قـبـل أن تــدق الـطـبــــول
بـدايـة:
قد تقدمت في الفصل السابق طائفة من النصوص التي
تتحدث عن غزوة بني النضير، أو عن بعض ما يتصل بها، وسنجد فيما يلي
من مطالب وفصول كثيراً من النصوص التي اقتضى البحث إيرادها، لسبب
أو لآخر..
وحيث إن لنا الكثير من الوقفات والتساؤلات، بل
وتراودنا شكوك قوية حول عدد منها، فإننا نشير إلى شيء من ذلك ضمن
البحوث التي أوردناها في هذا الفصل وفيما يليه من فصول، فنقول..
ومن الله نستمد العون، ومنه نطلب التوفيق والتسديد:
إن أول ما يطالعنا في نصوص قضية بني النضير هو:
إن هناك الكثير من الموارد التي اختلفت فيها النصوص
وتناقضت بصورة فاحشة وظاهرة.
وما دام:
أن المهم هو الإلماح إلى أن الواقع لا يمكن أن يكون
هو كل ما تضمنته تلك الروايات والمنقولات، وإنما هو واحد، وواحد
فقط.. فإننا نكل أمر تقصي هذه الاختلافات إلى القارئ نفسه، إن وجد
ضرورة إلى ذلك.
ولأجل ذلك،
فنحن نصرف عنان الكلام إلى التركيز على مفاصل أساسية، نجد أنها
بحاجة لمزيد من البحث، والجهد. وإن كنا قد اكتفينا فيها بما يتناسب
في حجمه ومستواه مع سائر بحوث الكتاب وفصوله.
وأول ما نبدأ الحديث عنه هنا هو:
قالوا:
إن غزوة بني النضير كانت سنة أربع، في شهر ربيع الأول منها، خرج
إليهم عشية الجمعة لتسع مضين من ربيع الأول، ثم راح إليهم عشية
الثلاثاء.
وقد جعلها ابن إسحاق بعد سرية بئر معونة. وهذا
مذكور في معظم المصادر فلا حاجة إلى تعداد مصادره..
ولكن قال
الزهري، وكذا روي عن عروة وعن عائشة: إنها كانت بعد غزوة بدر بستة
أشهر([1]).
وهو ما
جرى عليه البخاري، وذهب إليه النووي وغيره([2]).
أما نحن فنقول:
إن هذا هو الصحيح، وذلك للأمور التالية:
1 ـ
إنهم
يقولون: إن أبا سلمة بن عبد الأسد قد استفاد من أرض بني النضير([3]).
ومن المعلوم:
أن أبا سلمة قد مات قبل شهر ربيع الأول سنة أربع،
وقبل بئر معونة.
وقال ابن حبان،
بعد ذكره غزوة بني النضير مباشرة:
«ثم
رجع رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى المدينة، ثم بعث رسول الله
«صلى الله عليه وآله» أبا سلمة بن عبد الأسد إلى ماء لبني أسد
الخ..»([4]).
2 ـ
إنهم
يقولون: إن الحارث بن الصمة قد استفاد هو الآخر من أراضي بني
النضير([5]).
مع أنهم يدعون:
أن الحارث هذا قد قتل في بئر معونة، فكيف تكون غزوة
بني النضير بعدها؟
هذا.. بالإضافة إلى أننا قد
قدمنا:
أن تاريخ سرية بئر معونة كان قبل السنة الرابعة، فراجع ما ذكرناه
هناك.
وجعلُ
قتله في بئر معونة دليلاً
على ضعف هذا الخبر([6])،
ليس
بأولى من العكس، أي جعلُ
استفادته من أراضي بني النضير دليلاً
على عدم صحة قتله في بئر معونة. ولا أقل من أنه يدل على تقدم غزوة
بني النضير على تلك الغزوة التي يقال: إنه قد قتل فيها. ويتأكد ذلك
إذا عرفنا أن أحدهما ليس ناظراً
إلى الآخر،
مع ملاحظة: أنه لا داعي للجعل والوضع في أي من الموردين، بالنسبة
إلى هذا الرجل بخصوصه.
ولنا هنا ملاحظة وهي:
أن ابن التين قد قوى أن تكون غزوة بني النضير بعد
سرية بئر معونة، وذلك استناداً إلى دليل لا يصح، وقد ذكرناه مع
جوابه في سرية بئر معونة في الجزء السابق من هذا الكتاب، فليراجع
هناك.
3 ـ
إنه لا شك في كون غزوة بني النضير قد كانت قبل حرب الخندق بثمانية
أشهر في أقل الأقوال.
وقد قوينا:
أن تكون
الخندق قد حصلت في السنة الرابعة من الهجرة وليس في السنة الخامسة
منها([7])،
فتكون غزوة بني النضير قبلها..
بل إن ابن إسحاق ـ الذي ذكر:
أن إجلاء بني النضير قد كان بعد أحد أي في السنة الرابعة ـ قد ذكر:
أن فتح قريظة كان مرجعه «صلى الله عليه وآله» من الأحزاب (أي
الخندق)، وبينهما سنتان([8]).
فإذا كان بينهما سنتان (وإذا كانت قريظة التي هي
بعد الخندق مباشرة) في السنة الرابعة فلا شك في كون غزوة بني
النضير قد حصلت في السنة الثانية، بعد بدر مباشرة، لا بعد غزوة
أحد.
4 ـ
إن بعض النصوص تذكر: أن سبب غزوة بني النضير هو: أن كفار قريش
كتبوا ـ بعد بدر ـ إلى اليهود يهددونهم، ويأمرونهم بقتال رسول الله
«صلى الله عليه وآله»،
فأجمع حينئذٍ بنو النضير على الغدر، وأرسلوا إلى النبي «صلى الله
عليه وآله»: أن اخرج إلينا في ثلاثين من أصحابك.
ثم تذكر الرواية كيف:
أن النبي «صلى الله عليه وآله» غدا عليهم بالكتائب فحصرهم، وطلب
منهم العهد، فقاتلهم يومه ذاك ثم تركهم وغدا إلى بني قريظة، ودعاهم
إلى أن يعاهدوه ففعلوا.
