قـبـل أن يــبـــدأ الـقـتـــــال
وصول رسول الله
إلى
خيبر:
قال محمد بن عمر:
ثم سار رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
حتى انتهى إلى المنزلة، وهي سوق لخيبر، صارت في سهم زيد بن ثابت،
فعرَّس رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
بها ساعة من الليل.
وكانت يهود لا يظنون قبل ذلك أن رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
يغزوهم لمنعتهم، وحصونهم، وسلاحهم، وعددهم. فلما أحسوا بخروج رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
إليهم، قاموا يخرجون كل يوم عشرة آلاف مقاتل صفوفاً، ثم يقولون: محمد
يغزونا؟!! هيهات!! هيهات!! وكان ذلك شأنهم.
وكان يهود المدينة يقولون حين تجهز النبي
«صلى الله عليه وآله»
إلى خيبر: ما أمنع ـ والله ـ خيبر منكم. لو رأيتم خيبر، وحصونها،
ورجالها لرجعتم قبل أن تصلوا إليهم، حصون شامخات في ذرى الجبال، والماء
فيها واتن (أي لا ينقطع).
إن بخيبر لألف دارع. ما كانت أسد، وغطفان يمتنعون من
العرب إلا بهم. فأنتم تطيقون خيبر؟!
فخرج رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
إليهم فعمِّي عليهم مخرجه، حتى نزل رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
بساحتهم ليلاً، وكانوا حين بلغهم عزم النبي
«صلى الله عليه وآله»
على المسير إليهم، اختلفوا في خطة حربهم معه، ولم يتحركوا تلك الليلة،
ولم يصح لهم ديك حتى طلعت الشمس، فأصبحوا وأفئدتهم تخفق، وفتحوا حصونهم
غادين معهم المساحي، والكرازين([1])
والمكاتل، فلما نظروا إلى رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
ولُّوا هاربين إلى حصونهم([2]).
وروى الشافعي، وابن إسحاق، والشيخان
من طرق، عن أنس، قال:
سار رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
إلى خيبر، فانتهى إليها ليلاً، وكان رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
إذا طرق قوماً بليل لم يغر عليهم حتى يصبح، فإذا سمع أذاناً أمسك، وإن
لم يسمع أذاناً أغار عليهم حتى يصبح.
فصلينا الصبح عند خيبر بغلس، فلم نسمع أذاناً، فلما
أصبح ركب رسول الله «صلى الله عليه وآله» وركب معه المسلمون، وأنا رديف
أبي طلحة.
فأجرى نبي الله
«صلى الله عليه وآله»،
فانحسر عن فخذ رسول الله
«صلى الله عليه وآله»،
فإني لأرى بياض فخذ رسول الله
«صلى الله عليه وآله»،
وإن قدمي لتمس قدم رسول الله
«صلى الله عليه وآله»([3]).
وخرج أهل القرية إلى مزارعهم بمكاتلهم ومساحيهم، فلما
رأوا رسول الله «صلى الله عليه وآله»، قالوا: محمد والخميس. فأدبروا
هرباً.
فقال رسول الله «صلى الله عليه
وآله»، ورفع يديه:
«الله
أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم، فساء صباح المنذرين»([4]).
وروي بسند ضعيف، عن أنس، قال:
كان رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
يوم خيبر على حمار مخطوم برسن من ليف، وتحته إكاف من ليف([5]).
قال ابن كثير:
الذي ثبت في الصحيح: أن رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
جرى في زقاق خيبر حتى انحسر الإزار عن فخذه.
فالظاهر:
أنه كان يومئذٍ على فرس لا على حمار.
قال:
ولعل هذا الحديث ـ إن كان صحيحاً ـ محمول على أنه ركبه
في بعض الأيام، وهو محاصرها.
ونقول:
إن لنا مع النصوص المتقدمة عدة وقفات، هي التالية:
سمي الجيش بالخميس، لأنه خمسة أقسـام:
المقدمة، والقلب، والجنـاحـان ـ أعني: الميمنة والميسرة
ـ والساقة.
وذكروا:
أن الرسول «صلى الله عليه وآله» رفع يديه، وقال:
«الله أكبر، خربت خيبر، إنا إذا نزلنا بساحة قوم، فساء
صباح المنذرين..».
فهل كان هذا منه
«صلى الله عليه وآله»
دعاء بخراب خيبر؟!
أو أنه
«صلى الله عليه وآله»
قد تفاءل بخرابها، حين رأى الفؤوس والمساحي، التي هي آلة الهدم، كما
زعمه بعضهم؟
أو أنه
«صلى الله عليه وآله»
بصدد الإخبار عن خرابها، بقرينة قوله:
«إنا
إذا نزلنا بساحة قوم فساء صباح المنذرين..»([6])؟
قد يكون هذا الاحتمال الأخير قريباً، ثم الاحتمال
الأول. والله هو العالم..
وأما قولهم:
جرى رسول الله في زقاق خيبر حتى انحسر الإزار عن فخذه،
فنلاحظ عليه:
أولاً:
هل يراد الإيحاء: بأن النبي
«صلى الله عليه وآله»
لم يكن متحفظاً في لباسه وستره بالمقدار الكافي؟!
وأين هو وقاره، وسكينته
«صلى الله عليه وآله»؟!
فلماذا لا يحتفظ بهما في مثل هذه الحالات التي لا توجب عجلة، إذ ليس
هناك أمر يخاف فوته، ولا يوجد عدو تخشى مباغتته؟!
ثانياً:
أليس يقولون: إن الفخذ من العورة، التي ينزه رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
من الغفلة عن التحفظ عليها، أو التهاون في سترها؟ أو أن يعجله أمر عن
ذلك؟!
وقد قدمنا في جزء سابق من هذا الكتاب([7])
ما روي
عنه «صلى الله عليه وآله»: أنه أمر رجلاً بستر فخذه؛
فإنها من العورة([8]).
وهناك نصوص كثيرة، تدل:
على أن ما بين السرة والركبة عورة، فراجع([9]).
هناك نصوص تدل على حياء أبي موسى
الأشعري وأبي بكر، والخدري، لا مجال لإيرادها فعلاً([10]).
فيمكن الرجوع إليها في مظانها.
وقال العلامة الأميني:
«هب أن النهي عن كشف الأفخاذ تنزيهي، إلا أنه لا شك في
أن سترها أدب من آداب الشريعة، ومن لوازم الوقار، ومقارنات الأبهة،
ورسول الله «صلى الله عليه وآله» أولى برعاية هذا الأدب، الذي صدع به
هو
الخ..»([11]).
هذا، ولا بأس بالمقارنة بين ما يذكر هنا عن نبينا
الأعظم «صلى الله عليه وآله» وبين ما يذكر عن حياء عثمان، حتى إن أبا
بكر وعمر ليدخلان على النبي «صلى الله عليه وآله»، وفخذه مكشوفة، فلا
يسترها، حتى إذا دخل عليه عثمان جلس، وستر فخذه، وسوى عليه ثيابه؛
فتسأله عائشة
عن ذلك.
فيجيبها:
بأنه ألا يستحي من رجل تستحي منه الملائكة؟!
أو ما هو قريب من هذا([12]).
يضاف إلى ذلك:
أن
النبي «صلى الله عليه وآله» نفسه يأمر
بالحياء ويؤكد ويحث عليه
باستمرار، فيقول: إذا لم تستح، فاصنع ما شئت([13]).
ويقول:
الحياء من الإيمان، والإيمان في الجنة([14]).
إلى غير ذلك من النصوص الكثيرة
المروية
عنه «صلى الله عليه وآله»،
ولا مجال لتتبعها.
وقد ذكرت الرواية المتقدمة:
أن اليهود كانوا لايظنون قبل ذلك: أن رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
يغزوهم لمنعتهم وسلاحهم، وعددهم.
ونقول:
1 ـ
إن هؤلاء كانوا مغرورين بأنفسهم بدرجة كبيرة، فهم يرون
أن رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
قد خاض حروباً صعبة وهائلة، ومنَّ الله عليه بالنصر فيها، وهو قد ألجأ
قريشاً، التي لا يشك أحد في زيادة عددها أضعافاً على العدد الذي عنده،
ولا يماري أحد في سيادتها ونفوذها في الحجاز كله ـ ألجأها ـ إلى طلب
الصلح. وفرض عليها شروطه القوية، رغم أن عدد الذين كانوا معه في جميع
تلك المشاهد لا يقاس بعدد جيوش أعدائه. إضافة إلى ضعف ظاهر في التجهيز
في السلاح، وفي كثير من الامتيازات الحربية الأخرى.
ثم إنهم قد رأوا:
أنه
«صلى الله عليه وآله»
يكاتب ملوك الأرض، ويدعوهم إلى دينه، وإلى الاعتراف بنبوته..
فكيف مع هذا كله لم يكن اليهود يظنون أنه يغزوهم؟!
ومتى ظهر لهم:
أنه
«صلى الله عليه وآله»
قد خاف من كثرة السلاح، أو أرهبته منعة الحصون، أو ثنى عزيمته كثرة عدد
أعدائه؟!
2 ـ
إذا كانوا لا يظنون أنه يغزوهم لمنعتهم و.. فلماذا
أرسلوا وفدهم إلى قبيلة غطفان لطلب العون، وجعلوا لتلك القبيلة شطر
ثمار خيبر، إذا انتصروا على المسلمين؟!..
ومع كل ذلك نؤكد على:
أنهم ربما كانوا يظهرون للناس هذا الأمر تجلداً منهم،
ومكراً ودهاءً، يخفي وراءه رعباً قاتلاً، وخوفاً مخزياً، دفعهم إلى
الاتصال بتلك القبيلة، وعرض ثمرة ديارهم عليهم، ليفوزوا بنصرهم..
ولكن رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
قد عرض ثمرة بلاد عدوه، مقابل وقوف تلك القبيلة على الحياد، وشتان ما
بينهما..
وقد تقدم:
أنه
«صلى الله عليه وآله»
كان ينتظر أذان الصبح، فإن سمع الأذان امتنع عن الهجوم.
ولعل السبب في ذلك:
أن قرار الحرب والسلم قد يتخذه زعماء تلك الجماعة،
لأطماع معينة، أو لثارات شخصية، أو أهداف شخصانية، ترمي إلى بسط
الزعامة والنفوذ لبعض الطامحين، وقد تكون لأسباب اقتصادية أو غيرها..
مع عدم رضا المرؤوسين بتلك الحرب، أو مع عدم وجود مبرر لها في حياتهم..
فيسوق زعيم القبيلة مع حفنةٍ من أعوانه قبيلته إلى حرب رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
في حين يكون عامة الناس في تلك القبيلة والجماعة غير راضين بخوض تلك
الحرب.
فكان
«صلى الله عليه وآله»
يراقب حالة الناس ويميز بينهم، فإن رأى فيهم أية أمارة تدل على استحقاق
الرفق بهم، أو تدل على إسلامهم ـ كالأذان ـ كف عنهم، وسعى في حل
الإشكال مع الذين يسوقونهم إلى الحرب بطرق أخرى، أو سعى إلى استهداف
المجرمين منهم دون المستضعفين المقهورين. وهذا هو الغاية في الحكمة
ومنتهى اللطف منه
«صلى الله عليه وآله»
بمن يظهرون العداوة وينصبون الحرب له.
ومن جهة أخرى، فقد ذكرت الروايات:
أنه
«صلى الله عليه وآله»
كان لا يهاجم عدوه ليلاً، بل ينتظر فيه طلوع الفجر، وفقاً لما أشير
إليه في قوله تعالى: ﴿فَالمُغِيرَاتِ
صُبْحاً﴾([15]).
وقوله تعالى:
﴿وَلَقَدْ
صَبَّحَهُم بُكْرَةً عَذَابٌ مُّسْتَقِرٌّ﴾([16]).
وقوله: ﴿فَإِذَا
نَزَلَ بِسَاحَتِهِمْ فَسَاء صَبَاحُ المُنذَرِينَ﴾([17]).
وقوله: ﴿..إِنَّ
مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَلَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ﴾([18]).
وقوله: ﴿أَنَّ
دَابِرَ هَؤُلاء مَقْطُوعٌ مُّصْبِحِينَ﴾([19]).
وقوله: ﴿فَأَخَذَتْهُمُ
الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ﴾([20])
وغير ذلك..
وذلك كله يدل:
على أن الهجوم على العدو صباحاً ـ كما كان يفعل رسول
الله
«صلى الله عليه وآله»
وكذلك علي
«عليه
السلام»
من بعده ـ هو الراجح والأولى، ولعل لهذا الأمر اعتبارات نفسية، وعملية
قد يحتاج التعرف عليها إلى مزيد من التأمل والتدقيق.
وإن ما كان يقوم به اليهود من الخروج في كل يوم، وهم
عشرة آلاف، يصطفون ويقولون: محمد يغزونا؟ هيهات!! هيهات!! لا يحتاج إلى
تعليق.
فقد أشرنا أكثر من مرة إلى أن الاغترار بالكثرة
والاعتماد عليها.. دليل الفشل والسقوط..
خصوصاً إذا كان ذلك في حال الحرب، وبالأخص إذا كان
أولئك الناس من أهل الدنيا، والغارقين بالحياة المادية إلى آذانهم، لأن
كلاً منهم يريد أن يضحي بغيره من أجل نفسه، فهو يتخذ من غيره مجناً
وترساً يتخفَّى وراءه باستمرار، وهو يشعر: أن نفسه التي بين جنبيه هي
المستهدفة بالقتل وبالقتال..
