عظات وكرامات أو سياسات إلهية
ماذا
في هذا الفصل؟!
وهذا الفصل يتعلق ببعض ما يقال:
إنه حصل في ذات الرقاع، وهي الأمور التالية:
1 ـ
إلقاء الأضواء على قضية شراء النبي «صلى الله عليه
وآله» جملاً
من جابر بن عبد الله الأنصاري، وذلك في طريق العودة من هذه الغزوة،
وظهور كرامة للنبي «صلى الله عليه وآله» بالنسبة لاستعادة ذلك الجمل
قوته، بعد أن كان في آخر الركب.
ثم سوغ «صلى الله عليه وآله» جابراً الجمل وثمنه.
بالإضافة إلى حديث جرى بين النبي «صلى الله عليه وآله» وجابر في طريق
العودة إلى المدينة.. ثم إلقاء الأضواء على القيمة الحقيقية لهذين
الحدثين بالمقدار الذي يسمح لنا به المجال.
2 ـ
ثم نتحدث عن قضية أخرى لجابر مع النبي «صلى الله عليه وآله»، ترتبط
بقضاء دين كان على عبد الله والد جابر، وهي قضية مثيرة وقد تحدثنا عن
بعض دلالاتها الهامة بصورة موجزة أيضاً.
3 ـ
ونذكر أيضاً ما قاله النبي «صلى الله عليه وآله» في هذه الغزوة، حينما
جاء رجل بفرخ طائر، فأقبل أحد أبويه حتى طرح نفسه بين يدي الذي أخذ
فرخه، وألقينا الأضواء على هذه الحادثة حسبما اقتضته المناسبة.
4 ـ
ثم تكلمنا عن قصة أخرى يقال: إنها حدثت في هذه الغزوة حيث جاءت أعرابية
إلى النبي «صلى الله عليه وآله» بابن لها، ليعالجه، فاستجاب «صلى الله
عليه وآله» لطلبها، مع إلماحة إلى بعض دلالات هذه القضية بصورة موجزة
أيضاً..
5 ـ
ثم نشير إلى قصة أخرى في هذه الغزوة ظهرت فيها كرامة للنبي «صلى الله
عليه وآله»، حيث أكل أصحابه من ثلاث بيضات نعام، وشبعوا. والبيض في
القصعة كما هو،
مع إشارة موجزة إلى بعض ما يستفاد من هذا الحدث.
6 ـ
وينتهي بنا المطاف إلى الحديث عن قضية أخرى يقال: إنها قد حدثت في هذه
الغزوة، وهي قصة ذلك الجمل الذي جاء يستعدي على صاحبه، فبادر النبي
«صلى الله عليه وآله» إلى تفريج كربه، وحل مشكلته.
7 ـ
ثم استطردنا إلى الحديث عن الكرامات والمعجزات وعن لزوم معرفة النبي
«صلى الله عليه وآله» بلغات البشر، وظهر لنا: أن ذلك كله وسواه من
التصرفات المتميزة والملفتة إنما هي مقتضيات طبيعية لقيادته «صلى الله
عليه وآله» ـ وكذلك الإمام
«عليه
السلام»
ـ لمسيرة البشرية نحو كمالها المنشود، ونحو تحقيق الأهداف الإلهية من
الخلق كله..
وقد اقتضى ذلك:
أن نشير بصورة موجزة إلى جهات أخرى ترتبط بهذا البحث أو
تنتهي إليه؛
فإلى ما يلي من مطالب.
ومن الله نستمد العون، والقوة، وهو الهادي إلى سواء
السبيل.
يقول المؤرخون:
إن النبي «صلى الله عليه وآله» وهو في طريقه إلى المدينة اشترى من جابر
جملاً
بأوقية، واشترط له ظهره إلى المدينة، واستغفر له في الطريق خمساً
وعشرين مرة،
وفي الترمذي سبعين مرة.
زاد ابن سعد:
وسأله عن دين أبيه فأخبره به([1]).
وتفصيل ذلك:
أن جابراً كان على جمل ثقال في سفر، في آخر القوم؛
فمر به النبي «صلى الله عليه وآله»،
فقال: من هذا؟!
فقلت:
جابر بن عبد الله.
قال:
فما لك؟!
قلت:
إني على جمل ثقال.
قال:
أمعك قضيب؟
قلت:
نعم.
قال:
أعطنيه، فضربه، فزجره؛ فكان من ذلك المكان من أول
القوم.
قال:
بعنيه.
قلت:
بل هو لك يا رسول الله.
قال:
بل بعنيه؛ فقد أخذته بأربعة دنانير، ولك ظهره إلى
المدينة.
فلما قدمت المدينة، قال:
يا بلال، اقضه وزده.
فأعطاه أربعة دنانير وزاده قيراطاً.
قال جابر رضي الله عنه:
وأعطاني الجمل
وسهمي مع القوم([2]).
وفي لفظ عن جابر قال:
دخل النبي «صلى الله عليه وآله» المسجد، فدخلت إليه،
فعلفت الجمل في ناحية البلاط، فقلت: يا رسول الله، هذا جملك.
فخرج «صلى
الله عليه وآله» فجعل يطوف بالجمل، قال: الثمن والجمل لك([3]).
وحسب نص آخر قال جابر:
«وتحدثت
مع رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فقال لي: أتبيعني جملك هذا يا
جابر؟
قال:
قلت: يا رسول الله، بل أهبه لك.
قال:
لا، ولكن بعنيه.
قال:
قلت: فسمنيه يا رسول الله.
قال:
قد أخذته بدرهم.
قال:
قلت: لا، إذن تغبنني يا رسول الله.
قال:
فبدرهمين.
قال:
قلت: لا.
قال:
فلم يزل يرفع لي رسول الله «صلى الله عليه وآله» في ثمنه، حتى بلغ
الأوقية.
قال:
قلت: فقد رضيت يا رسول الله؟
قال:
نعم.
قلت:
فهو لك.
قال:
قد أخذته.
ثم قال:
يا جابر، هل تزوجت بعد؟([4]).
قال:
قلت: نعم يا رسول الله.
قال:
أثيباً
أو بكراً؟!
قلت:
لا، بل ثيباً.
قال:
أفلا جارية تلاعبها وتلاعب؟.
قال:
قلت: يا رسول الله، إن أبي أصيب يوم أحد، وترك بنات له سبعاً([5])؛
فنكحت امرأة جامعة تجمع رؤوسهن، وتقوم عليهن.
قال:
أصبت إن شاء الله أما إنا لو قد جئنا صراراً
(موضع على ثلاثة أميال من المدينة) أمرنا بجزور؛ فنحرت وأقمنا عليها
يومنا ذاك، وسمعت بنا، فنفضت نمارقها([6]).
قال:
قلت: والله يا رسول الله ما لنا من نمارق.
قال:
إنها ستكون؛ فإذا أنت قدمت فاعمل عملاً
كيساً.
قال:
فلما جئنا صراراً
أمر رسول الله «صلى الله عليه وآله» بجزور فنحرت،
وأقمنا عليها ذلك اليوم، فلما أمسى رسول الله «صلى الله عليه وآله» دخل
ودخلنا.
قال:
فحدثت المرأة الحديث، وما قال لي رسول الله «صلى الله عليه وآله».
قالت:
فدونك،
فسمع وطاعة.
قال:
فلما أصبحت أخذت برأس الجمل، فأقبلت به حتى أنخته على باب رسول الله
«صلى الله عليه وآله» قال: ثم جلست في المسجد قريباً
منه.
قال:
وخرج رسول الله «صلى الله عليه وآله» فرأى الجمل، فقال:
ما هذا؟.
قالوا:
يا رسول الله، هذا جمل جابر جاء به.
قال:
فأين جابر؟
قال:
فدعيت له.
قال:
يا بن أخي، خذ برأس جملك فهو لك.
ودعا بلالاً، فقال له:
اذهب
بجابر فأعطه أوقية.
قال:
فذهبت معه،
فأعطاني أوقية، وزادني شيئاً يسيراً.
قال:
فوالله ما زال ينمى عندي، ويرى مكانه من بيتنا، حتى
أصيب أمس فيما أصيب لنا،
يعني يوم الحرة([7]).
وفي
نص آخر:
«ثم
قدم رسول الله «صلى الله عليه وآله» قبلي، وقدمت بالغـداة؛
فجئت المسجد فـوجـدته
على بـاب
المسجد، فقـال:
الآن حين قدمت؟
قلت:
نعم.
قال:
فدع جملك، وادخل فصل ركعتين.
قال:
فدخلت فصليت ركعتين الخ..»([8]).
ثم ذكر هبة النبي «صلى الله عليه وآله» الجمل، وثمنه
له.
وفي بعض روايات مسلم عن جابر:
أن هذه القضية
قد حصلت له, وهم مقبلون من مكة إلى المدينة([9]).
إن المراجع لنصوص هذه الرواية يجد:
أن فيها العديد من موارد الاختلاف والتناقض، خصوصاً
فيما يرتبط بقيمة جمل جابر.
فقيل:
اشتراه منه
بأوقية([10])
وهي أربعة دنانير.
قال الأشخر اليمني:
«وهي
أكثر الروايـات،
كما نقله البخـاري
عن الشعبي»([11]).
وقيل:
بأوقيتين([12]).
وقيل:
بثلاث([13]).
وقيل:
بأربع([14]).
وقيل:
بخمس([15]).
وقيل:
بست أواق([16]).
وقيل:
بثمان مئة
درهم([17]).
وقيل:
بخمسة دنانير([18]).
وقيل:
بدينارين
ودرهمين([19]).
وقيل:
بعشرين ديناراً([20]).
وحملها البعض على أنها كانت دنانير صغاراً([21]).
وقيل:
بأربعة دنانير، بعد أن أعطاه درهماً
ممازحاً
له([22]).
وهذا القول الأخير:
لا ينافي
القول بأنه اشتراه بأوقية، لأن ذلك في معنى الأوقية([23]).
والروايات تصرح:
بأن النبي «صلى الله عليه وآله» زاد جابراً على ثمن جمله.
وتصرح بعض الروايات:
بأنه قد زاده قيراطاً.
فقال جابر:
«لا
تفارقني زيادة رسول الله «صلى الله عليه وآله»؛ فحفظه حتى أصيب منه يوم
الحرة،
ففيه التبرك بآثار الصالحين»([24]).
قيل:
إن قصة جمل جابر قد كانت في غزوة ذات الرقاع حسبما
تقدم.
وبعض الروايات
تقتصر على القول بأنها كانت في رجوعه من مكة إلى المدينة([25]).
وقيل:
كانت في رجوعه
من غزوة تبوك([26])،
وهي متأخرة عن غزوة ذات الرقاع.
وقد يناقش في ذلك:
بأن سؤال النبي «صلى الله عليه وآله» له عن كونه قد تزوج أو لا،
واعتذاره لتزوجه ثيباً
بأنه قد لاحظ حال أخواته، اللواتي تركهن له أبوه المستشهد في أُحد
يدل على أنه إنما تزوج بعد مقتل أبيه في أُحد،
ولم يؤخر ذلك إلى غزوة تبوك.
إلا أن يقال:
إنه قد يكون تزوج أكثر من مرة، وتكون مشكلة أخواته
موجودة في المرتين،
أو يكون قد تأخر زواجه طيلة هذه المدة، وإن كان ذلك بعيداً.
وإننا حين نراجع قصة جمل جابر، فإننا نجد فيها:
1 ـ
ملامح غنية من الخلق الرفيع لرسول الله «صلى الله عليه وآله»، لما
انطوت عليه من لطف ورقة، ومحبة وأريحية ظاهرة، تظهر لنا: أن علاقاته
«صلى الله عليه وآله» بأصحابه إنما كانت من منطلق الحب والعطف والصفاء
والمودة، مع إجلال منهم له وإكبار، وتقديس.
2 ـ
إننا نجد الرسول الأكرم
«صلى
الله عليه وآله»
في هذه القصة ـ كما هو في غيرها ـ يعيش آلام الآخرين، ويشاركهم الشعور
بها. وقد كان والد جابر بن عبد الله قد استشهد في حرب أحد، وأصبح جابر
هو المسؤول عن الأسرة بعد أبيه، وكان عليه أن يختار للزواج امرأة
تستوعب وتتفهم الواقع الذي استجد نتيجة لذلك، وتشاركه في معالجته بأحسن
وجه وأتمه.
وقد ظهرت رقة حال جابر، من الجهة المالية والمعيشية، في
أن الجمل الذي أعده لهذه الأسفار البعيدة والشاقة كان من الضعف بحيث
أصبح في آخر الركب.
ولم يكن الرسول
«صلى
الله عيه وآله»
بالذي يغفل عن تفقد حال أصحابه، والوقوف عليها عن كثب ليشاركهم حياتهم
حلوها ومرها.
وها هو يجد جابراً على جمله الضعيف المكدود في آخر
الركب.
3 ـ
إن من الملاحظ: أن الرسول «صلى الله عليه وآله» كان
يسير مع الناس، وفي أواخرهم أحياناً، فيعرف حال أصحابه في مسيرهم ذاك
بصورة أتم وأوفى. ولم يكن ليقتصر على حملة الأخبار إليه «صلى الله عليه
وآله»، فكان يندفع للتعرف على الأمور بنفسه، ومن دون أي وسطاء،
ربما تؤثر التوجهات السياسية والارتباطات الاجتماعية وغيرها على مستوى
دقتهم، واستيعابهم لسائر الخصوصيات التي يكون الوقوف عليها مفيداً
بل وضرورياً
في كثير من الأحيان.
هذا كله:
لو فرض أن هؤلاء النقلة على درجة من الحيطة الدينية والورع والصفاء،
والوفاء. وقد لا يكون الكثيرون منهم كذلك بالفعل.
4 ـ
قد لاحظنا: أن النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» قد دخل مع جابر ـ
بأسلوب رضي وسليم ـ إلى حياته الخاصة، بل وإلى أعماقها، فعرف السر الذي
لأجله أقدم جابر على التزوج بامرأة ثيب.
وعرف ما يعاني منه جابر من ضغط الظروف، وما يتحمله من
مسؤولية نجمت عن فقد أبيه ووجود أخواته السبع.
ثم عرف أيضاً:
أن جابراً لا يملك شيئاً من النمارق، أو غيرها مما
يتنعم به المتنعمون.
ثم إنه «صلى الله عليه وآله» لم يترك توصية جابر بأن
يعمل عملاً كيساً، يتسم بالعقلانية والتدبير.
كما أنه قد أفسح في آماله وطموحاته حينما أخبره: أن
حالته لسوف تتغير، وتتحسن من الناحية المعيشية، ولسوف يملك حتى النمارق
في المستقبل، وما عليه من أجل الحصول على ذلك، والوصول إليه إلا أن
يعمل عملاً كيساً.
5 ـ
إن عرض النبي «صلى الله عليه وآله» على جابر شراء بعيره
بطريقة فيها نوع من المداعبة له، ليفتح قلبه، وليسقط حواجز الرهبة
لديه، إنما أراد أن يجعل منه ذريعة لإيصال مال إليه، يستعين به على
مصاعب الحياة، وعلى إحداث تغيير أساسي فيها، ولكن بطريقة لا تبقي مجالاً
للتساؤل ولا للاعتراض من أحد،
بخلاف ما لو بادر إلى تقديم هذا المال إلى جابر دون مبرر ظاهر.
6 ـ
ولا نريد أن نترك الحديث عن هذه القضية دون الإلماح إلى أن ذلك يعطينا
درساً
دقيقاً
ورائعاً
عن طبيعة العلاقات التي تربط بين القائد والرعية؛ فهي ليست علاقات
السيد والمسود، والأمير والمأمور، أو القوي والضعيف أو ما إلى ذلك.
وإنما هي علاقات الإنسان بالإنسان من خلال الإحساس
بالمسؤولية والواجب الإلهي والإنساني.
