إلى مكة.. لأجل العمرة
عرفنا في جزء سابق، خصصناه للحديث
عن غزوة الحديبية:
أن النبي الأعظم
«صلى الله عليه وآله»
كان قد عاقد قريشاً على دخول مكة بعد الحديبية بعام، وليس معه من
السلاح إلا سلاح المسافر، وهو السيوف في القرب (جمع قراب)، بشرط أن لا
يقيم بها هو وأصحابه أكثر من ثلاثة أيام، ويخرج في اليوم الرابع،
بالإضافة إلى شروط أخرى وضعها
«صلى الله عليه وآله»
على قريش في عهد الحديبية، كما تقدم.
وبعد سنة من عهد الحديبية قصد النبي «صلى الله عليه
وآله» مكة، ليؤدي مناسك العمرة، وفق ما اتفق عليه، وهو ما يعرف بعمرة
القضاء.
ولكن ظاهر عبارة بعضهم:
أن اشتراط تلك الأمور المشار إليها، إنما كان في عمرة القضاء نفسها،
فقد قال: «..ثم خرج «صلى الله عليه وآله» معتمراً عمرة القضاء، فأبى
أهل مكة أن يدعوه «صلى الله عليه وآله» يدخل مكة، حتى قاضاهم على أن
يقيم ثلاثة أيام الخ..»([1]).
إلا أن يقال:
إن كلمة
«حتى»
في قوله:
«حتى
قاضاهم»
تصحيف لكلمة
«حيث»،
ويكون المراد: أنه كان قد قاضاهم على ذلك في الحديبية.
وفي جميع الأحوال نقول:
الصحيح:
هو ما ذكرناه أولاً؛ لأن هذه الشروط مذكورة في نفس عهد
الحديبية، وهو قد كتب قبل عمرة القضاء بعام، فراجع..
ومهما يكن من أمر، فإنه
«صلى الله عليه وآله»
عزم على العمرة في أول ذي القعدة سنة سبع، فأمر أصحابه بأن يتجهزوا
لها، وأن لا يتخلف عنه أحد ممن شهد الحديبية، فلم يتخلف عنه أحد، إلا
من استشهد في خيبر، أو مات بين الحديبية وعمرة القضاء.
وقد انضم إليهم جمع ممن لم يحضر الحديبية أيضاً، فكان
المسلمون في عمرة القضاء ألفين([2]).
وكان جعفر بن أبي طالب
«عليه
السلام»،
ممن رافق النبي
«صلى الله عليه وآله»،
وهو ممن لم يشهد الحديبية، لأنه كان بالحبشة آنذاك.
فقال رجل من حاضري المدينة من
العرب:
يا رسول الله، والله، ما لنا زاد، وما لنا أحد يطعمنا.
فأمر رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
المسلمين أن ينفقوا في سبيل الله تعالى، وأن يتصدقوا، وأن لا يكفوا
أيديهم فيهلكوا..
فقالوا:
يا رسول الله، بم نتصدق، وأحدنا لا يجد شيئاً؟!
فقال «صلى الله عليه وآله»:
بما كان، ولو بشق تمرة([3]).
وساق «صلى الله عليه وآله» في
عمرته تلك ستين بدنة([4])،
وقيل سبعين([5])،
وقلدها، ليعلم أنها هدي، فيكف الناس عنه، وجعل عليها ناجية بن جندب،
ومعه أربعة من أسلم([6]).
واستخلف على المدينة أبا ذر، وقيل غير ذلك. وحمل معه
السلاح، والدروع، والرماح. وجعل على السلاح بشير بن سعد.
وقاد معه مائة فرس، عليها ـ كما زعموا ـ محمد بن مسلمة،
وأحرم من المسجد، فلما انتهى إلى ذي الحليفة قدَّم الخيل أمامه، فقيل:
يا رسول الله، حملت السلاح، وقد شرطوا أن لا ندخلها عليهم بسلاح إلا
بسلاح المسافر، السيوف في القرب؟!
فقال رسول الله «صلى الله عليه
وآله»:
لا ندخل عليهم الحرم بالسلاح، ولكن يكون قريباً منا،
فإن هاجنا هيج من القوم كان السلاح قريباً منا([7]).
فمضى بالخيل محمد بن مسلمة، فلما كان بمر الظهران وجد
نفراً من قريش، فسألوه، فقال: هذا رسول الله «صلى الله عليه وآله» يصبِّح
هذا المنزل غداً إن شاء الله، وقد رأوا سلاحاً كثيراً.
فخرجوا سراعاً حتى أتوا قريشاً، فأخبروهم بالذي رأوا من
الخيل والسلاح، ففزعت قريش،
وقالوا: ما أحدثنا حدثاً، وإنا على كتابنا ومدتنا،
ففيم يغزونا محمد في أصحابه؟!([8]).
ثم إن قريشاً بعثت مكرز بن حفص في نفر من قريش إليه
«صلى الله عليه وآله»، فلقوه
ببطن
يأجج، فقالوا: والله يا محمد، ما عرفت صغيراً ولا كبيراً بالغدر، تدخل
بالسلاح في الحرم على قومك، وقد شرطت عليهم أن لا تدخل إلا بسلاح
المسافر،
السيوف في القرب؟!
فقال «صلى الله عليه وآله»:
إني لا أدخل عليهم بسلاح.
فقال مكرز:
هو الذي تعرف به البرّ والوفاء.
ثم رجع مكرز إلى مكة سريعاً، وقال:
إن محمداً لا يدخل بسلاح،
وهو على الشرط الذي شرط لكم([9]).
قالوا:
فلما اتصل خروجه «صلى الله عليه وآله»
بقريش
خرجت.
وفي نص آخر:
خرج كبراؤهم من مكة، حتى لا يروه «صلى الله عليه وآله»
يطوف بالبيت هو وأصحابه، عداوة وبغضاً وحسداً لرسول الله «صلى الله
عليه وآله»([10]).
فدخل رسول الله «صلى الله عليه وآله» وأصحابه مكة صبيحة
الرابع من ذي الحجة([11])،
راكباً ناقته القصواء، وابن رواحة آخذ بزمامها، وأصحابه محدقون به، قد
توشحوا السيوف يلبون، ثم دخل من الثنية التي تطلعه على الحجون، وهي
ثنية كداء.
وكان «صلى الله عليه وآله» إذا دخل
مكة قال:
اللهم لا تجعل منيتنا بها، يقول ذلك من حين يدخل حتى
يخرج منها.
وجعل «صلى الله عليه وآله» السلاح في بطن يأجج، موضع
قريب من الحرم.
وتخلف عند
السلاح
مائتان
من المسلمين، ثم قضى الذين كانوا معه مناسكهم، فجاء مائتان
منهم فحلوا محل أولئك، فتمكنوا من السعي والطواف، وأداء مناسكهم أيضاً([12]).
وجعل
أوس بن خولي
على أولئك المائتين([13]).