ولذلك فهو يتخيل:
أن الكثرة من شأنها تكديس الموانع والحواجز التي سوف
يختبئ وراءها.. ويحتاج العدو إلى إزالتها والتخلص منها قبل أن يصل
إليه..
مع أنه إذا جد الجد وحمي الوطيس
سيرى:
أن الكل يفكر بنفس الطريقة، فإن كانوا عشرة آلاف، فسيجد
العشرة آلاف كلهم يفكرون بما يفكر به هذا وذاك، أي أن كل واحد منهم
يريد أن يجعل الآخر ترساً ومجناً لهم، ليكون في قبال حراب العدو،
وسيوفه وسهامه، التي سوف تأكل من لحمه، وتهشم عظمه.
فإذا وصل به الخيال إلى هذا الحد، فإنه سوف يسعى لإبعاد
شبح الحرب عن مخيلته، وسوف يتلذذ بالصور التي يخترعها لمبررات التخلص
من عدوه.
ولعل ألذها وأغلاها على قلبه هي تلك الصور التي تزين له
كيفية انصراف العدو عن الحرب، ولسوف يندمج ويتفاعل مع هذه الصور، حتى
تصبح هي الحقيقة التي لا محيص منها عنده، ولا بديل عنها لديه..
ولذلك اعتقد اليهود:
أن النبي
«صلى الله عليه وآله»
سوف لا يأتي لحربهم، لأنهم توهموا: أنه
«صلى الله عليه وآله»
يفكر كما يفكرون، ويخشى من الكثرات كما يخشون..
وكانت تلك الاستعراضات والانتفاخات الكاذبة تجسد لهم
أحلامهم هذه، وتزينها. حتى إذا استفاقوا من سباتهم هذا وجدوا أنفسهم
أمام الحقيقة، ولم يكن لهم بد من مواجهة مصيرهم المحتوم.. وهكذا كان..
وهذا يصلح تفسيراً لما قد يعتبر تناقضاً ظاهراً في
مواقفهم، فهم إذا كانوا قد أحسوا بخروج رسول الله «صلى الله عليه وآله»
إليهم، وطلبوا معونة غطفان، ورتبوا حصونهم بحيث يحاربون في بعضها،
ويجعلون ذراريهم وأموالهم في البعض الآخر..
فما معنى قولهم:
محمد يغزونا؟! هيهات!! هيهات!!
ولكن شرط أن يضاف إليه:
أن يكون المقصود بهذا الاستعراض، إظهار الإعجاب بقوتهم
وبكثرتهم، والسعي للتشجع، والحصول على الجرأة على خوض تلك الحرب التي
يخشونها كل الخشية..
وقال محمد بن عمر:
إنه حين نزل النبي
«صلى الله عليه وآله»
في خيبر، جاء الحباب بن المنذر، فقال: يا رسول الله، إنك نزلت منزلك
هذا، فإن كان من أمر أُمرت به فلا نتكلم، وإن كان الرأي تكلمنا.
فقال «صلى الله عليه وآله»:
«هو
الرأي».
فقال:
يا رسول الله، دنوت من الحصون، ونزلت بين ظهري النخل،
والنزّ، مع أن أهل النطاة لي بهم معرفة، ليس قوم أبعد مدى سهم منهم،
ولا أعدل رمية منهم، وهم مرتفعون علينا، ينالنا نبلهم، ولا نأمن من
بياتهم، يدخلون في خمر النخل، فتحوَّل يا رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
إلى موضع بريء من النزّ، ومن الوباء، نجعل الحرة بيننا وبينهم، حتى لا
تنالنا نبالهم، ونأمن من بياتهم، ونرتفع من النزّ.
فقال رسول الله «صلى الله عليه
وآله»:
«أشرت
بالرأي، ولكن نقاتلهم هذا اليوم([21]).
إذا أمسينا إن شاء الله تحولنا»([22]).
ودعا رسول الله «صلى الله عليه
وآله» محمد بن مسلمة، فقال:
انظر لنا منزلاً بعيداً من حصونهم، بريئاً من الوباء، نأمن فيه من
بياتهم. فطاف محمد حتى أتى الرجيع، ثم رجع إلى رسول الله
«صلى الله عليه وآله»،
فقال: يا رسول الله، وجدت لك منزلاً.
فقال رسول الله «صلى الله عليه
وآله»:
«على
بركة الله»([23]).
وسيأتي:
أنه «صلى الله عليه وآله» تحول لما أمسى، وأمر الناس
بالتحول.
ويذكرون أيضاً:
أن راحلته
«صلى الله عليه وآله»
قامت تجر بزمامها، فأُدرِكَت لتردَّ، فقال: دعوها، فإنها مأمورة.
فلما انتهت إلى موضع من الصخرة بركت عندها، فتحول رسول
الله
«صلى الله عليه وآله»
إلى الصخرة. وتحول الناس إليها، واتخذوا ذلك الموضع معسكراً.
وفي الأصل:
أنه نزل بذلك الموضع، ليحول بين أهل خيبر، وبين غطفان،
لأنهم كانوا مظاهرين لهم على رسول الله
«صلى الله عليه وآله».
وابتنى هنالك مسجداً صلى به طول مقامه بخيبر([24]).
ونقول:
إن لنا مع النص المتقدم عدة وقفات، نجملها على النحو
التالي:
قد أظهرت الرواية المتقدمة:
أن النبي
«صلى الله عليه وآله»
قد اختار لجيشه منزلاً غير صالح، من حيث إنه ـ كما أوضح الحباب ـ قريب
من العدو إلى حد أن سهامهم تصل إليه.
يضاف إلى ذلك:
ارتفاع المواقع التي يتواجد العدو فيها بالنسبة لموقع
جيش المسلمين، فلهم إشراف، وتسلط وهيمنة عليهم.
كما أن وجود النخل بكثافة يعطيهم الفرصة للاستفادة منه
في مهاجمة المسلمين تحت جنح الظلام..
فهذه الحيثيات كلها لا ينبغي أن تخفى على أي إنسان
عادي، يملك عقلاً وإدراكاً، ويعيش حالة التوازن في شخصيته، ولا يغفل
عنها إلا من كان يعاني من اختلالات في عقله، فكيف يصح نسبتها إلى عقل
الكل، وإمام الكل، ومدبر الكل، وهو سيد الأنبياء والمرسلين، وأفضل
الخلائق أجمعين، من الأولين والآخرين، إلى يوم الدين؟!
وكيف يكون الحباب بن المنذر أعرف، وأرشد، وأوفر عقلاً
من الرسول المسدد من الله، والمؤيد بالوحي؟!
ويجب أن لا ننسى:
أنهم قد نسبوا إلى النبي
«صلى الله عليه وآله»
مثل ذلك في غزوة بدر، وقد ذكرنا هناك أيضاً أننا لا نشك في كون ذلك من
الأكاذيب، فراجع..
