فتح سائر حصون النطاة والشق

   

صفحة :169-212   

فتح سائر حصون النطاة والشق

حصار وفتح حصن الصعب بن معاذ:

لم يكن بخيبر حصن أكثر طعاماً، وودكاً، وماشية، ومتاعاً من حصن الصعب بن معاذ ووجدوا فيه ما لم يكونوا يظنون، من الشعير، والتمر، والسمن، والعسل، والزيت، والودك([1]). وكان فيه خمسمائة مقاتل، وكان المسلمون قد أقاموا أياماً يقاتلون، ليس عندهم طعام إلا العلف([2]).

بل قال الواقدي: إن الأطعمة كلها كانت في هذا الحصن([3]).

وروى محمد بن عمر، عن أبي اليسر كعب بن عمر: أنهم حاصروا حصن الصعب بن معاذ ثلاثة أيام، وكان حصناً منيعاً، وأقبلت غنم لرجل من يهود ترتع وراء حصنهم، فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «من رجل يطعمنا من هذه الغنم»؟

فقلت: أنا يا رسول الله.

فخرجت أسعى مثل الظبي.

وفي لفظ: مثل الظليم، فلما نظر إليَّ رسول الله «صلى الله عليه وآله» مولياً قال: «اللهم متعنا به».

فأدركت الغنم ـ وقد دخل أولها الحصن ـ فأخذت شاتين من آخرها فاحتضنتهما تحت يدي، ثم أقبلت أعدو، كأن ليس معي شيء، حتى انتهيت إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فأمر بهما فذبحتا، ثم قسمهما، فما بقي أحد من العسكر الذين معه محاصرين الحصن إلا أكل منهما.

فقيل لأبي اليسر: كم كانوا؟

قال: كانوا عدداً كثيراً([4]).

فيقال: أين بقية الناس؟.

فيقول: في الرجيع، بالمعسكر([5]).

وروى ابن إسحاق، عن بعض قبيلة أسلم، ومحمد بن عمر، عن معتب الأسلمي، واللفظ له، قال: أصابتنا معشر أسلم مجاعة حين قدمنا خيبر، وأقمنا عشرة أيام على حصن النطاة، لا نفتح شيئاً فيه طعام، فأجمعت أسلم أن أرسلوا أسماء بن حارثة، فقالوا: ائت رسول الله «صلى الله عليه وآله» فقل له: إن أسلم يقرئونك السلام، ويقولون: إنَّا قد جُهدنا من الجوع والضعف.

فقال بريدة بن الحصيب: والله، إن رأيت كاليوم قط من بين العرب يصنعون هذا!!

فقال زيد (هند) بن حارثة أخو أسماء: والله، إني لأرجو أن يكون هذا البعث إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» مفتاح الخير.

فجاءه أسماء فقال: يا رسول الله إن أسلم تقرأ عليك السلام، وتقول: إنا قد جُهدنا من الجوع والضعف، فادع الله لنا.

فدعا لهم رسول الله «صلى الله عليه وآله» ثم قال: «والله ما بيدي ما أقويهم به، قد علمت حالهم، وأنهم ليست لهم قوة، ثم قال: «اللهم فافتح عليهم أعظم حصن فيها، أكثرها طعاماً، وأكثرها ودكاً»([6]).

ودفع اللواء إلى الحباب بن المنذر، وندب الناس، فما رجعنا حتى فتح الله علينا حصن الصعب بن معاذ.

قالت أم مطاع الأسلمية: لقد رأيت أسلم حين شكوا إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» ما شكوا من شدة الحال، فندب رسول الله «صلى الله عليه وآله» الناس فنهضوا، فرأيت أسلم أول من انتهى إلى حصن الصعب بن معاذ، فما غابت الشمس من ذلك اليوم حتى فتح الله..

إلى أن قال: وكان عليه قتال شديد.

وبرز رجل من يهود يقال له: يوشع، يدعو إلى البراز، فبرز له الحباب بن المنذر، فاختلفا ضربات، فقتله الحباب.

وبرز له آخر ـ يقال له: الزيال، أو الديال ـ فبرز له عمارة بن عقبة الغفاري، فبادره الغفاري فضربه ضربة على هامته، وهو يقول: خذها وأنا الغلام الغفاري.

فقال الناس: «بطل جهاده».

فبلغ رسول الله «صلى الله عليه وآله» ذلك، فقال: «ما بأس به، يؤجر ويحمد»([7]).

وروى محمد بن عمر، عن محمد بن مسلمة، قال: رأيت رسول الله «صلى الله عليه وآله» رمى بسهم فما أخطأ رجلاً منهم، وتبسم رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلي، وانفرجوا، ودخلوا الحصن([8]).

ووجدوا في حصن الصعب بن معاذ: آلة حرب، ودبابات، ومنجنيقاً.

وكان أحدهم قد أخبر النبي «صلى الله عليه وآله» بأن في حصن الصعب بن معاذ، في بيت منه تحت الأرض منجنيق، ودبابات، وسيوف([9]).

وحسب نص الحلبي: إن اليهود حملت حملة منكرة، فانكشف المسلمون حتى انتهوا إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وهو واقف قد نزل عن فرسه، فثبت الحباب بن المنذر، فحرض «صلى الله عليه وآله» على الجهاد، فأقبلوا، وزحف بهم الحباب، فانهزمت يهود، وأغلقت الحصون عليهم.

ثم إن المسلمين اقتحموا الحصن، يقتلون، ويأسرون، فوجدوا في ذلك الحصن من الشعير الخ..([10]).

ونادى منادي رسول الله «صلى الله عليه وآله»: كلوا، واعلفوا، ولا تحملوا، أي لا تخرجوا به إلى بلادكم([11]).

وحسب نص الواقدي: وقد أقمنا عليه يومين نقاتلهم أشد القتال، فلما كان اليوم الثالث بكَّر رسول الله «صلى الله عليه وآله» عليهم، فخرج رجل من اليهود كأنه الدقل في حربة له، وخرج وعاديته معه، فرموا بالنبل ساعة سراعاً، وترسنا عن رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وأمطروا علينا بالنبل، فكان نبلهم مثل الجراد، حتى ظننت ألَّا يقلعوا، ثم حملوا علينا حملة رجل واحد.

فانكشف المسلمون حتى انتهوا إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» وهو واقف، قد نزل عن فرسه، ومِدْعَم([12]) يمسك فرسه.

وثبت الحُباب برايتنا، والله ما يزول، يراميهم على فرسه، وندب رسول الله «صلى الله عليه وآله» المسلمين وحضهم على الجهاد ورغبهم فيه، وأخبرهم أن الله قد وعده خيبر يغنمه إياها.

قال: فأقبل الناس جميعاً حتى عادوا إلى صاحب رايتهم، ثم زحف بهم الحباب، فلم يزل يدنو قليلاً قليلاً، وترجع اليهود على أدبارها حتى لحمها الشر، فانكشفوا سراعاً، ودخلوا الحصن وغلَّقوا عليهم، ووافوا على جدره ـ وله جدر دون جدر ـ فجعلوا يرموننا بالجندل([13]) رمياً كثيراً، ونحونا عن حصنهم بوقع الحجارة، حتى رجعنا إلى موضع الحباب الأول.

ثم إن اليهود تلاومت بينها، وقالت: ما نستبقي لأنفسنا؟ قد قتل أهل الجد والجلد في حصن ناعم.

فخرجوا مستميتين، ورجعنا إليهم، فاقتتلنا على باب الحصن أشد القتال، وقتل يومئذٍ على الباب ثلاثة من أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله»: أبو صياح، وقد شهد بدراً، ضربه رجل منهم بالسيف فأطن قحف رأسه. وعدي بن مرة بن سراقة، طعنه أحدهم بالحربة بين ثدييه فمات، والثالث الحارث بن حاطب وقد شهد بدراً، رماه رجل من فوق الحصن فدمغه.

وقد قتلنا منهم على الحصن عدة، كلما قتلنا منهم رجلاً حملوه حتى يدخلوه الحصن.

ثم حمل صاحب رايتنا وحملنا معه، وأدخلنا اليهود الحصن، وتبعناهم في جوفه، فلما دخلنا عليهم الحصن فكأنهم غنم، فقتلنا من أشرف لنا، وأسرنا منهم، وهربوا في كل وجه، يركبون الحرة، يريدون حصن قلعة الزبير، وجعلنا ندعهم يهربون.

وصعد المسلمون على جدره، فكبروا عليه تكبيراً كثيراً، ففتتنا أعضاد اليهود بالتكبير، حتى لقد رأيت فتيان أسلم وغفار فوق الحصن يكبرون، فوجدنا والله من الأطعمة ما لم نظن أنه هناك، من الشعير الخ..

ونادى منادي رسول الله «صلى الله عليه وآله»: كلوا واعلفوا ولا تحتملوا.

يقول: لا تخرجوا به إلى بلادكم.

فكان المسلمون يأخذون من ذلك الحصن مدة مقامهم؛ طعامهم وعلف دوابهم، لا يمنع أحد أن يأخذ حاجته، ولا يخمس الطعام.

ووجدوا فيه من البز والآنية، ووجدوا خوابي السّكَر، فأمروا فكسروها، فكانوا يكسرونها حتى سال السكر في الحصن، والخوابي كبار لا يطاق حملها.

وكان أبو ثعلبة الخشني يقول: وجدنا فيه آنية من نحاس وفخار، كانت اليهود تأكل فيها وتشرب، فسألنا رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فقال: اغسلوها واطبخوا وكلوا فيها واشربوا.

وقال: أسخنوا فيها الماء ثم اطبخوا بعد، وكلوا واشربوا.

وأخرجنا منه غنماً كثيراً، وبقراً، وحمراً، وأخرجنا منه آلة كثيرة للحرب، ومنجنيقاً، ودبابات وعدة، فنعلم أنهم قد كانوا يظنون أن الحصار يكون دهراً، فعجل الله خزيهم.

فحدثني عبد الحميد بن جعفر عن أبيه، قال: لقد خرج من أطم من حصن الصعب بن معاذ من البز عشرون عكماً([14]) محزومة من غليظ متاع اليمن، وألف وخمس مائة قطيفة، يقال: قدم كل رجل بقطيفة على أهله، ووجدوا عشرة أحمال خشب، فأمر به فأخرج من الحصن ثم أحرق، فمكث أياماً يحترق، وخوابي سكر كسرت، وزقاق خمر فأهريقت.

وقالوا أيضاً: كان من سلم من يهود حصن ناعم انتقل إلى حصن الصعب من حصون النطاة، ففتحه الله قبل ما غابت الشمس من ذلك اليوم. من بعد ما أقاموا على محاصرته يومين([15]).

ونقول:

إن لنا مع ما تقدم وقفات، هي التالية:

فرار المسلمين.. وثبات الحُباب:

1 ـ قد أظهر هذا النص: أن المسلمين قد فروا أمام اليهود، حتى انتهوا إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، وأن هذه الهزيمة قد تكررت منهم.

وهذا أمر لا بد أن يزعج النبي «صلى الله عليه وآله» ويؤذيه، خصوصاً إذا كان هذا الفرار يشجع اليهود، ويزيدهم إصراراً على مواصلة الحرب، ويوجب تعرض المسلمين للمزيد من الأخطار، ويوقع في صفوفهم خسائر أكبر في الأرواح..

2 ـ إن رواية الواقدي، زعمت: أن الحباب قد ثبت بالراية.

ولا ندري أين ثبت الحباب؟ ومتى؟

فإنه حامل الراية ـ إن صح أنه حاملها حقاً ـ فلا بد أن يكون في المقدمة.

فهل انهزم عنه الناس، وبقي يقاتل وحده بين اليهود؟!..

أم أنه انهزم معهم، ثم لما وصل إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» ثبت هناك؟!

فإن كان وحده، فلا بد أن نسأل ماذا جرى له مع اليهود؟ وكيف خرج سالماً من بينهم؟! وهل خرج خروج منهزم؟ أم خروج منتصر؟! وكيف؟ أم أنه بقي بينهم إلى حين انقضاء القتال، أو إلى حين معاودة المسلمين هجومهم؟! وكيف استطاع أن يحفظ نفسه منهم في هذه الحال؟

وأين كان عنه مرحب وسائر الأبطال اليهود في هذه المدة؟!

ولماذا لم يسجل التاريخ له هذه المفخرة العظيمة؟! ولماذا؟! ولماذا؟!

3 ـ إن ظاهر النص: أن المسلمين لم يرجعوا إلى القتال إلا بعد تطميعهم بالغنيمة، لأنه «صلى الله عليه وآله»: حضهم على الجهاد ورغبهم فيه، وأخبرهم أن الله قد وعده خيبر، يغنمه إياها..

4 ـ ما معنى تخصيص فتيان أسلم وغفار بالمدح، وأن المتحدث قد رآهم فوق الحصن يكبرون؟! خصوصاً بعد أن ذكر: أن المسلمين صعدوا على جدر الحصن يكبرون، فكبروا تكبيراً كثيراً.

لماذا الإحراج؟:

إن ما فعلته قبيلة أسلم من شأنه أن يحرج رسول الله «صلى الله عليه وآله»، بل قد اقتضى الأمر: أن يظهر «صلى الله عليه وآله» للملأ ما لم تجر عادته على إظهاره، وهو أنه ليس بيده شيء يعطيهم إياه.

مع أن لهذا الإظهار سلبياته أيضاً، فإنه ربما يؤثر على سكينة ضعفاء الناس وثباتهم، ويثير لديهم الكثير من الهواجس تجاه مصيرهم، وسيتمثل لهم الخطر الذي ينتظرهم أمام أعينهم.

وأما إذا بلغ ذلك إلى مسامع الأعداء، الذين يملكون الكثير من الطعام في حصونهم، فقد يزيدهم ذلك إصراراً على التحدي، ويدفعهم إلى التفكير في وسائل تسويف الوقت، انتظاراً لتأثير الجوع في ثبات عدوهم المحارب لهم، حتى يضطر إلى التخلي عن حصارهم، بحثاً عن لقمة تحفظ له خيط الحياة، وتمكنه من البقاء والنجاة.

أوسمة أسلم:

وقد تحدثت النصوص المتقدمة: أن أسلم هي التي عانت من الجوع، وأنها شكت ذلك إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فدعا «صلى الله عليه وآله» لها، بعد أن أظهر الرقة والتعاطف معها، وقد تضمن دعاؤه أن يفتح الله عليهم أعظم حصن.

ثم ذكرت أم مطاع: أن أسلم أول من انتهى إلى حصن الصعب، وأن شمس ذلك اليوم لم تغب حتى فتح الله ذلك الحصن.

ونقول:

إن ما كانت تعاني منه قبيلة أسلم هو ما كان يعاني منه سائر المسلمين.. ولكن لعل أسلم تستحق كل هذه الأوسمة من هؤلاء، بل وأزيد منها، وأعظم وأفخم، لأنها هي التي ساعدت أبا بكر يوم السقيفة على نيل الخلافة، حيث جاءت إلى المدينة بقضها وقضيضها واحتلتها، واستخرجت كل معارض من بيته، وأتت به إلى المسجد ليبايع أبا بكر، تحت تهديد السلاح، فراجع كتابينا: أفلا تذكرون، ومختصر مفيد.

الموقف الشائن:

وإن مطالبة قبيلة أسلم النبيَّ «صلى الله عليه وآله» بهذا الأمر؛ لها وجهان:

فإما أنهم يعلمون: أنه «صلى الله عليه وآله» يكابد ما يكابدون، ويعيش كما يعيشون، فلا يبقى لهذه المطالبة ما يبررها.

وإما أنهم كانوا يظنون برسول الله «صلى الله عليه وآله»: أنه يحتفظ بشيء من الطعام لنفسه، كان يتناوله في الخفاء، ويؤثر به نفسه عليهم، وهي تهمة شائنة، يعرف الناس كلهم بطلانها، وزيفها، وسوء سريرة من يأتي بها.. ولأجل ذلك اعترض عليهم رجل منهم، وهو: بريدة الأسلمي، ولامهم على فعلهم هذا.

ولعلنا نرجح الاحتمال الأخير، وهو: أن قبيلة أسلم كانت تظن برسول الله «صلى الله عليه وآله» هذا، فإنها إحدى قبائل الأعراب التي كانت تحيط بالمدينة، ونزل القرآن ليخبر بوجود المنافقين في تلك القبائل.. ولا نريد أن نقول أكثر من هذا!!

اللواء للحباب بن المنذر:

هذا.. وقد ذكرت الفقرة السابقة أيضاً: أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» أعطى اللواء للحباب بن المنذر، بعد فتح حصن ناعم، وذلك حين مهاجمة حصن الصعب..

مع أننا نعلم: أن لواء رسول الله «صلى الله عليه وآله» كان مع علي «عليه السلام» في جميع المشاهد، باستثناء تبوك..

وقد تقدمت النصوص الدالة على ذلك في واقعة أحد، فراجعها..

وما زعموه من أن علياً «عليه السلام» لم يحضر بداية حرب خيبر.. غير صحيح كما أظهرته النصوص حسبما أثبتناه في سياق حديثنا في وقائع هذه الغزوة..

الصعب أكثرها طعاماً:

زعمت الرواية المتقدمة: أن حصن الصعب كان أكثر حصون خيبر طعاماً، وأن الجوع قد أصاب أسلم، وسائر المسلمين، حتى فتح عليهم حصن الصعب، ولكننا في مقابل ذلك نرى:

ألف: أن عائشة تروي: أن حصن ناعم قد سد حاجتهم إلى الطعام، فلم تبق لديهم أية مشكلة، فقد قالت: ما شبع رسول الله «صلى الله عليه وآله» من خبز الشعير والتمر، حتى فتحت دار بني قمة، وقالوا: إن المقصود: هو حصن ناعم([16]).

ولا يعقل: أن يشبع رسول الله «صلى الله عليه وآله» ويجوع من معه!!

كما لا يعقل: أن يكون المقصود: أنه شبع مرة واحدة ثم جاع.

ب: وأن اليهود كانوا موجودين في حصن ناعم بالمئات وكانوا قد أعدوا من الأطعمة ما يكفيهم في حصار المسلمين لهم مدة طويلة..

وبعد فرارهم وخروج الحصن من يدهم بقي ما كانوا قد أعدوه في مكانه، ووقع في أيدي المسلمين..

بقي أن نشير إلى أن قولهم: إن اليهود جعلوا أموالهم في حصون الكتيبة([17])، لا يصح الاستدلال به هنا. إذ يجوز أن يكون المراد بأموالهم هو: خصوص النقود ونحوها، دون ما ذُكر ها هنا([18]).

تسخين الماء في آنية اليهود:

وعن تسخين الماء في آنية اليهود، قبل استعمال المسلمين لها، قال الحلبي: «حكمة تسخين الماء لا تخفى، وهي: أن الماء الحار أقوى في النظافة، وإخراج الدسومة، والله أعلم»([19]).

ونضيف:

أن تدخل النبي الكريم في هذا الأمر يشير إلى: أن ثمة أمراً هاماً، يحتاج إلى معالجته، وإلا فقد كان من المناسب ترك هذا الأمر إلى سليقة الناس في تعاملهم مع أواني الآخرين.

ولكن الروايات عجزت عن التصريح بالأمر الذي دعاه «صلى الله عليه وآله» إلى هذا التدخل في هذه التفاصيل والجزئيات..

فهل السبب في ذلك: أنه «صلى الله عليه وآله» كان يخشى من كيد اليهود للمسلمين، بوضع سموم لا تزول بمجرد غسل الآنية بالماء؟..

أم أنه يريد أن يعرِّف الناس بمدى قذارة اليهود، وبُعدِهم عن فروض النظافة، مهما كانت عادية وسطحية؟.

أو أنه يريد أن يتلافى دسومة كانت في تلك الأواني، هي بقايا أطعمة محرمة، يرى ضرورة تنزيه المسلمين عنها؟!..

أو أن الهدف هو تأكيد حالة الفصل بين المسلمين واليهود في تعاملهم مع بعضهم البعض، إذ ربما لم يكن المسلمون يتنزهون عن أي شيء من مستويات هذا التعامل، وحالاته، وكيفياته، في الوقت الذي كانت هناك حاجة إلى درجة من التحاشي عن هذا الاندماج المطلق بين الفريقين، وإيجاد مستوى من الإحساس بالفارق، وعدم الرضا بواقع اليهود، وبحالاتهم..

أعظم حصون خيبر:

وزعم حديث بني أسلم: أن حصن الصعب بن معاذ كان أعظم حصون خيبر..

مع أن النصوص تصرح: بأن حصن القموص كان أعظمها، وأنه كان منيعاً حاصره المسلمون عشرين ليلة، ثم فتحه الله تعالى على يد علي «عليه السلام»([20]).

فلعلهم أرادوا بتهويل أمر حصن الصعب التفخيم والتعظيم للحُباب بن المنذر، ولبني أسلم وغفار، والتخفيف من وهج فتح حصن القموص، وقلع باب خيبر؟!

أم أنهم وقعوا تحت تأثير اسمه «الصعب» فاستنبطوا له هذه الصعوبة التي ميزته عن سائر الحصون؟

أم أنهم أرادوا تبرير الهزيمة التي مني بها أولئك المتخاذلون، والتي حدثت أكثر من مرة حتى في هذا الحصن الذي لم يستحق سوى يومين من الحصار، ثم سقط أمام عزمة صادقة من عزمات أهل الإيمان؟

قد يكون هذا الاحتمال الأخير هو الأوضح والأظهر، وقد يكون قد تناغم مع الاحتمال الأول حتى كان ما كان..

الإفتخار في الحرب:

وقد حكم الناس على عمارة بن عقبة الغفاري: بأنه قد بطل جهاده لمجرد قوله، حين ضرب هامة ذلك اليهودي:

خذها وأنا الغلام الغفاري                 ...

فصحح النبي «صلى الله عليه وآله» لهم هذا المفهوم الخاطئ، وحكم بأنه يؤجر ويحمد.

ونقول:

إن الافتخار في الحرب الموجب لإرعاب العدو، وهزيمته النفسية هو في حد ذاته جهاد يثاب الإنسان عليه، ويوجب الثناء والحمد لفاعله؛ لأنه يكون قد أسهم في كسر شوكة العدو، وإضعافه، وتمهيد السبيل إلى إلحاق الهزيمة التامة به..

كما أن إظهار القوة والعزة في قبال العدو، يمنح أهل الإيمان المزيد من الثبات، والثقة بالنصر، ويزيد في تصميمهم، وفي قوتهم، وعزيمتهم، فيجتمع على العدو ضعفان:

ضعف: نابع من داخل ذاته، من خلال الكبت والشعور بالخيبة.

وضعف آخر: ينشأ عن رؤية قوة المسلمين، وشدة اندفاعهم.

وتكون فيه للمسلمين قوتان:

إحداهما: نابعة من داخل ذاتهم.

والأخرى: تتبلور في ضعف عدوهم، وفي هزيمته الروحية.

حديث الشاتين، وقطيع الغنم:

ونحن لا نشك في كذب حديث قطيع الغنم، والاستيلاء على شاتين منه، وذلك لسبب بسيط، هو:

أولاً: إنه لا يعقل وجود قطيع الغنم هذا خارج الحصن، ثم لا يستولي عليه المسلمون، ليصبح من غنائمهم.

ثانياً: إذا كان أخذ المسلمين لذلك القطيع حلالاً، فلماذا لا يرسل النبي «صلى الله عليه وآله» سرية قادرة على أخذ القطيع كله، أو جانب كبير منه. بل يكتفي بالأمر بأخذ شاة أو شاتين؟! وإن كان حراماً فكيف جاز له أخذ تينك الشاتين؟!

ثالثاً: إذا كان المقصود للنبي «صلى الله عليه وآله» هو: إطعام جيشه من ذلك القطيع، فلا تكفي ذلك الجيش الشاة والشاتان ولا العشرة..

وإن كان المقصود هو: أن يأكل النبي «صلى الله عليه وآله» ومن حوله من أهل بيته وخاصته، فذلك بعيد عن خلقه «صلى الله عليه وآله»..

ولأجل ذلك نقول:

لا يمكننا قبول ما ذكرته الرواية: من أن قسماً من المسلمين لم يستفيدوا من لحم تينك الشاتين، وهم الذين كانوا في الرجيع. بل اقتصر الأمر على الذين كانوا مع رسول الله «صلى الله عليه وآله» في موضعه الذي كان فيه..

رابعاً: قد صرحت الرواية نفسها: بأن المسلمين كانوا يحاصرون ذلك الحصن، وأنه كان قد مضى على حصارهم له ثلاثة أيام، فأين كان ذلك القطيع في تلك الأيام الثلاثة؟! ولماذا لم يره المسلمون، قبل أن يبادر إلى دخول الحصن؟! وأين كان المسلمون حين اقتربت الغنم من باب الحصن المفتوح، هل كانوا يحاصرونه؟ أم أنهم تركوه وابتعدوا عنه؟ ومن أين أقبلت غنم ذلك الرجل اليهودي؟!

وكيف يجرؤ أهل هذا الحصن المحاصر بالرجال على فتح أبواب حصنهم، وإخراج غنمهم منه، أو إدخالها إليه؟!.. وكيف؟! وكيف؟!..

الحُباب بن المنذر في الواجهة:

ويلاحظ هنا: أن الروايات قد اختارت الحباب بن المنذر ليكون هو المتصدر لواجهة الأحداث في حصن الصعب بن معاذ، وله نصيب أيضاً من ذلك في غيره.. ولكن لم يظهر لعلي «عليه السلام»، ولا لأبي دجانة، ولا للمقداد، ولا حتى للزبير، أو محمد بن مسلمة، وعشرات الفرسان الآخرين، لم يظهر لأحد منهم في هذا الحصن أي أثر. مع أن محمود بن مسلمة كان قد قتل قبل ذلك في حصن ناعم، فلماذا لا يتحرك أخوه محمد في كل الحصون التي حوصرت عشرات الأيام حتى فتحت؟!..

ولماذا لم يطالب بالأخذ بثارات أخيه فيها، بل صبر إلى حصن القموص ليقتل مرحباً هناك بأخيه كما يزعمون؟!

ولماذا لم يلاحق مرحباً في حصن الصعب، أو النزار، أو حصون الشق أو غير ذلك؟!..

فأين كان هذا الرجل؟ وأين كان هؤلاء في هذا الحصار الذي استمر أياماً لحصن حصين فيه خمس مائة مقاتل, ولم يكن بخيبر حصن أكثر طعاماً، وماشية، ومتاعاً منه الخ.. كما زعموا؟!

ولماذا غابوا جميعاً عن الواجهة، وخبا وهجهم، وأفل نجمهم؟!..

فهل للحباب شأن في موضوع بعينه، يراد التسويق له؟!..

ابن مسلمة يقول: تبسم إليَّ :

وفي حديث رمي النبي «صلى الله عليه وآله» بسهم صائب في هذا الحصن، يقول محمد بن مسلمة: «وتبسم رسول الله «صلى الله عليه وآله» إليَّ».

ونحن لم نستطع أن نفهم سبب تبسمه «صلى الله عليه وآله» لخصوص محمد بن مسلمة، تاركاً حوالي ألف وخمس مائة مقاتل محروماً من نعمة هذه البسمة، ومن الإيحاء بمعانيها ومراميها، من دون سبب ظاهر؟!

فهل أُعْجِبَ ـ والعياذ بالله ـ النبي «صلى الله عليه وآله» بنفسه، حين أصاب ذلك الرجل، وظهر أنه يجيد الرمي، وأراد أن ينال إعجاب خصوص محمد بن مسلمة؟ إن القول بهذا يتجاوز حدود إساءة الأدب ليكون إنكاراً لعصمة رسول الله «صلى الله عليه وآله»..

أم أن لابن مسلمة خصوصية لديه «صلى الله عليه وآله» لم تكن لأحد سواه حتى لعلي «عليه السلام»، فضلاً عن غيره من أصحابه؟!

وهذا أمر ينكره ولا يعترف لابن مسلمة به أحد حتى محبوه، والمهتمون بشأنه، والساعون لتخصيصه بالكرامات والفضائل..

الإهتمام بالطعام والغنيمة:

والنصوص المتقدمة، وبعض النصوص الأخرى، قد أظهرت: أن ثمة اهتماماً خاصاً بالطعام والمال، وبالغنيمة، والغنم، بما في ذلك: السمن، والعسل، والسكر، والزيت، والشعير، والتمر، والودك، والشحم، والماشية، والمتاع..

وهي أيضاً تتحدث عن جوع، وشكوى، ودعاء، وابتهال..

فهل ذلك يعبر عن واقع المسلمين؟! أو هل هذا كان كل همهم، وغاية قصدهم؟!

مدة الحصار:

وقد صرحت النصوص أيضاً: بأمور متناقضة، فيما يرتبط بمدة الحصار لحصن الصعب.

فهي تارة تقول: إن الحصار دام أياماً، هي أكثر من ثلاثة أيام، بلا شك؛ لأن الاستيلاء على الشاتين كان بعد ثلاثة أيام من الحصار، ولا ندري كم دام الحصار بعدها؟!

وتارة تقول ـ كما يظهر من حديث أم مطاع ـ: إنهم فتحوه في يوم واحد..

ولكن نصاً آخر يقول: إن الحصار دام يومين فقط، فأي ذلك هو الصحيح؟

وألا يشير هذا إلى: أن ثمة تعمداً للاختلاق والكذب في هذا الأمر بالذات؟!

حصن قلة الزبير:

كان حصن قلعة الزبير في رأس قلعة أو قلَّة، لا تقدر عليه الخيل ولا الرجال، فلما تحولت يهود من حصن ناعم، وحصن الصعب بن معاذ إلى قلَّة (أو قلعة) الزبير حاصرهم رسول الله «صلى الله عليه وآله» فيه.

فأقام «صلى الله عليه وآله» محاصرهم ثلاثة أيام، فجاء يهودي يدعى غزال فقال: يا أبا القاسم، تؤمنني على أن أدلك على ما تستريح به من أهل النطاة، وتخرج إلى أهل الشق، فإن أهل الشق قد هلكوا رعباً منك؟

فأمنه رسول الله «صلى الله عليه وآله» على أهله وماله.

فقال اليهودي: إنك لو أقمت شهراً ما بالوا، لهم دبول([21]) تحت الأرض، يخرجون بالليل فيشربون منها، ثم يرجعون إلى قلعتهم فيمتنعون منك، فإن قطعت عنهم شربهم أصحروا لك.

فسار رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى دبولهم فقطعها، فلما قطع عليهم مشاربهم خرجوا وقاتلوا أشد قتال([22]).

وقتل من المسلمين يومئذٍ نفر، وأصيب من اليهود في ذلك اليوم عشرة، وافتتحه رسول الله «صلى الله عليه وآله» وكان هذا آخر حصون النطاة.

قيل: سمي هذا الحصن بحصن قلَّة الزبير، لأنه صار في سهم الزبير بن العوام بعد ذلك([23]).

ونقول:

أولاً: إن إطلاق هذا الاسم على هذا الحصن لا يعقل أن يكون لأجل ما ذكروه، وذلك لما يلي:

ألف: لا شك في أنه قد كان لهذا الحصن اسم يتداوله أهل تلك البلاد أنفسهم، وذلك قبل أن يأتي النبي «صلى الله عليه وآله» إليه، فما هو هذا الاسم؟

فإذا ظهر: أنهم كانوا يطلقون عليه نفس هذه التسمية، فذلك يدل على: أنه كان قد سمي باسم زبير آخر، ممن كان على دينهم، ومن الشخصيات المرموقة فيهم مثل الزبير بن باطا، أو غيره.

ب: إن من غير المعقول، ولا المقبول: أن يعطي «صلى الله عليه وآله» حصناً بأكمله إلى رجل واحد هو الزبير بن العوام..

ولماذا يعطي الزبير هذا العطاء الكبير، وهو لم يكن له ذلك الأثر العظيم في تلك الحرب؟

ج: يضاف إلى ذلك: أن أراضي خيبر لم تقسم على المسلمين ليكون للزبير سهم بهذا الحجم بل أبقاها النبي «صلى الله عليه وآله» بيد اليهود، يعملون فيها على النصف من ثمارها.. وإنما أخرجهم منها عمر بن الخطاب كما سيأتي بيانه.

د: إنه إذا أراد النبي «صلى الله عليه وآله» أن يعطي أحداً شيئاً فإنه لا يعطيه حصناً أو قلعة ـ كما ورد في بعض التعابير ـ بل يعطيه أرضاً زراعية، يستطيع أن يستغلها، أو بستاناً يستفيد من ثمار أشجاره

ثانياً: إن هذا اليهودي قد بادر من عند نفسه ـ كما تقول الرواية ـ إلى إخبار رسول الله «صلى الله عليه وآله» بأمر خطير، من شأنه أن يسقط الحصن بأكمله في أيدي المسلمين، ويمكنهم من إلحاق هزيمة منكرة بمن هم على دينه، لا لشيء، بل لمجرد إعطائه الأمان على نفسه، وأهله وماله!!

غير أننا نلاحظ:

أن النصوص لا تصرح بما جرى لهذا اليهودي المخبر، فهل أخذ أسيراً، فخاف من القتل، فأقر بما أقر به؟!

أم أنه جاء باختياره متطوعاً بإخبار النبي «صلى الله عليه وآله» بهذا الأمر الخطير؟! الذي يوجب حلول البلاء بمن هم على دينه؟!

ربما يقال: إن ظاهر النص هو هذا الأمر الثاني؛ لأنه قال: فجاء يهودي يدعى غزال، فقال: يا أبا القاسم الخ..

وعلى فرض صحة هذه الرواية ـ ونحن نشك في صحتها ـ فإن هذا يشير إلى: أن هؤلاء الناس لا يعيشون همَّ الدين، ولا يلتزمون بالمبادئ والقيم، بل ولا بالعادات والتقاليد، وإنما همتهم هي في حفظ أنفسهم وامتيازاتهم، حتى إنهم إذا قاتلوا فليس ذلك رغبة منهم في جنة، أو خوفاً من عقوبة الله تعالى لهم على تقصيرهم، وإنما من أجل الدنيا، أو استجابة لنزوات الميول والأهواء، أو لجاجاً، أو عناداً، بداعي الحقد والضغينة، أو لأن الشيطان يزين لهم أنهم ظاهرون ومنتصرون، أو سعياً لاكتساب ثناء لا يدوم، أو مجد موهوم.. أو نحو ذلك.

بطولات موهومة:

وفي صورة تشبه الصورة التي سبقت، يذكر بعضهم: أنه «صلى الله عليه وآله» مكث سبعة أيام يقاتل أهل حصون النطاة، يذهب كل يوم بمحمد بن مسلمة للقتال، ويخلف على محل العسكر عثمان بن عفان، فإذا أمسى رجع «صلى الله عليه وآله» إلى ذلك المحل. ومن جُرح من المسلمين يُحمل إلى ذلك المحل ليداوي جرحه. فجُرح أول يوم خمسون من المسلمين.

ونادى يهودي من أهل النطاة بعد ليل: أنا آمن وأبلغكم؟

قالوا: نعم.

فدخل على رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فدله على عورة ليهود.

فدعا أصحابه وحضهم على الجهاد، فظفره الله تعالى بهم الخ..

وفي نص آخر: كان «صلى الله عليه وآله» يناوب بين أصحابه في حراسة الليل، فلما كانت الليلة السادسة من السبع استعمل «صلى الله عليه وآله» عمر، فطاف عمر بأصحابه حول العسكر، وفرقهم، فأتي برجل من يهود خيبر في جوف الليل، فأمر عمر أن يضرب عنقه.

فقال: اذهب بي إلى نبيكم حتى أكلمه، فأمسك عنه، وانتهى به إلى باب رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فوجده يصلي، فسمع «صلى الله عليه وآله» كلام عمر، فسلم وأدخله عليه، فدخل اليهودي، فقال «صلى الله عليه وآله» لليهودي: ما وراءك؟

فقال: تؤمنني يا أبا القاسم؟!

فقال: نعم.

فقال: خرجت من حصن النطاة، من عند قوم يتسللون من الحصن في هذه الليلة.

قال: فأين يذهبون؟

قال: إلى الشق، يجعلون فيه ذراريهم، ويتهيأون للقتال.

وفي هذا الحصن الذي هو الحصن الصعب من حصون النطاة، في بيت فيه تحت الأرض، منجنيق، ودبابات، ودروع، وسيوف، فإذا دخلت الحصن غداً، وأنت تدخله؟

قال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: إن شاء الله.

قال اليهودي: إن شاء الله ـ أوقفتك عليه، فإنه لا يعرفه غيري. وأخرى..

قيل: ما هي؟

قال: يُستخرج المنجنيق، ويُنصب على الشق (والمراد هو: حصن البريء)، ويدخل الرجال تحت الدبابات، فيحفروا الحصن، فتفتحه من يومك. وكذلك تفعل بحصون الكتيبة.

ثم قال: يا أبا القاسم، احقن دمي.

قال: أنت آمن.

قال: ولي زوجة فهبها لي.

قال: هي لك. ثم دعاه «صلى الله عليه وآله» إلى الإسلام.

فقال: انظرني أياماً.

ثم قال «صلى الله عليه وآله» لمحمد بن مسلمة: لأعطين الراية إلى رجل يحبه الله ورسوله، ويحبانه.

وفي لفظ: قال «صلى الله عليه وآله»: لأدفعن الراية إلى رجل يحب الله ورسوله، لا يولي الدبر، يفتح الله عز وجل على يده، فيمكنه الله من قاتل أخيك الخ..([24]).

ونقول:

إن في هذه الرواية أموراً عديدة، لا بد من التوقف عندها، وهي:

نصب المنجنيق:

إن هذه الرواية ذكرت: أن المنجنيق قد نصب على حصن البريء من حصون الشق.. أو على حصن النزار([25]).

مع أنهم يقولون: لم ينصب المنجنيق إلا في غزوة الطائف([26]).

والغريب في الأمر: أن الحلبي يقول في وجه الجمع: إنه يجوز أن يكون قد نصب ولم يرم به هنا، ونصب ورمي به هناك([27]).

لقد قال الحلبي هذا، مع أن التعبير الذي أورده هو نفسه يقول: لم ينصب المنجنيق إلا في غزوة الطائف، ولم يقل: لم يرم بالمنجنيق.. وما ذلك إلا لأن المفهوم من التعبير بنصب المنجنيق هو الرمي به.

والأولى أن يقال: إن الإشكال غير وارد من الأساس.

فإن الرواية لم تذكر: أنه «صلى الله عليه وآله» قد نصب ذلك المنجنيق، ورمى به.

بل قالت: إن ذلك اليهودي قد افترض أو اقترح ذلك، فبذلك ينحل الإشكال المتعلق بالمنجنيق.

يضاف إلى ما تقدم: أن هذه الرواية تدل على: أن أول حصن بدأ به من حصون الشق هو حصن البريء.

مع أنه سيأتي في فقرة «حصون الشق»: أن أول حصن بدأ به هو أبي، وبالتحديد بقلعة سموان.

ذراري اليهود لم تكن في حصن الشق:

ويفهم من الرواية السابقة: أن ذراري اليهود كانوا معهم في حصن النطاة، وأنهم نقلوهم بعد أن أرهقهم الحصار إلى حصن الشق([28]).

ونقول:

أولاً: قد صرحوا: بأن الذراري لم يكونوا في حصن النطاة، بل كان فيه المقاتلون فقط.

ثانياً: إن هؤلاء الذراري لم يجعلوا في حصن الشق، بل كانوا في حصن الكتيبة كما هو معلوم، وقد جعلوهم ـ حسب تصريحهم ـ فيه قبل حصار رسول الله «صلى الله عليه وآله» لهم..

إلا أن يكون المقصود: هو بعض الذراري، الذين كانوا معهم يساعدونهم في إعداد الطعام والشراب للمقاتلين، أو للقيام على جرحاهم، أو نحو ذلك..

ابن مسلمة تارة، والحباب أخرى:

لقد ركزت الرواية المتقدمة على محمد بن مسلمة، وجعلته محور التحركات النبوية في حصون النطاة..

فهي تقول: إن النبي «صلى الله عليه وآله» كان يذهب كل يوم بمحمد بن مسلمة للقتال، ويرجع في المساء.. فهل كانت قيادة الجيش الإسلامي قد أنيطت بابن مسلمة؟! فإن كان الأمر كذلك، فلماذا لم يحدثنا عنه التاريخ ويقول: إن محمد بن مسلمة كان صاحب لواء رسول الله «صلى الله عليه وآله» في خيبر؟!

أما أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» كان يأخذه لأجل القتال فقط، لا بعنوان قيادة، ولا غير ذلك..

فالسؤال هو: إن المشاركين في القتال كثيرون، فلماذا خص الرواة ابن مسلمة بالذكر من بين ألف وخمس مائة مقاتل؟!..

ولماذا لم يذكروا علياً «عليه السلام»، أو أبا دجانة، أو المقداد، أو غير هؤلاء أيضاً؟!

أم يعقل أن يكون هؤلاء قد أصبحوا متخاذلين؟! وغير ذوي أثر، وأن ابن مسلمة أصبح أكثر نشاطاً وحركة منهم؟

هذا.. واللافت: أن الحباب بن المنذر قد غاب هنا أيضاً، ولم يكن له نصيب يذكر، رغم أنه قد أعطي دوراً كبيراً في موقع آخر..

واللافت أيضاً: أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم ير محمد بن مسلمة أهلاً لأن يقتل قاتل أخيه، كما صرحت به هذه الرواية، فوعده بأن يعطي الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله، ويحبانه، يمكنه الله من قاتل أخيه (أي أخي محمد بن مسلمة)، فلماذا لا يمكِّن الله محمد بن مسلمة نفسه من أن يقتل قاتل أخيه؟!

وإذا كان محمد بن مسلمة هذا لم يستطع أن يقتل قاتل أخيه، حتى احتاج إلى علي «عليه السلام» ليقوم بهذه المهمة.. فكيف كان يختاره النبي «صلى الله عليه وآله» ليذهب معه للقتال؟! وما هو نوع ومستوى القتال الذي كان يذهب به إليه؟!

بل سيأتي: أن محمد بن مسلمة نفسه قد انزعج من قتل علي «عليه السلام» لأخيه مرحب اليهودي، وحقد على أمير المؤمنين «عليه السلام» بسبب ذلك، واعتبر ذلك ذنباً له «عليه الصلاة والسلام».

موقع عثمان هو الأنسب:

ولعل أنسب ما في هذه الرواية إعطاء عثمان بن عفان مهمة حراسة منازل النساء، وأثقال العسكر، وهو الموضع الذي يحمل إليه المجروحون للتداوي.. لأنه أكثر المواضع أمناً، وأبعدها عن الخطر.

وقد كان عثمان ـ فيما يبدو ـ بحاجة إلى هذا الأمن، فقد أظهر ما جرى له في واقعة أحد: أنه لا يقدر على مواجهة الأهوال، أو ملاقاة الرجال. حيث إن فزعته ـ الشهيرة ـ في أحد جعلته يهرب في الهضاب والشعاب، ولا يعود إلا بعد ثلاثة أيام، حتى قال له النبي «صلى الله عليه وآله»: لقد ذهبت بها عريضة([29]).

عمر يأمر بضرب عنق شخص:

وقد صرحت الرواية المتقدمة أيضاً: بأن عمر بن الخطاب حين مناوبته في حراسة العسكر قد أتي بيهودي، فأمر بضرب عنقه..

وسؤالنا هو:

أولاً: لماذا يأمر غيره بضرب عنق ذلك اليهودي، ولا يبادر هو إلى ذلك؟! أم أنه يريد أن يجد من يشاركه في هذا الفعل، ليكون اللوم عليه أخف؟! أو أنه لا يجرؤ على قتل أحد بنفسه؟!

ثانياً: كيف يجوز أن يأمر بضرب عنق ذلك اليهودي من دون استجازة من رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟! بل حتى من دون أن يعلمه بأمره؟!

وهل للحارس أن يتولى ضرب أعناق الناس الذين يجدهم في نوبة حراسته؟! من دون مراجعة؟!

وكيف لا يُرْجِع أمره إلى النبي «صلى الله عليه وآله»؟! فلعل له فيه رأياً آخر وسياسة أخرى.

وهذا العمل هل يتوافق مع قوله تعالى: ﴿لَا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ الله وَرَسُولِهِ﴾؟!([30]).

ثالثاً: كيف يأمر بضرب عنق الرجل قبل استجوابه، ومعرفة نواياه، والذي جاء به، وما يحمل من معلومات تفيد المسلمين في حربهم؟! فلعل الأمور كانت تسير في غير الاتجاه الذي ظنه..

رابعاً: إن رواية الواقدي تقول: إن الذي أخذ ذلك العين هو عباد بن بشر، وليس عمر بن الخطاب، فجاء به إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فأخبره الخبر.

فتدخل عمر وقال: اضرب عنقه.

قال عباد: جعلت له الأمان الخ..([31]).

وفي جميع الأحوال نقول:

لا ندري لماذا يتدخل عمر، ويصدر الأوامر بهذه الطريقة؟ فلو أنهم أطاعوه في أوامر كهذه، فهل سيرضي ذلك رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟

يضاف إلى ذلك: أننا قد ذكرنا في أواخر غزوة أحد: أن عمر كان يطلب ضرب عنق هذا وذاك في موارد ومناسبات مختلفة، وكان رسول الله «صلى الله عليه وآله» يرفض ذلك. كما أنه قد طلب من عدد من الصحابة أن يبادروا إلى قتل بعض الناس، وكانوا يرفضون قبول ذلك منه، كما كان الحال بالنسبة لأبي جندل، الذي كان يحثه عمر على قتل أبيه في الحديبية. فرفض أبو جندل ذلك.

فلماذا يصر عمر على مثل هذا الأمر في المواضع المختلفة؟!

ولماذا لا يبادر هو إلى قتل هذا وذاك ممن يصدر الأوامر لغيره بقتلهم؟! ولماذا؟! ولماذا؟!

لا يعرف المنجنيق إلا هذا اليهودي:

وقد زعمت الرواية المتقدمة: أنه كان في حصن الصعب موضع فيه منجنيق، ودبابات، ودروع، وسيوف، وأنه لا يعرف ذلك الموضع إلا ذلك اليهودي الأسير.

ونقول:

إن كان ذلك اليهودي هو الذي وضع تلك الأسلحة في ذلك الموضع، دون علم أحد، لأن اليهود كلفوه بذلك أو لأن تلك الأسلحة كانت ملكاً خاصاً به، فمن الطبيعي أن لا يعرفها أحد سواه..

وأما إذا كانت هذه الأسلحة قد هيأها أهل الحصن للدفاع بها عن حصنهم، فاللازم هو: أن يعرف زعماء اليهود، والقيمون على أمر الحرب بالموضع الذي وضعت فيه، ليستفيدوا منها حين تعرض الحاجة، إذ لا يعقل أن يكونوا قد نسوا هذه الأسلحة، أو نسوا موضعها..

وفي جميع الأحوال نقول:

لم يكن هذا اليهودي هو الزعيم الأوحد لليهود كلهم، ولا ملَّكوه أسرار حصونهم، ولم يجعلوا أسلحتهم تحت سلطته، ليتولى هو تغييبها عنهم وعن غيرهم.

لماذا خص النبي ابن مسلمة بخطابه؟!

وقد ذكرت الرواية المتقدمة أيضاً: أنه «صلى الله عليه وآله»، قال لمحمد بن مسلمة: لأعطين الراية إلى رجل يحب الله ورسوله، ويحبانه.

غير أننا نقول:

أولاً: لا بد أن نسأل من جديد: لماذا يتم توجيه الخطاب لمحمد بن مسلمة دون سواه؟! فهل هو بهدف التعريض به لأنه كان قد فرَّ في تلك الأيام السبعة، التي كان النبي «صلى الله عليه وآله» يخرجه فيها إلى القتال.. حتى صح أن يطلق عليه اسم فرَّار؟!

ولماذا وعده بأن يمكنه الله تعالى من قاتل أخيه، مع أن ابن مسلمة نفسه لم يتمكن من ذلك طيلة تلك المدة، وما بعدها وإلى آخر أيام حرب خيبر؟ حيث إن علياً «عليه السلام» هو الذي تمكن من ذلك القاتل، وليس ابن مسلمة..

ولماذا يهتم النبي «صلى الله عليه وآله» بقتل قاتل أخي ابن مسلمة، ولا يذكر من عداه من الشهداء؟! ولا يعلن أنه يريد من علي «عليه السلام» قتل الذين قتلوهم؟!.. فهل لأن قاتله هو مرحب لعنه الله، وهو رأس الحربة لليهود، وأعظم فرسانهم، فإذا قتل مرحب، تقع الهزيمة بهم، ويحل الفشل والرعب فيهم؟!.. ويكون لذلك النصر العظيم نوع ارتباط ببني مسلمة ويكون ذلك بمثابة مكافأة لهم على خدماتهم للخليفة الثاني، من خلال محمد بن مسلمة بالذات حسبما أشرنا إليه في جزء سابق.

ثانياً: إن هذا القول: «لأعطين الراية غداً رجلاً الخ..» إنما كان بعد فتح حصون النطاة والشق كلها، وبعد وصوله «صلى الله عليه وآله» إلى حصن القموص ـ وهو أعظم حصون خيبر ـ وهو من حصون الكتيبة وهو آخر حصن فتح في خيبر كلها، أو قبل آخرها..

إسهامات عمر في فتح خيبر:

وهل يمكن أن نفهم من هذه الرواية، التي جعلت أسر اليهودي في نوبة حراسة عمر: أنهم أرادوا أن يجعلوا لعمر بن الخطاب سهماً كبيراً في فتح خيبر؟! بهدف تقليص الفارق بينه وبين علي أمير المؤمنين «عليه السلام» الذي قتل مرحباً، وفتح الله تعالى خيبر على يديه، واقتلع باب الحصن، واتخذه ترساً، رغم عجز عشرات الأشخاص عن حمله، أو عن إعادته إلى موضعه؟!

فإذا أُخِذَ رجل في نوبة حراسة عمر، وأدلى ذلك الرجل بمعلومات تؤدي إلى فتح أحد حصون خيبر، فلربما يفيد ذلك في إعادة رذاذٍ من ماء الوجه الذي أريق في فرار عمر المتعاقب وكذلك فرار أبي بكر، وغيرهما. حتى صح أن تستعمل في حقهما صيغة المبالغة وهي كلمة: «فرَّار» (أي كثير الفرار) في مقابل «الكرَّار» (أي كثير الكر)، وهو علي «عليه السلام» دون سواه..

قتل مرحب في القموص لا في الصعب:

وقد فهم من الرواية المتقدمة: أن قول النبي «صلى الله عليه وآله»: «لأعطين الراية غداً رجلاً يحب الله ورسوله الخ..» كان في حصون النطاة، وبالذات في الحصن الصعب، مما يعني: أن فرار عمر وأبي بكر، وغيرهما، وانهزامهم، وهم يجبِّنون أصحابهم ويجبِّنهم أصحابهم، قد كان في هذا الحصن بالذات.

مع أن كلمة المؤرخين متفقة والنصوص متضافرة، والروايات متواترة في أن محمود بن مسلمة قد قتل في حصن ناعم، وأن فرار عمر وأبي بكر ومبارزة مرحب وقتله على يد علي «عليه السلام»، ثم قلع باب الحصن، إنما كان في حصن القموص؛ وذلك بعد فتح حصون النطاة، وحصون الشق كلها، بل إن القموص آخر حصون خيبر فتحاً، أو قبل آخرها.

إلا أن يقال: إن مراد الرواية هو وصف الحصن بأنه صعب ولذلك أدخل الألف واللام على كلمة الحصن، وليس المراد الحصن المسمى بحصن الصعب بن معاذ.

وهذا يبقى مجرد احتمال، ولكنه احتمال ليس بالقوي.

حصون الشق:

قد ذكر الصالحي الشامي تبعاً لغيره:

أنه لما فرغ رسول الله «صلى الله عليه وآله» من النطاة تحول إلى الشق.

وقد روى البيهقي، عن محمد بن عمر، عن شيوخه، قالوا: لما تحول رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى الشق، وبه حصون ذوات عدد، كان أول حصن بدأ به حصن أبي، فقام رسول الله «صلى الله عليه وآله» على قلعة يقال لها: سموان، فقاتل عليها أهل الحصن، قتالاً شديداً.

وخرج رجل من يهود يقال له: غزول، فدعا إلى البراز، فبرز له الحباب بن المنذر، فاقتتلا، فاختلفا ضربات، ثم حمل عليه الحباب، فقطع يده اليمنى من نصف الذراع، فوقع السيف من يد غزول، فبادر راجعاً منهزماً إلى الحصن، فتبعه الحباب، فقطع عرقوبه، فوقع فذفف عليه.

فخرج آخر، فصاح: من يبارز؟

فبرز له رجل من المسلمين من آل جحش، فَقُتِل الجحشي.

وقام مكانه يدعو إلى البراز، فبرز له أبو دجانة، وقد عصب رأسه بعصابته الحمراء، فوق المغفر، يختال في مشيته، فبدره أبو دجانة فضربه، فقطع رجله، ثم ذفف عليه، وأخذ سلبه، درعه وسيفه، فجاء به إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فنفله رسول الله «صلى الله عليه وآله» ذلك.

وأحجم اليهود عن البراز، فكبر المسلمون، ثم تحاملوا على الحصن فدخلوه، يقدمهم أبو دجانة، فوجدوا فيه: أثاثاً، ومتاعاً، وغنماً، وطعاماً.

وهرب من كان فيه من المقاتلة، وتقحموا الجدر، كأنهم الظباء، حتى صاروا إلى حصن النزار بالشق.

وجعل يأتي من بقي من فلّ النطاة إلى حصن النزال ـ وفي الحلبية: يقال له: حصن البريء، وهو الحصن الثاني من حصني الشق ـ فغلقوه، وامتنعوا فيه أشد الامتناع.

وزحف رسول الله «صلى الله عليه وآله» إليهم في أصحابه، فقاتلهم، فكانوا أشد أهل الشق رمياً للمسلمين بالنبل والحجارة، ورسول الله «صلى الله عليه وآله» معهم، حتى أصابت النبل ثياب رسول الله «صلى الله عليه وآله» وعلقت به.

فأخذ رسول الله «صلى الله عليه وآله» النبل فجمعها، ثم أخذ لهم كفاً من حصى، فحصب به حصنهم، فرجف الحصن بهم، ثم ساخ في الأرض، حتى جاء المسلمون، فأخذوا أهله أخذاً([32]).

ونقول:

إننا نشير إلى ما يلي:

1 ـ لا ندري إلى أي حد كان أولئك الذين يطلبون البراز بين الصفين مغرورين بأنفسهم، وواثقين بقوتهم!! خصوصاً إذا كنا مقتنعين، بأن الدافع الديني لم يكن هو المؤثر في اندفاعهم إلى الحرب، ولا في اتخاذ القرار بشأنها.

ولعلنا نستطيع أن نؤكد: أن حب الدنيا، وحب الشهرة فيها، جعلهم عاجزين عن تقييم الأمور بصورة منصفة وموضوعية، وسد عليهم باب التعقل، والتدبر، والإنصاف، حتى لأنفسهم، فكيف ينصفون غيرهم؟

إن من يريد أن ينال بقتل الناس مجداً وشهرة، وأن يتلذذ بهذا المجد وبتلك الشهرة لا يملك أدنى حد من الشعور والوجدان الإنساني..

وغني عن البيان: أن صدود هؤلاء عن قبول الحق بعد وضوحه لهم يثبت بصورة قاطعة: أن أحداً لا يطلب الجنة بقتاله، ولا يسعى لتنفيذ أمر إلهي يخشى العقوبة على مخالفته..

2 ـ وتعود الروايات المتقدمة للحديث عن الحباب بن المنذر من جديد، لتجعل له حصة في فتح هذا الحصن أيضاً. وقد قدمنا عن قريب بعض ما يفيد في تلمُّس الإشارات التي تعطي الانطباع عن حقيقة دوافع هؤلاء لنسبة مواقف وإنجازات لأناس لا يستحقونها في أنفسهم، وإنما تأتي على شكل مكافآت لهم على مواقف اتخذوها، أو نهج اتبعوه، أو أيدوه..

3 ـ وعن تبختر أبي دجانة نقول: قد مر الحديث عن تبختر علي «عليه السلام» في غزوة الخندق، حينما قتل عمرو بن عبد ود، وأن النبي «صلى الله عليه وآله» قد أعلن لكل الناس حينئذٍ: أنها مشية يبغضها الله تعالى إلا في هذا الموضع، الذي يطلب فيه إرهاب العدو، وإضعاف شوكته، والحد من ميله للحرب، فإن ذلك يفيد في حفظ أرواح المسلمين، ودفع ويلات الحرب عنهم. فلعل الله سبحانه يقبل بقلوب هؤلاء الجاحدين، أو بقلوب من يلوذ بهم إلى الإسلام والإيمان، فيما لو أدركوا رعايته تعالى لمسيرة الإيمان، حيث يجد اليأس سبيله إلى قلوبهم من أن يستطيع باطلهم أن يتماسك أمام سطوة الحق وأهله..

4 ـ والغريب هنا: أن الرواية المتقدمة: تذكر أنهم حين اقتحموا الحصن كان أبو دجانة يقدمهم، ولا ندري أيضاً أين كان أسد الله وأسد رسوله الغالب، الإمام علي بن أبي طالب «عليه السلام»، الذي هو صاحب لواء رسول الله «صلى الله عليه وآله» في كل مشهد؟!

إذ يبدو لنا: أن هؤلاء قد انتهزوا فرصة الإشاعة الباطلة عن أنه «عليه السلام» كان مبتلى بالرمد، وأن التحاقه بالنبي «صلى الله عليه وآله» في خيبر قد تأخر إلى أيام حصن القموص، ونسوا: أن ذلك قد ثبت بطلانه، وزيفه.

حيث سيأتي إثبات أن رمد عينيه «عليه السلام» إنما اتفق له في آخر أيام حصار حصن القموص، حيث قتل مرحب..

وسيأتي: أنه لو صح ذلك لم يكن «عليه السلام» هو صاحب لوائه «صلى الله عليه وآله» في خيبر وفي كل مشهد..

ويضاف إلى ذلك: أنه إذا كان حصاره «صلى الله عليه وآله» لحصن القموص الذي قتل علي «عليه السلام» فيه مرحباً قد دام عشرين ليلة، فإن رمد عيني علي «عليه السلام» لم يستمر كل هذه المدة الطويلة..

وسيأتي توضيح ذلك إن شاء الله..

وعلينا ألَّا ننسى أن رمد علي «عليه السلام»، قد كان من ألطاف الله تعالى، فإنه تعالى قد صنع له ذلك، لكي يفرَّ أولئك الناس مرة بعد أخرى، ويظهر للناس من هو الفرَّار، ومن هو الكرّار..

5 ـ وأما بالنسبة لارتجاف الحصن، وأنه ساخ في الأرض لما حصبه النبي «صلى الله عليه وآله»، بكفٍ من حصى: فهي إذا ثبتت تكون معجزة عظيمة للنبي الأعظم «صلى الله عليه وآله».

وقد كان المفروض باليهود بعد حصول هذا الأمر العظيم: أن يستسلموا لرسول الله «صلى الله عليه وآله»، وأن يؤمنوا به.

إذ لا يعقل: أن يستمروا على العناد والجحود، وهم يرون هذا العذاب الأليم يحيق بإخوانهم الذين كانوا في ذلك الحصن.

6 ـ إنه إذا صحت هذه الحادثة فلا بد أن يزيد يقين أصحاب رسول الله «صلى الله عليه وآله» وتتأكد صلابتهم في مواجهة أعداء الله تعالى، فلا يفرون في تلك الحرب مرة بعد أخرى، حتى وصفهم «صلى الله عليه وآله» بأنهم فرَّارون..

7 ـ لا ندري الحكمة في جمع النبي «صلى الله عليه وآله» للنبال التي رماهم اليهود بها.. ونحن نرتاب أيضاً في صحة الرواية التي ذكرت ذلك.

ماذا عن فتح حصن النزار؟!

وقد رووا: أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» نظر إلى حصن النزار، فقال: هذا آخر حصون خيبر كان فيه قتال..

وقالوا: فلما فتحنا هذا الحصن لم يكن بعده قتال، حتى خرج رسول الله «صلى الله عليه وآله» من خيبر.

ونقول:

لا شك: في أن علياً «عليه السلام» قد قتل مرحباً وياسراً في حصن القموص، وهو من حصون الكتيبة، وإنما انتقل إليه رسول الله «صلى الله عليه وآله» بعد فراغه من حصون النطاة والشق.

فما معنى قولهم: إنه لم يحصل قتال بعد حصن النزار؟! لا سيما وأن أبا بكر وعمر، وسواهما قد أخذوا الراية في حصن القموص، ورجعوا ولم يكن فتح، كما تصرح به الروايات.

ويمكن أن يجاب: بأن المقصود: أن أبا بكر وعمر وسواهما، وإن أخذوا الراية والجيش، وتوجهوا نحو الحصن، ولكنهم بمجرد أن رأوا مرحباً واليهود فروا خوفاً ورعباً، وصاروا يجبِّنون أصحابهم، ويجبِّنهم أصحابهم..

كما أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد أرسل المسلمين مع علي «عليه السلام»، فهربوا عنه، وتركوه وحده، فقتل مرحباً، وسائر الفرسان، ولم يكن قتال إلا ذلك..

وهذا يوجب الشك: في أن يكون الزبير أو محمد بن مسلمة قد قتل أحداً من الفرسان أيضاً..

ولأجل ذلك: صرحت الروايات والنصوص: بأن فتح حصون الكتيبة قد كان بيد علي «عليه السلام» وحده. ولا صحة لما زعموه: من حرب وقتال لأحد سواه «عليه السلام».

ولعل هذا يفسر لنا أيضاً ما سيأتي: من أن الكتيبة والوطيح وسلالم كانت لرسول الله «صلى الله عليه وآله».. بالإضافة إلى فدك..

صفية في حصن النزار:

وقد ذكروا هنا أيضاً: أن صفية بنت حيي، وابنة عمها قد أخذتا من حصن النزار، وذلك لأن اليهود أخرجوا النساء والذرية إلى الكتيبة، وفرغوا حصن النطاة للمقاتلة.

ولكن كنانة بن الحُقيق قد رأى أن حصن النزار أحصن ما هنالك، فأبقاها فيه، هي ونسيبات معها؛ فأسرت تلك النسوة في حصن النزار([33]).

ونقول:

إن هناك نصوصاً كثيرة تقول: إن علياً «عليه السلام» هو الذي فتح الحصن، وجاء بصفية إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»([34]).

فإن كانت صفية قد سبيت في حصن النزار، فذلك يعني: أن علياً «عليه السلام»: هو الذي فتح هذا الحصن أيضاً، كما فتح حصن القموص، وذلك يدل على وجود تصرف خطير في الحقائق التاريخية، ومحاولة تحريف خطيرة لها..

يضاف إلى ذلك: أن هذا النص يفيد: أن رمد عيني علي «عليه السلام» الذي هيأ الفرصة لأخذ أبي بكر وعمر وغيرهما الراية في حصن القموص، وفرارهما ـ إن رمد عينيه «عليه السلام» هذا ـ قد كان بعد فتح حصن النزار، وفي أيام حصار حصن القموص، الذي استمر عشرين ليلة، كما سيأتي..


 

([1]) راجع: سبل الهدى والرشاد ج5 ص121 و 122 والمغازي للواقدي ج2 ص658 و 659 وراجع: السيرة الحلبية ج3 ص39 و 40.

([2]) راجع: سبل الهدى والرشاد ج5 ص121 والمغازي للواقدي ج2 ص658.

([3]) المغازي للواقدي ج2 ص662.

([4]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص121 وإمتاع الأسماع ص316 و 317 والمغازي للواقدي ج2 ص660 وراجع: مجمع الزوائد ج6 ص149 وج9 ص316 وعن البداية والنهاية ج4 ص221 وعن السيرة النبوية لابن هشام ج3 ص798 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص368.

([5]) المغازي للواقدي ج2 ص60.

([6]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص121 و 122 والسيرة الحلبية ج3 ص39 وإمتاع الأسماع ص316.

([7]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص122 والسيرة الحلبية ج3 ص39 و 40 والمغازي للواقدي ج2 ص659 وراجع: المعجم الكبير للطبراني ج6 ص94 و 95 ورياض الصالحين للنووي ص385 وعن سنن أبي داود ج2 ص267.

([8]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص122 والمغازي للواقدي ج2 ص622.

([9]) السيرة الحلبية ج3 ص40 وراجع ص41 عن الإمتاع.

([10]) السيرة الحلبية ج3 ص40.

([11]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص122 والسيرة الحلبية ج3 ص40 وراجع: السنن الكبرى للبيهقي ج9 ص61 وبغية الباحث ص211 ونصب الراية للزيعلي ج4 ص267 والسير الكبير للشيباني ج3 ص1018.

([12]) مدعم: هو العبد الأسود الذي كان مولى رسول الله «صلى الله عليه وآله».

([13]) الجندل: الحجارة. لسان العرب ج13 ص136.

([14]) العكم: ثوب يبسط، ويجعل فيه المتاع ويشد. تاج العروس ج8 ص404.

([15]) السيرة الحلبية ج3 ص39.

([16]) السيرة الحلبية ج3 ص39 وراجع: معجم ما استعجم للبكري الأندلسي ج2 ص523.

([17]) السيرة الحلبية ج3 ص39.

([18]) السيرة الحلبية ج3 ص39 والمغازي للواقدي ج2 ص664.

([19]) السيرة الحلبية ج3 ص41.

([20]) السيرة الحلبية ج3 ص41 وراجع: سبل الهدى والرشاد ج5 ص124.

([21]) الدبول: الجدول (القاموس المحيط ج3 ص373).

([22]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص122 و 123 وفي هامشه عن: البيهقي في الدلائل ج4 ص124 والمغازي للواقدي ج2 ص646 و 667. وراجع: السيرة الحلبية ج3 ص40.

([23]) السيرة الحلبية ج3 ص40 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص160.

([24]) راجع: السيرة الحلبية ج3 ص34 و 35 وراجع ص41 والإمتاع ص312 والمغازي للواقدي ج2 ص645 و 647 و 648 ونظم درر السمطين للزرندي الحنفي ص99.

([25]) المغازي للواقدي ج2 ص648.

([26]) السيرة الحلبية ج3 ص41.

([27]) السيرة الحلبية ج3 ص41.

([28]) المغازي للواقدي ج2 ص648.

([29]) راجع: تفسير المنار ج4 ص191 والجامع لأحكام القرآن ج4 ص244 وفتح القدير ج1 ص392 وتفسير القرآن العظيم ج1 ص414 وتفسير التبيان ج3 ص26 وتاريخ الأمم والملوك ج2 ص203 والإرشاد للشيخ المفيد ص50 والبحار ج20 ص84 والبداية والنهاية ج4 ص28 وشرح النهج للمعتزلي ج15 ص21 عن الواقدي، لكن مغازي الواقدي المطبوع لم يصرح بالأسماء بل كنَّى عنها في ج1 ص277 إلا أنه في الهامش قال: في نسخة (عمر وعثمان) والكامل لابن الأثير ج2 ص158 والسيرة الحلبية ج2 ص227 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص55 والدر المنثور ج2 ص88 و 89 عن ابن جرير وابن المنذر، وابن إسحاق. وراجع: سيرة ابن إسحاق ص332 وجامع البيان ج4 ص96 وغرائب القرآن (مطبوع بهامش جامع البيان) ج4 ص113 والتفسير الكبير للرازي ج9 ص50 و 51 وأنساب الأشراف ج1 ص326. وراجع عن فراره يوم أحد وتخلفه يوم بدر: محاضرات الراغب ج3 ص184 ومسند أحمد ج2 ص101 وج1 ص68 والصراط المستقيم للبياضي ج1 ص91.

([30]) الآية 1 من سورة الحجرات.

([31]) المغازي للواقدي ج2 ص641.

([32]) سبل الهدى والرشاد ج5 ص123 ودلائل النبوة للبيهقي ج4 ص224 والمغازي للواقدي ج2 ص667 و 668 والسيرة الحلبية ج3 ص40.

([33]) المغازي للواقدي ج2 ص668 و 669.

([34]) قد ذكرنا مصادر ذلك في موضع آخر من هذا الكتاب، وراجع: البحار ج21 ص22 وعن الخصائص للنسائي ص63 وفي هامشه عن أعلام النساء ج2 ص333 وأسد الغابة ج5 ص490 والدر المنثور ج1 ص263.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان