عـقـد عـيـيـنـة.. مـكـــذوب

العقد
المزعوم
مع
عيينة بن حصن:
قال ابن المسيب:
«حصر رسول الله «صلى الله عليه وآله» وأصحابه بضع عشرة
حتى خلص إلى كل منهم الكرب.. إلى
أن
قال: فبينما هم على ذلك من الحال أرسل رسول الله «صلى الله عليه وآله»
إلى عيينة الخ..»([1]).
وذكر نص آخر:
أنه بعد أن حوصر المسلمون، ونقض بنو قريظة العهد، وضاقت
الأمور على المسلمين، وأحيط
بهم، وهمَّ
بالفشل بنو حارثة، وبنو سلمة، بعث رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى
عيينة بن حصن،
والحرث بن عوف: أن يرجعا، ويخذلا الأعراب، ولهما ثلثا
ثمار المدينة ـ كما في بعض المصادر ـ لكن أكثر المصادر تقول: ثلث ثمار
المدينة.
زاد في نص آخر قوله:
«فجرى بينهما
المراوضة في الصلح حتى كتبوا الكتاب، ولم تقع الشهادة ولا عزيمة
الصلح»([2]).
وشاور «صلى الله عليه وآله» في ذلك:
سعد بن
معاذ،
وسعد بن عبادة فأبيا، وقالا: يا رسول الله، أشيء أمرك الله به فلا بد
منه؟! أم شيء تحبه، فتصنعه، فنصنعه لك؟! أم شيء تصنعه لنا؟!
قال:
بل
أصنعه
لكم،
إني
رأيت
أن
العرب رمتكم عن قوس واحدة.
فقال سعد بن معاذ:
قد كنا معهم على الشرك والأوثان،
ولا يطمعون منا بتمرة شراء ولا بيعاً،
فحين
أكرمنا
الله بالإسلام، وأعزنا
بك نعطيهم أموالنا؟! والله، لا نعطيهم إلا السيف.
فَصَلُبَ
رسول الله «صلى الله عليه وآله»([3]).
زاد البعض هنا قوله:
«فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: الآن قد عرفت ما
عندكم، فكونوا على ما أنتم عليه، فإن
الله تعالى لن يخذل نبيه، ولن يسلمه حتى ينجز له ما وعده.
ثم قام رسول
الله «صلى الله عليه وآله» في المسلمين، يدعوهم إلى جهاد العدو،
ويشجعهم، ويعدهم النصر من الله تعالى([4])
«وترك ما كان هم به من ذلك»([5]).
وقد تفننت بعض الروايات في تصوير
وقائع هذه القصة فهي تقول:
إنه
«صلى الله عليه وآله» أرسل إلى رئيسي غطفان: عيينة بن حصين والحارث بن
عوف
أن
يجعل لهما ثلث ثمار المدينة، ويرجعان بمن معهما.
فجاءا متخفيين من أبي سفيان مع عشرة من قومهما إلى
النبي «صلى الله عليه وآله»، فطلبا نصف ثمار المدينة، فأبى عليهما إلا
الثلث فرضيا،
فجرى بينه وبينهم الصلح، وأحضر
رسول الله «صلى الله عليه وآله» الصحيفة والدواة، وأحضر
عثمان بن عفان، حتى كتب كتاب الصلح، ولم يقع الإشهاد.
وعند الواقدي والمقريزي:
أحضرت الصحيفة والدواة ليكتب عثمان الصلح، وعبادة بن
بشر على رأس رسول الله «صلى الله عليه وآله» مقنع بالحديد.
ولما
أرادوا
أن
يكتبوا الشهادة جاء أسيد بن حضير، فرأى عيينة بن حصن قد مد رجله بين
يدي رسول الله «صلى الله عليه وآله»،
وعلم ما جاء له فأقبل
إلى عيينة وقال:
يا عين الهجرس،
أتمدَّ
رجلك بين يدي رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟! فوالله، لولا مجلس رسول
الله لأنفذت
جنبك بهذا الرمح.
ثم أقبل بوجهه إلى النبي فقال:
يا رسول الله،
إن
كان هذا شيئاً أمرك الله به لا بد لنا من عمله، أو أمراً تحبه، فاصنع
ما شئت، ما نقول فيه شيئاً،
وإن
كان غير ذلك، فوالله ما نعطيهم إلا السيف، متى كانوا يطمعون منا؟!
فسكت النبي «صلى الله عليه وآله» ولم يقل شيئاً.
وعلى حد تعبير الواقدي:
فأسكت رسول الله «صلى الله عليه وآله».
فدعا سعد بن
معاذ
وسعد بن عبادة، فاستشارهما فيه (خفية)، فقالا مثل ما قال أسيد (وأبوا
إعطاء
الدنية، فأمره النبي «صلى الله عليه وآله» بشق الكتاب) فاعتذر «صلى
الله عليه وآله» بأنه
قد رأى العرب رمتهم عن قوس واحدة.
إلى أن تقول الرواية:
فتناول سعد، أي ابن
معاذ،
الصحيفة وأخذها
من عثمان فمحا ما في الكتاب، ومزق الكتاب.
ثم تذكر الرواية:
محاورة بين عبادة بن بشر وعيينة. ثم ذكر رجوع عيينة
والحارث.
وعلما:
أن
لا يد لهم في المدينة، لما رأيا من
إخلاص
الأنصار، واتفاقهم مع رسول الله،
ودخل في
أمرهما
فتور وتزلزل([6]).
وتشير بعض
النصوص إلى دور لسعد بن الربيع أيضاً([7]).
لقد حفلت هذه القصة بنقاط ضعف كثيرة لا نرى ضرورة
للتعرض لها بالتفصيل ونكتفي هنا بالإشارة
إلى الأمور التالية:
إننا نلاحظ هنا:
تناقض واختلاف نصوص هذه الرواية، الأمر الذي يعني
أنه
لا بد من استبعاد
طائفة من هذه النصوص حتى لا يبقى ثمة تناقض واختلاف فيما بينها.
فليلاحظ مثلاً:
اختلافها في
أنه
«صلى الله عليه وآله»
أعطاهما
ثلث ثمار المدينة، أم
الثلثين؟!
وهل كُتِبَ
كتاب، ثم رفض السعدان أم رفضا ذلك قبل
أن
يكتب الكتاب. وهل استشار السعدين، أم استشار السعود.
وقد تقدم:
أن البعض ينكر مشاركة الحارث بن عوف في حرب الخندق، وإن
كان الواقدي يصر على هذه المشاركة، فراجع فصل: الأحزاب إلى المدينة.
فقرة: تحفظ تاريخي.
قد ذكرت بعض النصوص:
أنه
قد كان لسعد بن الربيع دور في هذه القضية أيضاً. مع
أن
سعداً هذا قد استشهد في حرب أحد، وهي قبل الخندق بزمان طويل، فراجع.
بعض النصوص تقول:
إن
عيينة بن حصن جاء مهدداً
متوعداً
فهي تقول:
إنه
قال:
يا محمد ناصفنا تمر المدينة، وإلا
ملأتها عليك خيلاً
ورجالاً.
فقال:
حتى أستأمر السعود: سعد بن عبادة،
وسعد بن
معاذ،
وسعد بن ربيعة،
وسعد بن مسعود.
فكلمهم رسول الله «صلى الله عليه
وآله» في ذلك، فقالوا:
لا والله ما أعطينا الدنية في أنفسنا في الجاهلية،
فكيف وقد جاء الله تعالى بالإسلام؟
فرجع الحارث فأخبره، فقال:
غدرت يا محمد([8]).
فما معنى
هذا التهديد والوعيد من عيينة، ألم يملأها حتى الآن
خيلاً
ورجالاً؟!
وهل بقي عنده خيل ورجال غير هؤلاء لم يأت بهم لحرب
محمد؟!
والملفت في هذا النص:
أن
جميع الذين يريد النبي «صلى الله عليه وآله»
أن
يستشيرهم اسمه سعد، فما هذه المصادفة العجيبة!!
ألم
يكن في الأنصار أحد من
الرؤساء
له اسم آخر؟!
وأمر ثالث يلفت النظر هنا:
وهو
أنهم
اعتبروا
أن
ذلك معناه
إعطاؤه
الدنية. فهل كان النبي بصدد
أن
يعطي
الدنية للأعداء؟
ألم
يكن يعلم
أنهم
لم
يعطوها في الجاهلية،
فكيف وقد جاء الله تعالى بالإسلام؟!
والأمر الذي يصعب علينـا
تفسيره وهو:
أنـه
كيف تمت كـل
هـذه
المراحل، من دون علم السعدين، أو السعود الأربعة، وغيرهم من زعماء
الأنصار؟!
فالنبي «صلى الله عليه وآله» يرسل للأعداء
ويستقدمهم،
ويأتون إليه وتجري مراوضة في شأن الصلح، ثم يرسل النبي «صلى الله عليه
وآله» وراء عثمان ويأتي،
ويكتب الكتاب. كل ذلك يحصل ولا
أحد
من زعماء الأنصار يعرف بشيء،
حتى يرسل إليهم النبي «صلى الله عليه وآله»، ويحضرهم.
فهل كانوا
لا
يحضرون مجلس النبي، إلا
أن
يحضرهم إليه «صلى الله عليه وآله» نفسه؟!
وهل صحيح
أنهم
كانوا يغيبون عنه فترات طويلة هذا المقدار ولا سيما في حرب الخندق،
التي يفترض فيها
تواجدهم حوله باستمرار ليتلقوا الأوامر؟!
وكيف غاب جميع من كان رسول الله «صلى الله عليه وآله»
بحاجة إلى استشارتهم ولم يحضر ولا
أحد
منهم ولو صدفة؟!
إلا
أن
أسيد بن حضير حضر بصورة مفاجئة!!
ولا ندري بعد هذا كيف يقدم النبي «صلى الله عليه وآله»
على أمر لا يثق من قدرته على
إنجازه؟
أم يعقل:
أنه
كان واثقاً
من ذلك ثم فوجئ بما
أحبط
سعيه، وخيب
أمله؟!
هل صحيح
أن
للنبي «صلى الله عليه وآله» آراء يطلقها من عند نفسه، ولا تنتهي إلى الإرادة
الإلهية؟!
وكيف نفهم قوله تعالى:
﴿وَمَا يَنطِقُ عَنِ الهَوَى،
إِنْ هُوَ إِلا وَحْيٌ يُوحَى﴾؟!([9]).
أم أن هذه الآية تتحدث عن خصوص ما ينطق به من أي القرآن
أو عن أمور يطلب منه تبليغها كالأحكام الشرعية، ونحوها؟! وكيف وبماذا
نخصص الآية بما ذكر؟! وإذا سلمنا ذلك جدلاً،
فهل صحيح
أن
للنبي بعض الآراء
التي يخطئ فيها، أم أنه ذو اجتهاد صواب دائماً؟!
وبعد ما تقدم:
لا بد
أن
نسأل عن الوسائل التي يمكننا
أن
نفرق فيها بين ما هو رأي واجتهاد له، وبين ما يأتي به من قبل الله
سبحانه.
ولا ندري أيضاً:
كيف نفسر قولهم للنبي: «أم شيء تحبه؛
فنصنعه
لك» فهل يتصورون أن النبي «صلى الله عليه وآله» يمكن أن يقوم بعمل خطير
كهذا لأنه
يحب أن يصنع شيئاً لنفسه دونهم؟! وهل هذه إلا إساءة أدب وسوء ظن خطير
برسول الله «صلى الله عليه وآله» يصل إلى حد التهمة؟!
ويستوقفنا هنا قولهم:
فَصَلُبَ
رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فهل كان رسول الله «صلى الله عليه
وآله» قد ضعف أمام أعدائه، فبدأ يقدم لهم التنازلات ويعطيهم الامتيازات؟
إن نصاً آخر ذكرناه آنفاً:
يكاد يكون صريح الإيحاء
بأن
رسول الله «صلى الله عليه وآله» كان بصدد التخلي عن جهاد العدو، حيث
يقول: «ثم قام رسول الله «صلى الله عليه وآله» في المسلمين، يدعوهم إلى
جهاد العدو، ويشجعهم، ويعدهم النصر من الله تعالى وترك ما كان هم به من
ذلك.
كيف استمر هذا الأمر خافياً
على أبي سفيان، وكيف لم يسر به النبي والمسلمون إلى مسامع زعيم قريش،
ليكون مثار خلاف فيما بين زعماء الأحزاب
أنفسهم،
كما جرى لبني قريظة؟ فإنه إذا كان الأمر بالنسبة لبني قريظة لم يبعد
حدود الإعلام بهدف تدمير حالة الثقة القائمة بينهم وبين المشركين، فإن
الأمر هنا
أصبح
أكثر واقعية، بعد أن قطع المتفاوضون مراحل واسعة باتجاه عقد الاتفاق،
حتى لقد كتب الكتاب،
وإن لم تقع الشهادة والصلح.
إلا ان يقال:
إن تسريب أمر خطير كهذا سوف يكون مضراً
بالمسلمين، لأنه يعطي للمشركين انطباعاً
عن ضعف المسلمين وانهيار معنوياتهم، الأمر الـذي
ربما يثير لـدى
قـوى
الشرك شهية مواصلة الحصـار،
ومضاعفة الضغوط للوصول بالمسلمين إلى حالة الإنهيار
الكامل.
كما أن هذا التسريب لم يكن في صالح زعماء غطفان؛
لأنه
سوف يعقد العلاقات مع حلفائهم، ويثير لهم معهم مشاكل هم في غنى عنها.
أما المنافقون:
فلعلهم لم يجدوا في تسريب معلومات كهذه ما يخدم
مصالحهم، أو يفيد في إخراجهم من الورطة التي يجدون
أنفسهم
فيها.
ولا يفوتنا الإلماح:
إلى
أن
عيينة بن حصن
يمد
رجليه بين يدي رسول الله ولا يزجره النبي «صلى الله عليه وآله»، ولا
أحد من الصحابة الحاضرين ولا حتى عمر بن الخطاب، ولا أبو بكر، اللذين
لم نسمع لهما ذكراً في هذه القضية ولا في غيرها إلا في مواقع ما كنا
نحب
أن
نراهما فيها.
والأهم من ذلك:
أن علياً «عليه
السلام»
أيضاً لا يعترض،
ويبقى الجميع ينتظرون قدوم أسيد بن حضير ليقف هو فقط ذلك الموقف الغيور
والنبيل والشجاع. حتى إنه يتهدد عيينة بأن ينفذ جنبه بهذا الرمح لولا
احترامه مجلس رسول الله «صلى الله عليه وآله».
ولا بد من تسطير الفضائل لأسيد هذا؛
لأنه من المهاجمين لبيت فاطمة «عليها
السلام»،
ومن موطدي الأمر لأبي بكر، والقائمين به،
لما بينهما من قرابة،
ولأمور أخرى لا مجال للإفاضة
فيها الآن.
والأكثر غرابة هنا:
ما ذكره الواقدي في هذا السياق من جرأة على مقام النبوة
الأقدس،
حين ذكر:
أنه
بعد
أن
قال أسيد بن حضير ما قال «فأسكت رسول الله».
يا لها من جرأة قاسية، وإهانة وقحة لنبي الإسلام «صلى
الله عليه وآله»، من قبل أناس لا يرون إلا مصالحهم، ولا يهمهم إلا
تمشية سياساتهم، حتى ولو على حساب كل القيم والمثل الإسلامية
والإنسانية.
هذا كله:
عدا عن ظهور نبرات فيها ظلال ثقيلة من الاعتداد بالنفس
والتحدي في كلمات أسيد في مواجهة النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله».
فراجع كلماته وتأمل.
هذا ما أحببنا الإلماح
إليه في هذا المجال، ولننظر الآن ماذا يقول الآخرون الذين يهتمون
بالتبرير، ويبرعون في التصوير، فنقول:
قد حاول البعض شرح ما جرى، بطريقته
الخاصة، فهو يقول:
«على الرغم من المجاعة التى قاساها المسلمون، والضيق
الذي
ألم
بهم من جراء الحصار المتطاول، والسهر والحراسة الموصولين، فقد رأوا
أن
في القبول بمثل هذا الذل جرحاً
لكرامتهم.
وقال الأنصار الذين عنتهم هذه
المساومة المقترحة مباشرة:
إنهم
لم يدفعوا أي جزية إليهم حتى في الجاهلية، فكيف يطيقون الإذعان
لهم، خاصة وأن
في الأمر مساساً
بشرف الإسلام نفسه»([10]).
وليت شعري كيف يقدم النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله»
على أمر فيه مساس بشرف الإسلام؟! إلا أن يكون «صلى الله عليه وآله» لم
يدرك أن الأمر ينطوي على المخاطرة بهذا الشرف الراسخ، والعز الباذخ؟!
أو أن شرف الإسلام لم يكن يعنيه كثيراً،
وكان يعنيهم هم وحدهم دونه؟!
إستفادات
وتوجيهات:
1 ـ
لقد استفادوا من هذا الحدث فوائد وعوائد، فقد
قال أبو زهرة:
«قد أفاد عرض الصلح أمرين عظيمين:
أولهما:
أن النبي «صلى الله عليه وآلـه»
علم عزمة أصحـابه،
وأنهم يريدون لقاءهم.
ثانيهما:
أن ذلك أطمع غطفان ومن معها من القبائل، والطمع إذا سكن
حل العزيمة،
وقد ترتب على ذلك الإطماع
أنهم
تململوا بطول الحصار،
وجرى بينهم وبين القرشيين خلاف، وهموا
أن
يعودوا من حيث جاؤوا»([11]).
وقال:
«إن ذلك يثير طمعهم، ويفت في عضدهم، وإن كان
أمر
الصلح لم يبت فيه، ولكن بابه مفتوح ولم يغلق»([12]).
وقال:
إنه «صلى الله
عليه وآله» أراد «أن يخذل المشركين بعضهم عن بعض بإثارة الطمع في
بعضهم، فيتخلون عن باقيهم»([13]).
ولعل هذا هو ما يرمي إليه البعض، حين اعتبر
أن
هذا الصلح يهدف إلى «صرفهم عن قريش، ليفت ذلك في عضدهم، فيرجعوا
أيضاً».