ولعل الصحيح هو:
أن الناس أو معظمهم كانوا قد تسرعوا في الأمر، ونزلوا
في ذلك المكان القريب من العدو، الذي تنز الأرض فيه ماء.. حتى إن من
يقيم في ذلك الموضع يبتلى ـ بسبب ذلك ـ ببعض الأدواء والأوبئة. فشكى
الناس بلسان الحباب بن المنذر ذلك لرسول الله، وكان
«صلى الله عليه وآله»
عالماً بالأمر، وعازماً على التحول..
ولكنه كان لا يريد أن يكسر عنفوان أولئك الناس الذين
انطلقوا فيما فعلوه من نوايا طيبة، ونفوس سليمة، وطاهرة. كما أنهم إذا
عاينوا سوء ذلك الموضع بأم أعينهم فسوف يكون قرار الانتقال حاجة يشعرون
هم أنفسهم بضرورة تلبيتها، من دون أي تردد، أو إحساس بالمرارة، أو
اتهام منهم للآخرين بالمبالغة والتجني.
كما أنه
«صلى الله عليه وآله»
لا يريد أن يشعر اليهود بأن ثمة تردداً أو اهتزازاً في القرارات، وفي
السلوك والممارسة لدى المسلمين. فيجرئهم ذلك عليهم، وتهتز هيبتهم في
أعينهم، ويهيئ لهم الأجواء للتفكير في منافذ من شأنها أن تثير بعض
المتاعب لديهم، فقرر
«صلى الله عليه وآله»
المقام في ذلك المكان إلى الليل، للإيحاء لهم بأن ذلك داخل في جملة
القرارات المدروسة والمؤثرة.
واللافت هنا:
أن المؤرخين يذكرون: أن الحباب بن المنذر قد عارض أهل
السقيفة، وقال لقومه: لكأني بأبنائكم على أبواب أبنائهم (أي الذين
بويعوا في السقيفة)، قد وقفوا يسألونهم بأكفهم، ولا يسقون الماء..([25]).
بل ذكروا:
أنه حين قال في السقيفة: أنا جذيلها المحكك، وعذيقها
المرجب، أُخذ ووطئ في بطنه، ودسوا في فيه التراب([26]).
وهو القائل في السقيفة:
منا أمير، ومنهم أمير([27]).
ولكن ذلك:
لا يدل على أنه كان بصدد مناصرة علي
«عليه
السلام»،
بل قد يفهم من سياق حديث السقيفة: أنه كان بصدد تدبير الأمر لسعد بن
عبادة، وأنه لم يكن ـ فيما يظهر ـ من المعروفين بالولاء لعلي
«عليه
السلام»،
أو لبني هاشم.
ومن جهة أخرى:
فإننا تعودنا من فريق بعينه من الناس تعظيم مناوئي علي
«عليه
السلام»،
ومنحهم الأوسمة، وإعطائهم الامتيازات، فما الذي جعل الحباب يستحق هذه
الأوسمة منهم يا ترى؟!
فهل تمكن الذين حكموا بعد رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
من اجتذابه إلى جانبهم، فاستحق بذلك أن ينال بعض هذا الثناء، فيكون
الرجل الرشيد، وصاحب الرأي السديد، دون الرسول
«صلى الله عليه وآله»،
حتى ليدَّعون أنه حين نزل النبي
«صلى الله عليه وآله»
في بدر، استناداً إلى رأي نفسه، وأشار هو عليه
«صلى الله عليه وآله»
بالنزول في موضع آخر، نزل جبرئيل
«عليه
السلام»،
فقال: الرأي ما أشار به حباب([28]).
1 ـ
وكما كانت ناقة رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
مأمورة بتحديد المواقع كما جرى في الحديبية، وحين وصوله
«صلى الله عليه وآله»
إلى المدينة مهاجراً من مكة، فقد كان لناقته
«صلى الله عليه وآله»
دور أيضاً في واقعة خيبر. فإنها كانت مأمورة حين قامت تجر بزمامها حتى
انتهت إلى موضع بعينه، فبركت فيه، فتحول
«صلى الله عليه وآله»
إليه. وتحول الناس معه، واتخذوا ذلك الموقع معسكراً.
وكانت هذه إشارة كافية لتعريف الناس برعاية الله تعالى
لهذه المسيرة، ورضاه عنها.. فلتسكن القلوب إذن، وليطمئن الناس إلى ما
يختاره الله تعالى لهم. فالمقتول في هذه المعركة شهيد، والباذل مهجته
في سبيل الله مجاهد.. وما هي إلا إحدى الحسنيين: إما النصر، وإما
الشهادة!!.
2 ـ
وحديث الراحلة هذا يكذب الرواية الأخرى التي زعمت: أن
النبي
«صلى الله عليه وآله»
قد طلب من محمد بن مسلمة: أن يبحث لهم عن مكان ينزلون فيه، فطاف حتى
أتى الرجيع فاختاره له، فانتقل
«صلى الله عليه وآله»
إليه..
فإننا لا نجد في رواية الراحلة أية دواع للكذب،
والافتعال، بينما تكون هذه الدواعي متوفرة بالنسبة لمحمد بن مسلمة،
حسبما أشرنا إليه عدة مرات، وربما نشير إلى ذلك أيضاً فيما يأتي..
3 ـ
بل إن بعض النصوص قد صرحت: بأنه
«صلى الله عليه وآله»
قد اختار ذلك المكان ليحول بين أهل خيبر وغطفان..
وربما تكون الراحلة قد حددت الموضع، ثم جاء التصريح من
النبي
«صلى الله عليه وآله»:
بأن النزول في ذلك المكان بعينه سوف يقطع طريق الاتصال بين اليهود،
وبين غطفان..
وليس من قبيل الصدفة:
أن يبادر رسول الله«صلى
الله عليه وآله»
لبناء مسجد له في خيبر، فإن ذلك يتضمن الإيحاء للمسلمين بالنتائج
الإيجابية لهذه الحرب التي يقدمون عليها.
كما أنه إشارة، بل إعلان ليهود خيبر بثقته
«صلى الله عليه وآله»
بالنصر عليهم، وبظهور الإسلام في بلادهم رغماً عنهم..
قالوا:
«ابتدأ
رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
من حصونهم بحصون النطاة. وقيل: ابتدأ بحصون الكتيبة؛ لأنهم أدخلوا
عيالهم وأموالهم في حصون الكتيبة، وجمعوا المقاتلة في حصون النطاة»([29]).
غير أننا لم نستطع أن نقنع أنفسنا بصوابية هذا التدبير،
فإن فصل العيال عن المقاتلين بهذا النحو قد يعطي الفرصة للجيش المهاجم
لتكليف طائفة من مقاتليه بمشاغلة المقاتلين في حصن النطاة، ثم تتولى
فئة أخرى مهاجمة الحصن الذي فيه العيال والأموال، وفتحه، والاستيلاء
على ما ومن فيه.. وبذلك يكونون قد عرضوا أنفسهم لضربة قاصمة على الصعيد
النفسي على أقل تقدير.
ومن جهة ثانية نقول:
ماذا لو أن الجيش المهاجم اختار أن يهاجم الحصن الذي
فيه المال والعيال بكل جنوده، أو اختار حصناً آخر غير حصني النطاة
والكتيبة، ليهاجمه، فما الذي يصنعه الجيش المتجمع في حصن النطاة؟! هل
سيترك مواقعه، ويبادر لنجدة مقاتلي الحصن الآخر؟!
وهل سوف يصحر للجيش المهاجم، ويلاقيه في الصحراء، أو
بين أشجار النخيل؟
أم سوف يبقى معتصماً بالحصن الذي هو فيه، ويكتفي بالرمي
من فوق الأسوار؟!
من أجل ذلك نقول:
لعل الحقيقة هي:
أن اليهود قد وضعوا عيالهم وأموالهم، ورجالهم في الحصن
الأقوى بنظرهم. ووضعوا قسماً من رجالهم في أول حصن يتوقعون مهاجمة
الجيش القادم له.. على أمل أن يتمكنوا من حفظ تلك الحصون من أخذ
المهاجمين لها، والاستفادة منها في إذلالهم، وقهرهم.
كما أن تواجدهم في تلك الحصون قد يربك المسلمين،
ويوهمهم صعوبة تحقيق النصر، ويبعث في نفوسهم اليأس من الظفر، ويحملهم
على التفكير بالرجوع عنهم بلا نتيجة، أو بنتيجة هي لصالحهم في جميع
احتمالاتها ووجوهها..
قالوا:
«وأمر
«صلى الله عليه وآله»
بقطع نخيل أهل حصون النطاة؛ فوقع المسلمون في قطعها، حتى قطعوا أربع
مائة نخلة، ثم نهاهم عن القطع، فما قطع من نخيل خيبر غيرها»([30]).
بل لقد زعموا:
أن الحباب بن المنذر هو الذي أشار على النبي
«صلى الله عليه وآله»
بقطع النخيل، لأن النخيل أحب إلى اليهود من أبكار أولادهم، فأمر
«صلى الله عليه وآله»
بقطع النخل، فوقع المسلمون في قطعها حتى أسرعوا في ذلك، فجاء أبو بكر
إلى النبي
«صلى الله عليه وآله»،
وقال له: يا رسول الله، إن الله عز وجل قد وعدكم خيبر، وهو منجز ما
وعدك. فلا تقطع النخل.
فأمر منادي رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
فنهى عن القطع([31]).
وفي نص آخر:
أن الذي طلب من النبي
«صلى الله عليه وآله»
عدم قطع النخيل هو عمر([32]).
ونقول:
إن ذلك غير مقبول،
لأن النبي
«صلى الله عليه وآله»
لم يكن ألعوبة بأيدي الآخرين، وكان أعلم الناس بالمصالح والمفاسد،
وبالتدبير الصحيح.
ومع ذلك نقول:
1 ـ
إن رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
كان يوصي سراياه وبعوثه بأن لا يقطعوا شجراً([33]).
2 ـ
لماذا أمرهم بقطع نخيلهم في خصوص حصون النطاة دون
سواها؟ مع أن النخيل في حصون الكتيبة كان أكثر بكثير، فقد قيل ـ كما
تقدم ـ: إنه كان فيها أربعون ألف عذق.
3 ـ
لماذا عاد فنهاهم عن مواصلة قطع النخيل، مع أنهم لم
يقطعوا سوى أربع مائة نخلة؟! فهل هو قد وجد: أن قطع النخيل لم يكن
صواباً؟! أو لم يكن راجحاً؟! ثم تبين له الصواب والراجح!!
4 ـ
إذا كانت مشورة أبي بكر هي التي منعته من مواصلة
القطع.. فلماذا أدرك أبو بكر ما لم يدركه رسول الله
«صلى الله عليه وآله»؟!
ولماذا كانت النبوة من نصيب الذي قصر فهمه عن إدراك هذا
الأمر، وحرم ذلك الرجل الراجح العقل من هذا المقام؟!
5 ـ
وإذا كان قطع النخيل يرضي الله تعالى، فلماذا أطاع
النبي
«صلى الله عليه وآله»
أبا بكر؟!
وإذا كان لا يرضي الله تعالى فلماذا أطاع الحباب؟!
وكيف يصح هذا وذاك، والنبي
«صلى الله عليه وآله»
لا يقول ولا يفعل إلا ما يرضي الله سبحانه؟!
فالظاهر هو:
أنه
«صلى الله عليه وآله»
قد أمر بقطع بعض النخلات استجابة لضرورات الحرب، لاحتياج العسكر إلى
الفسحة المناسبة، حيث لا عوائق له عن الحركة، ولا موانع من الرصد
الدقيق لتحركات العدو، ولغير ذلك من موجبات.
عن الضحاك الأنصاري، قال:
لما سار النبي
«صلى الله عليه وآله»
إلى خيبر جعل علياً
«عليه
السلام»
على مقدمته، فقال
«صلى الله عليه وآله»:
من دخل النخل فهو آمن.
فلما تكلم النبي
«صلى الله عليه وآله»
نادى بها علي«عليه
السلام»,
فنظر النبي
«صلى الله عليه وآله»
إلى جبرائيل يضحك, فقال: ما يضحكك؟!
قال:
إني أحبه.
فقال النبي «صلى الله عليه وآله»
لعلي «عليه السلام»:
إن جبرائيل يقول إنه يحبك!
قال «عليه السلام»:
بَلَغْتُ أن يحبني جبرائيل؟
قال «صلى الله عليه وآله»:
نعم, ومن هو خير من جبرائيل, الله عزَّ وجلّ([34]).
ونقول:
إن لنا مع ما تقدم عدة وقفات، هي التالية:
لقد تضمن هذا النص:
أمراً هاماً, من حيث دلالته الصريحة على: أنه «صلى الله عليه وآله» لم
يكن يقاتل اليهود لأنه اتخذ قراراً مسبقاً بقتلهم وبإبادتهم, أو
بقهرهم، والاستيلاء على بلادهم، وقد جاء الآن لتنفيذ هذا القرار.
كما أنه قد تضمن إعطاء الأمان للناس من دون أي شروط،
والاكتفاء بمجرد إظهار الرغبة في الدخول في الأمان..
وهذا يعطي:
أنه
«صلى الله عليه وآله»
لم يكن يريد أن يستفيد من قوته العسكرية الضاربة لفرض شروطه على
محاربيه, بل كانت شروطه هي تلك الشروط، التي يسعى إليها كل إنسان بحسب
سجيته وفطرته العامة, وهي كل ما يقتضيه العدل والإنصاف للناس.
وهذا يدل:
على أن الهدف هو مجرد التخلص من الفتنة, ودرء الأخطار،
وإعادة تصحيح الأوضاع لصالح السلم، وإشاعة الأمن، وضمان الحرية في نطاق
الانضباط والالتزام بالحدود، والوفاء بالعهود، والمواثيق.