وقعد جمع من المشركين بجبل قينقاع،
ينظرون إليه «صلى الله عليه وآله»، وإلى أصحابه، وهم يطوفون بالبيت،
وقد قال كفار قريش: إن المهاجرين أوهنتهم حمى يثرب.
وفي لفظ، قالوا:
يقدم عليكم قوم قد وهنتهم حمى يثرب.
فأطلع الله نبيه «صلى الله عليه وآله» على ما قالوا، ثم
قال: رحم الله امرأً أراهم من نفسه قوة، فأمر أصحابه أن يرملوا الأشواط
الثلاثة، ليُروا المشركين أن لهم قوة.
فعند ذلك قال المشركون:
هؤلاء الذين زعمتم أن الحمى قد أوهنتهم؟! هؤلاء أجلد من كذا، إنهم
لينفرون (أي يثبون) نفر الظبي، وإنما لم يأمرهم بالرمل في الأشواط كلها
رفقاً بهم.
وانتهى «صلى الله عليه وآله» إلى البيت وهو على راحلته،
واستلم الركن بمحجنه، وعبد الله بن رواحة آخذ بزمامها، وهو يقول:
خلـوا بنـي الكفـار عن سبيـلـه
إني شـهـدت أنــــه رســولــــه
حقـاً وكـل الخـير فـي سبيــلـه نـحـن قـتـلـنــاكـم عـلى
تـأويله
كــما ضربنـاكـم عـلى تنزيـلــه ضـربـاً يــزيـل الهـام عـن
مقيلـه
ويـذهـل الخـليـل عن خليـلـه
فقال عمر بن الخطاب:
يابن رواحة!! بين يدي رسول الله «صلى الله عليه وآله»،
وفي حرم الله تقول الشعر؟
فقال رسول الله «صلى الله عليه
وآله»:
يا عمر، إني أسمع.
أو قال:
خلّ عنه يا عمر، فلهو أسرع فيهم من نضح النبل.
فأسكت عمر([14]).
زاد في نص آخر قوله:
«يابن رواحة، قل:
لا إله إلا الله وحده. نصر عبده،
وأعز جنده،
وهزم الأحزاب وحده».
فقالها ابن رواحة، فقالها الناس كما قالها([15]).
وذكروا أيضاً:
أن الذين اعتمروا مع رسول الله «صلى الله عليه وآله»،
ولم
يشهدوا الحديبية، لم ينحروا، فأما من كان شهد الحديبية، وخرج في عمرة
القضاء، فإنهم شركوا في الهدي([16]).
كما أن بعض النسوة ممن شهدن الحديبية، قد اعتمرن معه
«صلى الله عليه وآله».
ونحر رسول الله «صلى الله عليه وآله» بين الصفا والمروة.
وحلق خراش بن أمية رأس رسول الله
«صلى الله عليه وآله» عند المروة([17]).
واضطبع «صلى الله عليه وآله» بردائه،
وكشف عضده اليمنى،
ففعلت الصحابة كذلك.
وهذا أوّل رمل واضطباع في الإسلام([18]).
وكان «صلى الله عليه وآله» يكايدهم
كلما استطاع، وأقام «صلى الله عليه وآله» وأصحابه ثلاثة أيام.
فلما تمت الثلاثة التي هي أمد الصلح جاء حويطب بن عبد
العزى،
ومعه سهيل بن عمرو إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» يأمرانه بالخروج
هو وأصحابه من مكة.
فقالوا:
نناشدك الله،
والعقد إلا ما خرجت من أرضنا، فقد مضت الثلاث، فخرج رسول الله «صلى
الله عليه وآله» هو وأصحابه منها([19]).
وزعم بعضهم:
أنهم ستروا رسول الله «صلى الله عليه وآله» من السفهاء والصبيان حتى لا
يؤذوه([20]).
وبعد..
فإن لنا مع النصوص المتقدمة، وقفات عديدة، نذكر طائفة منها على النحو
التالي:
قيل:
استخلف رسول الله «صلى الله عليه وآله» على المدينة أبا
رهم الغفاري([21]).
ولكن ابن سعد ذكر في الطبقات:
أن أبا رهم قال: كنت ممن أسوق الهدي، وأركب على البدن في عمرة القضاء.
وذكر أنه كان يسير إلى جنب رسول الله «صلى الله عليه وآله»([22]).
وقال ابن هشام:
استعمل عويف (أو عويث) بن الأضبط([23]).
وقيل:
استعمل أبا ذر([24]).
وتقدم:
أن الذي حلق رأس
النبي
«صلى الله عليه وآله» هو خراش بن أمية، وهذا غير مسلَّم
أيضاً،
فقد روي: أنه معتمر بن عبد الله العدوي([25]).
وقالوا:
لما كان بعد سنة من الحديبية أمر النبي «صلى الله عليه
وآله» المسلمين بالتجهز لعمرة القضاء،
فشكى إليه بعض المسلمين ضيق ذات اليد، فأمر «صلى الله عليه وآله»
المسلمين بأن ينفقوا، ويتصدقوا، وألَّا يكفوا أيديهم فيهلكوا، وأنزل
الله عز وجل: ﴿وَأَنفِقُواْ
فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ تُلْقُواْ بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ
وَأَحْسِنُوَاْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ المُحْسِنِينَ﴾([26]).
ونقول:
إن سورة البقرة ـ كما يقولون ـ هي أول سورة نزلت
بالمدينة([27])،
فهل بقيت هذه الآية إلى سنة سبع حتى
نزلت، ثم
أضيفت
إلى السورة،
كما يضاف غيرها حسب زعمهم؟!([28])
خصوصاً وأن الأمر يتعلق بأمر الإنفاق في الجهاد، وقد كان المسلمون
في المدينة
يعانون من ضيق ذات اليد منذ اللحظات الأولى التي بدأوا
يواجهون الحروب
فيها بعد الهجرة..
لكننا نرى:
أن السورة كلها أو طائفة كبيرة منها كانت تنزل على رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
دفعة واحدة، ثم تبدأ الأحداث بالتوالي، فينزل جبرئيل ليقرأ عليه
«صلى الله عليه وآله»
الآيات التي ترتبط بها، علماً أنها كانت قد نزلت مع سائر الآيات قبل
ذلك الحدث بمدة.
والظاهر:
أن هذا هو ما حصل بالنسبة لآية التهلكة.
هذا..
وقد حاول البعض أن يستفيد من هذه الآية أيضاً حكماً بتحريم كل عمل
يستبطن درجة من الخطورة على الجسد.
ومما لا شك فيه:
أن هذه الآية ناظرة إلى
تقرير حقيقة استتباع
الامتناع عن الإنفاق في سبيل الله سبحانه،
للعقوبة
الأخروية، ولا تتعرض إلى إلقاء النفس في المخاطر الدنيوية، لا جوازاً،
ولا منعاً.. فاستدلال البعض بها على ذلك، ليس له ما يبرره.