«وقد تجلت
حنكته السياسية في مساومته غطفان لزلزلتها عن موقفها إلى جانب قريش»([14]).
وقال:
«لما فاوض الرسول «صلى الله عليه وآله» غطفان، وأطمعهم
في ثلث غلة المدينة، ثم عدل عن ذلك، ورفضه، توهمت غطفان:
أن
مركزه قد تحسن، وأنه
مقبل على حرب الأحزاب وإجلائهم.
ومما زاد هذا
الوهم تحقق غطفان من عدول بني قريظة عن مناصرة الأحزاب، وعزمها على
تقديم سادات قريش وغطفان إلى الرسول ليقتلهم»([15]).
وثمة هدف آخر له «صلى الله عليه
وآله» وهو:
أنه
كان يريد أن يطمئن إلى ما يتمتع به أصحابه من قوة معنوية واعتماد على
نصر الله وتوفيقه؛
لأنه
لم يكن يحب
أن
يسوق أصحابه إلى حرب أو مغامرة لا يجدون في
أنفسهم
شجاعة لخوضها، أو لا يؤمنون بجدواها، ولذلك عرض عليهم رأيه، وأبلغهم
أنه
ليس تبليغاً
من الله تعالى([16]).
وبعد أن ذكر البعض:
أن
النبي «صلى الله عليه وآله» كان «يعرف حق المعرفة: أن دوافع غطفان
للغزو هي مادية
قبل
أي شيء آخر»([17]).
قال:
«وقد حققت هذه المناورة السياسية
أغراضها
على الرغم من
أنها
لم تنته إلى اتفاق مكتوب كما علمنا، ذلك
أن
كل المصادر التاريخية تُجمِع:
أنه
لم يكن لغطفان أي دور عسكري بعد هذه المقابلة التي أكدت لهم
إصرار
رجال الثورة الإسلامية على القتال في سبيل عقيدتهم. ولكنهم ظلوا
مرابطين في معسكراتهم حتى
أمرهم
القائد أبو سفيان بالانسحاب وفك الحصار»([18]).
2 ـ وأما بالنسبة للدلالات لهذا الحدث، فهم يقولون:
ألف:
إنها محصورة
في مجرد مشروعية مبدأ الشورى في كل ما لا نص فيه([19]).
ب:
إنها تدل أيضاً على:
«جواز
إعطاء
المال
للعدو لمصلحة المسلمين.
وقد صالح معاوية ملك الروم على الكف عن ثغور الشام بمال
دفعه إليه، ذكره أبو عبيدة».
قال السهيلي:
قيل: كان مئة
ألف
دينار([20]).
ج:
وزعم البعض:
أن
هذا الحدث يدل على
أنه
يجب على المسلمين
أن
يدفعوا الجزية إلى غير المسلمين إذا اقتضت الحاجة. وعلى جواز صرف
المسلمين
أعداءهم
عن ديارهم باقتطاع شيء من
أرضهم
أو خيراتهم لهم وقد ناقش ذلك البعض بما حاصله:
أولاً:
إن الرأي المعروض للاستشارة، لا يعتبر دليلاً
تشريعياً
لأن
المقصود بالاستشارة مجرد استطلاع ما في النفوس، فهي ممارسة لعمل تربوي
بحت. والذي يحتج به من تصرفاته «صلى الله عليه وآله» وأقواله
هو خصوص ما لم يرد اعتراض عليه من كتاب الله تعالى.
أما
ما كان في حدود الاستشارة والرأي، فلا يعتبر دليلاً
بحال.
ثانياً:
«لسنا ندري ما الصلة بين الجزية، وما يمكن
أن
يتصالح عليه فريقان متحاربان.
إن قلت:
إن اضطر المسلمون ـ بسبب ضعف طارئ ـ إلى التخلي عن بعض
أموالهم حفظاً
لحياتهم، وحذراً
من استئصال شأفة المسلمين، أليس لهم
أن
يفعلوا ذلك؟!
فالجواب:
أن
قد تستلب أموال المسلمين، ويغنمها
أعداؤهم
ولكن ليس ذلك عن اختيار من المسلمين، ولا لأجل تشريع ذلك فتوائياً،
وإنما
هو
إلجاء
وإكراه
لهم. والأحكام الشرعية لا يخاطب بها المكره، ولا الملجأ، ولا الصبي ولا
المجنون.
فهذه
الحالة التي هي من وراء حدود التكليف لا ينتزع فيها حكم تكليفي، يختار
على
أساس
الرأي والمصلحة والمراوضة»([21]).
هذا ما ذكره ذلك البعض هنا، ولنا
فيه ومعه مناقشات ووقفات نجملها في النقاط التالية:
ألف:
قول أبي زهرة:
إن
إطماع
غطفان نشأ عنه تململهم بطول الحصار، لا ندري كيف نفهمه، إذ ما هو الربط
بين
إطماعهم،
وبين تململهم؟
ب:
كما
أن
ما ذكره من حدوث خلافات بين قريش وبين غطفان لا ندري من
أين
جاء به، وعن أي مصدر نقل ذلك؟!
ج:
هل كان النبي «صلى الله عليه وآله» جاهلاً
بعزمة أصحابه، وبمقدار استعدادهم للقاء عدوهم؟ إن ما لدينا من وصف دقيق
لحالتهم، ومن نصوص سجلت
لنا مواقفهم وتصرفاتهم لا تترك مجالاً
للشك في حقيقة النوايا، ودرجة
الاستعداد
عندهم للقاء عدوهم، سلباً
أو
إيجاباً.
ولا في مستوى القوة المعنوية والاعتماد على نصر الله لدى أصحابه.
د:
ما معنى قوله:
إن
أمر الصلح لم يبت فيه، وبابه مفتوح لم يغلق؟
ألم
يغلق السعدان باب هذا الصلح.. وبتَّا
الأمر فيه؟!
ه:
لا ندري كيف توهمت غطفان
أن
مركز النبي قد تحسن حين عدل عن الصلح؟ وهم قد رأوا بأم
أعينهم
سبب العدول عن الصلح، وأنها
ضغوط تعرض لها، ورفض من أصحاب الثمار
أنفسهم،
ولم يطرأ أي شيء على الحالة العسكرية، ولا على التحالفات القائمة بين
الفرقاء من كلا الجانبين..
فكيف تتوهم غطفان
أن
مركز النبي «صلى الله عليه وآله» قد تحسن إلى درجة
أنه
مقدم على حرب الأحزاب وإجلائهم؟
و:
وأما
أن
هذه المناورة قد جعلت غطفان تحجم عن الاضطلاع بأي
دور عسكري خوفاً
من مقاومة المسلمين، ولكنهم
ظلوا في معسكراتهم حتى
أمرهم
أبو سفيان بالانسحاب.
فهو كلام عجيب غريب. فإن
دور غطفان العسكري لا يقل عن دور غيرها فالكل يحاصرون المسلمين، والكل
يتناوبون على الخندق.
وسيأتي حديث أم سلمة عن هجوم خيل غطفان على بعض نواحي
الخندق،
وأن
غطفان قد شاركت في الهجوم الشامل على المسلمين الذي فوت على المسلمين
بعض صلواتهم كما سيأتي..
ز:
الشورى فيما لا نص فيه: وأما
بالنسبة للشورى فيما لا نص فيه، فلا يصح استفادتها من هذا المورد.
إذ إن المفروض:
أنه
«صلى الله عليه وآله» قد قضى في المورد بالصلح، فما معنى
اعتراض أسيد بن حضير عليه،
ونقض ما كان قد
أبرمه؟!
ثم
إن
مبدأ الشورى إنما يعمل به قبل اتخاذ القرار، فما معنى
أن
يستشير النبي «صلى الله عليه وآله» بعد اتخاذه القرار، واستقدام عيينة
وأصحابه؟!
ح:
ولا يصغى بعد هذا لما ذكره البوطي، من
أن
ما صدر من النبي لم يخرج عن حدود
الاستشارة
والرأي، فلا يعتبر دليلاً
تشريعياً
على جواز
إعطاء
الجزية للمشركين.
فإن
ما صدر عن النبي «صلى الله عليه وآله» كان أكثر من مجرد استشارة في هذا
الأمر، بل قد تعداه إلى استقدام عيينة، ثم استدعاء عثمان وكتابة الكتاب.
ط:
وأما بالنسبة لغنيمة الأعداء لأموال المسلمين بسبب ضعف طارئ، فإن ذلك
لا يغير الحال، بل يبقى عنوان غنيمة أموال المسلمين بالكره عنهم.
ولو اضطروا لإعطاء
الجزية، فإن
إكراههم
على ذلك لا يرفع عنوان الجزية عن
إعطائهم
ذاك. بل هي جزية سواء كان من يعطيها مختاراً
أو مضطراً
لأجل الحفاظ على وجوده وحياته.
ي:
ثم
إن
البوطي قد خلط بين المكره والمضطر، فإن الاضطرار إلى شيء لا يرفع الحكم
التكليفي، والإكراه
غير الاضطرار. فطلاق المكره وهو الذي تخضع
إرادته
لإرادة
الغير، لا يصح. أما طلاق المضطر، وبيعه، فلا إشكال فيه، كمن اضطر لبيع
بيته بثمن زهيد لأجل علاج ولده.
فالخلط بين المكره والمضطر في غير محله..
قال المعتزلي:
«وكيف
يقول المرتضى: إنه «صلى الله عليه وآله» لم يكن محتاجاً
إلى رأي أحد، وقد نقل الناس كلهم رجوعه من رأي إلى رأي عند المشورة؟
نحو ما جرى يوم بدر من تغير المنزل لما
أشار
عليه الحباب بن المنذر،
ونحو ما جرى يوم الخندق من فسخ رأيه في دفع ثلث تمر المدينة إلى عيينة
بن حصن ليرجع بالأحزاب عنهم؛
لأجل ما رآه سعد بن
معاذ،
وسعد بن عبادة من الحرب، والعدول عن الصلح، ونحو ما جرى من تلقيح النخل
بالمدينة، وغير ذلك»؟!([22]).
ونقل عن الإسكافي في رده على الجاحظ
قوله:
«ولقد كان أصحاب النبي «صلى الله عليه وآله» يشيرون
عليه بالرأي المخالف لما كان أمر به وتقدم فيه، فيتركه ويعمل بما
أشاروا
به، كما جرى يوم الخندق في مصانعته الأحزاب بثلث تمر المدينة، فإنهم
أشاروا
عليه بترك ذلك فتركه وهذه كانت قاعدتهم معه، وعادته بينهم»([23]).
ونقول:
وقد ناقشنا في كل ما استشهد به المعتزلي والإسكافي حول
تغيير
رأي النبي «صلى الله عليه وآله»، وخطإه في آرائه في قصة تأبير النخل،
ثم قصة مشورة الحباب في بدر فراجع. وقصة عيينة في الخندق قد ظهر عدم
إمكان
قبولها بأي وجه، فلا معنى لاعتراض المعتزلي على السيد المرتضى فيما
قاله.
ولا نمنع
أن
يكون ثمة عمل
دبره
النبي «صلى الله عليه وآله» من خلال
إطلاق
إشاعة
عن أمر كهذا،
من شأنها
أن
تحدث فجوة في جدار الثقة الذي يحمي جسم جيش الشرك وصفوفه من التصدع،
تماماً
كما كان الحال بالنسبة لما فعله «صلى الله عليه وآله» بين قريظة وقريش
وجيش الشرك كما سيأتي.
ولم يتعدّ الأمر حدّ الشائعة، التي يمكن للمسلمين أن
يتفهموا مراميها.
ولكن الرواة حرَّفوا
هذه القضية ونسجوا حولها من خيالهم الشيء الكثير، ثم استفاد المصطادون
في الماء العكر من ذلك، فنفثوا سمومهم للنيل من الشخصية النبوية
الشريفة،
ثم لتبرير ما صدر من معاوية من عمل ذليل مخز، حين قَبِلَ
أن
يعطي ملك الروم مئة ألف دينار ذهباً،
كي يتفرغ لحرب سيد الوصيين علي
أمير
المؤمنين عليه الصلاة والسلام بهدف الإجهاز
على آخر حصون الإسلام المنيعة، وإعادة حكم الجاهلية.
بل لقد وجدنا في كلمات الزبير بن باطا ما يشهد على
أن
غطفان هي التي أرسلت إلى النبي «صلى الله عليه وآله» تعرض عليه
أن
يعطيها بعض ثمار المدينة مقابل الإنسحاب
من المواجهة معه، فأبى «صلى الله عليه وآله» أن يعطيها إلا السيف.
يقول الزبير بن باطا وهو يحاول
إقناع
أصحابه بعدم طلب الرهن من قريش: «وهذه غطفان تطلب إلى محمد
أن
يعطيها بعض ثمار المدينة فأبى
أن
يعطيهم إلا السيف»([24]).
([1])
المغازي للواقدي ج2 ص477 وراجع: المصنف للصنعاني ج5 ص367.
([2])
تاريخ الخميس ج1 ص485 وراجع المصادر التالية: العبر وديوان
المبتدأ والخبر ج2 ق2 ص36 ونهاية الأرب ج17 ص172 و 173
والمغازي للواقدي ج2 ص477 وسبل الهدى والرشاد ج4 ص530 والإرشاد
للمفيد ص51 و 52 وكشف الغمة لـلأربـلي ج1 ص202 وتـاريخ الأمم
والمـلـوك ج2 ص238 = = والبداية والنهاية ج4 ص104 والبحار ج20
ص252 وتاريخ الإسلام للذهبي (المغازي) ص238 وعيون الأثر ج2 ص60
والسيرة النبوية لابن هشام ج3 ص234 وتهذيب سيرة ابن هشام ص192
ودلائل النبوة للبيهقي ج3 ص430 وأنساب الأشراف ج1 ص346
والإكتفاء للكلاعي ج2 ص165 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص201.
