فــتـــح حــصـــن نـــــاعـــــــم

   

صفحة :147-168   

فــتـــح حــصـــن نـــــاعـــــــم

مستطيل مستدير الزوايا: فــتـــح حــصـــن نـــــاعـــــــم
مستطيل مستدير الزوايا: الفصل الثالث:

 

 

 

 

 

 

 

 

 

 


 

 

 

 


 

حصار حصن ناعم:

قال ابن إسحاق، ومحمد بن عمر، وابن سعد: وفرق رسول الله «صلى الله عليه وآله» الرايات، ولم تكن الرايات إلا يوم خيبر، وإنما كانت الألوية([1]).

وكانت راية رسول الله «صلى الله عليه وآله» سوداء من برد لعائشة، تدعى العقاب، ولواؤه أبيض، دفعه إلى علي بن أبي طالب «عليه السلام»، ودفع راية إلى الحباب بن المنذر، وراية إلى سعد بن عبادة.

وكان شعارهم: «يا منصور أمت»([2]).

وأضاف الحلبي: راية إلى أبي بكر، وراية إلى عمر([3]).

ثم صف رسول الله «صلى الله عليه وآله» أصحابه، ووعظهم، ونهاهم عن القتال حتى يأذن لهم، فعمد رجل من أشجع، فحمل على يهودي فقتله، فقال الناس: استشهد فلان.

فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «أبعد ما نهيت عن القتال»؟.

قالوا: نعم.

فأمر رسول الله «صلى الله عليه وآله» منادياً فنادى في الناس: «لا تحل الجنة لعاص».

وروى الطبراني في الصغير، عن جابر: أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قال يوم خيبر: «لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله تعالى العافية، فإنكم لا تدرون ما تبتلون به منهم، فإذا لقيتموهم فقولوا: اللهم أنت ربنا وربهم، ونواصينا ونواصيهم بيدك، وإنما تقتلهم أنت.

ثم الزموا الأرض جلوساً، فإذا غشوكم فانهضوا، وكبروا» وذكر الحديث([4]).

وقالوا: إن مرحباً هو الذي قتل ذلك الرجل الأشجعي([5]).

وأذن رسول الله «صلى الله عليه وآله» في القتال، وحثهم على الصبر، وأول حصن حاصره حصن ناعم، وقاتل «صلى الله عليه وآله» يومه ذاك أشد القتال، وقاتله أهل النطاة أشد القتال، وترس جماعة من أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله» عليه يومئذٍ، وعليه ـ كما قال محمد بن عمر ـ درعان، وبيضة، ومغفر، وهو على فرس يقال له: الظرب، وفي يده قناة وترس([6]).

وتقدم في حديث أنس: أنه كان على حمار، فيحتمل أنه كان عليه في الطريق، ثم ركب الفرس حال القتال. والله أعلم.

وجعلت نبل يهود تخالط العسكر وتجاوزه، والمسلمون يلتقطون نبلهم ثم يردونها عليهم. فلما أمسى رسول الله «صلى الله عليه وآله» تحول إلى الرجيع، وأمر الناس فتحولوا، فكان رسول الله «صلى الله عليه وآله» يغدو بالمسلمين على راياتهم حتى فتح الله الحصن عليهم.

وروى البيهقي من طريق عاصم الأحول، عن أبي عثمان الفهري، وعن أبي قلابة، وأبو نعيم، والبيهقي، عن عبد الرحمن بن المرقع، ومحمد بن عمر، عن شيوخه: أن المسلمين لما قدموا خيبر كان التمر أخضر، وهي وبيئة وخيمة، فأكلوا من تلك الثمرة، فأهمدتهم الحمى، فشكوا إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فقال: «قرسوا الماء في الشنان ـ أي القرب ـ فإذا كان بين الأذانين ـ أي أذاني الفجر ـ فاحدروا الماء عليكم حدراً، واذكروا اسم الله تعالى».

ففعلوا، فكأنما نشطوا من العقل([7]).

ونقول:

على فرس، أو على حمار؟!

قد ذكر آنفاً: أنه «صلى الله عليه وآله» كان على فرس اسمه «الظرب» وهذا لا ينافي أنه «صلى الله عليه وآله» كان في خيبر على حمار، مخطوم برسن من ليف..

فلعل ركوبه الحمار كان في مسيره إلى خيبر، وفي غير ساحة القتال..

بل لقد صرحت رواية ركوبه الحمار: بأن ذلك كان وهو متوجه إلى خيبر، فراجع([8]).

وقد تقدم بعض الحديث عن ذلك فلا نعيد..

قتال رسول الله في خيبر:

وجاء في الروايات الآنفة الذكر: أنه «صلى الله عليه وآله» قاتل يومه ذاك أشد القتال.

مع أنهم يقولون: إنه «صلى الله عليه وآله» لم يباشر القتال بنفسه إلا في واقعة أحد.

يضاف إلى ذلك: أنه لو كان قد باشر القتال بنفسه لكان قد قتل أو جرح أحداً من المشركين، ولكن أحداً لم يذكر ذلك، مع أن هذا الأمر مما تتوفر الدواعي على نقله.

وقد يجاب عن ذلك: بأن المراد: أنه «صلى الله عليه وآله» قد قاتل بجيشه أشد قتال([9]).

ويجاب أيضاً: بأنه ليس بالضرورة أن يكون ما ذكروه من أنه «صلى الله عليه وآله» لم يقتل أحداً في غير غزاة أحد صحيحاً، فإنهم ذكروا هنا أيضاً ـ كما سيأتي ـ: أنه «صلى الله عليه وآله» رمى بسهم فما أخطأ رجلاً منهم([10]).

الرايات بدأت في خيبر:

ثم إنهم قد ادَّعوا: أن راية رسول الله «صلى الله عليه وآله» تسمى العقاب، وأن الرايات بدأت من خيبر، وأن اللواء غير الراية، وأن لواء رسول الله «صلى الله عليه وآله» كان أبيضَ، وهو الذي أعطاه لعلي «عليه السلام» في خيبر..

ونقول:

أولاً: ذكروا: أن اللواء الذي دفعه «صلى الله عليه وآله» إلى علي «عليه السلام» يوم خيبر ـ وكان أبيضَ ـ كان يقال له: العقاب أيضاً([11]).

ألا يفيد ذلك: أن اللواء هو نفس الراية؟!

ثانياً: قد صرحت الروايات: أنه «صلى الله عليه وآله» أعطى اللواء لعلي في قضية قتل مرحب، وفتح خيبر..

مع أن عبارة النبي «صلى الله عليه وآله» التي تناقلتها الروايات الكثيرة هي: «لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله الخ..».

كما أنه «صلى الله عليه وآله» قد قال لعلي «عليه السلام»: خذ هذه الراية وتقدم([12]).

إلا أن يجاب عن هذا الأمر الأخير: بأنه «صلى الله عليه وآله» قد أعطاه الراية واللواء معاً..

ثالثاً: لقد صرحت الروايات التي ذكرناها في أوائل غزوة أحد: بأن لواء رسول الله «صلى الله عليه وآله» (أو رايته) ـ فقد عبرت الروايات بهذا تارة وبذاك أخرى ـ كانت مع علي «عليه السلام» في جميع المشاهد.

فلا معنى للتفريق بين اللواء والراية، ثم توزيع هذه أو تلك على هذا الرجل أو ذاك، وفقاً لبعض الإعتبارات التي يراد التسويق لها.

إلزموا الأرض جلوساً:

وحول أمر النبي «صلى الله عليه وآله» لهم بلزوم الأرض، ثم النهوض، والتكبير..

نقول:

ألف: إن جلوسهم في البداية ربما يثير رغبة العدو في اغتنام الفرصة والهجوم عليهم، لأن حالة الجلوس قد تجعل هذا العدو يشعر بأن له هيمنة على الموقف، وأن الذين هم أمامه أقل حجماً وأضعف قدرة منه، فإذا بادر إلى الهجوم عليهم، وفوجئ بقيامهم، فإن انقلاب الصورة بسرعة سوف يحدث إرباكاً لدى هذا العدو المهاجم من حيث إيجاب ذلك تبدلاً سريعاً في مشاعره وارتجاجات قد تعيق ـ ولو للحظات ـ سيطرته على الموقف، واتخاذ القرارات المناسبة للحظة المناسبة في هذا الوضع المستجد..

فإذا صاحب ذلك تكبير هؤلاء الناهضين، فإن ذلك سيزيد من تزاحم الصور، واختلاطها، وسوف تظهر علامات الفوضى والإرباك، وفقدان القدرة على التمييز بين ما هو حسي وبين ما هو ذهني، مما له اتصال بالفكر والمشاعر، والتصورات العقيدية، بالإضافة إلى حالات من الهواجس المبهمة التي توقظ مشاعر الخوف على النفس، وتستدعي استحضار ما يفيد في حفظها، ودفع الأخطار التي تتزاحم احتمالاتها في مخيلتهم..

نداء لا تحل الجنة لعاص:

وقد تقدم أيضاً: أنه «صلى الله عليه وآله» كان قبل ذلك أمر بلالاً فنادى: لا تحل الجنة لعاص، وذلك حين خرج رجل على جمل صعب، فصرعه فمات.

وها هم يقولون هنا: إنه «صلى الله عليه وآله» قد أمر منادياً لينادي بنفس النداء، وفي نفس غزوة خيبر أيضاً، وذلك في شأن رجل من أشجع، حمل على يهودي فقتله اليهودي!!

فهل جرى هذا النداء مرتين؟!

ألم يكن المفروض: أن يتعلم الناس من النداء الأول، فلا يقدم أحد منهم على معصية رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟!..

وربما يجاب عن هذا السؤال بالإيجاب، فيقال:

إن النداء في المرة الأولى لا يكفي للردع عن المخالفة في المرة الثانية؛ لأن النداء في المرة الأولى قد يفهم أنه نداء على أمر يعتقدون أن المخالفة فيه لا تشكل خطراً كبيراً، لأنها تكون في أمر هو أقرب إلى الأمور الشخصية التي تعني ذلك الراكب نفسه.

وينظر الناس إلى الأوامر والنواهي في مثله على أنها مجرد إرشادات ونصائح لا تشدُّد فيها. بخلاف موضوع إشعال نار الحرب بين الجيشين، بالمبادرة إلى البراز، فإن اتخاذ قرار القتال بصورة منفردة وشخصية، ومن دون مراجعة القيادة لا يمكن قبوله من أحد، لأنه قد يورط القيادة ويسوق الأمور إلى خلاف ما ترمي إليه، وقد يفسد عليها خططها، ويبطل تدبيرها..

إذن.. فقد لا يكون النداء الأول كافياً لردع الناس عن المخالفة الأقوى والأشد..

ونقول:

إنه إذا ثبت أن المخالفة في ذلك الأمر العادي محرمة، وأنها توجب تحريم الجنة على العاصي، فإن ثبوت هذا التحريم للجنة في الأمر الثاني، يصبح أمراً بديهياً، ولا يصح ارتكابه من أحد..

فإذا حصل ذلك، فإن النداء بتحريم الجنة على مرتكبه يكون أشد ضرورة، وأكثر إلحاحاً، ولا سيما إذا كان من يبادر إلى القتال، قد ساقه إلى ذلك حبه للشهادة، وشدة شوقه إلى الله وحنقه على أعدائه تبارك وتعالى.

الإنضباط ضرورة لا تقبل الجدل:

وعلى كل حال: فإن هذا الأمر إذا كان قد حصل من ذلك الرجل فعلاً، فإنه يكون عملاً بالغ الخطورة، من حيث إنه يصادر قرارات القيادة، ويمهد لاستلاب زمام الأمور من يدها، وإضعاف هيمنتها، وإسقاط هيبتها، وقد يسعى الأعداء للتأثير على قراراتها بمثل هذه الأساليب بالاستفادة من عناصر مدسوسة، ووفق خطط مدروسة.

هذا عدا عن أن ذلك سوف يجعل القيادة تضيع في متاهات أهواء الناس، واختلاف أذواقهم ومشاربهم، فلا تعرف كيف تخطط، ولا ماذا تقرر، ولا كيف تفكر..

من أجل ذلك: فإن للانضباط الدور العظيم في إنجاح أية قضية، ولا بد أن تكون عقوبة من يخل بهذا الأمر كبيرة بحجم الفساد الذي تحدثه مخالفته، ويفرضه إخلاله..

تمني لقاء العدو:

وإذا ألقينا نظرة على الدعاء الذي طلب «صلى الله عليه وآله» من أصحابه أن يدعوا به ربهم عند لقاء العدو، فسوف تظهر لنا أمور كثيرة، نذكر منها ما يلي:

ألف: إن تمني لقاء العدو، وإهمال التفكير في تلافي الحرب بوسائل الإقناع أو نحوها معناه: ترجيح خيار سفك دماء الناس المعارضين والتخلص منهم بأسلوب القتل والتدمير، على خيار السلم، والوئام، وعلى بذل الجهد في محاولات إقناع حثيثة ومتعاقبة، يمكن أن تكون ذات أثر في حسم الأمور.