فانصرف عنهم إلى بني النضير بالكتائب، فقاتلهم حتى نزلوا على
الجلاء([9]).
وعند العسقلاني:
أن هذا
أقوى مما ذكره ابن إسحاق من أن سبب غزوة بني النضير هو طلبه «صلى
الله عليه وآله» منهم المساعدة في دية العامريين([10]).
5 ـ
إن عدداً
من النصوص يذكر: أن كعب بن الأشرف كان لا يزال حياً
إلى حين غزوة بني النضير، وأنه قد قتل حينها، أو بعدها..
ومن المعلوم:
أن قتل كعب بن الأشرف قد كان على رأس خمسة وعشرين شهراً
من الهجرة، ومعنى ذلك هو صحة ما ذكر من أن هذه الغزوة قد كانت بعد
ستة أشهر من بدر.
ونذكر من الشواهد على دور كعب في هذه الغزوة ما
يلي:
ألف:
إن بعض النصوص تقول: إنه لما جاء النبي «صلى الله عليه وآله» إلى
بني النضير يستسلفهم في دية العامريين قصد أولاً كعب بن الأشرف،
فلما دخل عليه قال كعب: مرحباً
يا أبا القاسم وأهلاً.
وقام كأنه يصف له الطعام، وحدث نفسه بأن يقتل رسول الله، ويتبع
أصحابه، فنزل جبرئيل إلى النبي «صلى الله عليه وآله» فأخبره([11]).
ب:
إن كعب بن الأشرف ذهب إلى مكة في أربعين رجلاً،
فاجتمع بأبي سفيان، وكان في أربعين رجلاً أيضاً، وتعاهدا بين
الأستار والكعبة، فنزل جبرائيل بسورة الحشر.
فبعث النبي «صلى الله عليه وآله» محمد بن مسلمة بقتله،
فقتله في الليل ثم قصد إليهم، وعمد إلى حصارهم، فضرب قبته في بني
خطمة([12]).
ج:
ولكن ذكر الشيخ المفيد «رحمه الله» وغيره: أن قتل
كعب بن الأشرف قد كان حين قتل أمير المؤمنين «عليه السلام» للعشرة،
الذين خرجوا يلتمسون غرة من المسلمين، قال المفيد «رحمه الله»:
«وفي
تلك الليلة قتل كعب بن الأشرف واصطفى رسول الله «صلى الله عليه
وآله» أموال بني النضير»([13]).
ويفهم من الأربلي وغيره أيضاً:
أن قتل
ابن الأشرف كان أثناء حصار بني النضير، فراجع([14]).
د:
ولكن آخرين يذكرون: أنه «صلى الله عليه وآله» إنما
أمر بقتل كعب حين ذهب إلى بني النضير، يستعينهم في دية العامريين،
فاطلع على محاولتهم الغدر به، فانصرف راجعاً،
وأمر بقتل كعب بن الأشرف ثم أصبح غادياً
عليهم بالكتائب، وكانوا بقرية يقال لها زهرة، فوجدهم ينوحون على
كعب، فقالوا: يا محمد، واعية إثر واعية، ثم حشدوا للحرب، وفي آخره:
قالوا: ذرنا نبكي سويعة، ثم ائتمر أمرك([15]).
وعلى كل حال،
فإن عدداً
من المؤرخين والمؤلفين قد صرحوا بأن غزوة بني النضير كانت صبيحة
قتل ابن الأشرف([16]).
هـ:
ويؤيد ذلك الشعر المنسوب إلى أمير المؤمنين «عليه السلام» في هذه
المناسبة،
فمنها قوله «عليه السلام»:
وأن
تـصـرعــوا تحــت أسيـافـه كمصـرع كـعـب ابـن الأشــرف
إلى أن قال:
فـدس الـرســول رســولاً
لـــه بــأبـيـض ذي هـبـة مــرهـــف
فـبـاتـت عيـون لــه مـعــولات مـتـى يُـنْـعَ كعـب
لهـــا تـذرف
وقـلـن لأحـمـد ذرنــا قـليـــلاً فـإنـا مـن الـنـوح
لـم نـشـتــف
فـخـلاهـم ثـم قـال اظـعـنــوا دحــور عـلـى رغــم
الآنــــف
وأجـلـى الـنـضــير إلى غـربــة الـخ ..([17])
فإن هذه الأبيات إنما تقرر القصة المذكورة فيما
تقدم..
و:
ويؤيد ذلك أيضاً: أن البعض يقول: إن آية:
﴿فَأَتَاهُمُ اللهُ مِنْ
حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا﴾([18])،
يقال: نزلت في كعب بن الأشرف([19]).
وكذا قوله:
﴿وَقَذَفَ فِي
قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ﴾،
قيل: بقتل سيدهم كعب بن الأشرف([20]).
ومعنى ذلك:
أن قتل كعب كان سبباً
في هزيمتهم، وأن قتله قد كان بعد غدرهم، وإعلانهم للحرب على رسول
الله «صلى الله عليه وآله» كما يفهم من الآيات الشريفة.
ز:
وأخيراً،
فإن بعض النصوص تقول: ـ وذاك أمر غريب حقاً
ـ إن كعب بن الأشرف قد اعتزل قتال بني النضير، وزعم: أنه لم يظاهر
على المسلمين، فتركه النبي «صلى الله عليه وآله» ثم انبعث يهجوه
والمؤمنين، ثم سار إلى قريش يستعديهم على رسول الله «صلى الله عليه
وآله» الخ..([21]).
ولعل المراد:
أنه اعتزل قتال بدر، وإلا.. فإن بقاءه إلى ما بعد غزوة بني النضير
مما تضافرت النصوص التاريخية على خلافه فراجع حكاية مقتله في سيرة
ابن هشام، والطبري، وتاريخ الخميس، وغير ذلك.
6 ـ
وسيأتي أنهم يقولون: إن آية:
﴿لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ﴾([22])
قد نزلت في غزوة بني النضير، ومعلوم أن هذه الآية قد وردت في سورة
البقرة، التي نزلت في أوائل الهجرة ويبعد: أن يستمر نزولها إلى ما
بعد بدر، حيث نزلت سورة الأنفال.
ولم يرد:
أنه «صلى الله عليه وآله» قال لهم:
ضعوا هذه الآية في السورة الفلانية، فالظاهر: أنها في جملة الآيات
التي نزلت تدريجاً،
فراجع في كيفية نزول القرآن ما ذكرناه في كتابنا:
«حقائق هامة حول القرآن
الكريم»،
فصل: الترتيب والنزول.
7 ـ
ونشير أخيراً
إلى أن الحاكم قد ذكر: أن إجلاء بني النضير وبني قينقاع قد كان في
زمان واحد([23]).
وبعد ما تقدم، فإن القول:
بأن هذه القضية قد حصلت في السنة الرابعة، لا يجتمع مع القول:
بأنها كانت متزامنة مع قتل كعب بن الأشرف ـ كما صدر من البعض([24])
ـ لأن ابن الأشرف قد قتل قبل هذا التاريخ بحوالي سنتين،
كما يعلم بالمراجعة لكتب التاريخ والرواية.
لقد ذكرت معظم المصادر:
أن سبب هذه الغزوة هو: أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد جاءهم
يستعينهم في دية العامريين، اللذين قتلهما بعض أصحابه بعد سرية بئر
معونة، فأرادوا الغدر به، فجاءه الخبر من السماء،
إلى آخر ما تقدم ذكره.
قال البعض:
«وكانوا
قد عاهدوا النبي «صلى الله عليه وآله» على ترك القتال، وعلى أن
يعينوه في الديات»([25]).
ولكننا نجد في مقابل ذلك أقوالاً أخرى، وهي:
الأول:
أن
السبب هو أنهم قد طلبوا من النبي «صلى الله عليه وآله»: أن يخرج
إليهم في ثلاثة نفر، ليناقشوه في أمر الدين، وكانوا قد خبأوا
الخناجر، فأرسلت إليه امرأة منهم ـ بواسطة أخيها ـ تعلمه بخيانتهم
فلما أخبره بالأمر، رجع قبل أن يصل إليهم([26]).
ويبدو أن هذه هي نفس الرواية
القائلة:
إنهم طلبوا إليه أن يخرج إليهم في ثلاثين رجلاً، وهم في مثلهم، ثم
لما رأوا: أنه لا يمكن التفاهم فيما بين هذا العدد الكبير اقترحوا
خروجه «صلى الله عليه وآله» في ثلاثة، ومنهم كذلك.. وقد كان ذلك
بسبب تهديد قريش لهم بعد غزوة بدر([27]).
وقد تقدم:
أن العسقلاني قد اعتبر هذه الرواية أقوى مما ذكره ابن إسحاق،
ووافقه عليه جل أهل المغازي، من أن السبب هو أنه خرج إليهم في دية
العامريين([28]).
وقد عرفنا فيما تقدم:
أن هناك العديد من الدلائل والشواهد التي تؤكد على أن غزوة بني
النضير، قد كانت قبل بئر معونة..
فإن العامريين المشار إليهما هما اللذان قتلا بعد
بئر معونة، فلا ينسجم ذلك مع ما تقدم. ولا يصح ما ذكره ابن إسحاق،
وإن كانا قد قتلا قبل ذلك، وفي مناسبة وقضية أخرى، فلا إشكال فيه
من هذه الناحية.
الثاني:
قيل:
إنه إنما ذهب إليهم لأخذ دية العامريين لأن بني النضير كانوا حلفاء
لبني عامر([29])،
فيسهل الدفع منهم؛ لكون المدفوع لهم من حلفائهم([30]).
ولكن لا ندري لماذا يريد أن يأخذ الدية من حلفاء
المقتول، فهل جرت عادة العرب على ذلك؟!
أم أنه يريد إذلال بني النضير في ذلك؟!
فإذا كان كذلك، فهل المراد الإيحاء بأن ناقض العهد
في الحقيقة هو نفس رسول الله «صلى الله عليه وآله» وذلك بغياً
منه وتعدياً
في أمر لا حق له به؟ نعوذ بالله من الخطأ والخطل، في القول العمل..
الثالث:
إن البعض
يقول: إنه «صلى الله عليه وآله» قد ذهب إلى بني النضير، ليسألهم
كيف الدية عندهم، وذلك للعهد الذي كان بينهم وبين بني عامر([31]).
ولا ندري لماذا لم يكتف بإرسال بعض أصحابه إليهم
ليسألوهم عن ذلك، وهل كان ثمة اتفاق خاص في مقدار الدية فيما بين
بني النضير وبني عامر، يختلف عن مقدارها لدى سائر الناس الذين
يعيشون في تلك المنطقة؟!
وإذا كان كذلك، فكيف يريد هو أن يدفع خصوص هذا
المقدار الذي اتفق عليه هؤلاء، ولماذا لا يدفع المقدار المتعارف
عليه فيما بين سائر الناس؟!.
وإذا كان يريد أن يدفع المقدار المتعارف عليه بين
عامة الناس، فهل كان «صلى الله عليه وآله» يجهل هذا المقدار؟!.
وإذا كان ـ والعياذ بالله ـ يجهل به، فهل لم يكن أحد من أصحابه، من
سائر أهل المدينة، وسائر القبائل والأقوام الذين يعيشون فيها
وحولها، يعلم بمقدار الدية؟! حتى يحتاج إلى المسير مع جماعة من
أصحابه إلى خصوص بني النضير؟!..
أم أن المقصود هو إظهار:
أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يكن يعرف أحكام
الشريعة السابقة ـ شريعة اليهود خاصة ـ دون غيرهم من سائر أهل
الملل،
فلا بد أن يتفضل عليه اليهود، ويعلموه مما عندهم، ويصبح مديناً
لهم، هو وشريعته، وكل أتباعه من بعده؟
ثم ليثبت من خلال ذلك:
أن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يعمل بشريعة
اليهود وأحكامهم!!