([3])
العبر وديوان المبتدأ والخبر ج2 ق 2 ص30 وراجع: المصادر
التالية: سيرة المصطفى ص499 والسيرة النبوية لدحلان ج2 ص5 و 6
والسيرة الحلبية ج2 ص318 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص201 و
202 وإمتاع الأسماع ج1 ص236 وفتح الباري ج7 ص307 وشرح نهج
البلاغ للمعتزلي الشافعي ج10 ص180 وأنساب الأشراف ج1 ص346 وزاد
المعاد ج2 ص118 وسبل الهدى والرشاد ج4 ص531 وراجع: الإرشاد
للمفيد ص52 ومناقب آل أبي طالب ج1 ص198 وبهجة المحافل ج1 ص266
وجوامع السيرة النبوية ص149 و 150 وتاريخ الإسلام للذهبي
(المغازي) ص238 وتاريخ الأمم والملوك ج2 ص239 والكامل في
التاريخ ج2 ص180 و 181 وكشف الغمة للأربلي ج1 = = ص203
والبداية والنهاية ج4 ص104 و 105 والبحار ج20 ص252 ونهاية
الأرب ج17 ص172 و 173 وعيون الأثر ج2 ص60 ودلائل النبوة
للبيهقي ج3 ص430 و 431 والإكتفاء للكلاعي ج2 ص165 والسيرة
النبوية لابن هشام ج3 ص234 وتهذيب سيرة ابن هشام 192 و 193
والمصنف للصنعاني ج5 ص367 و 368 وشرح الأخبار ج1 ص293 و 294.
([4])
الإرشاد للمفيد ص52 وراجع: كشف الغمة للأربلي ج1 ص203 وبحار
الأنوار ج20 ص252. ومناقب آل أبي طالب ج1 ص198.
([5])
بهجة المحافل ج1 ص266 وراجع: الكامل في التاريخ ج2 ص180 و 181.
([6])
راجع في النصوص المتقدمة باختصار تارة وبإسهاب أخرى المصادر
التالية: تاريخ الخميس ج1 ص485 و 486 والمغازي للواقدي ج2 ص477
و 478 وفي تفصيلات لا مجال لإيرادها. والسيرة النبوية لدحلان
ج2 ص6 والسيرة الحلبية ج2 ص318 ونهاية الأرب ج17 ص172 و 173
وعيون الأثر ج2 ص60 وراجع: شرح بهجة المحافل ج1 ص266 وتاريخ
الإسلام السياسي ج1 ص118 و 119 وإمتاع الأسماع ج1 ص235 و 236.
وراجع: سبل الهدى والرشاد ج4 ص530 و 531 والسيرة النبوية لابن
هشام ج3 ص234 والبداية والنهاية ج4 ص105 وتاريخ الأمم والملوك
ج2 ص239. وراجع: حول هذا العقد المزعوم أيضاً: الرسول العربي
وفن الحرب ص246 وشرح نهج البلاغة للمعتزلي ج13 ص260 وج 17 ص199
وخاتم النبيين ص936 و 932 و 933 والإكتفاء للكلاعي ج2 ص164 و
165 وسيرة المصطفى ص507.
([7])
السيرة الحلبية ج2 ص318 والسيرة النبوية لدحلان ج2 ص6.
([8])
سبل الهدى والرشاد ج4 ص532.
([9])
الآية 3 من سورة النجم.
([10])
حياة محمد ورسالته ص168.
([11])
خاتم النبيين ص933.
([12])
خاتم النبيين ص936.
([13])
خاتم النبيين ص932.
([14])
تاريخ الإسلام السياسي ج1 ص119 و 120.
([15])
تاريخ الإسلام السياسي ج1 ص120 هامش.
([16])
فقه السيرة للبوطي 300 و 301.
([17])
الرسول العربي وفن الحرب ص246.
([18])
المصدر السابق ص248.
([19])
فقه السيرة للبوطي ص300 و 302.
([20])
شرح بهجة المحافل ج1 ص266 عن البغوي. وراجع: سبل الهدى والرشاد
ج4 ص565 والروض الأنف ج3 ص278.
([21])
فقه السيرة للبوطي ص300 ـ 302.
([22])
شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد المعتزلي الشافعي ج17 ص199.
([23])
المصدر السابق ج13 ص260.
([24])
سبل الهدى والرشاد ج4 ص543 و 544.
|