مع أن ما يسعى إليه الإسلام هو الاستصلاح للناس، وليس الاستئصال لهم، إلا إذا فقدت جميع فرص الإصلاح، وأصبح وجودهم مضراً بالإنسان والإنسانية.

ب: إن الاستهتار بقدرات العدو يجر إلى كوارث ونكبات ربما لم يحسب لها حساب.

وهذا نوع من السذاجة الاختيارية، التي تصل إلى حد التفريط والتقصير غير المقبول.. حيث يؤدي إلى إهمال كثير من الإجراءات الاحتياطية، التي من شأنها أن تبعد شبح كثير من الضربات القوية التي ربما يكون العدو قد أعدَّ لها.

ج: إن تمني لقاء العدو يجسد شعوراً بالقوة الذاتية، وربما اغتراراً بالقدرة على التصرف، وعلى التأثير المستقل.. فكان لا بد من تصحيح هذه النظرة بالاستناد إلى أساس عقائدي متين، يستند إلى الاعتراف: بأن الله تعالى هو المتصرف بهم، لأنه الرب والإله.. وذلك بالتصريح أو التلويح بأمرين:

أحدهما: أن ربوبيته تعالى للجميع تشير إلى: أن حق التصرف منحصر به سبحانه.. وأن ما يفعله الناس إنما هو بإذن منه تعالى، من خلال إجراء سنة إلهية جعلت من إرادة البشر حلقة في سلسلة العلل، ومن موجبات الفيض الإلهي للوجود على بعض الأشياء.

الثاني: أن ذلك التصرف يرتكز إلى حقيقة: أن نواصي كلا الفريقين بيده تعالى، فهو المالك الحقيقي، والمهيمن على الجميع من موقع القدرة، والقاهرية؛ لأنه رب الجميع.

يسلم الراعي وتعود الغنم:

روى البيهقي، عن جابر بن عبد الله، والبيهقي عن أنس، والبيهقي عن عروة، وعن موسى بن عقبة: أن عبداً حبشياً لرجل من أهل خيبر، كان يرعى غنماً لهم، لما رآهم قد أخذوا السلاح، واستعدوا لقتال رسول الله «صلى الله عليه وآله» سألهم: ما تريدون؟

قالوا: نقاتل هذا الرجل، الذي يزعم أنه نبي.

فوقع في نفسه ذكر النبي «صلى الله عليه وآله»، فخرج بغنمه ليرعاها، فأخذه المسلمون، فجاؤوا به لرسول الله «صلى الله عليه وآله».

وفي لفظ ابن عقبة: أنه عمد بغنمه إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فكلمه رسول الله «صلى الله عليه وآله» ما شاء الله أن يكلمه.

فقال الرجل: ماذا تقول، وماذا تدعو إليه؟

قال: «أدعوك إلى الإسلام، وأن تشهد أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، وأن لا تعبد إلا الله».

قال العبد: وماذا يكون لي إن شهدت بذلك، وآمنت بالله تعالى؟

قال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «لك الجنة إن آمنت على ذلك».

فأسلم العبد، وقال: يا رسول الله، إني رجل أسود اللون، قبيح الوجه، منتن الريح، لا مال لي، فإن قاتلت هؤلاء حتى أقتل، أدخل الجنة؟

قال: «نعم».

قال: يا رسول الله، إن هذه الغنم عندي أمانة، فكيف بها؟

فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «أخرجها من العسكر، وارمها بالحصباء، فإن الله عز وجل سيؤدي عنك أمانتك».

ففعل، وأعجب رسول الله «صلى الله عليه وآله» كلمته، فخرجت الغنم تشتد مجتمعة، كأن سائقاً يسوقها حتى دخلت كل شاة إلى أهلها، فعرف اليهودي: أن غلامه قد أسلم.

ثم تقدم العبد الأسود إلى الصف، فقاتل، فأصابه سهم فقتله، ولم يصلِّ لله تعالى سجدة قط، فاحتمله المسلمون إلى عسكرهم، فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «أدخلوه الفسطاط»، وفي لفظ: «الخباء».