وقد ذكرنا في كتابنا مراسم عاشوراء:
أن إلقاء النفس في المخاطر تجري فيه الأحكام الخمسة،
بحسب ما يعرض من عناوين..
ومن جهة أخرى:
فإن هذه الآية لا تنشئ حكماً تعبدياً، بل هي أمر إرشادي، فلا يثبت
بمقتضاها أي حكم وراء ما هو ثابت في الشرع لكل مورد بخصوصه، فهي من
قبيل الأوامر بإطاعة الله تعالى، وإطاعة رسوله «صلى الله عليه وآله»: ﴿يَا
أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ
الرَّسُولَ..﴾([29])..
وذلك ظاهر لا يخفى..
تقدم قولهم:
إنه
«صلى الله عليه وآله»
قد أحرم من المسجد..
وليس المراد به مسجد المدينة، بل المراد به مسجد
الشجرة؛ لأنه هو ميقات أهل المدينة، وإنما أحرم
«صلى الله عليه وآله»
منه.
وقد سئل الإمام الصادق «عليه
السلام»:
لأي علة أحرم رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
من مسجد الشجرة، ولم يحرم من موضع دونه؟!
فقال:
لأنه لما أسري به إلى السماء، وصار بحذاء الشجرة نودي: يا محمد!
قال:
لبيك الخ..([30]).
وفي رواية أخرى عن أبي بصير:
قلت لأبي عبد الله
«عليه
السلام»:
خصال عابها عليك أهل مكة.
قال:
وما هي؟
قلت:
قالوا: أحرم من الجحفة ورسول الله
«صلى الله عليه وآله»
أحرم من الشجرة.
قال:
الجحفة أحد الوقتين، فأخذت بأدناهما وكنت عليلاً([31]).
فإطلاق الكلام عن أن رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
أحرم من مسجد الشجرة، وعدم الإشارة إلى إحرامه من المدينة، يدل على ما
ذكرناه.
وأصرح من ذلك وأوضح:
ما روي عن الإمام الباقر
«عليه
السلام»،
حيث قال ـ رداً على دعوى: أن الأفضل إحرام المرء من دويرة أهله ـ:
«ولو
كان فضلاً لأحرم رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
من المدينة»([32]).
وفي نص آخر رد الإمام الصادق «عليه
السلام» على ذلك بقوله:
لو كان كما يقولون لما تمتع رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
بثيابه إلى الشجرة([33])،
وقريب منه غيره([34]).
وبعد، فإن الذي يراقب الأمور في عمرة القضاء يثير
اهتمامه أمران:
أحدهما:
أنه «صلى الله عليه وآله» يهتم بتوزيع المهمات، وتحديد المسؤوليات، لكي
يتشارك الإحساس بالواجب الشرعي، مع الإحساس بالكرامة الفردية،
والعنفوان الشخصي لمن يتحمل أية مسؤولية.. وليتم ويهتم بإنجاز المهمات
الموكلة إليه، بعيداً عن روح التواكل والإهمال، وفي مأمن من التقصير
الذي قد ينتاب الجماعات التي لم تحدد مسؤوليات أفرادها.
فانطلاقاً من قاعدة:
«واجعل
لكل واحد منهم عملاً تأخذه به»([35])،
جعل
«صلى الله عليه وآله»
على الهدي ناجية بن جندب، ومعه أربعة من أسلم، وجعل على السلاح
والدروع، والرماح بشير بن سعد، وأوكل أمر الخيل ـ وهي مائة فرس ـ إلى
محمد بن مسلمة، كما زعموا..
الثاني:
أن
ذلك يشير إلى أن ثمة سعياً حثيثاً لإرساء قواعد تنظيم يراد له أن يهيمن
على الحركة العامة، وأن يخرج الأمور عن دائرة الارتجال الذي يمارسه
رئيس القبيلة أو الملك، أو الحاكم، وأن يمنع من حصر كل القرارات
التفصيلية بشخص واحد، قد يعجز عن الإحاطة بكل الجزئيات التي يحتاج إلى
معرفتها، ليكون قراره صحيحاً ودقيقاً.
إذ بدون هذه الإحاطة الدقيقة تصبح احتمالات إخفاقه في
ذلك، وقصور قراراته عن استيعاب جميع المواقع التي يحتاج إليها، أكثر
قوة، وأشد حضوراً في الحركة العملية.
وكما جرى في خيبر، جرى في عمرة القضاء أيضاً.. فقد
اشترط
«صلى الله عليه وآله»
هنا كما اشترط هناك حضور من شهد الحديبية، بفارق واحد بسيط، وهو: أنه
«صلى الله عليه وآله»
حين جاء المخلفون يريدون أن يخرجوا معه إلى خيبر، وقالوا: إنها ريف
الحجاز طعاماً، وودكاً، وأموالاً، بعث
«صلى الله عليه وآله»
منادياً فنادى: لا يخرجن معنا إلا راغب في الجهاد، فأما الغنيمة فلا([36]).
أما في عمرة القضاء، فإنه لم يمنع أحداً من المسير معه
إلى العمرة، بل اكتفى بإعلان حتمية حضور أهل الحديبية معه فيها. ولم
يكن في عمرة القضاء غنائم ليعلن حرمان أو عدم حرمان أحد منها..
ولذلك انضم إليه جمع ممن لم يحضر الحديبية.
والسر في هذا وذاك يمكن رسم معالمه على النحو التالي:
1 ـ
أما الأسباب بالنسبة لعمرة القضاء فهي:
أولاً:
إن هذه العمرة هي أداء نسك ظل الناس محرومين من أدائه مدة طويلة، ولم
يكن النبي الكريم
«صلى الله عليه وآله»
ليحرم أحداً من أداء نسكه، أو أن يمنعه من القيام بعبادة ربه.
ثانياً:
إن التنصيص على لزوم حضور أهل الحديبية يتضمن التعريض بغيرهم، وتعريف
الناس بأن تخلفهم عنه
«صلى الله عليه وآله»
في تلك الغزوة كان بلا مبرر معقول أو مقبول.
ولابد أن يكون هذا درساً لهم
ولغيرهم، ويفهمهم:
أن التخلف عن طاعة رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
يعرضهم للحرمان من أن يكونوا في مواقع التفضل، والرضا، ويوجب لهم
انتكاسات لا يروق لهم أن يعرضوا أنفسهم لها.
ثالثاً:
إن هذا التنصيص يمثل تكريماً وتعظيماً لمن حضر الحديبية، وهو إعلان بأن
حضورهم هناك كان ذا قيمة وذا أهمية، ومن شأن هذا أن يعطيهم، المزيد من
الاندفاع نحو الطاعة لرسول الله
«صلى الله عليه وآله»،
والحرص على الكون في مواقع رضا الله تبارك وتعالى.
رابعاً:
إن حضور المتخلفين عن الحديبية إلى مكة، التي كانت طيلة سنوات لا
يأتيهم منها إلا الشرور والمتاعب، والبلايا والمصائب، يجعلهم أكثر
شعوراً بعظمة الإنجاز الذي حققه إخوانهم الذين تخلفوا هم عن مشاركتهم،
وخذلانهم قبل عام.. ثم هو يثير فيهم الشعور بالحسرة والندم على ما فرط
منهم. ويدفعهم نحو التوبة النصوح بقوة وحزم وإخلاص.
2 ـ
وأما بالنسبة لما جرى في خيبر، فالمقصود به هو: تخصيص من حضر الحديبية
بالمكافأة، التي لا يستحقها المتخلفون، لأن الله قد جعل هذا الفتح
جائزة وثواباً لهم
﴿وَأَثَابَهُمْ
فَتْحاً قَرِيباً، وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللهَ
عَزِيزاً حَكِيماً﴾([37]).
وبذلك يتشجَّع المحسنون لمضاعفة إحسانهم، ويكون في هذا
الإعلان بتكريمهم من التعظيم والإجلال لهم ما يسعدهم، ويفرح أرواحهم،
ويبهج قلوبهم.
كما أن فيه إعلاناً بسوء فعل من تخلف، وتقبيحاً لتمرده
على الأوامر النبوية، وتحذيراً وإنذاراً لمن تحدثه نفسه بأن يتأسى بهم،
وتحتم عليه أن يقلع عما عقد العزم عليه، فإن فيه فضيحة لا يرضاها أهل
الكرامة، وخزي يأباه أهل الحفاظ.
والظاهر هو:
أن رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
كان يريد دخول مكة من خلال تحطيم عنفوان الشرك، وإسقاط مقاومته من
الداخل. أي أنه يريد أن يهزم المشركين نفسياً، من خلال تكوين قناعة
لديهم بعدم جدوى مقاومتهم لهذا الدين، والإدراك عملياً بأن حصاد هذه
المقاومة لن يكون سوى الدمار والبوار، والمزيد من الخيبات المريرة
والمخزية لهم، ليتوصل
«صلى الله عليه وآله»
ـ من خلال إذكاء هذا الشعور فيهم ـ إلى إخراج مكة والبيت العتيق من
أسرهم، من دون أن تراق فيه محجمة من دم، صيانة منه
«صلى الله عليه وآله»
لحرمة الحرم، وحفاظاً على مكانة البيت وموقعه وحفظاً له من أن يتجرأ
عليه أحد، عبر الأحقاب والدهور..
فلأجل ذلك ترى:
أنه في نفس الوقت الذي يجهز فيه أمة كبيرة من الناس لدخول مكة
للاعتمار، ويستصحب معه الخيل والسلاح، والدروع والرماح، ويقود معه مائة
فرس، ويقدمها هي والسلاح أمامه، حين بلغ ذا الحليفة([38]).
تراه «صلى الله عليه وآله» يبالغ في إعطاء التطمينات
بأنه لا يريد حرباً ولا قتالاً في مسيره ذاك، فهو يقلِّد الهديَ
ليُعْلَمَ أنه هدي، فيكفّ الناس عنه..
ولكنه
«صلى الله عليه وآله»
لا يخرج نفسه عن دائرة الحذر والاحتياط، فيجعل السلاح قريباً منه،
تحسباً لأي طارئ، حتى إنه لما دخل مكة جعل السلاح في بطن يأجج، وهو
موضع قريب من الحرم، وجعل لحراسته أوس بن خولي في مائتي رجل، ليمنع
بذلك أهل الخيانة والغدر، من التفكير بالغدر، أو افتعال أي ذريعة
للخيانة.
وقد أظهر بعض المسلمين قصور نظر، أو سوء نية حين تظاهر
بالاستغراب من أمر السلاح، وقال لرسول الله «صلى الله عليه وآله»: يا
رسول الله، أحملت السلاح، وقد شرطوا علينا ألا ندخل عليهم إلا بسلاح
المسافر؛ السيوف في القرب؟!
فقال رسول الله «صلى الله عليه
وآله»:
إنا لا نُدْخِلُهَا عليهم الحرم، ولكن تكون قريباً منا؛ فإن هاجنا هيج
من القوم كان السلاح قريباً منا..
فقال له ذلك الرجل:
يا رسول الله، تخاف قريشاً على ذلك؟!
فأسكت رسول الله
«صلى الله عليه وآله»،
وقدم البدن([39]).
ونحن لا نستطيع أن نسكت على هذا التعبير القبيح والوقح،
وهو قوله:
«فأسكت
رسول الله»!!
فإنه مناف للأدب معه
«صلى الله عليه وآله»،
كما أنه مجانب للحقيقة..
والحقيقة هي:
أنه
«صلى الله عليه وآله»
قد سكت عن رجل ضعيف البصيرة، خامل التفكير، سقيم النظر، ومؤثراً عدم
بسط القول معه؛ لأن ذلك الاسترسال، قد يؤدي إلى تسليط الضوء على أمور
ليس من المصلحة التعرض لها.
وبقي هذا الاحتياط النبوي بحمل السلاح هو الإجراء
الصحيح والضروري، وهو الموافق للحكمة والتدبير السليم، إذ لم يكن من
الجائز للعاقل الأريب أن يظهر من نفسه الغفلة والاستنامة، مع عدو عرف
بالغدر، والانطواء على نوايا مدخولة، وأهداف شريرة.
يضاف إلى ما تقدم:
أن من المصلحة تعريف الناس بحقيقة هذا العدو الذي يواجهه رسول الله
«صلى الله عليه وآله»،
وأنه عدو غير مأمون على الوفاء بتعهداته، وأن نهجه خياني وغادر، في حين
لم يزل نفس ذلك العدو يشهد له
«صلى الله عليه وآله»
بأنه لم يزل يعرفه بالوفاء والاستقامة، من صغره إلى كبره، وفي جميع
الأوقات والحالات..
وآخر ما نقوله هنا هو:
أن المقصود من جعل السلاح قريباً منه: هو إرهاب ذلك العدو، وتعريفه بأن
التفكير في غير سياق الوفاء بالعهود، سوف يعيد الأمور إلى مجراها الأول
وهو مقاومة الظلم والبغي، وأن ليس ثمة أي خلل أو قصور في التصميم على
نشر هذا الدين، وأن العزم لا يزال منعقداً على متابعة المسيرة، فلا
مجال للمساومة، ولا للتراخي في شيء من الحقوق التي جعلها الله تعالى
للمسلمين والمستضعفين، مهما طال الزمن، فلا فائدة من التآمر، ولا جدوى
من خيانة العهود، إلا المزيد من المآسي والرزايا، والنكبات والبلايا.
وبالعودة إلى موضوع تقديم رسول الله «صلى الله عليه
وآله» الخيل أمامه، حتى بلغت مر الظهران، فرأى أولئك النفر من قريش ـ
أو الذين كانوا هناك ـ خيلاً كثيرة، وسلاحاً وفيراً.. فطاروا بالخبر
إلى قريش، التي فزعت من ذلك، وتحيرت، وظنت أن ثمة غزواً لها من قبله
«صلى الله عليه وآله»..
إننا بالعودة إلى ذلك نقول:
لقد كان هذا التصور هو ما يريده النبي
«صلى الله عليه وآله»؛
لأن ذلك يعني: أن هذه المفاجأة قد أثمرت ما يلي:
أولاً:
وضع قريش على محك المفاجآت لتقترب من التفكير بموضوعية وواقعية، فلا
تستسلم لخيالاتها وأوهامها، التي قد توحي لها بأن الأمور تسير على
وتيرة واحدة، أو تتوهم أن من الممكن أن تعرض للنبي «صلى الله عليه
وآله» والمسلمين غفلة، تستطيع الاستفادة منها، في تسديد ضربتها
الغادرة.
فإن شعورها ذاك، وتوهمها هذا، يثير فيها الرغبة الجامحة
إلى أن تخطط، وتدبر، وتتآمر.. على أمل أن تنجح بتغيير المعادلة، إذا
أصابت غرة من عدوها الغافل عما دبرته له، وكادته به.
ولكنها إذا عرفت:
أن النبي
«صلى الله عليه وآله»
يفكر في كل اتجاه، ويلاحق كل صغيرة وكبيرة، فسوف لا تجرؤ على الدخول في
مغامرة خطيرة من هذا القبيل.
ثانياً:
إن هذه المفاجأة التي حيَّرت قريشاً، دفعتها إلى الاعتراف لرسول الله
«صلى الله عليه وآله»
بأنه ما عرف بالغدر صغيراً، ولا كبيراً، بل كان البر الوفي في جميع
أحواله وشؤونه.
ولابد أن تكون قد استحضرت في مقابل ذلك ما كان منها
طيلة عشرين سنة تجاهه «صلى الله عليه وآله» والمسلمين، من ظلم وغدر،
وقطيعة رحم، وأذى.
كما أن لهذا الاعتراف أهميته البالغة، في فضح حقيقتها،
وتعريف الناس بمدى شناعة وقباحة فعلها، فيما مضى، ثم فيما يأتي، حيث
إنها سوف تغدر به، بعد أقل من سنة من هذا التاريخ، وتضطره إلى دخول مكة
على غير هذه الصورة، وهو ما عرف بفتح مكة.
ثالثاً:
كانت قريش تعلم: أن النبي
«صلى الله عليه وآله»
والمسلمين حققوا أعظم الانتصارات وأجلها في المنطقة بأسرها، سواء على
المشركين، أم على اليهود، ولابد أن تتوقع منه التفكير فيما هو أبعد من
ذلك.
فقد هالها أن تراه يفكر ويبادر إلى نشر هذا الدين فعلاً
في أرض الحبشة، وكان النصر حليفه في ذلك، وها هي تراه قد أرسل إلى
جبابرة الأرض يطالبهم بالاستجابة لأمر الله تعالى، والإيمان بنبوته.
هذا، على رغم أن أعداد أنصاره كانت لا تزال قليلة،
وعُدَّتهم ضئيلة.. فكيف وقد تضاعف العدد، وقويت العدة، وأصبح المسلمون
أسياد المنطقة بأسرها. وصار الكل يرهب جانبهم، ويطمح إلى إنشاء علاقات
طبيعية معهم؟!
رابعاً:
إذا ظهر أن هؤلاء الأقوياء لم تسلمهم قوتهم المتنامية، ولا كثرة عددهم
إلى الغرور، ولم تؤثِّر انتصاراتهم في حقيقة ومستوى التزامهم بعهودهم،
وبشعاراتهم، وبمبادئهم، وقيمهم، وبأحكام دينهم، وأخلاقهم قيد شعرة.
فذلك من شأنه:
أن يهزَّ وجدان الكثيرين من الناس، وأن يدعوهم إلى احترامهم، وإلى
الثقة بهم، والسكون إلى كل ما يقولونه ويفعلونه..
وبعد، فقد ذكر النص المتقدم:
أن كبراء قريش خرجوا من مكة، حتى لا يروا النبي
«صلى الله عليه وآله»
يطوف بالبيت هو وأصحابه، حسداً، وعداوة، وبغضاً له
«صلى الله عليه وآله».
فإذا كان الكبراء والرؤساء تسيِّرهم مشاعرهم، ويتخذون
مواقفهم انطلاقاً من البغض، والحسد والحقد، لا من خلال التفكير
والتروي، ووزن الأمور بميزان العقل والحكمة، فماذا نتوقع من عامة الناس
يا ترى.. فهل تراهم سوف يتصرفون على عكس ما يجدونه من كبرائهم
ورؤسائهم؟! خصوصاً مع ما هو معروف من أن عامة الناس على دين ملوكهم،
ولهم يكون سعيهم، وهم يبذلون غاية جهدهم في إجابة مطالبهم، وتحقيق
رغباتهم ومآربهم..
ويذكرنا فعل هؤلاء، وما نتوقعه من أولئك بقول الشاعر:
إذا كان رب
البيت بالطبل ضارباً فشيمة أهـل البيت كلهم الـرقص
وبمجرد أن عرفت قريش بمسير النبي «صلى الله عليه وآله»
بدأت شائعاتها تلاحق المسلمين، فقد ذكروا: أنه لما نزل النبي «صلى الله
عليه وآله» مرَّ الظهران في عمرته، بلغ أصحابه: أن قريشاً تقول: ما
يتباعثون من العجف.
فقال أصحابه:
لو انتحرنا من ظهرنا، فأكلنا من لحمه، وحسونا من مرقه، أصبحنا غداً حين
ندخل على القوم وبنا جمامة.
فقال رسول الله «صلى الله عليه
وآله»:
لا تفعلوا، ولكن اجمعوا إلي من أزوادكم.
فجمعوا له، وبسطوا الأنطاع، فأكلوا حتى تركوا، وحشى كل
واحد منهم في جرابه([40]).
وقد تقدم:
أن جمعاً من المشركين حين نظروا إلى النبي
«صلى الله عليه وآله»
وأصحابه، وهم يطوفون، لفت نظرهم المهاجرون دون غيرهم، رغم اختلاط الناس
بعضهم ببعض، ورغم قلة عدد المهاجرين بالقياس إلى ذلك العدد الكبير من
غيرهم، فقالوا: إن المهاجرين أوهنتهم حمى يثرب.
ويبقى هنا أمامنا سؤالان:
السؤال الأول هو:
لماذا نسبوا ما يلاحظونه من تعب ووهن في المهاجرين إلى الحمى، ولا
ينسبونه إلى تعب السفر ومشقاته؟!
والجواب:
لعلهم أرادوا الإيحاء للضعفاء من الناس ولأنفسهم: بأن هذا الوهن كامن
في عمق شخصية أولئك الأفراد، وأنه ثابت ودائم فيهم، وليس أمراً عارضاً
بسبب متاعب ومشقات السفر، لكي يزول بمجرد الراحة والجمام.
والسؤال الثاني هو:
لماذا خصوا كلامهم بالمهاجرين دون غيرهم؟!
ونجيب:
أولاً:
إن بعض الروايات قد ذكرت ذلك بصيغة تعم المهاجرين والأنصار، وأنهم
قالوا: يقدم عليكم قوم أوهنتهم حمى يثرب..
ثانياً:
لعل بعضهم خص الكلام بالمهاجرين، وبعضهم أطلقه ليشمل غيرهم معهم.
ثالثاً:
إن وجود المهاجرين بين المسلمين يزيد في حسرة قريش، وفي إحراجها أمام
الناس العاديين، الذين يرون أن لهم أقرباء في المسلمين، فلماذا يقسون
عليهم، فلعل الأيام تعيد الأمور إلى مجاريها، ويجتمع شملهم بهم؟!
فإذا أظهرت قريش:
أن هؤلاء المهاجرين الأقارب لم يسعدوا بتركهم مكة، بل واجهوا الأمراض،
وابتلوا بالوهن والضعف، فذلك يقلل من درجة الحنين أو الميل إلى
مشاركتهم في ما هم فيه. ما دام أن ثمن ذلك سيكون ضعفاً ووهناً..
أما الأنصار، فقد كانوا قحطانيين، ولا تربط أهل مكة
العدنانيين بهم روابط عميقة، ولا يجدون في أنفسهم ميلاً للكون معهم،
ومشاركتهم في حلو الحياة ومرها..
وأما المشركون الذين تحدثوا بصيغة التعميم لصفة الضعف
والوهن حتى تشمل جميع من جاء مع النبي
«صلى الله عليه وآله»،
فلعلهم أرادوا أن يصدوا الناس عن التفكير في المدينة من حيث هي منشأ
للحمى الموجبة للضعف، والوهن لكل من يسكن فيها!
وحين أطلع الله عز وجل نبيه
«صلى الله عليه وآله»
على مقالتهم هذه، طلب من أصحابه إظهار القوة، وأطلق دعاءه بالرحمة لمن
يفعل ذلك.
ولم يُرِدْ
«صلى الله عليه وآله»
أن يجسد هذه القوة في حركات تستبطن التحدي، أو الادعاء القولي، بل أراد
تجسيدها بطريقة تظهر حقيقة وجودها بالفعل في واقع نفس كل واحد من
أصحابه، ولذلك قال لهم:
«أراهم
من نفسه قوة»،
أي أنه يريد أن يرى المشركون القوة نفسها في حركة الجسد، لا أن يسمعهم
ادعاءات وجودها.
واختار أن يجسدها في نفس ممارستهم العبادية، فأمرهم
بالرمل ـ وهو ضرب من المشي السريع ـ في الأشواط الثلاثة.
كما أن طريقة المشي هذه تستبطن ما يشبه الوثبة مع كل
خطوة، ولهذا تأثيره القوي في إعطاء الانطباع المطلوب.
وقد فاجأت حركات المسلمين هذه أهل الشرك، فجاء الاعتراض
القوي من قبل أولئك الذين أُريد تضليلهم، بادعاء تأثير حمى يثرب في وهن
قوتهم، وكان اعتراضاً يستبطن تكذيب هذا الزعم.
فقالوا:
«هؤلاء الذين زعمتم: أن الحمى قد وهنتهم؟! هؤلاء أجلد من كذا (أو أجلد
منا)، (أو ما يرضون بالمشي) أما إنهم لينفرون نفر الظبي»([41]).
وبعد هذا الاستعراض العملي، جاء إجراء عملي آخر، ليرسخ
ذلك الانطباع الذي تركه الإجراء الأول، من حيث إنه يريد أن يفهمهم: أن
ما جرى في الطواف لم يكن أمراً عابراً، فرضته مناورة ومكابرة، بل هو
يستند إلى مخزون حقيقي من القوة الكامنة في كيان أولئك الأفراد أنفسهم.
ويتلخص هذا الإجراء:
في أنه
«صلى الله عليه وآله»
قد بادر إلى الاضطباع، ثم الكشف عن عضده اليمنى. ففعل الصحابة كذلك..
قالوا:
وهذا أول رمل واضطباع في الإسلام([42]).
ونلاحظ هنا:
أولاً:
إنه
«صلى الله عليه وآله»
قد بادر هو نفسه لممارسة نفس الفعل الذي كان يفترض أن يأمر أصحابه به،
فاضطبع، وأخرج يده.
ثانياً:
لم يتضح لنا هل اضطبع «صلى الله عليه وآله»، قبل الطواف، أو بعده؟!
ثالثاً:
إن أصحابه
«صلى الله عليه وآله»
قد اقتدوا به، من دون أن يحتاج إلى أن يأمرهم بذلك.
رابعاً:
إنه «صلى الله عليه وآله» إنما كشف عن عضد اليد اليمنى، التي تتولى
عادة القبض على مقابض السيوف والرماح، وتورد الضربات المهلكة على
الأعداء. ليترك ظهور عضلات هذه اليد بالذات أثراً في نفوس الأعداء.
وقد روي أن ابن عباس سئل، فقيل له:
يزعمون أن رسول الله
«صلى الله عليه وآله» قد أمر بالرمل حول الكعبة.
فقال:
كذبوا وصدقوا.
قلت:
وكيف ذلك؟!
فقال:
إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» دخل مكة في عمرة القضاء وأهلها
مشركون، فبلغهم أن أصحاب محمد «صلى الله عليه وآله» مجهودون، فقال رسول
الله «صلى الله عليه وآله»: «رحم الله امرء أراهم من نفسه جلداً».
فأمرهم، فحسروا عن أعضادهم، ورملوا بالبيت ثلاثة أشواط،
ورسول الله «صلى الله عليه وآله» على ناقته، وعبد الله بن رواحة آخذ
بزمامها، والمشركون بحيال الميزاب ينظرون إليهم.
ثم حج رسول الله «صلى الله عليه وآله» بعد ذلك، فلم
يرمل ولم يأمرهم بذلك، فصدقوا في ذلك، وكذبوا في هذا([43]).
خامساً:
المروي عن أهل البيت
«عليهم
السلام»:
أنه
«صلى الله عليه وآله»
قد اكتفى بالرمل، وبكشف عضده، وأنه فعل ذلك في عمرة القضاء، وقد حج بعد
ذلك، ولم يفعل، ولم يأمر بشيء من ذلك([44]).
سادساً:
إن الاضطباع للمحرم عند أهل السنة: هو إدخال الرداء تحت الإبط الأيمن،
وتغطية الأيسر، وبذلك يتم إظهار أحد ضبعيه.
والضبع:
وسط
العضد بلحمه.
وقيل:
العضد كلها.
وقيل:
الإبط([45]).
وفي جميع الأحوال نقول:
إن الذي فرض الاضطباع هو حالة خاصة، عالجها رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
بهذه الطريقة، فيبقى الأمر مرهوناً بها، ولا مجال لإحراز بقاء هذا
كتشريع مستمر بعده
«صلى الله عليه وآله».
فكيف إذا ورد عن أهل بيت العصمة
«عليهم
السلام»
ما يدل على أنه حالة خاصة، وليس لها أي صفة شرعية؟!
([1])
السيرة الحلبية ج3 ص62 عن الأنس الجليل.
([2])
المغازي للواقدي ج2 ص731 والسيرة الحلبية ج3 ص62 وسبل الهدى
والرشاد ج5 ص195 والبحار ج21 ص46 وتاريخ الخميس ج2 ص62 وعن فتح
الباري ج7 ص383 وعمدة القاري ج17 ص262 والطبقات الكبرى ج2 ص120
وعن تاريخ مدينة دمشق ج59 ص67 وعن عيون الأثر ج2 ص158.
([3])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص189 وراجع: الجامع لأحكام القرآن ج2
ص362 وتفسير السمرقندي ج1 ص129.
([4])
راجع: سبل الهدى والرشاد ج5 ص190 والمغازي للواقدي ج2 ص733
والطبقات الكبرى ج2 ص121 وعن تاريخ الأمم والملوك ج2 ص143 وعن
السيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج2 ص779 والكافي ج4 ص435
والبحار ج21 ص46 وتأويل مختلف الحديث ص134 وعن تفسير القرآن
العظيم ج4 ص216 وتاريخ اليعقوبي ج2 ص109 والبداية والنهاية ج4
ص262 وعن عيون الأثر ج2 ص158 والسيرة النبوية لابن كثير ج3
ص435 ومرقاة المفاتيح للملا علي القاري ج5 ص518 وج7 ص646،
وراجع: نور اليقين للخنيزي، في إسلام خالد ورفيقيه.
([5])
عن الكامل في التاريخ ج2 ص154 والثقات لابن حبان ج2 ص26.
([6])
المغازي للواقدي ج2 ص732 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص189 و 190
ودلائل النبوة للبيهقي ج4 ص320 والبداية والنهاية ج4 ص230
والطبقات الكبرى ج2 ص314 والبداية والنهاية ج4 ص262 والسيرة
النبوية لابن كثير ج3 ص435.
([7])
السيرة الحلبية ج3 ص62 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص190 والمغازي
للواقدي ج2 ص733.
([8])
السيرة الحلبية ج3 ص62 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص190 والبداية
والنهاية ج4 ص263 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص435.
([9])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص190 و 191 والسيرة الحلبية ج3 ص62
والطبقات الكبرى لابن سعد ج2 ص92 ودلائل النبوة للبيهقي ج4
ص321 والمغازي للواقدي ج2 ص734 والبداية والنهاية ج4 ص263
والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص436.
([10])
راجع: النصوص المتقدمة في: السيرة الحلبية ج3 ص62 والمغازي
للواقدي ج2 ص731 ـ 734 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص189 ـ 191
وتاريخ الخميس ج2 ص62 وعن عيون الأثر ج2 ص158 وراجع: العبر
وديوان المبتدأ والخبر ج2 ق2 ص40.
([11])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص191 والمبسوط للسرخسي ج1 ص236 وصحيح ابن
خزيمة ج4 ص242.
([12])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص194 وتاريخ الخميس ج2 ص63 والسيرة
الحلبية (ط دار المعرفة) ج2 ص779.
([13])
السيرة الحلبية ج3 ص62 والمغازي للواقدي ج2 ص735 وتاريخ الخميس
ج2 ص62 والطبقات الكبرى ج3 ص542 وفي ج2 ص121 مائة رجل.
([14])
المغازي للواقدي ج2 ص735 و 736 وتاريخ الخميس ج2 ص62 وراجع:
سبل الهدى والرشاد ج5 ص191 و 192 وفي هامشه عن: البخاري ج7
ص570 ودلائل النبوة للبيهقي ج4 ص343 وعن فتح الباري ج7 ص572 =
= والسيرة الحلبية ج3 ص64 والطبقات الكبرى ج2 ص122 وراجع: سنن
الترمذي ج4 ص217 وسنن النسائي ج5 ص203 والشمائل المحمدية ص203
وعن السنن الكبرى للنسائي ج2 ص383 وكنز العمال ج3 ص581 والجامع
لأحكام القرآن ج13 ص151 وعن تاريخ مدينة دمشق ج28 ص99 وسير
أعلام النبلاء ج1 ص235.
([15])
راجع المصادر السابقة.
([16])
المغازي للواقدي ج2 ص736 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص193 و 194.
([17])
المغازي للواقدي ج2 ص737 وعن الإصابة ج2 ص231 وسبل الهدى
والرشاد ج7 ص350.
([18])
السيرة الحلبية ج3 ص62 و 63 وراجع: تاريخ الخميس ج2 ص63 وسبل
الهدى والرشاد ج5 ص192 والتمهيد لابن عبد البر ج2 ص71 والمعجم
الكبير ج11 ص386 والبداية والنهاية ج4 ص227 ودلائل النبوة
للبيهقي ج4 ص326 ومعاني الآثار ج2 ص179 ومسند أحمد ج1 ص373
وسنن أبي داود حديث رقم 1885 وعن صحيح مسلم ج2 ص923 وعن صحيح
البخاري ج7 ص581 وراجع: البحار ج84 هامش ص276 عن ابن إسحاق،
وعن السيرة النبوية لابن هشام ج3 ص827 والسيرة النبوية لابن
كثير ج3 ص439.
([19])
السيرة الحلبية ج3 ص63 والمغازي للواقدي ج2 ص739 و 740
والبداية والنهاية ج4 ص261 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص433
وعن فتح الباري ج7 ص387 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص194 وعن زاد
المعاد ج1 ص1124.
([20])
راجع: سبل الهدى والرشاد ج5 ص192 وفي هامشه عن: البخاري ج7
ص581 وعن البيهقي في الدلائل ج4 ص328 وعن فتح الباري ج7 ص391
وعن تفسير القرآن العظيم ج4 ص217 والبداية والنهاية ج4 ص259
والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص430 وعمدة القاري ج17 ص262.
([21])
الطبقات الكبرى لابن سعد ج2 ص 92 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص189
عنه وعن الواقدي، وتاريخ خليفة بن خياط ص60 والمسترشد هامش
ص131 عن مغازي الواقدي جلد 1 ص7.
([22])
الطبقات الكبرى لابن سعد ج4 ص244.
([23])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص189 وتاريخ الخميس ج2 ص62 عن القاموس،
ومكاتيب الرسول ج1 ص37 وعن الإصابة ج4 ص619 وعن السيرة النبوية
لابن هشام ج3 ص827 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص429.
([24])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص189 عن البلاذري والبحار ج21 هامش ص46
عن ابن هشام، وسبل الهدى والرشاد ج5 ص189 ومرقاة المفاتيح ج7
ص646 وعن السيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج2 ص779 وراجع: نور
اليقين، في إسلام خالد ورفيقيه.
([25])
السيرة الحلبية ج3 ص65 عن إمتاع الأسماع، والطبقات الكبرى ج4
ص139 (معمر).
([26])
الآية 195 من سورة البقرة. وراجع: المغازي للواقدي ج2 ص732
والجامع لأحكام القرآن ج3 ص362 ومفاتيح الغيب للرازي ج5 ص293
وزاد المسير ج1 ص187.
([27])
الدر المنثور ج1 ص17 عن أبي داود في الناسخ والمنسوخ، وتفسير
الميزان ج1 ص52 وشواهد التنزيل ج2 ص411 وعن تفسير القرآن
العظيم لابن كثير ج1 ص8 وعن فتح القدير ج1 ص525 وتهذيب الكمال
ج3 ص332.
([28])
راجع: حقائق هامة حول القرآن ص142.
([29])
الآية 59 من سورة النساء.
([30])
الوسائل (ط دار الإسلامية) ج8 ص224 و 225 عن علل الشرائع ص149
و (ط أخـرى) ج2 ص433 وراجع: كشف اللثام (ط جديد) ج5 ص211 ورياض
= = المسائل (ط قديم) ج1 ص359 و (ط جديد) ج6 ص185 وجواهر
الكلام ج18 ص108 ومن لا يحضره الفقيه ج2 ص200 وعن مناقب آل أبي
طالب ج3 ص390 والبحار ج18 ص370 وج93 ص128 ومستدرك سفينة البحار
ج2 ص194.
([31])
الوسائل (ط دار الإسلامية) ج8 ص229 عن تهذيب الأحكام للشيخ
الطوسي، ومجمع الفائدة ج6 ص183 ومدارك الأحكام ج7 ص219 ومستند
الشيعة ج11 ص181 وجواهر الكلام ج18 ص111 ومستسك العروة ج11
ص253 وجامع المدارك ج2 ص363.
([32])
الوسائل (ط دار الإسلامية) ج8 ص232 عن معاني الأخبار ص108
والحدائق الناضرة ج14 ص449 ومعاني الأخبار ص382 والبحار ج93
ص129.
([33])
الوسائل (ط دار الإسلامية) ج8 ص234 وفي هامشه عن: من لا يحضره
الفقيه ج1 ص108 وعن تهذيب الأحكام ج5 ص17 وراجع: منتهى المطلب
(ط قديم) ج2 ص667 ومجمع الفائدة ج6 ص185 وذخيرة المعاد ج3 ص576
والحدائق الناضرة ج14 ص448 ومستند الشيعة ج11 ص175 والأصول
الستة عشر ص24 ومن لا يحضره الفقيه (ط مؤسسة النشر الإسلامي)
ج2 ص306.
([34])
الوسائل (ط دار الإسلامية) ج8 ص234 و 242 وفي هامشه عن: الكافي
(الفروع) ج1 ص254 وعن التهذيب ج1 ص463 وعن من لا يحضره الفقيه
ج1 ص108 وراجع: مجمع الفائدة ج6 ص185 وذخيرة المعاد ج3 ص576
والحدائق الناضرة ج14 ص448 والكافي (ط مطبعة الحيدري) ج4 ص322.
([35])
نهج البلاغة (بشرح عبده) ج3 ص57 وراجع: تحف العقول ص87 وعيون
الحكم والمواعظ ص85 والبحار ج68 ص143 و ج71 ص216 و 233 ومستدرك
سفينة البحار ج3 ص43 ونهج السعادة ج4 ص333 وموسوعة الإمام
الجواد ج2 ص577 وشرح النهج للمعتزلي ج16 ص122 ونظم درر السمطين
ص169 وكنز العمال ج16 ص183.
([36])
المغازي للواقدي ج2 ص634 وراجع: سبل الهدى والرشاد ج5 ص115
والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج2 ص726.
([37])
الآيتان 18 و 19 من سورة الفتح.
([38])
المغازي للواقدي ج2 ص733 وراجع: السيرة الحلبية (ط دار
المعرفة) ج2 ص779 والبحار ج21 ص46 ومرقاة الجنان ج7 ص646 وعن
تاريخ الأمم والملوك ج2 ص310 والطبقات الكبرى لابن سعد ج2 ص121
وسبل الهدى والرشاد ج5 ص190.
([39])
المغازي للواقدي ج2 ص733 وراجع: السيرة الحلبية (ط دار
المعرفة) ج2 ص779 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص190 عن الواقدي.
([40])
مسند أحمد ج1 ص205 ومجمع الزوائد ج3 ص288 والبداية والنهاية ج4
ص231 وسبل الهدى والرشاد ج5 ص191 وج9 ص485 وتفسير القرآن
العظيم ج4 ص217 والسيرة النبوية لابن كثير ج3 ص437.
([41])
سبل الهدى والرشاد ج5 ص192 وعن مسند أحمد ج3 ص502 ومجمع
الزوائد ج3 ص607 وراجع: المجموع ج8 ص41 وتلخيص الحبير ج7 ص325
ومغني المحتـاج ج1 ص490 وإعانـة الطالبـين ج2 ص338 والمغني
لابن قدامـة ج3 ص387 وفقه السنة ج1 ص702 عن مسند أحمد ج1 ص295
وعن صحيح مسلم ج4 ص65 وعن سنن أبي داود ج1 ص421 والسنن الكبرى
للبيهقي ج5 ص82 وتحفة الأحوذي ج3 ص504 ونصب الراية ج3 ص124 وعن
تفسير القرآن العظيم ج4 ص217.
([42])
السيرة الحلبية ج3 ص63 وتاريخ الخميس ج2 ص63 وعن أسد الغابة ج1
ص22.
([43])
الوسائل (ط دار الإسلامية) ج9 ص429 وراجع: الحـدائـق الناضـرة
ج16 ص128 = = ورياض المسائل (ط جديد) ج7 ص41 وجواهر الكلام
ج19 ص351 ومستدرك الوسائل ج9 ص394 والبحار ج93 ص353 وراجع صحيح
ابن حبان ج9 ص151.
([44])
الوسائل (ط دار الإسلامية) ج9 ص428 و 429 وفي هامشه: من لا
يحضره الفقيه ج1 ص135، وعن فقه الرضا ص23 وراجع: علل الشرائع
ج2 ص412 و 413 وعن الكافي (الفروع) ج1 ص279 وعن تهذيب الأحكام
ج1 ص477 وراجع: الحدائق الناضرة ج16 ص128 ورياض المسائل (ط
جديد) ج7 ص41 وجواهر الكلام ج19 ص351 ومستدرك الوسائل ج9 ص394
والبحار ج93 ص353.
([45])
راجع: مادة ضبع في كتب اللغة، مثل أقرب الموارد ج1 ص676 وكتاب
العين ج1 ص284 ولسان العرب ج8 ص216.
|