ثم إن هذه الشروط قد أعطت الإيحاء
للعدو:
بأن ثمة يقيناً بالنصر، وبأن عليهم أن يراجعوا حساباتهم، فلا تغرهم
عدتهم، ولا عديدهم..
كما أن وجود هذا الخيار، وظهور الميل إليه لدى بعض
الفئات المحاربة، سوف يضعف الثقة فيما بينهم، ويخلُّ بإمكانية الاعتماد
على بعضهم البعض، حين يبقى احتمال رغبة الناس بالأمان واحتمال أن يبادر
إلى التماسه كل فرد منهم، ماثلاً أمامهم، يثير القلق في نفوسهم، ويضعف
تأثير قراراتهم في تسكين النفوس، وفي الشعور بالأمن، وبالطمأنينة
للسلامة، والثقة بالنصر، وبالتناصر..
يضاف إلى ذلك:
أنه قد يكون هناك أناس مستضعفون مغلوبون على أمرهم, يقهرهم الأقوياء
على مواقف لا يريدونها، ويسخِّرونهم لتحقيق
مآربهم, فيكون إعطاء هذا الأمان فرصة لهم يعيد إليهم الخيار, ويمكنهم
من الاختيار،
وبذلك يصبحون هم الذين يتحملون المسؤولية لو خاضوا تلك الحرب، وارتكبوا
أي خطأ، أو ذنب.
وليس لهم أن يعتذروا بالاستضعاف، وانسداد أبواب الخيارات
الصحيحة أمامهم.
وإن جعل قيادة ذلك الجيش إلى علي «عليه السلام» هو في
حد ذاته أحد مفردات الحرب النفسية، الشديدة التأثير على الأعداء، الذين
يعرفون علياً «عليه السلام»، وقد أذاقهم سيفه الويلات، وحلت بهم منه
الكوارث والنكبات. وهو أيضاً يعطي المسلمين المزيد من القوة والاندفاع،
والثقة بالنصر..
وقد حاول بعضهم التشكيك بجعل علي «عليه السلام» على
مقدمة الجيش.
فقد قال الدياربكري:
«واستعمل
على مقدمة الجيش عكاشة بن محصن الأسدي، وعلى الميمنة عمر بن الخطاب،
وعلى الميسرة واحداً من أصحابه، وفي بعض الكتب علي بن أبي طالب.
وهذا غير صحيح:
لأن الروايات الصحيحة تدل على: أن
علياً في أوائل الحال لم يكن في العسكر، وكان به رمد شديد، ولما لحق
بالعسكر، أعطاه الراية، وأمَّره على الجيش، ووقع الفتح على يده كما
سيجيء.. انتهى([35]).
ونقول:
إن لنا على ما ذكره بعض المؤاخذات:
فأولاً:
إن دعواه: أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد جعل عمر بن
الخطاب على الميمنة غريبة حقاً، فإننا لم نعهد في هذا الرجل طيلة حياته
مع رسول الله «صلى الله عليه وآله» أية مواقف شجاعة، تؤهله لهذا المقام
الخطير.
وقد كنا نتوقع:
أن يذكروا هنا أشخاصاً آخرين ممن لهم بهم هوى، حتى لو
كان سعد بن عبادة، أو الحباب بن المنذر، أو الزبير، الذي شفعت له عندهم
حرب الجمل التي قادها ضد علي
«عليه
السلام»،
أو محمد بن مسلمة، لأننا نعلم: أن لهم عناية خاصة بأمثال هؤلاء، وحرصاً
على تسطير الفضائل والكرامات لهم.
وأما أبو دجانة، والمقداد، ونظراؤهم من الذين كان لهم
ميل إلى علي
«عليه
السلام»،
فلا نكاد نشعر بأن لهم نصيباً في شيء من ذلك..
ولعلهم قد أبهموا اسم الذي كان على الميسرة لأنه كان في
جملة هؤلاء الذين لا يحبون ذكرهم في أمثال هذه المواقف، ولم يكن ثمة
مجال لتبديله بغيره، لشدة ظهور أمره للناس.
ثانياً:
سيأتي إن شاء الله تعالى: أن علياً
«عليه
السلام»
كان على رأس جيش رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
من حين خروجه من المدينة. وقد طال مقامه في خيبر عشرات الأيام، وربما
بلغ أشهراً، فالرمد لم يصب علياً
«عليه
السلام»
كل هذه المدة الطويلة، بل أصابه قبل قتل مرحب بوقت يسير، وإنما قتل
مرحب في أواخر، بل في آخر أيام خيبر، وبعد حصار حصونهم المختلفة عشرات
الأيام..
بل لقد حوصر حصن القموص نفسه عشرين يوماً كما سيأتي.
وسيأتي أيضاً في الفصل الثالث في فقرة
«الرايات
بدأت في خيبر»:
أنه
«صلى الله عليه وآله»
قبل أن يبدأ القتال في حصن ناعم قد أعطى لواءه إلى علي
«عليه
السلام»..
وحصن ناعم هو أول حصون خيبر فتحاً..
علي
يسمع الناس أقوال النبي
:
وقد لوحظ:
أن علياً
«عليه
السلام»
هو الذي تولى إسماع الناس ما تكلم به النبي
«صلى الله عليه وآله»..
وكأن هذا الأمر قد جاء وفق توجيه مسبق ينيط هذه المهمة بعلي
«عليه
السلام».
لأننا نعلم:
أن علياً
«عليه
السلام»
لا يمكن أن يقدم على أمر، إذا لم يكن هناك توجيه من رسول الله
«صلى الله عليه وآله».
وقد ثبت ذلك بصورة قاطعة في نفس غزوة خيبر، حين قال له
النبي
«صلى الله عليه وآله»:
اذهب ولا تلتفت، فسار قليلاً، ثم قام ولم يلتفت، فقال
«عليه
السلام»:
علام أقاتلهم، كما سيأتي إن شاء الله..
ثم يأتي إخباره
«صلى الله عليه وآله»
عن ضحك جبرئيل حين نادى
«عليه
السلام»
في الناس بكلامه
«صلى الله عليه وآله».
فإن ما يثير الانتباه هو:
أن ذلك قد جاء توطئة للإعلان بحب جبرئيل
«عليه
السلام»،
وحب الله تعالى لأمير المؤمنين
«عليه
السلام»،
وهو الحب الذي لم يوجب له
«عليه
السلام»
أي نوع من أنواع الغرور غير المقبول، بل هو قد بادر إلى هضم نفسه، ولم
يعطها مداها، ولا أتاح الفرصة لأن يتوهم أي كان أن لها أي دور، أو
تأثير سلبي في أي شأن من شؤونه
«عليه
السلام»..