فأدخلوه خباء رسول الله «صلى الله عليه وآله» حتى إذا فرغ رسول الله «صلى الله عليه وآله» دخل عليه، ثم خرج فقال: «لقد حسن إسلام صاحبكم، لقد دخلت عليه، وإن عنده لزوجتين له من الحور العين»([13]).

وفي حديث أنس: فأتى عليه رسول الله «صلى الله عليه وآله» وهو مقتول، فقال: «لقد حسَّن الله وجهك، وطيب ريحك، وكثرَّ مالك. لقد رأيت زوجتيه من الحور العين، ينزعان جبته يدخلان فيما بين جلده وجبته»([14]).

وعند ابن إسحاق: «ينفضان التراب عن وجهه، ويقولان: ترب الله وجه من تربك، وقتل من قتلك»([15]).

ونقول:

أولاً: من الواضح: أنه إذا قامت الحرب بين فريقين، فأي مال يحصل عليه أحدهما فإنه يستولي عليه بعنوان أنه غنيمة. فلا يعقل أن يخرج الراعي بالغنم إلى أي مكان يصل إليه جيش المسلمين؛ لأن ذلك معناه: أن يستولي المسلمون على ذلك الغنم فور رؤيتهم له..

ولا يمهلون ذلك الراعي حتى يراجع أحداً في الأمر..

بل إنهم سوف يعتبرون نفس ذلك الراعي أحد الغنائم، إن كان عبداً، أو يعتبرونه أسيراً إن لم يكن كذلك.

اللهم إلا أن يكون ذلك قد حصل في فترة المفاوضات، والسعي لإقامة الحجة على اليهود، حتى إذا لم يستجيبوا لداعي الله سبحانه، وأصروا على معاندة الحق وأهله، وأعلنت الحرب، وتنابذ الفريقان، فإن كل فريق سوف يسعى إلى حماية ماله، ووضعه في أماكن مأمونة، بعيداً عن متناول يد عدوه.

ولكن ليس في الرواية ما يشير إلى ذلك، فيبقى مجرد احتمال معلق في الهواء.

ثانياً: إن وصول الغنم إلى أصحابها بمجرد رميها بالحصباء قد يوجب يقين أصحاب تلك الغنم بأنهم محقون، وبأن الله تعالى هو الذي رد عليهم غنمهم، لأنه راضٍ عنهم، ماضٍ لطفه فيهم..

وفي هذا إغراء بالعناد واللجاج، والتشبث بالباطل، ودخول الشبهة على المبطلين، فلا يعقل صدور عمل يؤدي إلى ذلك من رسول الله «صلى الله عليه وآله»..

وأما الاعتذار عن ذلك: بأن عدم أخذهم لذلك العبد، إنما هو لعدم كونه محارباً، فهو اعتذار واه، لأن المفروض: أن جميع من هم في تلك المنطقة، ويترددون إلى الحصون هم من المحاربين لأهل الإسلام..

والكلام إنما هو بالنسبة للناس العاديين، لا بالنسبة لرسول الله «صلى الله عليه وآله» المتصل بالوحي والغيب.

ومما يضحك الثكلى احتمال البعض: أن النبي «صلى الله عليه وآله» إنما أرجع الغنم إلى الحصن بهذه الطريقة لكي يظهر لذلك العبد معجزة تقنعه بنبوته.

فإن الأمور لم تضق على رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى حد أنه يصنع معجزة من شأنها أن تعيد لليهود قطيعاً كبيراً من الغنم، بحيث يعود إليهم لوحده..

وليس ثمة ما يدلهم على: أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» هو الذي أرجعها إليهم، فإن دخول العبد في الإسلام قد لا يكون استناداً إلى عودة الغنم إليهم، بل لأنه قد استضعف وخاف..

هذا لو سلم أنهم عرفوا بإسلامه، ولم يثبت ذلك.

متى شبع النبي من خبز الشعير؟!

وقالوا: إن حصن ناعم هو أول حصن فتح من حصون النطاة على يد علي «عليه السلام».

وعن عائشة قالت: ما شبع رسول الله «صلى الله عليه وآله» من خبز الشعير والتمر حتى فتحت دار بني قمة، أي وهي أول دار فتحت بخيبر، وهي بالنطاة، وهي منزل ياسر أخي مرحب، وظاهر السياق أنها ناعم([16]).

ونقول:

إن ثمة قدراً من الجرأة من عائشة على مقام رسول الله «صلى الله عليه وآله»، حيث ساقت حديثها بنحو يوحي: بأن الجوع والشبع كان يمثل قضية ذات أهمية بالنسبة إليه «صلى الله عليه وآله»..