مع أنه
«صلى الله عليه وآله» كان يخالفهم في كل شيء حتى لقد عبروا عن
استيائهم من أنه يريد أن لا يدع من أمرهم شيئاً إلا خالفهم فيه([32]).
لا ندري.. ولعل الفطن الذكي يدري..
فإنا لله وإنا إليه راجعون.. ولا حول ولا قوة إلا
بالله.
الرابع:
قد تقدم أن بني النضير لما هزم المسلمون في أحد
ارتابوا ونقضوا العهد، فركب كعب بن الأشرف في أربعين راكباً
من اليهود إلى مكة، وحالفوهم وعاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة
على محمد، ثم دخل أبو سفيان في أربعين وكعب بن الأشرف في أربعين
المسجد، وأخذ بعضهم على بعض الميثاق بين الأستار والكعبة.
ثم رجع
كعب وأصحابه إلى المدينة، ونزل جبرئيل، فأخبر النبي «صلى الله عليه
وآله» بما تعاقد عليه كعب بن الأشرف وأبو سفيان، وأمره بقتل كعب بن
الأشرف، فقتله محمد بن مسلمة الأنصاري، وكان أخاه من الرضاعة([33]).
الخامس:
ورد في نص آخر ما ملخصه: أنه ذهب مع أصحابه يستقرض
مالاً من كعب بن الأشرف، فحدث كعب نفسه بقتل النبي «صلى الله عليه
وآله»، فأخبره جبرائيل، فقام كأنه يقضي حاجة، وعرف: أنهم لا يقتلون
أصحابه وهو حي، وأخذ طريق المدينة، فاستقبله بعض أصحاب كعب، فأخبر
كعباً
بذلك، ورجع المسلمون.
فأخبرهم ابن صوريا بأن رب محمد أطلعه على ما همُّوا
به، وأنه سوف يأمرهم بالجلاء إن لم يسلموا، فاختاروا الجلاء([34]).
وقد أسلفنا:
أننا نرجح هذه الرواية التي تنص على وجود كعب بن الأشرف، وعلى دور
له في قضية بني النضير، وقد استحق بذلك الدور أن يأمر النبي «صلى
الله عليه وآله» بقتله فقتل.
ولكننا لا ندري حقيقة هذا الدور، فلعل كعباً
قد عاقد أبا سفيان على حرب النبي «صلى الله عليه وآله» ثم هجا
المسلمين، وشبب بنسائهم، ثم حاول نقض العهد حين طلب منه النبي «صلى
الله عليه وآله» الوفاء بتعهداته المالية، حيث قد كان ثمة عهد ينص
على التعاون في الديات.
وكان ذلك من كعب بالتعاون مع قومه، حين انتدب عمرو
بن جحاش لتنفيذ المهمة.
فكان أن تركهم رسول الله «صلى الله عليه وآله»،
وقفل عائداً
إلى أصحابه، فأمر بقتل كعب بن الأشرف، ثم غدا على بني النضير
بالكتائب.
فإن من الطبيعي أن نجد رسول الإسلام الأكرم «صلى
الله عليه وآله» يتحمل منهم نقض العهد أكثر من مرة، من أجل أن يقطع
لهم كل عذر وتعلل في ذلك، وليتضح لكل أحد ما بيتوه من مكر وخداع،
وما أبطنوه من ختل وغدر، ويحق الله الحق بكلماته، وليخزي الفاسقين،
بفضل صبر الرسول «صلى الله عليه وآله» وأناته.
ثم جاء أهل الحديث والرواية فذكروا كل واحدة مما
تقدم على أنها سبب مستقل لما جرى على هؤلاء الغدرة الفجرة، مع
الذهول عن أن تكرر ذلك منهم قد جعل من مجموع تلك الأسباب والعوامل
سبباً
واحداً لما حصل..
وتقدم في الفصل الأول من هذا الباب رواية تقول:
إنهم حين جاءهم الرسول «صلى الله عليه وآله» ومعه
بعض أصحابه،
فكروا في أن يقتلوه، ويأخذوا من جاء معه من أصحابه أسرى، ويبيعوهم
من أهل مكة.
ونحن نشك في هذه الرواية أيضاً،
فإن أسر من جاء معه وبيعهم إلى أهل مكة، معناه إثارة حرب طاحنة
فيما بين بني النضير وبين الأوس والخزرج، ومن معهم من سائر
المسلمين، ولن يمكنهم الوصول بهم إلى مكة قبل أن تندر الرؤوس،
وتطيح الأيدي، وتخرب البلاد، وتهلك العباد..
وقد جرب اليهود حظهم مع الأوس والخزرج فيما سبق،
واستطاع هؤلاء أن يخرجوا أولئك من المدينة ليعيشوا حواليها، وفي
أطرافها.
وقد كان هذا وأمر اليهود مجتمع؛ فكيف تكون الحال
بعد أن أجلي منهم بنو قينقاع مع كون العلاقات بين بني قريظة
والنضير غير متكافئة ولا طبيعية بسبب التمييز الظالم لبني النضير
عليهم، حسبما أوضحناه حين الحديث حول كونهم بمنزلة بني المغيرة في
قريش كما سيأتي إن شاء الله تعالى.
وبعد أن أصبح بنو النضير أضعف ناصراً
وأقل عدداً،
فإن التفكير بهذا الأمر يصبح في عداد المحالات والممتنعات..
وذلك أمر ظاهر لا يحتاج إلى بيان، ولا إلى إقامة
برهان.
وقد ورد في بعض النصوص:
أنهم حين أبلغوا رسول الله «صلى الله عليه وآله» بنقض بني النضير
للعهد أظهر التكبير، وقال: الله أكبر، حاربت يهود. وكبر المسلمون
بتكبيره([35]).
كما تقدم:
أن المسلمين باتوا يحاصرون بني النضير، ويكبرون حتى أصبحوا..