مع أنه هو الذي سيفتح الله تعالى خيبر على يديه، وسوف
يتمنى المنهزمون الذين كانوا يجبِّنون أصحابهم، ويجبنهم أصحابهم: أن
يعطيهم الرسول
«صلى الله عليه وآله»
الراية، التي لا نشك في أنهم لو حصلوا عليها، فسوف يفرون بها من جديد،
مرة بعد أخرى..
وقد جاء بيان ذلك كله..
في سياق
إعطاء الأمان لمن دخل النخل، ليكون ذلك بمثابة إعلان
لهم:
بأن هذا الذي سوف يقتل فرسانهم، ويفتح حصونهم، هو إنسان قريب من الله
سبحانه وهو له حبيب..
وليس مجرد فارس شجاع، وبطل فاتك، لا يبالي بإزهاق الأرواح،
ولا يهدف في حروبه تلك إلى أن يفرض
إرادته على الآخرين
بالجبروت وبالقهر،
وقوة السلاح..
([2])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص118 والسيرة الحلبية ج3 ص33 والإمتاع
ص310 وراجع: المغازي للواقدي ج2 ص637 و 642 و 643 والطبقات
الكبرى لابن سعد ج2 ص106.
([3])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص118 والسيرة الحلبية ج3 ص33 والمغازي
للواقدي ج2 ص643.
([4])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص119 وفي هامشه عن: البخاري ج2 ص89
(610/2991) ومسلم ج3 ص1426 (120/1365) وراجع: السيرة الحلبية
ج3 ص33 ولباب التأويل ج4 ص152 والإمتاع ص311 والمغازي للواقدي
ج2 ص642 و 643.
([5])
سبل الهدى والرشاد ج7 ص33 وج5 ص119 وفي هامشه عن: الحاكم في
المستدرك ج2 ص466 والبيهقي في الدلائل ج4 ص204، وانظر: الدر
المنثور ج6 ص111.
وراجع: السيرة الحلبية ج3 ص34 ومستدرك الوسائل ج8 ص268 ومكارم
الأخلاق ص15 والبحار ج6 ص229 وسنن ابن ماجة ج2 ص1339 والجامع
الصحيح ج2 ص241 وفتح الباري ج6 ص56 وشرح النهج للمعتزلي ج11
ص194 وتاريخ مدينة دمشق ج4 ص210 والشفا بتعريف حقوق المصطفى ج1
ص131 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص350 وعن تاريخ الخميس ج1
ص493.
([6])
السيرة الحلبية ج3 ص33 والدر المنضود ج2 ص145 والبحار ج20 ص234
و 262 وج21 ص32 والأم للشافعي ص267 والمجموع للنووي ج19 ص288
وتنوير الحوالك ص391 والمبسوط للسرخسي ج10 ص31 ومناقب أمير
المؤمنين ج2 ص509 والإرشاد للمفيد ج1 ص110 وميزان الحكمة ج3= =
ص2247 ومسند الشافعي ص318 ومسند أحمد ج3 ص102 وج3 ص111 و 164 و
186 و 206 و 246 و 263 و 270 وج4 ص28 و 29 وعن صحيح البخاري ج1
ص98 و 152 و 228 وج4 ص5 و 16 و 188 وج5 ص73 وعن صحيح مسلم ج4
ص145 و 147 وج5 ص185 والجامع الصحيح للترمذي ج3 ص54 وسنن
النسائي ج1 ص272 وج6 ص132 وج7 ص204 والمستدرك للحاكم ج1 ص460
والسنن الكبرى للبيهقي ج2 ص230 وج9 ص55 و 80 و 153 وشرح مسلم
للنووي ج12 ص164 ومجمع الزوائد ج6 ص149 وعن فتح الباري ج7 ص359
وشرح سنن النسائي للسيوطي ج6 ص132 ومسند أبي داود ص283 ومسند
الحميدي ج2 ص504 وبغية الباحث ص261 وكتاب السنة ص594 والسنن
الكبرى للنسائي ج1 ص478 وج3 ص161 و 335 وج5 ص177 و 178 و 200
وج6 ص441 ومسند أبي يعلى ج5 ص286 و 384 وج6 ص431 وج7 ص30 وشرح
معاني الآثار ج3 ص208 وصحيح ابن حبان ج11 ص50 وج14 ص452 وج16
ص195 والمعجم الصغير للطبراني ج1 ص196 والمعجم الأوسط للطبراني
ج3 ص95 وج4 ص142 وج8 ص358 والمعجم الكبير للطبراني ج5 ص97
ومسند الشاميين ج4 ص22 ودلائل النبوة للإصبهاني ص112 والأذكار
النووية للنووي ص209 ونصب الراية للزيلعي ج6 ص135 وكنز العمال
ج10 ص385 و ص465 وغير ذلك كثير.
([7])
راجع: الصحيح من السيرة ج2 ص275 و 276.
([8])
مسند أحمد ج5 ص290 وج1 ص275 وصحيح البخاري ج1 ص51 وسنن البيهقي
ج2 ص228 والإصابة ج3 ص448 وفتح الباري ج1 ص403 ونيل الأوطار ج2
ص50 ومستدرك الحاكم ج4 ص180 و 181 ومجمع الزوائد ج2 ص52 عن
أحمد، والطبراني في الكبير، والغدير ج9 ص282 فما بعدها، عن من
تقدم، وعن إرشاد الساري، وابن حبان في صحيحه، وليراجع: موطأ
مالك، والترمذي، وأبو داود، ومشكل الآثار ج2 ص284 و285 و286
وحتى ص293. والمصنف ج11 ص27 وتأويل مختلف الحديث ص 323 و324.
([9])
راجع: الغدير ج9 ص285 و 284 و 288 و 290 و 291 و 292. والمعجم
الصغير ج2 ص96. وحياة الصحابة ج2 ص612 و 613 حين تجد كثيراً من
أقوال العلماء والنصوص حول ذلك.
([10])
راجع: طبقات ابن سعد ج4 ص113 و 114 والزهد والرقائق ص107 وربيع
الأبرار ج1 ص760 وحياة الصحابة ج3 ص482 عن كنز العمال ج8 ص306
وج5 ص124 وعن حلية الأولياء ج1 ص34 والغدير ج7 ص248 وج9 ص281.
([12])
مجمع الزوائد ج9 ص82 والبداية والنهاية ج7 ص202 عن الطبراني في
الكبير، والأوسط، ومسند أحمد، وأبي يعلى، وتاريخ جرجان ص416،
والمصنف للصنعاني ج11 ص232 و 233 والمحاسن والمساوئ ج1 ص61
وحياة الصحابة ج2 ص611 و 612 عن الأولين، ومشكل الآثار ج2 ص283
و 284 ومسند أحمد ج1 ص71 وج6 ص62 و 155 و 167 وصحيح مسلم ج7
ص116 و 177 والغدير ج9 ص274 و 275 و 287 وص290 عن الأخيرين،
وعن: مصابيح السنة ج2 ص273 والرياض النضرة ج2 ص88 وراجع: تأويل
مختلف الحديث ص323 والتراتيب الإدارية ج2 ص383 و 384 وفيه
أحاديث أخرى عن حياء الملائكة من عثمان، ومسند أبي يعلى ج7
ص415.
([13])
راجع: كنز العمال ج3 ص122 ومسند أحمد ج4 ص121 وج5 ص273 وعن
صحيح البخاري ج5 ص100 وتحفة الأحوذي ج2 ص74 ومسند ابن الجعد
ص130 والمعجم الكبير ج17 ص236 و 237 و 238 ومسند الشهاب ج2
ص186 والأذكار النووية ص410 ورياض الصالحين للنووي ص713
والجامع الصغير للسيوطي ج1 ص6 و 382 وعن فتح الباري ج10 ص434
والغدير ج9 ص275 ومستدرك الوسائل ج8 ص466 والشرح الكبير لابن
قدامة ج12 ص43 وسبل السلام لابن حجر ج4 ص206 والمغني لابن
قدامة ج12 ص33 وتنوير الحوالك ص167 وإعانة الطالبين ج4 ص318
والإقناع للحجـاوي ج2 ص280 ومغني المحتـاج ج4 ص427 وميزان
الحكمة ج1 = = ص718 وفيض القدير ج2 ص685 وكشف الخفاء ج1 ص14 و
98 وتفسير مجمع البيان ج8 ص388 والمحصول للرازي ج2 ص34 والكامل
ج6 ص82 وطبقات المحدثين بإصبهان ج3 ص560 وتاريخ بغداد ج3 ص315
وج10 ص303 و 354 وتاريخ مدينة دمشق ج25 ص388 وج36 ص183 وج53
ص120 وأسد الغابة ج2 ص227 وتهذيب الكمال ج16 ص124 والأنساب
للسمعاني ج4 ص154 والبداية والنهاية ج2 ص169 وج12 ص68 و 158.
([14])
راجع: الكافي ج1 ص7 وج2 ص106 وتحف العقول ص394 وشرح أصول
الكافي ج8 ص301 والوسائل (ط دار الإسلامية) ج11 ص330 ومستدرك
الوسائل ج8 ص461 و 463 وج12 ص81 وكتاب الزهد للكوفي ص6
والمسترشد للطبري ص16 ودلائل الإمامة ص66 ومشكاة الأنوار
للطبرسي ص411 والبحار ج1 ص149 وج68 ص329 وج75 ص309 وج76 ص112
والغدير ج9 ص275 ومستدرك سفينة البحار ج1 ص310 ومكاتيب الرسول
ج3 ص576 و 577 وميزان الحكمة ج1 ص717 ومسند أحمد ج2 ص501 وسنن
ابن ماجة ج2 ص1400 وسنن الترمذي ج3 ص247 والمستدرك للحاكم ج1
ص52 و 53 ومجمع الزوائد ج1 ص91 وج8 ص26 و 169 وعن فتح الباري
ج10 ص433 ومسند ابن الجعد ص421 والمصنف لابن أبي شيبة ج6 ص92
وج7 ص222 والأدب المفرد للبخاري ص278 ومكارم الأخلاق لابن أبي
الدنيا ص35 وأمالي المحاملي ص104 وصحيح ابن حبان ج2 ص373 و 374
والمعجم الصغير ج2 ص115 والمعجم الأوسط ج5 ص193 والمعجم الكبير
ج10 ص196 وج18 ص178 وج22 ص414 وموارد الظمـآن ص476 والجـامع
الصغـير ج1 = = ص596 وج2 ص25 والعهود المحمدية للشعراني ص459
وكنز العمال ج3 ص53 و 120 وج15 ص877 وفيض القدير ج3 ص568 وج4
ص75 وتفسير الثعالبي ج4 ص269 وتاريخ بغداد ج6 ص189 وتاريخ
مدينة دمشق ج14 ص55 وميزان الإعتدال ج1 ص110 والكشف الحثيث
لسبط ابن العجمي ص48 ولسان الميزان ج1 ص198 وتاريخ اليعقوبي ج2
ص93 وبيت الأحزان للقمي ص46 ولسان العرب ج14 ص148.
([15])
الآية 3 من سورة العاديات.
([16])
الآية 38 من سورة القمر.
([17])
الآية 177 من سورة الصافات.
([18])
الآية 81 من سورة هود.
([19])
الآية 66 من سورة الحجر.
([20])
الآية 83 من سورة الحجر.
([21])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص119 و 120 وفي هامشه عن ابن سعد في
الطبقات 3/2/109 وراجع: السيرة الحلبية ج3 ص33 و 34 والمغازي
للواقدي ج2 ص643 و 644.
([22])
السيرة الحلبية ج3 ص33 و 34 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص120 وراجع:
= = المغازي للواقدي ج2 ص644.
([23])
طبقات ابن سعد 3/2/109 والمصنف للصنعاني (9291) والسيرة
الحلبية ج3 ص34 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص119 و 120 وفي الهامش:
أخرجه عبد الرزاق في المصنف (9291).
([24])
السيرة الحلبية ج3 ص34 وراجع: المغازي للواقدي ج2 ص644.
([25])
الإمامة والسياسة (ط سنة 1356 هـ بمصر) ج1 ص9.
([26])
قاموس الرجال ج3 ص46 عن شرح النهج للمعتزلي ج6 ص40 والغدير
للأميني ج7 ص76.
([27])
الإمامة والسياسة (ط سنة 1356 هـ بمصر) ج1 ص7 وشرح النهج
للمعتزلي ج2 ص24 وج6 ص9 وصحيح البخاري كتاب الحدود باب رجم
الحبلى من الزنى، والكامل لابن الأثير ج2 ص25 وتاريخ الأمم
والملوك ج2 حوادث سنة 11 هـ. والإحتجاج للطبرسي ج1 ص92.
([28])
قاموس الرجال ج3 ص44.
([29])
السيرة الحلبية ج3 ص33.
([30])
السيرة الحلبية ج3 ص34 والإمتاع ص311 والمغازي للواقدي ج2 ص644
و 645 وتاريخ الخميس ج2 ص46.
([31])
راجع: المغازي للواقدي ج2 ص644.
([32])
السير الكبير للشيباني ج1 ص55 وتدوين القرآن ص27.
([33])
الكافي ج1 ص334 و 335 وج5 ص30 والبحار ج19 ص177 ـ 179 وراجع:
مسند أحمد ج1 ص300 والتهذيب للطوسي ج6 ص138 و 139 والأموال ص35
وتذكرة الفقهاء ج1 ص412 و 413 ومنتهى المطلب ج2 ص908 و 909
وجواهر الكلام ج21 ص 66 والوسائل ج11 ص43 و 44 والمحاسن للبرقي
ص355.
([34])
أسد الغابة ج3 ص34.
([35])
تاريخ الخميس ج2 ص42.
|