كما أنها عبرت بكلمة «ما شبع»، وهي لا تناسب رسول الله «صلى الله عليه وآله».. الذي لم يكن يتملى من الطعام، وفقاً لقاعدة: اجلس على الطعام وأنت جائع، وقم عنه وأنت تشتهيه.. مع ملاحظة النواهي الصادرة عنه «صلى الله عليه وآله» عن الأكل حتى الشبع، وعن التملي من الطعام، وهي لا يكاد يجهلها أحد..

وفي جميع الأحوال نقول:

لماذا يجعلون رسول الله «صلى الله عليه وآله» محور الحديث عن هذا الأمر بالذات؟!.. وقد كان بإمكانهم جعل الحديث عن غيره، أو أن يستفيد المتحدثون من عناوين عامة، ليس فيها هذا الإيحاء غير المحبب، فيقولون مثلاً، ما شبعنا، أو ما شبع الناس، أو المسلمون، أو نحو ذلك.

محمود بن مسلمة يقتل في حصن ناعم:

ويقولون: إن السبب في قتل محمود بن مسلمة هو: أنه كان قد حارب في حصن ناعم حتى أعياه الحرب، وثقل السلاح. وكان الحر شديداً، فانحاز إلى ظل ذلك الحصن يبتغي فيئه.

قالوا: ولا يظن محمود أن في ذلك الحصن أحداً من المقاتلة، وإنما ظن أن فيه متاعاً وأثاثاً.

فألقى عليه مرحب حجر الرحا، فهشم البيضة على رأسه، ونزلت جلدة جبينه على وجهه، وندرت عينه. فأدركه المسلمون، فأتوا به النبي «صلى الله عليه وآله» فسوى الجلدة إلى مكانها، وعصبه بخرقة، فمات من شدة الجراحة. وتحول «صلى الله عليه وآله» خشية على أصحابه من البيات([17]).

وجاء أخوه محمد بن مسلمة إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فقال: إن اليهود قتلوا أخي محمود بن مسلمة، وبكى.

فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: لا تمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية، فإنكم لا تدرون ما تبتلون به منهم، فإذا لقيتموه، فقولوا: اللهم أنت ربنا وربهم، ونواصينا ونواصيهم بيدك، وإنما تقتلهم أنت.

ثم الزموا الأرض جلوساً، فإذا غشوكم، فانهضوا، وكبروا([18]).

ونحن نشك في صحة هذه الرواية من أساسها.

فأولاً: إن القتال كله كان مع المدافعين عن حصن ناعم، فما معنى قولهم: «ولا يظن محمود: أن فيه أحداً من المقاتلة، إنما ظن: أن فيه متاعاً وأثاثاً»؟! فهل ترك المقاتلون حصنهم، وتاهوا في الصحراء؟!

ثانياً: إذا كان اليهود بعد القتال قد دخلوا حصنهم، فإن من غير المعقول: أن يحارب محمود بن مسلمة اليهود حتى أعياه الحرب، وثقل السلاح، ثم يجلس في أسفل حصنهم ليستريح.

إذ أي عاقل لا يخطر في باله: أن اليهود قد يفكرون في إلقاء حجر عليه لقتله، وأن عليه أن يتحرز من ذلك؟!

وقد علم الناس كلهم: أن سبب حرب النبي «صلى الله عليه وآله» لبني النضير، حتى أجلاهم من ديارهم، هو: أنه جاءهم مع أصحابه في أمر، وجلس إلى بعض بيوتهم، فحاولوا إلقاء حجر عليه لقتله، فأخبره الله تعالى بذلك فقام وتركهم، وكانت الحرب.

فإذا كان هذا حال اليهود في السلم، فكيف ستكون حالهم في الحرب؟! ولا سيما بعد حصول معركة حامية يعيا فيها المحارب..

ألم يسمع محمود بحرب النضير؟!

وألم يعرف سبب نشوبها، وهي الحرب التي انتهت إلى تلك النتائج الخطيرة والكبيرة على مستوى المنطقة بأسرها؟!

ثالثاً: كيف لم يحذِّر أحد من المسلمين محمود بن مسلمة من مغبة جلوسه في ذلك الموضع؟! أم يعقل أن يكون الجميع قد تركوه وحده، وغادروا المكان؟!