ونقول:
إن إظهار المسلمين للتكبير، وتكبير النبي «صلى الله عليه وآله»
بالذات أمر له دلالاته الهامة، وآثاره الظاهرة، ويتضح بعض ذلك ضمن
النقاط التالية:
1 ـ
لقد كان من الطبيعي أن يتوقع اليهود: أن يواجه النبي «صلى الله
عليه وآله» والمسلمون نقضهم للعهد بكثير من القلق، وعدم الارتياح،
بل وحتى بالخوف، وبالوجوم الناجم عن الارتباك، والتزلزل..
ولكن النبي «صلى الله عليه وآله» والمسلمين قد
قابلوا ذلك ـ وبسرعة غير متوقعة ـ بموقف لا يمكن أن يخطر لليهود
على بال، الأمر الذي من شأنه أن يربكهم، ويوقعهم في حيرة، ويثير
لديهم أكثر من سؤال، ثم يزعزع ثباتهم، ويذكي مخاوفهم، بصورة كبيرة
وخطيرة
2 ـ
إنه إذا كان يوجد فيما بين المسلمين من ينظر إلى اليهود نظرة إجلال
وإكبار، ويكن لهم في نفسه قدراً
من الثقة والاحترام؛ فإن معنى ذلك هو أن نشاطات المنافقين ـ وعلى
رأسهم عبد الله بن أُبي
ـ في التخذيل عن حربهم، والصد عن مواجهتهم، لسوف تجد مجالاً
واسعاً،
ولسوف تترك آثارها السلبية على تماسك الصف الإسلامي في مواجهتهم..
ولعل وجود أبناء للمسلمين في بني النضير لسوف يجعل
اتخاذ موقف حازم ضدهم على درجة من الصعوبة بالنسبة لكثير من
الآباء، ومن يتصل بهم بسبب، أو بآخر.
ولأجل ذلك،
فإن توفر جو حماسي جماهيري لسوف يُضعف
حالة التردد لدى هؤلاء وأولئك، وينقلهم من أجواء الانسياقات
العاطفية، والاندهاش والانبهار بالانتفاخات غير الواقعية، التي
تؤثر في نشوء حالة من التقديس غير المنطقي ـ ينقلهم ـ إلى أجواء
الشعور بالقوة، ثم التغلب على عوامل الضعف النفسي من خلال مساعدة
العامل الداخلي، بعامل خارجي يعطيه القدرة على الصمود والتصدي، كما
ويعطيه المناعة والمصونية من التأثر بعامل العاطفة منفصلاً
عن الإحساس بالمسؤولية، أو التأثر بعامل التوهمات، والتقديسات،
التي لا ترتكز على الدليل المقنع، ولا تقوم على التأمل القاطع لكل
الشبهات، ولكل التساؤلات المنطقية التي يثيرها العقل الفطري السليم
والراشد.
وهكذا، فإن هذا العامل المساعد للإحساس الواقعي
بالمسؤولية، والقادر على المواجهة الحازمة، القائمة على الدراية
والعقل،
لسوف يضعف من قدرة اليهود والمنافقين على التأثير في درجة التصميم
على التصدي، أو التأثير في خلخلة الوضع الداخلي، وتمييع الموقف
بالاستفادة من عامل العاطفة أو عامل الانبهار القائم على التخيل
والتوهم غير المنطقي ولا المسؤول.
3 ـ
وإذا كان القرآن الكريم، والنبي الأمي «صلى الله عليه وآله» وكذا
التاريخ الطويل الزاخر بالأحداث قد قدم للمسلمين صورة تكاد تكون
واضحة عن الحالة الأخلاقية الذميمة لليهود، وعن طموحاتهم
اللامنطقية واللامشروعة والتي كانوا يدعمونها بتعاليم دينية مزيفة،
ويعملون على تحقيقها بسياساتهم الخبيثة في مجال الإعلام والسياسة،
والاقتصاد، وكل نشاطاتهم الاجتماعية ـ إذا كان كذلك ـ فإن
صدق هذه النبوءة، المتمثل في بروز صفة الغدر والخيانة فيهم على
صعيد الواقع بصورة ملموسة وظاهرة للعيان، لسوف يمسح عن أعين
الكثيرين غبار الخداع والانخداع، ولسوف تكون في ذلك آية أخرى تدل
على صدق هذا النبي الأكرم، وعلى حقانية موقفه، وصواب سياساته منهم
ويقطع من ثم كل عذر، ويزيل كل شبهة، فقد
﴿تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ﴾([36])،
﴿وَقُلِ الحَقُّ مِن
رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ﴾([37]).
هذا، ونجد:
أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد اعتبر تآمرهم على
حياته، ومحاولتهم اغتياله، وإن لم ينجحوا في مجال تنفيذ ذلك، نقضاً
للعهد يبرر مواجهتهم بالموقف الصارم والحازم.
وواضح:
أن اغتيال القيادة الإسلامية هو أجلى مظاهر
الخيانة، وأخطرها، ولا يجب أن ننتظر من الخائنين إعلانهم للحرب،
والتصدي الفعلي والظاهر لها، كما ربما يفترضه البعض.
ويحدثنا التاريخ:
أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد عاهد بني النضير، كما عاهد
غيرهم، ولعل أبرز عهد عقده هو عهد الحديبية، حيث أمر بكتابة نسختين
للكتاب([38])
لأن بالكتابة يتم الحفاظ على النص، ويمكن الالتزام به، ويكون مرجعاً
لا يمكن التشكيك ولا المراء فيه فيما إذا ثار خلاف. وقد اعتبر
الإسلام هذه العهود وسيلة لإيقاف الحروب، وللمنع من نشوبها، تتوفر
للإنسان المسلم في ظلها حرية التعبير، وحرية العمل والحركة كما
سنرى.
وهذا بالذات هو السر في أننا نجد الإسلام قد أولى
العهود والاتفاقات أهمية بالغة، ورسم لهـا
حدودهـا،
وبيَّن
بوضوح تـام
مختلف الأصـول
والأهداف التي لا بد من رعايتها، والحفاظ عليها فيها.
وبديهي:
أن دراسة هذا الموضوع بعمق، والإلمام بجميع جوانبه
إسلاميـاً
وتاريخيـاً،
يتطلب بـذل
جهد كبير، ويحتاج إلى دارسـة
مستقلة ومنفصلة، وإلى وقت يتيح الفرصة للاطلاع على قدر كاف من
الآيات الشريفة والنصوص الواردة عن النبي «صلى الله عليه وآله»
والأئمة «عليهم السلام»، ثم دراسة المعاهدات التي عقدت في صدر
الإسلام وظروفها، ولا نجد أنفسنا قادرين على توفير ذلك في ظروفنا
الراهنة.
إلا أن ذلك لا يمنع من إيراد إلماحة سريعة، ترتكز ـ
عموماً ـ على بعض ما ورد في هذا المجال في خصوص نهج البلاغة،
فنقول:
قال «عليه السلام» في عهده لمالك الأشتر:
«..ولا
تدفعن صلحاً
دعاك إليه عدوك ولله فيه رضا؛ فإن في الصلح دعة لجنودك، وراحة من
همومك، وأمناً
لبلادك، ولكن الحذر كل الحذر من عدوك، بعد صلحه؛ فإن العدو ربما
قارب ليتغفل، فخذ بالحزم، واتهم في ذلك حسن الظن.
وإن عقدت بينك وبين عدوك عقدة، أو ألبسته منك ذمة،
فحط عهدك بالوفاء، وارع ذمتك بالأمانة، واجعل نفسك جنة دون ما
أعطيت؛ فإنه ليس من فرائض الله شيء الناس
أشد
عليه اجتماعاً،
مع تفرق أهوائهم، وتشتت آرائهم من تعظيم الوفاء بالعهود.
وقد لزم
ذلك المشركون فيما بينهم دون المسلمين لما استوبلوا من عواقب
الغدر([39])؛
فلا تغدرن بذمتك، ولا تخيسن بعهدك، ولا تختلن عدوك؛ فإنه لا يجترئ
على الله إلا جاهل شقي.
وقد جعل عهده وذمته أمناً
أفضاه بين العباد برحمته، وحريماً
يسكنون إلى منعته، ويستفيضون إلى جواره؛ فلا إدغال، ولا مدالسة ولا
خداع فيه.
ولا تعقد عقداً
يجوز فيه العلل، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة، ولا
يدعونك ضيق أمر لزمك فيه عهد الله إلى طلب انفساخه بغير الحق، فإن
صبرك على ضيق أمر لزمك ترجو انفراجه، وفضل عاقبته خير من غدر تخاف
تبعته، وأن تحيط بك من الله طلبته، فلا تستقيل فيها دنياك وآخرتك»([40]).
أما بالنسبة إلى ضرورة الالتزام بالعهود والوفاء
بها، حتى لغير المسلمين، فإن الله تعالى يقول:
﴿فَأَتِمُّواْ إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ﴾([41]).
ويقول سبحانه:
﴿وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً﴾([42]).
ويقول:
﴿..وَأَوْفُواْ بِعَهْدِ
الله إِذَا عَاهَدتُّمْ﴾([43]).
وفي آية أخرى:
﴿وَإِن جَنَحُواْ
لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَهَا﴾([44]).
فقد جعل الله العهد مع الأعداء عهداً
لله سبحانه..
وبعد..
فإن أمير المؤمنين «عليه السلام» قد قرر:
أن الشرط الأساس في كل عهد هو أن يكون
«لله
فيه رضا»
كما ورد في عهده «عليه السلام» للأشتر «رحمه الله».
وواضح:
أن رضا الله سبحانه إنما هو في حفظ مصلحة الإسلام
العليا، وكرامة المسلمين، وحريتهم في الدعوة إلى الله سبحانه بأمن
ودعة واطمئنان.
وحين يكون الداعي للصلح الذي فيه رضا الله سبحانه
هو العدو فإن معنى ذلك هو أن العدو قد اعترف بك، وبموقعك، وأصبح
على استعداد لأن يقبل شروطك العادلة، ومعنى ذلك هو:
أنك تكون قد سجلت نصراً
من أقرب طريق وأيسره.
وأما إذا دعاك هذا العدو إلى صلح ظالم وفيه ذل
للمسلمين، ووهن على الإسلام، فإن من الطبيعي أن ترفض صلحاً
كهذا لأنه تسجيل انتصار للعدو من أسهل طريق..
وثمة شرط آخر:
لا بد من توفره في أي عهد، وذلك من أجل أن يحتفظ
بقيمته، وبفعاليته، في حسم الصراع، ثم من أجل أن لا يوجب عقد العهد
ضعفاً
في موقف المسلمين، وفتح باب التشكيك في حقهم، أو إعطاء فرصة
المناورة للباطل.
وهذا الشرط لا بد للجانب المحق من الاهتمام به،
والعمل على توفيره بصورة أجلى وأتم، وهو أن:
«لا
تعقد عقداً
تجوز فيه العلل، ولا تعولن على لحن قول بعد التأكيد والتوثقة».
أي أنه لا بد أن لا تكون في العهد إبهامات يمكن
التشبث بها من قبل العدو، كما أنه لا بد أن يكون نفس العهد هو
المعيار والمرجع والفيصل في الأمور، فلا يعتمد على مواعيد أو لحن
قول، فإن ذلك يوجب وهناً
في العهد نفسه، وفيه فتح باب النقض، والخيانة، من دون أن يكون ثمة
حرج ظاهر في ذلك.
وذلك يعتمد على نباهة ودقة ذلك الذي يتصدى لعقد
العهد، وهو يتحمل مسؤولية أي تقصير في هذا المجال.
1 ـ
ونجد في نص المعاهدة التي كتبها علي أمير المؤمنين «عليه السلام»
فيما بين ربيعة، اليمن، ما يدل على أن العهد ملزم لكل الآخرين
الذين ينتمي إليهم المباشرون لعقد العهد.. وذلك يقطع أي عذر، ويمنع
من أي تعلل، أو محاولة خداع.
وهذا مطلب عادل، وسليم، فإن كل الأمور التي تمس
حياة المجتمعات، لا يمكن أن يعتمد فيها مبدأ موافقة كل فرد منها
ولا سيما مع اختلاف المصالح، وتشتت الآراء، وتباين الأهواء، حسبما
ذكر أمير المؤمنين «عليه السلام» في الفقرة المنقولة عنه في عهده
للأشتر النخعي «رحمه الله»..
2 ـ
إن عتب العاتبين، وغضب الغاضبين، لا يجوز أن يجعل ذريعة لنقض
العهد، ما دام أن إرضاء كل أحد غير ممكن، ولا سيما في الأمور
المرتبطة بمستقبل الجماعات، وعلاقاتها ومواقفها، حتى ولو كان
العاتبون والغاضبون فريقاً
ثالثاً، يريد أن يحصل على مكاسب سياسية أو غيرها، ويكون له دور ما
في التحرك السياسي، أو تأثير ـ إيجابي أو سلبي ـ على ساحة الصراع.
فإذا كان القانون العام هو عدم نقض العهد بسبب ذلك،
فلا بد أن تنقطع أطماع الطامعين، ما دام أن عتبهم لن يجدي نفعاً،
ولن يؤثر شيئاً.
3 ـ
إن العهد لا ينقض لأجل استذلال قوم قوماً،
ولا لمسبة قوم قوماً؛
فإن تعرض فريق للاستذلال من قبل فريق آخر، بسبب عقده للعهد، وكذا
اتخاذ عقد العهد من قوم وسيلة لتعييرهم ومسبتهم، لا يبرر للعاقدين
له نقض عهدهم..
وإذاً..
فإن من يقدم على عهد، لا بد وأن يعلم مسبقاً:
أنه لا بد له من الوفاء بما عقده، حتى في أشق الأحوال، وأصعبها،
فهو إذن عالم بما يفعل، ومطلع على نتائجه مسبقاً،
وقد أقدم مختاراً
على ذلك.. فعليه أن يتحمل نتائج ما أقدم عليه..
وقد أشار علي أمير المؤمنين «عليه السلام» إلى ذلك
كله في العهد الذي كتبه بين اليمن وربيعة، فقد جاء فيه:
«..لا
ينقضون عهدهم لمعتبة عاتب، ولا لغضب غاضب، ولا لاستذلال قوم قوماً
ولا لمسبة قوم قوماً
على ذلك شاهدهم وغائبهم، وسفيههم وعالمهم، وحليمهم وجاهلهم، ثم إن
عليهم عهد الله الخ..»([45]).
وحين يكون المعاهدون يتمتعون بحماية دولة الإسلام،
فإن أموالهم ـ كأموال المسلمين ـ لا تمس، بل تبقى لهم، ويمارسون
حريتهم التجارية بصورة تامة..
قال علي أمير المؤمنين «عليه السلام» في كتاب له
إلى عمال الخراج:
«ولا
تمسن مال أحد من الناس، مصل، أو معاهد، إلا أن تجدوا فرساً،
أو سلاحاً
الخ..»([46]).
وقد كتب علي أمير المؤمنين «عليه السلام» إلى بعض
عماله:
«واعزز
المسلمين، ولا تظلم المعاهدين»([47]).
وكتب أيضاً إلى عامل آخر له، يقول:
«أما
بعد، فإن دهاقين أهل بلدك شكوا منك غلظة وقسوة، واحتقاراً
وجفوة، ونظرت فلم أرهم أهلاً
لأن يدنوا لشركهم، ولا أن يقصوا ويجفوا لعهدهم، فالبس لهم جلباباً
من اللين تشوبه بطرف من الشدة، وداول لهم بين القسوة والرأفة،
وأمزج لهم بين التقريب والإدناء والإبعاد والإقصاء»([48]).
وعن نتائج الصلح والعهد، فهي:
1 ـ دعة الجنود.
2 ـ الراحة من الهموم.
3 ـ الأمن لبلاد المسلمين.
وذلك معناه:
أنك أصبحت قادراً
على التخطيط للمستقبل لأنك قد ارتحت من همومك، وأصبحت قادراً
أيضاً على تنفيذ خططك، لأنك تملك الوقت الكافي، والطاقات الفاعلة،
المهيأة للعمل الجاد والدائب، دونما مانع أو رادع..
كما أن هذا السلم والأمن لسوف يجنب بلادك التعرض
للأزمات الإقتصادية
الحادة، ويحفظ مرافقها الإقتصادية
والحيوية من التدمير، أو التعطيل، أو صرفها في مواجهة متطلبات
الحرب.
هذا، عدا عن حفظ القوى الفاعلة والمؤمنة من أن
تتعرض للتدمير، أو للتشويه، ثم ما ينشأ عن ذلك من آثار
إجتماعية
لا تجهل.
ويجب أن لا ننسى أن حالة عدم الاستقرار، بل والخوف
وعدم الأمن في أحيان كثيرة، من شأنها أن تشل حركة المجتمع في
المجالات المختلفة، وتمنعه من أن يقوم بدوره على النحو المطلوب
والمؤثر.
ثم هناك الحالة الفكرية والنفسية وكثير من السلبيات
الأخرى، التي تنشأ عن ظروف الحرب، وتتفاعل بصورة تصاعدية في كثير
من المجالات، والقطاعات..
وكل ذلك يمثل هموماً
حقيقية لأي حاكم يشعر بمسؤولياته الإلهية، والإنسانية تجاه مجتمعه
وأمته.
وإذا كان عقد العهد مع العدو لا يعني أن العدو قد
تنازل عن كل طموحاته، وصرف النظر عن كل مراداته وخططه، فإنه ربما
يكون قد قارب ليجد الفرصة للوثوب، وإيراد الضربة القاصمة..
فقد جاء النهي عن الاطمئنان لهذا العدو، حيث قد
تقدم قول أمير المؤمنين «عليه السلام» في عهده للأشتر:
«ولكن
الحذر كل الحذر من عدوك بعد صلحه؛ فإن العدو ربما قارب ليتغفل، فخذ
بالحزم واتهم في ذلك حسن الظن».
وقال تعالى:
﴿وَخُذُواْ حِذْرَكُمْ﴾([49]).
وبما أن الله سبحانه قد جعل عهده وذمته أمناً
أفضاه بين العباد برحمته، وحريماً
يسكنون إلى منعته، ويستفيضون إلى جواره، فإن الشرط الأساس فيه هو
أنه لا إدغال،
ولا مدالسة ولا خداع فيه؛ فإذا رأى أن العدو لا يعمل بشروط الصلح
ومقتضيات العهد، وإنما هو يتآمر، ويعد العدة للغدر، فإن نفس هذه
الأعمال تكون نقضاً
منه للعهد، وتخلياً
عن شروطه، فلا معنى حينئذٍ للالتزام بهذا العهد من طرف واحد، وإنما
لا بد من نبذ العهد إليه ومعاملته معاملة الخائن المجرم، قال
تعالى:
﴿وَإِمَّا تَخَافَنَّ مِن
قَوْمٍ خِيَانَةً فَانبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاء إِنَّ اللهَ
لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ﴾([50]).
وعن علي «عليه السلام»:
الوفاء
لأهل الغدر غدر عند الله، والغدر بأهل الغدر وفاء عند الله([51]).
وبالنسبة إلى بني النضير، فإنهم قد مارسوا الخيانة
في أبشع صورها وأفظعها، حين تآمروا على القيادة الإسلامية
والإلهية، فرد الله كيدهم إلى نحورهم، وحفظ الله نبيه، وأعز دينه،
وأدال المسلمين من أعدائهم، من أسهل الطرق، وأيسر السبل.
ونجد أمير المؤمنين «عليه السلام» قد أوجب على
واليه الوفاء بالعهد،
بل هو قد طلب منه أن يجعل نفسه جُنة دون ما أعطاه.
وقد علل ذلك:
بأنه من الأمور التي اتفقت عليها جميع الناس، رغم تفرق أهوائهم،
وتشتت آرائهم، وقد لزم ذلك المشركون فيما بينهم، وذلك انطلاقاً
من إحساسهم بضرورة ذلك، حين رأوا: عواقب الغدر الوخيمة، التي من
شأنها أن تدمر حياتهم، وتقضي على كل نبضات الراحة والاستقرار فيها.
ولكنهم قد خالفوا ضميرهم ووجدانهم، وكل المعايير
الأخلاقية، والعقلية في تعاملهم مع المسلمين، حيث أجازوا لأنفسهم
نقض عهودهم معهم، وتحمل كل ما لذلك من تبعات ونتائج.. وذلك يدلل
على عدم انسجامهم مع قناعاتهم ولا مع فطرتهم في مواقفهم تجاه
الإسلام والمسلمين.
وقد اعتبر «عليه السلام»:
من يخيس بعهده، ويغدر بذمته، ويختل عدوه، ويجتري على الله جاهلاً
لا يعرف الأمور ومواردها، ولا الصالح من الطالح، وهو شقي أيضاً،
لأنه بالإضافة إلى أنه يكون متجرئاً
على الله سبحانه في ذلك، فإنه يكون قد جر على نفسه الكثير من
المصائب والبلايا نتيجة لسياساته الخاطئة هذه.
وخلاصة الأمر:
أن العهد في الإسلام ليس وسيلة للمكر والخداع بهدف
الإيقاع بالعدو، وإنما هو أمانة ضميرية، ذات قاعدة إيمانية أساسية؛
فلا بد من رعايتها والوفاء بها ولا يسوغ نقض العهد
«بغير
حق»
حتى ولو كان فيه ما يوجب الضيق كما تقدم في عهد علي «عليه السلام»
للأشتر، وروي عن النبي «صلى الله عليه وآله» قوله:
«لا
دين لمن لا عهد له»([52]).
وقـد
مـدح
الله من يفي بعهده فقـال:
﴿وَالمُـوفُـونَ بِعَهْـدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ..﴾([53]).
وقد ذم علي «عليه السلام» عمرو
بن العاص فقال:
«ويُسأل
فيبخل، ويخون العهد»([54]).
وقد ذم «عليه السلام» أهل
البصرة بقوله:
«وعهدكم
شقاق»([55]).
وقال «عليه السلام»:
«وقد
ترون عهود الله منقوضة فلا تغضبون وأنتم لنقض ذمم آبائكم تأنفون»([56]).
وقد قال علي «عليه السلام»:
«إن
الوفاء توأم الصدق، ولا أعلم جنة أوقى منه، ولا يغدر من علم كيف
المرجع. ولقد أصبحنا في زمان قد اتخذ أكثر أهله الغدر كيساً،
ونسبهم أهل الجهل فيه إلى حسن الحيلة، ما لهم؟ قاتلهم الله. قد يرى
الحُوَّل القُلَّب وجه الحيلة، ودونه مانع من أمر الله ونهيه؛
فيدعها رأي عين بعد القدرة عليها، وينتهز فرصتها من لا حريجة له في
الدين»([57]).
وطبيعي أن ينال العقاب خصوص أولئك الذين ينقضون
العهد، ويخونون أماناتهم، وقد أوضح ذلك أمير المؤمنين «عليه
السلام» حينما قال:
«مع
أني عارف لذي الطاعة منكم فضله، ولذي النصيحة حقه، غير متجاوز
متهماً
إلى بريء، ولا ناكثاً
إلى وفيّ»([58]).
كما أن من الطبيعي:
أن يحتاط الحاكم الإسلامي، فلا يترك في أيدي
المعاهدين، الذين يعيشون في ظل حكمه، وتحت حمايته، من السلاح
والتجهيزات ما يشكل خطراً
على أمن الدولة، مع التأكيد على احترام كل ما يعود إليهم من أموال
وممتلكات، وعدم المساس بها في أي حال. قال علي أمير المؤمنين «عليه
السلام»:
«..ولا
تمسن مال أحد من الناس، مصل ولا معاهد، إلا أن تجدوا فرساً
أو سلاحاً
يعدى به على أهل الإسلام؛ فإنه لا ينبغي للمسلم أن يدع ذلك في أيدي
أعداء الإسلام؛ فيكون شوكة عليه