ونزيد ذلك توضيحاً حين نقول:
إن سلوك النبي «صلى الله عليه وآله» هذا من جهة ذاته
ليس تواضعاً
منه ولا هو إحسان وتفضل فقط، وإنما هو مقتضى إنسانيته الكاملة وهو عمل
بواجبه الإلهي، والإنساني،
وإن كان من جهة قياسه بما هو خارج عن مقام ذاته يعد من
التواضع والإحسان والتفضل في أعلى درجاتها، وأوضح تجلياتها.
وفقنا الله للسير على هدى النبوة، والتأسي برسوله
الأكرم الأعظم «صلى الله عليه وآله».
قال الواقدي:
وحدثني إسماعيل بن عطية بن عبد الله بن أنيس، عن أبيه،
عن جابر بن عبد الله، قال:
لما انصرفنا
راجعين([27])؛
فكنا بالشُّقرة، قال لي رسول الله «صلى الله عليه وآله»: يا جابر ما
فعل ديَن أبيك؟!
فقلت:
عليه، انتظرت يا رسول الله أن يجذَّ
نخله.
قال رسول الله «صلى الله عليه
وآله»:
إذا جذذت فأحضرني.
قال:
قلت: نعم.
ثم قال:
من صاحب دين أبيك؟
فقلت:
أبو الشحم اليهودي له على أبي سقة (جمع وسق) تمر.
فقال لي رسول الله «صلى الله عليه
وآله»:
فمتى تجذها؟
قلت:
غداً.
قال:
يا جابر، فإذا جذذتها فاعزل العجوة على حدتها، وألوان
التمر على حدتها.
قال:
ففعلت، فجعلت الصيحاني على حدة، وأمهات الجرادين على
حدة، والعجوة على حدة، ثم عمدت إلى جماع من التمر، مثل نخبة، وقرن،
وشقحة، وغيرها من الأنواع، وهو أقل التمر، وجعلته حبلاً
واحداً، ثم جئت رسول الله «صلى الله عليه وآله» فخبرته، فانطلق رسول
الله «صلى الله عليه وآله» ومعه عِلية
أصحابه، فدخلوا الحائط وحضر أبو الشحم.
قال:
فلما نظر رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى التمر
مصنفاً، قال: اللهم بارك له.
ثم انتهى إلى العجوة؛ فمسها بيده وأصناف التمر، ثم جلس
وسطها، ثم قال: ادع غريمك. فجاء أبو الشحم.
فقال:
اكتل.
فاكتال حقه كله من حبل واحد وهو العجوة، وبقية التمر
كما هو.
ثم قال:
يا جابر، هل بقي على أبيك شيء؟
قال:
قلت: لا.
قال:
وبقي سائر التمر؛ فأكلنا منه دهراً،
وبعنا، حتى أدركت الثمرة من قابل، ولقد كنت أقول: لو بعت أصلها ما بلغت
ما كان على أبي من الدين الخ..([28]).
وفي وقفة قصيرة مع هذا الحدث نلمح باختصار شديد إلى
النقاط التالية:
1 ـ
إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» لا ينسى أولئك الصفوة الأبرار،
الذين استشهدوا في سبيل الله سبحانه، فيسعى لحل العقد والمشكلات التي
ربما تكون لا تزال عالقة، وبحاجة إلى حل.
فها هو يريد إبراء ذممهم من حقوق الناس وديونهم ما وجد
إلى ذلك سبيلاً، لكي تطيب سمعتهم ويذكرهم الناس بالإجلال والإكبار، ومن
دون أي حزازة، أو غضاضة.
ثم لتطيب نفوس أبنائهم، وأقاربهم، ويزول شعورهم بالحرج
أمام الناس وفي أنفسهم، حتى يواجهوا انفراجاً
في حالتهم المعيشية، التي تتسم بشيء من الضيق والصعوبة.
2 ـ
رغم أن ذلك الدائن لعبد الله والد جابر كان رجلاً من
اليهود، إلا أننا لم نجد تردداً من النبي «صلى الله عليه وآله» في أمر
إرجاع المال إليه، ولا أخذ بنظر الاعتبار مواقف اليهود الحاقدة على
الإسلام وعلى المسلمين، ومؤامراتهم وكيدهم، والتي كان ولا يزال هو
والمسلمون يعانون منها.
وقد يكون من أسباب ذلك ـ بالإضافة إلى أن هذا هو حكم
الإسلام، وهذه هي أخلاقياته، حتى مع أعدى أعدائه، وهو ينطلق في ذلك مما
يملكه من قيم ومبادئ إنسانية وإلهية سامية ومقدسة ـ هو:
أنه يريد بذلك أن يقيم حركة التعامل فيما بين الناس على
أسس وضوابط ثابتة، يمكن للناس أن يعتمدوا عليها، ويرجعوا إليها وأن
يطمئنوا إلى هذا الثبات فيها ليمكنهم التحرك الفاعل والمؤثر بالفعل،
والتخطيط لبناء الحياة في المستقبل. إذ بدون هذا الثبات، ومن دون وضوح
ضوابط التعامل، فإن الحياة تصبح قلقة، وغير مشجعة على القيام بمبادرات
ذات طابع حيوي وشمولي.
3 ـ
إن والد جابر قد استشهد في حرب أحد، وكانت هذه القضية
قد جرت حين رجوع النبي «صلى الله عليه وآله» من غزوة ذات الرقاع التي
كانت بعد الحديبية، حسبما أثبتناه فيما سبق.
ومعنى ذلك هو:
أنه قد مضت عدة سنوات، ولم يستطع جابر أن يقضي دين أبيه، ولعله قد قضى
شطراً
من ذلك الدين في السنوات والمواسم السابقة.
نعم،
تمضي عدة سنوات، ولا ينسى النبي «صلى الله عليه وآله» ذلك الدين، الذي
لم يستطع جابر أن يتخلص منه، ولم تسنح الفرصة بعد لرسول الله «صلى الله
عليه وآله» أيضاً للمبادرة إلى ذلك!
4 ـ
إن النبي «صلى الله عليه وآله» قد قبل أن يكون وفاء دين
عبد الله من نفس النخلات التي كانت له، ولم يبادر إلى تقديم أية ضمانة
في أن يتم وفاؤها من بيت مال المسلمين. إذ
إن
عبد الله كان قد استفاد من ذلك المال، ولديه ما يمكن الاعتماد عليه في
وفاء ذلك الدين. واستشهاده لا ينقل هذا الحق عن ماله ليصبح حقاً
على بيت مال المسلمين.
5 ـ
إن طريقة وفاء دين عبد الله قد أخذت صفة الكرامة
الإلهية من الله لرسوله «صلى الله عليه وآله»، حينما ظهرت البركة في
التمر، حتى ليقول جابر، بعد أن استوفى ذلك اليهودي حقه من خصوص العجوة
التي هي أفضل أنواع التمر:
«وبقي
سائر التمر؛ فأكلنا منه دهراً وبعنا، حتى أدركت الثمرة من قابل، ولقد
كنت أقول: لو بعت أصلها ما بلغت ما كان على أبي من الدين».
6 ـ
ونلفت النظر هنا إلى أن طريقة تعامل النبي «صلى الله عليه وآله» مع هذه
القضية تشير إلى أنه «صلى الله عليه وآله» كان يخطط لإظهار
هذا الأمر، بطريقة تجسيد الواقع. حيث نجد أنه «صلى الله عليه وآله» قد
خطط ليكون الحدث في البستان نفسه، ولم يقنع بأن يؤتى بالثمرة إلى
البيت.
ثم هو يأمره بتقسيم التمر كل قسم على حدة.
ثم هو يلمس العجوة بيده الشريفة، وكذا سائر الأنواع.
ثم يجلس في وسط التمر..
بالاضافة إلى:
أنه لا يأتي وحده، بل يأتي ومعه علية أصحابه، وليس خصوص
الأشخاص العاديين منهم. ثم يشهد الجميع هذا التكريم لجابر، ويشهدون هذه
الكرامة الإلهية التي أظهرها الله على يد رسوله «صلى الله عليه وآله».
إلى غير ذلك من دروس وعبر يمكن استفادتها من هذا الحدث.
فصلى الله على رسوله وعلى الأئمة الميامين من آله وسلم تسلمياً
كثيراً.
وفي هذه الغزوة أيضاً جاء رجل بفرخ طائر فأقبل أحد
أبويه حتى طرح نفسه بين يدي الذي أخذ فرخه، فعجب الناس من ذلك.
فقال «صلى الله عليه وآله»:
أتعجبون من
هذا الطائر؟ أخذتم فرخه، فطرح نفسه رحمة لفرخه. والله، لربكم أرحم بكم
من هذا الطائر بفرخه([29]).
وما يلفت في هذه الرواية ـ على تقدير صحتها، ولا نرى
داعياً
للوضع فيها ـ هو أننا نجده «صلى الله عليه وآله» يستفيد حتى من مناسبة
كهذه ليقوم بدوره في تعريف أصحابه على أمر يلزمهم أن يعرفوه بعمق
وصفاء. وذلك من خلال الاستفادة من أسلوب التجسيد الظاهر للحقيقة التي
يراد اطلاعهم عليها، وإقناعهم بها. حيث يكون ذلك أوقع في النفس مما لو
اكتفى بأسلوب التعليم النظري والمجرد، خصوصاً
إذا أدركنا: أن هذا التجسيد قد ترك أثره النفسي فيهم، وأثار فيهم
انفعالات ظهرت على شكل تعجب من رحمة ذلك الطائر بولده، فكان لا بد من
الاستفادة من هذه الحالة النفسية وتوظيفها لصالح الإدراك الشعوري
بالحقيقة التي يراد لهم لمسها، بروحهم وبمشاعرهم
بالدرجة الأولى، ثم بعقلهم في مرحلة لاحقة.
النبي
يعالج
ابن الأعرابية:
وروي:
أنه في هذه الغزوة جاءت امرأة بدوية بابنها إلى النبي
«صلى الله عليه وآله»، فقالت له: يا رسول الله، هذا ابني قد غلبني عليه
الشيطان،
ففتح فاه فبزق فيه، وقال: اخسأ عدو الله أنا رسول الله.
ثم قال رسول الله «صلى الله عليه
وآله» لها:
شأنك بابنك،
لن يعود إليه شيء مما كان يصيبه. فكان كذلك([30]).
وذكرت هذه
القصة في غزوة المريسيع أيضاً([31])
التي ستأتي في حوادث السنة السادسة.
ونقول:
1 ـ
إن هذه الأعرابية قد جاءت بولدها إلى النبي «صلى الله
عليه وآله» ليداويه لها. منساقة في ذلك بدافع من إحساسها الفطري بما
لرسول الله «صلى الله عليه وآله» من قداسة وطهر، وكرامة على الله
سبحانه، وبأنه مصدر للبركات والكرامات.
وقد استجاب «صلى الله عليه وآله» لها، وعالج ولدها
بطريقة تكرس هذا الشعور لديها، ولدى كل من حضر وعاين ما يجري، حيث تفل
في فم ولدها، وأخبرها بالنتيجة بصورة قطعية.
وذلك يكذب ما يريد البعض أن يدعيه من أنه صلى الله عليه
وآله مجرد طارش ورسول، أبلغ الناس رسالة وانتهى، ولا شيء سوى ذلك.
ثم يقولون:
إن القداسة إنما هي لرسالته وليست له، فلا داعي للغلو
فيه، ولا للتبرك بآثاره.
2 ـ
إن ذلك يشير أيضاً:
إلى أن على الناس
أن
يعوا: أن للأمور المعنوية والروحية دورها في دفع البلايا التي يتعرض
لها الإنسان كما أن عليهم أن يؤمنوا بأن ما يعتري الإنسان من أعراض
وأمراض، ليس كله ناشئاً
عن تحولات مادية فيه، ولا يمكن تفسيره كله على هذا الأساس. فإن هناك
قوى خفية تشارك أيضاً في التأثير في حياة الإنسان وفي سلامته. وإن
معالجة آثار تصرفاتها لا يكون من خلال الوسائل المادية في أحيان كثيرة،
بل لا بد من وسائل أخرى قد لا يؤمن بها كثير من الماديين.
ويذكر المؤرخون في حوادث هذه
الغزوة:
أن رجلاً جاء للنبي «صلى الله عليه وآله» بثلاث بيضات من بيض النعام،
فقال «صلى الله عليه وآله» لجابر: دونك يا جابر، فاعمل هذه البيضات.
قال جابر:
فعملتهن، ثم جئت بهن في قصعة، فجعلنا نطلب خبزاً،
فلم نجد، فجعل «صلى الله عليه وآله» وأصحابه يأكلون من ذلك البيض بغير
خبز، حتى انتهى كل إلى حاجته، أي إلى الشبع، والبيض في القصعة كما هو([32]).
وذكرت هذه
القصة في غزوة المريسيع([33]).
ونقول:
وفيها أيضاً:
كرامة ظاهرة لرسول الله «صلى الله عليه وآله». وربما يكون ظهور هذه
الكرامات ضرورياً
من أجل أن لا يغتر المسلمون بأنفسهم، فيرون: أن ما يحققونه من انتصارات
على أعدائهم، ثم ما يحصلون عليه من مكاسب، مادية، ومعنوية، وشوكة،
ونفوذ، على مستوى المنطقة بأسرها، إنما كان بالدرجة الأولى بسبب هذه
الألطاف الإلهية، التي يشملهم الله بها، وليس التأثير مقتصراً
على قدراتهم الذاتية، وحسن تدبيرهم في الاستفادة منها في الوقت
المناسب، وفي المحيط المناسب.
ومن جهة ثانية، فإن من الواضح:
أن وجود النبي «صلى الله عليه وآله» بين ظهرانيهم، لا
ينبغي أن يؤثر على نوع ومستوى العلاقة التي يجب أن تحكم نظرتهم إليه
«صلى الله عليه وآله».
فلا يجوز أن يعتادوا عليه، إلى درجة أن يصبح رجلاً
عادياً
فيما بينهم، بل لا بد من الاحتفاظ بذلك الشعور العفوي لديهم والذي يؤكد
على ارتباطه «صلى الله عليه وآله» بالغيب، بالمصدر الأول جل وعلا..
فتأتي هذه الكرامات لتحدث التصحيح في مسار تعاملهم معه
ونظرتهم إليه؛ لأن هذا التصحيح ضروري، ولا بد منه، إذا أريد لكل كلمة
وموقف منه «صلى الله عليه وآله» أن يحدث الأثر العميق والدقيق في روح
الإنسان، وفي مشاعره، وفي سلوكه، فضلاً عن أن يحدث التغيير الجذري في
تكوينه الفكري والعقيدي بصورة عامة.
ولأجل ذلك قلنا:
إن ظهور هذه الكرامات كان ضرورياً
من فترة لأخرى حسبما تقتضيه المصلحة الإيمانية
والإسلامية في مختلف المجالات، وعلى جميع المستويات. وهذا واضح لا يكاد
يخفى على أحد.
وفي هذه الغزوة أيضاً ـ كما يقولون
ـ:
جاء جمل حتى وقف عنده «صلى الله عليه وآله» ورغا،
فأخبر النبي «صلى الله عليه وآله» أصحابه بأن هذا الجمل يستعديه على
سيده،
(يزعم:
أنه كان يحرث عليه منذ سنين، وأنه أراد أن ينحره)
وقال «صلى الله عليه وآله»: إذهب يا جابر إلى صاحبه، فأت به.
قال جابر (رض):
فقلت: لا أعرفه.
قال:
إنه سيدلك عليه.
قال جابر:
فخرج بين يدي
حتى وقف على صاحبه، فجئته به، فكلمه «صلى الله عليه وآله» في شأن
الجمل([34]).
ونقول:
قد ذكرت هذه
القصة أيضاً في غزوة بني المصطلق (المريسيع)([35]).
ونحن نسجل هنا النقاط التالية:
1 ـ
قد ذكرت هذه الرواية: أن الناس كانوا يحرثون على الإبل في ذلك الزمان
ولا ندري مدى صحة ذلك.
2 ـ
إن هذه الرواية تؤكد ما ورد في الروايات المتواترة، التي قد تعد
بالمئات، وتؤكد على ما للحيوانات من حقوق يلزم مراعاتها، والالتزام بها.
