 وراجع ص66 عن موسى بن عقبة والسيرة
النبوية لابن كثير ج3 ص137 و 131 وزاد المعاد ج2 ص109.
([35])
راجع: السيرة الحلبية ج3
ص168 وراجع ص184 و 185 والسيرة النبوية لدحلان ج1 ص257 وراجع
ج2 ص34 وتاريخ الخميس ج1 ص458 وبهجة المحافل ج1 ص220 و 221
وشرحه بهامش نفس الصفحة وراجع: الإصابة ج1 ص419.
([36])
راجع المصادر المتقدمة.
([37])
كنز العمال ج10 ص372 عن الطبراني عن عمرو بن أمية الضمري.
([38])
مجمع الزوائد ج6 ص127 عن الطبراني.
([39])
السيرة النبوية لدحلان ج1 ص257 وراجع ج2 ص34 وأشار إلى هذا
التنافي أيضاً، وإلى أنه لا بد من الجمع في السيرة الحلبية ج3
ص184 و 185. ولربما يلاحظ بعض الاختلاف في وجه الجمع الذي ذكره
دحلان في الموضعين فليراجع.
([40])
الروض الأنف ج4 ص254 عن ابن أبي شيبة.
([41])
زاد المعاد ج2 ص109.
([43])
راجع المصادر التي تقدمت تحت الفقرة (م) الواردة لقوله: فلم تر
لخبيب رمة حتى الساعة.
([44])
الطبقات الكبرى (ط دار صادر) ج4 ص296 والتراتيب الإدارية ج1
ص225 وراجع ص390 و 391.
|