رابعاً: والغريب في الأمر: أنهم يذكرون عن النبي «صلى الله عليه وآله» أنه قال لمحمد بن مسلمة، حينما أخبره بقتل أخيه: إنه سوف يرسل رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله، ليأخذ له بثأر أخيه، ثم أرسل علياً «عليه السلام»([19]).

فلماذا لم يرسل محمد بن مسلمة نفسه. مع أنهم يدَّعون له مقاماً فريداً في الفروسية والشجاعة، حتى زعموا ـ كذباً وزوراً ـ : أنه هو الذي قتل مرحباً؟!

بالإضافة إلى ما لا يجهله أحد من أن النبي «صلى الله عليه وآله» قال: لأعطين الراية رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبه الله ورسوله الخ.. بعد فرار أبي بكر وعمر، ولأجل تلافي ما حصل.. لا في مناسبة إخبار محمد بن مسلمة له «صلى الله عليه وآله» بقتل أخيه محمود.

خامساً: والأغرب من ذلك، والأعجب: أن يجيب «صلى الله عليه وآله» ابن مسلمة على إخباره إياه بقتل أخيه، بقوله: لا تمنوا لقاء العدو الخ.. فهل تراه يحذِّر ابن مسلمة، من أن يحدث نفسه بلقاء العدو الذي قتل أخاه للتو؟!

وهل هو يخشى أن يصيبه ما أصاب أخاه؟!

وهل ينسجم هذا، وذاك مع ما زعموه من أن محمد بن مسلمة قد بارز مرحباً وقتله بأخيه؟!

أم أنه «صلى الله عليه وآله» يريد أن يتنبأ له مسبقاً بفراره وفرار غيره حينما يواجهون اليهود في حصن القموص، حينما يرسلهم «صلى الله عليه وآله» بالراية إلى حرب الخيبريين؟!..

سادساً: قد ذكرت الروايات المتقدمة: أن مرحباً هو الذي ألقى الرحى على محمود بن مسلمة، فقتله بها..

ولكن رواية أخرى تقول: إن الذي ألقى الرحى عليه هو كنانة بن الربيع..

وفي رواية ثالثة: أن قاتله هو شخص آخر، وهو الذي سلمه علي «عليه السلام» لمحمد بن مسلمة ليقتله بأخيه..

وقد حاول الحلبي الجمع بين الروايتين الأوليين: بأن من الممكن أن يكون الرجلان قد اجتمعا على قتل محمود هذا([20]).

ولكننا نقول له: إن مجرد الإمكان لا يكفي لصياغة التاريخ، بل ذلك يحتاج إلى شواهد وأدلة صالحة للاعتماد..

سابعاً: إن الظاهر هو: أن مرحباً كان حبيباً وقريباً لأخيه محمد بن مسلمة، فقد صرح أمير المؤمنين «عليه السلام»: بأن محمداً كان ينقم على علي «عليه السلام» أنه قتل أخاه مرحباً([21]).

ولعله كان أخاً له من الرضاعة، إن لم يكن أخاه لأمه..

وفي جميع الأحوال نقول:

إن ذلك كله يشير إلى مدى الإصرار والحرص على الكذب والافتعال في هذا الأمر بالذات.

ولعلهم أرادوا إسداء خدمة لمحمد بن مسلمة، بتضخيم أمر قتل أخيه محمود من جهة، بادِّعاء: أن أعظم بطل في اليهود هو الذي قتله.. ثم بإظهار اهتمام النبي «صلى الله عليه وآله» بقتل قاتله، ثم سعيه للثأر لأخيه.

وذلك كله: في سياق التوطئة والتسويق المؤثر لادِّعاء: أن محمد بن مسلمة هو قاتل مرحب، بطل أبطال اليهود.

وبذلك يمكنهم أيضاً: حرمان علي «عليه السلام» من هذا الفضل، أو تشكيك الناس به على الأقل..

والأهم من ذلك كله: التقليل من شأن هذا النصر العظيم الذي سجله «عليه السلام»، بقتل مرحب، واقتلاع باب خيبر، وظهور فضله على الصحابة كلهم، بعد أن اتخذوا طريق الفرار سبيلاً للنجاة في الحياة الدنيا، دون أن يعبأوا بعقاب الآخرة.

أين قتل ابن مسلمة؟!

إن ظاهر بعض النصوص المتقدمة: أن محمود بن مسلمة قد قتل في حصن القموص([22]). مع أنه إنما قتل في حصن ناعم حسبما تقدم تفصيله..