وقد ألف سماحة العلامة الحجة الشيخ علي الأحمدي «رحمه
الله» كتاباً
قيماً
لم يطبع بعد، ولنا في هذا المجال كتاب باسم
«حقوق
الحيوان في الإسلام»
فيمكن الرجوع إليه..
معرفة النبي
بلغات
البشر، والحيوان والجماد، والشجر:
3 ـ
قد أوضحت هذه الرواية: ودلت الروايات الكثيرة غيرها على أن النبي «صلى
الله عليه وآله» كان يعرف ألسنة الحيوانات عموماً. وقد فهم ما قاله
الجمل، الذي جاء إليه «صلى الله عليه وآله» ليشتكي سيده الذي كان يحرث
عليه منذ سنين، والآن يريد أن ينحره الخ..
ونجد في كتب الحديث والتاريخ الشيء الكثير مما يتحدث عن
كرامات لرسول الله «صلى الله عليه وآله»، منذ ما قبل بعثته، وحتى
وفاته، مثل تسليم الحجر والشجر عليه
«صلى
الله عليه وآله»،
وتسبيح الحصى في كفيه.
وكذلك امتثال الشجر أوامره، وشهادته له، ومجيء الشجرة
إليه لتظله، وتسلم عليه، وتأمين أسكفة الباب، وحوائط البيت على دعائه،
وتسبيح الطعام بين أصابعه.
وإخبار الشاة له بأنها مسمومة وشكوى البعير له قلة
العلف، وكثرة العمل.
وشكوى بعض
الطيور له «صلى الله عليه وآله» أخذ بيضه أو فراخه، وسجود البعير
والغنم له وتكليم الحمار له، وشهادة الجمل عنده: أنه لصاحبه الأعرابي
دون من ادعاه، وسؤال الظبية أن يخلصها لترضع ولدها وتعود، وغير ذلك([36]).
ومن جهة ثانية:
فقد دلت
النصوص الكثيرة على أنه «صلى الله عليه وآله» كان يعرف لغات البشر
أيضاً، وقد تكلم بعدد منها في مناسبات عديدة([37]).
1 ـ السؤال الأول:
والسؤال الذي يواجهنا بادئ ذي بدء هو:
هل إن هذه القضايا وكثيراً
غيرها مما زخرت به المجاميع الحديثية والتاريخية، وغيرها، لا بد من
تصنيفها في عداد الكرامات والمعجزات، وخوارق العادات، التي تهدف إلى
مواجهة الإنسان المكابر أو الشاك بالصدمة التي توصد أمامه كل أبواب
التملص والتخلص، والتجاهل للواقع، ودلائله الظاهرة، وأعلامه الباهرة،
وحججه القاهرة؟!.
أم أن الأمر يتعدى ذلك ليصب في خانة تجلي السنن
والنواميس الحقيقية التي تحكم المسار العام فيما يرتبط بتبلور الشخصية
القيادية الواقعية في نطاق هيمنة
هذه القيادة على المسار الواقعي العام، من خلال تلك
النواميس، وعلى أساسها؟!
علماً بأن ذلك لا يقلل من قيمة تلك الكرامات والمعجزات،
بل هو يجليها بصفتها ضرورة حياتية في نطاق الهداية الإلهية التامة على
أساس نواميس الواقع ومقتضياته.
2 ـ السؤال الثاني:
وثمة سؤال آخر نعرض له هنا، وهو:
أنه إذا كان النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله» يعرف
جميع اللغات؛ فلماذا يصر على مراسلة عظيم فارس، وعظيم الروم وملك
الحبشة، والمقوقس، وغيرهم بخصوص اللغة العربية؟!
وهل ثمة خلفيات سياسية، أو تشريعية دينية أو غيرها وراء
هذا التمسك باللغة العربية؟!
وأكثر من ذلك:
أننا
نجد الإسلام لا يرضى في عباداته،
وفي موارد معينة أخرى بغير اللغة العربية.
فلا تصح الصلاة مثلاً
باللغات الأخرى، من أي كان من الناس: العربي،
والرومي،
والحبشي،
والفارسي، وغيرهم.
فما هو السر والدافع إلى هذا الإلزام والالتزام،
يا ترى؟!.
ونحن في مقام الإجابة على هذين السؤالين، نقدم الحديث
والإجابة على ثانيهما؛ فنقول:
1 ـ الإجابة على السؤال الثاني:
إنه يفترض في كل حضارة تستهدف إحداث تغييرات حقيقية وجذرية
في المجالات الحياتية المتنوعة من سياسية واقتصادية،
واجتماعية،
وفكرية،
وغيرها وحتى في بنـاء
الشخصية الإنسانيـة،
والتـأثير
والتغيير في مشـاعـر
الإنسان،
وأحاسيسه،
وعواطفه،
فضلاً عن خصائصه ومزاياه،
وكل وجوده،
نعم..
إنه يفترض في هكذا حضارة أن تفرض على الشعوب والأمم
التي تريد أن تحيا في ظلها هيمنة فكرها،
وثقافتها،
وأن تزرع فيها مصطلحاتها وتعابيرهـا
الخـاصة
بهـا،
ذات الإيحـاءات
والمداليـل
المعينة والهادفة،
وتنفذ من خلال هذه المصطلحات وعلى أساس ذلك الفكر،
وبروافد من تلك الثقافة إلى مناطق اللاوعي في الأحاسيس والمشاعر،
وفي القلوب والضمائر لتلك الأمم والشعوب.
وتتغلغل في أعماقها؛
لتصبح جزءاً
لا يتجزء من وجودها،
ومن شخصيتها، ومن كيانها العتيد.
بل لقد رأينا:
أنه
حتى الدول لا تألو جهداً
في فرض لغتها،
وعاداتها، ومفاهيمها على الشعوب التي تهيمن عليها.
وإذا كـان
الله سبحانه قـد
أرسـل
نبيه إلى جميع الأمم فلا بـد
ـ والحالة هذه ـ من أن تهيمن لغة القرآن،
وثقافة الإسلام والإيمان على العالم بأسره.
لأن القرآن كتاب العالم،
ودستور البشرية جمعاء،
ولعل هذا هو الذي يفسر لنا بعض ما ورد في الحث على تعلم اللغة العربية
وتعليمها فراجع.
2 ـ الإجابة على السؤال الآخر:
أما الإجابة على السؤال الآخر، وهو أول السؤالين
المتقدمين، فإننا نقول:
هناك معجزات وكرامات في اتجاهات ثلاثة:
الأول:
من الواضح: أن هناك معجزات قد ظهرت للنبي الأكرم «صلى الله عليه وآله»
وللأنبياء السابقين،
وكذلك للأوصياء،
حينما كانوا يواجهون التحدي الوقح من أهل الشرك والعناد؛ بحيث لو لم
تظهر المعجزة،
أو الكرامة لاستطاع أولئك الشياطين أن يثيروا الشبهات المضعفة للدعوة؛
والموجبة لزعزعة درجة الطمأنينة والوثوق لدى كثير ممن آمن بها واطمأن
إليها،
أو يحدث نفسه بذلك.
فتأتي المعجزة لتثبت أولئك،
وتشجع هؤلاء،
ولتسحق أيضاً كبرياء المستكبرين،
وتكسر شوكتهم،
ويكون بها خزي المعاند،
وبوار كيد الماكر والحاقد.
الثاني:
وثمة معجزات وكرامات،
وخوارق عادات أكرم الله بها أنبياءه وأولياءه تشريفاً
لهم،
وتجلة وتكريماً،
وإعزازاً
لجانبهم.
وقد يستفيد منها المؤمن القوي سمواً
ورسوخَ
قدم في الإيمان،
ويتثبت
بها ضعيف الإيمان،
فيزداد بصيرة في الأمر،
وتسكن نفسه،
ويطمئن قلبه،
على قاعدة قوله تعالى:
﴿قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ
بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾([38]).
وعلى قاعدة:
﴿سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى
بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ المَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى المَسْجِدِ
الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا﴾([39]).
الثالث:
ذلك القسم الذي ظهر فيه: أنه يتعامل فيه مع المخلوقات
من موقع المدبر،
والراعي،
والحافظ لها،
من موقع أنها جزء من التركيبة العامة،
حيث لا بد من التعامل معها على هذا الأساس.
وهذا القسم الأخير هو الذي يعنينا البحث عنه هنا.
فنقول:
إن الله سبحانه قد أراد لهذا الإنسان أن يدخل إلى هذا
الوجود،
ليقوم بدور هام فيه.
وقد اختار الله له هذه الأرض ليتحرك عليها،
وينطلق فيها ومنها.
وكان عليه أن يستفيد ممـا
خولـه
الله إيـاه
من طـاقـات
وإمكـانـات
لإعمارها،
وبث الحياة فيها،
بل والهيمنة والتسلط على كل ما في هذا الكون، وتسخيره، والاستفادة مما
أودعه الله فيه من طاقات وقدرات، من خلال تفعيل نواميسه الطبيعية
وإثارة دفائنه وكوامنه وتوظيفها في مجالات البناء الإيجابي،
والصحيح،
الذي يسهم في إسعاد هذا الإنسان،
وفي تكامله،
ونموه المطرد في مختلف جهات وجوده،
حتى في جوانبه النفسية والروحية،
والفكرية،
والعقيدية،
فضلاً عن النواحي الأخرى،
من اجتماعية واقتصادية وغيرها.
كل ذلك وفقاً
للخطة المرسومة في نطاق التربية الربانية،
والإعداد والمواكبة المستمرة لهذا الإنسان في تحركه نحو الأهداف
الإنسانية والإلهية السامية والنبيلة العليا،
وهو دائب الكدح إلى الله،
ومن أجله وفي سبيله،
لا غير،
وليس إلا.
﴿يَا أَيُّهَا الإِنسَانُ
إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ..﴾([40]).
ولكي يتضح ما نرمي إليه بصورة أوفى وأصفى،
نذكر هنا آيات قرآنية أشارت إلى أن جميع ما في هذا الكون مسخر للبشر.
وآيات أخرى،
تتحدث عن وجود درجة من الشعور والإدراك لدى المخلوقات،
من حيوانات وغيرها.
بالإضافة إلى نماذج من التعامل الإيجابي وآفاقه،
وما يترتب على ذلك، فنقول:
لقد أشارت الآيات القرآنية إلى تسخير الموجودات للإنسان،
ويتضح ذلك بالتأمل في الآيات التالية:
﴿هُوَ أَنشَأَكُم مِنَ الأَرْضِ
وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا..﴾([41]).
﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللهَ
سَخَّرَ لَكُم مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَاَسْبَغَ
عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً..﴾([42]).
﴿وَسَخَّرَ لَكُم مَّا فِي
السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ..﴾([43]).
﴿..وَسَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ
لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَسَخَّرَ لَكُمُ الأَنْهَارَ،
وَسَخَّر لَكُمُ الشَّمْسَ وَالْقَمَرَ دَآئِبَينَ وَسَخَّرَ لَكُمُ
اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ، وَآتَاكُم مِن كُلِّ مَا سَأَلْتُمُوهُ وَإِن
تَعُدُّواْ نِعْمَتَ اللّهِ لاَ تُحْصُوهَا..﴾([44]).
﴿وَهُوَ الَّذِي سَخَّرَ
الْبَحْرَ لِتَأكُلُواْ مِنْهُ لَحماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُواْ
مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا..﴾([45]).
ثم إن الإنسان يريد أن يتعامل مع كون ليس جماداً
بقول مطلق،
وإنما كل الموجودات فيه تمتلك درجة من الشعور والإدراك،
وإن كنا لا نعرف كنهه ولا حدوده.
وقد تحدث القرآن عن السماوات،
والأرض،
والجبال والطير وكل الموجودات،
بطريقة تركز هذا المعنى،
وتدفع أي تشكيك أو ترديد فيه. فلنقرأ معاً
الآيات التالية:
قال تعالى مخاطباً
نبيه موسى
«عليه
السلام»:
﴿..قَالَ لَن تَرَانِي وَلَكِنِ
انظُرْ إِلَى الجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكَانَهُ فَسَوْفَ تَرَانِي
فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكّاً..﴾([46]).
وقال تعالى:
﴿إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ
عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن
يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنسَانُ إِنَّهُ
كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً﴾([47]).
وقال سبحانه عن داود:
﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ
مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ، وَالطَّيْرَ
مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ﴾([48]).
وقال في آية أخرى عن داود أيضاً:
﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ
وَالطَّيْرَ..﴾([49]).
والمراد بالتأويب ترجيع التسبيح على ما يظهر.
وقال تعالى:
﴿وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ﴾([50]).
وقال:
﴿وَالنَّجْمُ وَالشَّجَرُ
يَسْجُدَانِ﴾([51]).
وقال تعالى:
﴿تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ
السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِنْ شَيْءٍ إِلاَّ
يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ
كَانَ حَلِيماً غَفُوراً﴾([52]).
وتسبيح ما في السماوات والأرض،
مذكور في عدة آيات([53]).
وقال سبحانه:
﴿لَوْ أَنزَلْنَا هَذَا
الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ
خَشْيَةِ الله﴾([54]).
وقال تعالى:
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ الله
يَسْجُدُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَمَن فِي الأَرْضِ وَالشَّمْسُ
وَالْقَمَرُ وَالنُّجُومُ وَالْجِبَالُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُ
وَكَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ﴾([55]).
وقال جل وعلا:
﴿أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللهَ
يُسَبِّحُ لَهُ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَالطَّيْرُ
صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَتَسْبِيحَهُ﴾([56]).
فكل ما تقدم يشير بوضوح:
إلى أن هذه المخلوقات تملك حالة شعورية وإدراكية معينة،
وليست مجرد جمادات أو حيوانات خاوية من ذلك بصورة نهائية.
وهذا ما يفسر لنا:
أننا نجد أن الله قد تعاطى معها بطريقة تكرس هذا الفهم،
وترسخه،
ولا تبقي مجالاً
لأي تشكيك أو ترديد فيه.
فإذا كان الله سبحانه قد سخر المخلوقات لهذا الإنسان،
واتضح أن هذه المخلوقات تمتلك صفة الشعور والإدراك،
ولها أعمال عقلانية ومرتبطة بالشعور ومستندة إليه فإننا نذكر هنا
نموذجاً
قرآنيا حياً،
وواقعياً
لهذا التسخير تجلت فيه طريقته،
وأبعاده ومجالاته بصورة ظاهرة.
حيث ذكرت الآيات أن الله سبحانه قد سخر الريح،
والطير،
والجبال،
والجن لسليمان وداود
«عليهما
السلام».
بالإضافة إلى هيمنتهما بدرجة ما على نواميس الطبيعة التي تفيد الهيمنة
عليها في تحقيق الغايات التي يتم السعي لها،
والتحرك باتجاهها،
كما أشار إليه الله سبحانه حين تحدث أنه تعالى قد ألان الحديد لداود.
فلنقرأ ذلك كله في الآيات التالية:
قال تعالى:
﴿.. وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ
الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ،
وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِن بَأْسِكُمْ
فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ، وَلِسُلَيْمَانَ الرِّيحَ عَاصِفَةً
تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي بَارَكْنَا فِيهَا وَكُنَّا
بِكُلِّ شَيْءٍ عَالِمِينَ، وَمِنَ الشَّيَاطِينِ مَن يَغُوصُونَ لَهُ
وَيَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذَلِكَ وَكُنَّا لَهُمْ حَافِظِينَ﴾([57]).
﴿إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبَالَ
مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَالإِشْرَاقِ، وَالطَّيْرَ
مَحْشُورَةً كُلٌّ لَّهُ أَوَّابٌ﴾([58]).
وقال تعالى عن سليمان:
﴿فَسَخَّرْنَا لَهُ الرِّيحَ
تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخَاء حَيْثُ أَصَابَ، وَالشَّيَاطِينَ كُلَّ
بَنَّاء وَغَوَّاصٍ، وَآخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الأَصْفَادِ﴾([59]).
وإذا راجعنا سورة النمل،
فإننا
نجد فيها نماذج فذة عن تعاطي سليمان وداود مع ما آتاهما الله سبحانه في
هذا المجال.
وأول ما يواجهنا في الحديث عنهما
«عليهما
السلام»
هو أنه تعالى قد وفر لهما الأدوات الضرورية للتعامل مع هذه المخلوقات
في نطاق رعايتها وهدايتها وتوجيهها.
فنجدها تبدأ الحديث بأن الله قد آتاهما علماً،
وعُلِّما
منطق الطير،
وأوتيا من كل شيء،
ثم ذكرت الآيات نماذج تطبيقية لهذا العلم،
وللمعرفة بجميع الألسنة،
ثم لتأثير ما آتاه الله سبحانه في إدارة الأمور،
وتوجيهها ورعايتها والهيمنة عليها بصورة حيوية وبناءة وإيجابية،
لا تأتي إلا بالخير،
ولا تؤدي إلا إلى الفلاح.
﴿.. وَلَقَدْ آتَيْنَا دَاوُودَ
وَسُلَيْمَانَ عِلْماً وَقَالا الحَمْدُ لِلهَِ الَّذِي فَضَّلَنَا
عَلَى كَثِيرٍ مِنْ عِبَادِهِ المُؤْمِنِينَ، وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ
دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ
وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ المُبِينُ،
وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ وَالطَّيْرِ
فَهُمْ يُوزَعُونَ، حَتَّى إِذَا أَتَوْا عَلَى وَادِي النَّمْلِ
قَالَتْ نَمْلَةٌ يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ لا
يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ،
فَتَبَسَّمَ ضَاحِكاً مِن قَوْلِهَا﴾([60]).
ثم تحدثت الآيات عن قصته
«عليه
السلام»
مع الهدهد،
والدور الذي قام به،
ثم ما كان من الإتيان بعرش بلقيس،
بواسطة ما كان لدى ذلك الآتي به من علم من الكتاب.
وأن ذلك قد تم قبل أن يرتد طرف سليمان إليه.
وقد أظهرت الآيات المتقدمة كيف تم توظيف كل القدرات
المادية وغيرها في تحقيق رضا الله سبحانه،
وبناء الحياة وتكاملها باتجاه الأهداف الإلهية ووفقاً
للخطة المعقولة والمقبولة له تعالى.
بدءاً
من قصة تبسم سليمان من قول النملة،
مروراً
بقصة الهدهد،
والإتيان بعرش بلقيس بتلك الطريقة المثيرة،
ثم تنكير عرشها لها،
وانتهاءاً
بأمرها بدخول الصرح الذي حسبته لجة،
مع أنه صرح ممرد من قوارير.
وقد تجسد ذلك كله من خلال حاكمية وإمامة سليمان عليه
وعلى نبينا وآله الصلاة والسلام،
ورعايته وهدايته التامة والشاملة.
وقد كانت هذه الهداية والرعاية مستندة إلى علم آتاه
الله إياه،
والى إمكانات ذات صفة شمولية:
﴿وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ﴾.
فلم يكن ثمة أي قصور في القدرات الذاتية،
فقد علم سليمان منطق الطير،
وأوتي من العلم ما يكفيه في مهمته الكبيرة والخطيرة.
كما أنه لم يكن ثمة نقص في الإمكانات المادية،
كما أشرنا.
وكان سليمان أيضاً يحظى برعاية الله تعالى له،
ولطفه به،
وتسديده وتأييده إلى درجة العصمة.
فلم يبق والحالة هذه إلا المبادرة إلى القيام بالدور
المرصود له في نطاق الاستفادة الواعية والإيجابية والبناءة من كل
المخلوقات المسخرة لهذا الإنسان،
وتوجيهها لتؤدي دورها في الحياة كاملاً
غير منقوص..
وهذا ما حصل بالفعل،
فكانت المعجزة الكبرى،
وكان الإنجاز العظيم،
وهذا ما سوف يتحقق بصورة أكثر رسوخاً
وشموخاً
وعظمة في عهد ولي الأمر قائم آل محمد
«عليهم
الصلاة والسلام».
إنه ما دام أن المفروض بالإنسان هو أن يتعاطى مع جميع
المخلوقات التي سخرها الله تعالى له،
فقد كان لا بد من أن يخضع تعامله هذا وكذلك تعامله مع نفسه،
ومع ربه،
ومع كل شيء لضوابط تحفظه من الخطأ ومن التقصير،
أو التعدي.
ولقصور الإنسان الظاهر،
فقد شاءت الإرادة الإلهية،
من موقع اللطف والرحمة أن تمد يد العون له،
وهدايته في مسيرته الطويلة المحفوفة
بالمزالق والأخطار هداية تامة تفضي به إلى نيل رضا الله سبحانه،
وتثمر الوصول إلى تلك الأهداف الكبرى والسامية وتحقيقها،
وهي إعمار الكون وفق الخطة الإلهية،
التي تريد من خلال ذلك بناء إنسانية الإنسان،
وإيصاله إلى الله سبحانه،
حيث يصبح جديراً
بمقامات القرب منه تعالى،
حيث الرضوان والزلفى.
وإذا كان كذلك فإنه يصبح واضحاً:
أن المثل القرآني الذي يتمثل في تجربة سليمان وداود
«عليهما
السلام»،
إنما أراد أن يجسد ولو بصورة مصغرة هذه الحقيقة بالذات ليتلمس
هذا الإنسان الأهداف الإلهية،
وهي تتجسد واقعاً
حياً،
ملموساً،
وليس مجرد خيالات،
أو شعارات،
أو آمال وطموحات غير عقلانية،
ولا مسؤولة.
وهي أيضاً تجسد معنى القيادة المطلوبة والصالحة لتحقيق
هدف كهذا،
حتى إن طائراً،
وهو الهدهد، يضطلع بدور حيوي وفي مستوى مُلكٍ بأسره،
وأحد الحاضرين في مجلس سليمان يأتي بعرش بلقيس
ـ
بواسطة العلم الذي عنده من الكتاب ـ قبل أن يرتد الطرف.
كما أن هذه الشواهد القرآنية،
وتلك الكرامات والمعجزات النبوية،
ومنها قصة الجمل التي هي مورد البحث،
قد رسخت هذه الحقيقة،
سواء بالنسبة لدور الإنسان في الكون،
وتعاطيه معه، أو بالنسبة إلى حقائق راهنة لا بد أن تأخذ دورها وحقها،
ويحسب حسابها على مستوى التخطيط،
وعلى مستوى الممارسة، أو بالنسبة إلى الدور الذي لا بد لهذه القيادة أن
تضطلع به،
في مقام الرعاية التامة،
والهداية العامة،
وما يتطلبه ذلك من طاقات ومن إمكانات، ومواصفات قيادية خاصة ومتنوعة،
لا تحصل إلا بالرعاية والتربية الإلهية لها،
ولا تكون إلا في نبي أو في وصي.
وتصبح معرفة لغات الحيوانات،
والوقوف على كثير من أسرار الخلقة، ونواميس الطبيعة ضرورة لا بد منها
لهذه القيادة، التي لا بد أن ترعى، وتوازن، وتربي، وتحفظ لكل شيء حقه،
وكيانه، ودوره في الحياة. حيث لا بد لها من التدخل المباشر في أحيان
كثيرة لحسم الموقف، ولحفظ سلامة المسار.
كما لا بد لها من توجيه الطاقات والاستفادة منها في
الوقت المناسب وفي الموقع المناسب، بصورة قويمة وسليمة، كما كان الحال
بالنسبة لنبي الله داود، ونبي الله سليمان عليهما وعلى نبينا محمد وآله
الصلاة والسلام.
وبذلك يتضح:
أنه لا بديل عن قيادة المعصوم، إذ
أن
كل القيادات الأخرى إذا كانت عادلة لن يكون لها أكثر من دور الشرطي
الذي ينجح في درء الفتنة حيناً،
ويفشل أحياناً.
أما إذا كانت قيادة منحرفة، فهناك الكارثة الكبرى، التي
عبرت عنها الكلمة المنسوبة إلى أمير المؤمنين علي
«عليه
الصلاة والسلام»،
حيث يقول:
«أسد
حطوم، خير من سلطان ظلوم، وسلطان ظلوم، خير من فتنة تدوم»([61]).
وقد اتضح أيضاً:
أن وجود الإمام المعصوم في كل عصر وزمان أمر حتمي
وضروري حتى ولو كان غائباً ومستوراً، لأن هذا الإمام لسوف يحفظ ويرعى
كثيراً من المواقع والمواضع في هذا الكون المسخر للإنسان،
التي لولا حفظها ورعايتها لوقعت الكارثة ولساخت الأرض بأهلها.
وبذلك نعرف السر في أن الروايات قد
ذكرت:
أنه لو بقيت الأرض بغير إمام،
أو لو أن الإمام رفع من الأرض ولو ساعة لساخت بأهلها، وماجت كما يموج
البحر بأهله([62]).
وأصبح واضحاً معنى الرواية التي
تقول:
وأما وجه انتفاع الناس بي في غيبتي؛ فكالشمس إذا جللها عن الأنظار
السحاب.
واتضح أيضاً:
سر معرفة الأئمة بعلوم الأنبياء،
وبألسنة جميع البشر، وبألسنة أصناف الحيوان أيضاً([63])،
إلى غير ذلك من خصائص وتفصيلات في علومهم
«عليهم
السلام»
وفي حدود ولايتهم ورعايتهم لهذا الإنسان في هذا الكون الأرحب.
([1])
تاريخ الخميس ج1 ص464 والسيرة الحلبية ج2 ص273 وطبقات ابن سعد
ج2 ص61.
([2])
السيرة الحلبية ج2 ص273 وراجع دلائل النبوة لأبي نعيم ص375
و376 وراجع: الثقات ج1 ص258 و259 وراجع السيرة النبوية لابن
هشام ج3 ص218 وأشار الذهبي إلى قصة الجمل في تاريخ الإسلام.
وراجع: نهاية الأرب ج17 ص160 و161 وراجع: المواهب اللدنية ج1
ص107 وراجع: السيرة النبوية لابن كثير ج3 ص166 ولا بأس بمراجعة
صحيح مسلم ج4 ص176.
([3])
السيرة الحلبية ج2 ص273.
([4])
في الواقدي ذكر هذه المحادثة بعد قصة شرائه الجمل منه.
([5])
في الواقدي: تسع بنات. وفي صحيح مسلم ج4 ص176: وترك تسع بنات
أو سبع وفي شرح بهجة المحافل ج1 ص238 تسعاً أوستاً وجمع بين
هاتين الروايتين بأن منهن ثلاث متزوجات، لم يعدهن في رواية
الست ودلائل النبوة للبيهقي ج3 ص381 ـ 383 وراجع صحيح مسلم ج4
ص177 و 176 وراجع صحيح البخاري ج2 ص7 وراجع: بهجة المحافل ج1
ص238 وشرحه بهامش نفس الجزء والصفحة.
([6])
النمارق: الوسائد الصغيرة.
([7])
السيرة النبوية لابن هشام ج3 ص217 و 218 وراجع: المغازي
للواقدي ج1 ص399 ـ 401 ونهاية الأرب ج17 ص161 و 162 والسيرة
النبوية لابن كثير ج3 ص166 والبداية والنهاية ج4 ص86 و 87.
([8])
دلائل النبوة للبيهقي ج3 ص382 وصحيح مسلم ج4 ص177 وصحيح
البخاري ج2 ص7 وبهجة المحافل ج1 ص238 و 239.
([9])
بهجة المحافل ج1 ص237.
([10])
راجع: السيرة الحلبية ج2 ص273 والثقات ج1 ص259 والروض الأنف ج3
ص355 وبهجة المحافل ج1 ص239.
([11])
شرح بهجة المحافل ج1 ص239.
([12])
راجع: بهجة المحافل ج1 ص239.
([13])
راجع: المصدر السابق.
([14])
السيرة الحلبية ج2 ص273 والروض الأنف ج3 ص355 وبهجة المحافل ج1
ص239.
([15])
راجع: المصادر الثلاثة المتقدمة.
([16])
بهجة المحافل ج1 ص239.
([18])
السيرة الحلبية ج2 ص273 والروض الأنف ج3 ص355.
([19])
الروض الأنف ج3 ص355 عن صحيح مسلم.
([20])
السيرة الحلبية ج2 ص274 وبهجة المحافل ج2 ص237.
([21])
شرح بهجة المحافل ج1 ص239.
([22])
السيرة الحلبية ج2 ص273 والروض الأنف ج3 ص355.
([23])
راجع: الروض الأنف ج3 ص355.
([24])
بهجة المحافل ج1 ص240.
([25])
السيرة الحلبية ج2 ص273 وبهجة المحافل ج1 ص237.
([26])
السيرة الحلبية ج2 ص273 وزاد المعاد ج2 ص111.
([27])
أي من غزوة ذات الرقاع.
([28])
مغازي الواقدي ج1 ص401 و 402.
([29])
السيرة الحلبية ج2 ص274 والمغازي للواقدي ج1 ص398 والسيرة
النبوية لابن كثير ج3 ص165 والبداية والنهاية ج4 ص86 ودلائل
النبوة للبيهقي ج3 ص379.
([30])
السيرة الحلبية ج2 ص274.
([31])
السيرة الحلبية ج2 ص292.
([32])
السيرة الحلبية ج2 ص274 والمغازي للواقدي ج1 ص399.
([33])
السيرة الحلبية ج2 ص292.
([34])
السيرة الحلبية ج2 ص273 وراجع: بصائر الدرجات ص348 و 350 و 351
و 352.
([35])
السيرة الحلبية ج2 ص292.
([36])
هذه الكرامات وسواها موجودة في كتب الحديث والسيرة فراجع على
سبيل المثال: السيرة الحلبية ج3 ص283 و 284 والسيرة النبوية
لدحلان (بهامش الحلبية ج3 ص128 فما بعدها).
([37])
راجع: مكاتيب الرسول للأحمدي ج1 ص15 و 16.
([38])
الآية 260 من سورة البقرة.
([39])
الآية 1 من سورة الإسراء.
([40])
الآية 6 من سورة الإنشقاق.
([41])
الآية 61 من سورة هود.
([42])
الآية 20 من سورة لقمان.
([43])
الآية 13 سورة الجاثية.
([44])
الآيات 32 ـ 34 من سورة إبراهيم.
([45])
الآيات 14 ـ 18 من سورة النحل.
([46])
الآية 143 من سورة الأعراف.
([47])
الآية 72 من سورة الأحزاب.
([48])
الآيتان 18 و19سورة ص.
([49])
الآية 10 من سورة سبأ.
([50])
الآية 13 من سورة الرعد.
([51])
الآية 6 من سورة الرحمن.
([52])
الآية 44 من سورة الإسراء.
([53])
راجع: الآيتان 1 و 24 من سورة الحشر والآية 1 من سورة التغابن
والآية 1 من سورة الصف والآية 1 من سورة الجمعة والآية 1 من
سورة الحديد.
([54])
الآية 21 من سورة الحشر.
([55])
الآية 18 من سورة الحج.
([56])
الآية 41 من سورة النور.
([57])
الآيات 79 ـ 82 من سورة الأنبياء.
([58])
الآيتان 18 و 19 من سورة ص.
([59])
الآيات 36 ـ 38 من سورة ص.
([60])
الآيات 15 ـ 19 من سورة النمل.
([61])
البحار ج75 ص359 عن كنز الفوائد للكراجكي، وراجع: دستور معالم
الحكم ص170 وغرر الحكم ودرر الكلم ج1 ص437 وج2 ص784.
([62])
راجع بصائر الدرجات ص488 و 489 والكافي ج1 ص179 و 198 والغيبة
للنعماني ص139 و 138.
([63])
راجع كتاب بصائر الدرجات ففيه تفاصيل واسعة حول علوم الأئمة
«عليهم السلام» في جميع المجالات، وراجع أيضاً: البحار للعلامة
المجلسي، والكافي ج1 وغير ذلك كثير.
|