 

([1]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص120 وأخرجه البيهقي في الدلائل ج4 ص48 وذكره ابن حجر في المطالب العالية (4202) والسيرة الحلبية ج3 ص35 والإمتاع ص313 والمغازي للواقدي ج2 ص649.

([2]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص120 وفي الهامش قال: أخرجه البيهقي في الدلائل ج4 ص48 وذكره ابن حجر في المطالب العالية (4202) والواقدي في المغازي ج2 ص649 وراجع: السيرة الحلبية ج3 ص35 والإمتاع ص311 و 313.

([3]) السيرة الحلبية ج3 ص35.

([4]) المستدرك للحاكم ج3 ص38 ومجمع الزوائد ج5 ص328 وج6 ص151 والمعجم الصغير للطبراني ج2 ص11 وعيون الأثر ج2 ص136 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص120 وفي هامشه عن: مسلم في الجهاد باب 6 رقم (20)، ونحوه عند البخاري في الصحيح حديث (7237) وسنن الدارمي ج2 ص216 والمصنف لعبد الرزاق (9513) (9518) وسنن أبي داود في الجهاد باب 97 والسيرة الحلبية ج3 ص34 وراجع: الإمتاع ص312.

([5]) الإمتاع ص312 والمغازي للواقدي ج2 ص649.

([6]) سبل الهدى والرشاد ج3 ص120 والسيرة الحلبية ج3 ص34 والإمتاع ص313 والمغازي للواقدي ج2 ص644 وراجع: الغدير للشيخ الأميني ج7 ص204.

([7]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص120 و 121 وفي هامشه عن: ابن أبي شيبة ج7 ص454 والسيرة الحلبية ج3 ص53 والمغازي للواقدي ج2 ص644.

([8]) راجع: السيرة الحلبية ج3 ص34.

([9]) السيرة الحلبية ج3 ص34.

([10]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص122.

([11]) راجع: السيرة الحلبية ج3 ص36 عن سيرة الدمياطي.

([12]) راجع: السيرة الحلبية ج3 ص36 وكشف الغطاء ج1 ص15 وشرح الأخبار للقاضي النعمان ج1 ص302 والعمدة لابن البطريق ص153 والطرائف لابن طاووس ص57 والصوارم المهرقة للتستري ص35 والبحار ج39 ص90 وبغية الباحث ص218 والمعجم الكبير للطبراني ج7 ص35 والثقات لابن حبان ج2 ص13 والكامل لابن عدي ج2 ص61 وتاريخ مدينة دمشق ج42 ص89 والبداية والنهاية ج7 ص373 والسيرة النبوية لابن هشام ج3 ص798.

([13]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص129وفي هامشه عن: البيهقي في الدلائل ج4 ص22 والسيرة النبوية لابن هشام ج2 ص344 والبداية والنهاية ج4 ص190 وراجع: السيرة الحلبية ج3 ص39 والإمتاع ص313 والمغازي للواقدي ج2 ص649 و 650 والمستدرك للحاكم ج2 ص136 والسنن الكبرى للبيهقي ج9 ص143 ودلائل النبوة ص188 وكنز العمال ج16 ص743.

([14]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص129 والبداية والنهاية ج4 ص218 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص362.

([15]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص130 والسيرة النبوية لابن هشام ج3 ص806 وعيون الأثر ج2 ص148.

([16]) السيرة الحلبية ج3 ص39.

([17]) المغازي للواقدي ج2 ص645 والإمتاع ص311 و 312 وراجع: السيرة الحلبية ج3 ص34.

([18]) السيرة الحلبية ج3 ص34 وراجع: المعجم الصغير ج2 ص136 والمستدرك على الصحيحين ج3 ص38 ومجمع الزوائد ج5 ص328 وج6 ص151 وكتاب الدعاء للطبراني ص328 وكنز العمال ج4 ص361 وعيون الأثر ج2 ص136.

([19]) راجع: السيرة الحلبية ج3 ص35 ومجمع الزوائد ج9 ص123.

([20]) السيرة الحلبية ج 3 ص 34.

([21]) الإمامة والسياسة (ط سنة 1356 هـ بمصر) ج1 ص54 وقاموس الرجال ج8 ص388 عنه.

([22]) البداية والنهاية ج4 ص185 عن البيهقي.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان