نـهــايــات ونـتـائـــــج
قد تقدم:
أن البعض قد زعم: أن قلة عدد الشهداء دليل على
انتصار خالد، غير أننا نقول:
إن عكس ذلك هو الصحيح، فإن عدد الشهداء الذين سقطوا
في غزوة مؤتة يدل على أن خالداً لم يحارب، بل أخذ الراية وانهزم
بها..
فإن المفروض:
أن القادة الثلاثة، قد سقطوا قبل أخذ خالد للراية، وهم من الفرسان
المشهود لهم بالشجاعة، والفروسية، ولا شك في أن الأمر لم يقتصر
عليهم، بل قتل معهم اناس آخرون.
وبعد أن أخذ الراية خالد، فإذا صح أنه قد حارب، حتى
اندقت في يده تسعة أسياف، وأن عدوهم كان مئتي ألف، بل مئات الألوف،
وكان المسلمون ثلاثة آلاف فقط، فلابد أن نتوقع أن يقتل من المسلمين
المئات، والألوف أيضاً، فإن المشركين قَتلوا في أُحد عشرات
المسلمين، واستشهد في بدر مع رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
عدد من المسلمين، يضاهي عدد شهداء مؤتة مع أن المشركين كانوا لا
يصلون إلى ألف رجل، وكان جيش المسلمين يقارب ثلث عدد المشركين،
فكيف حقق خالد ما لم يحققه أبطال الإسلام في ظل قيادة رسول الله
«صلى الله عليه وآله»؟!
وإذا كان خالد قد حقق هذا الإنجاز، فلماذا يطردهم
المسلمون، ويعادونهم، ويظلمونهم هذا الظلم الفاحش العجيب؟! ثم يسكت
رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
عن ذلك..
هذا كله، بالإضافة إلى ما قدمناه من أدلة وشواهد
تؤيد هزيمة خالد، بل هي تؤيد أن الذين قتلوا من المسلمين إنما
قتلوا في المبارزات التي جرت قبل استشهاد القادة.
أليس بعد كل هذا الذي ذكرناه هنا وفيما سبق يصبح
قول ابن كثير في البداية والنهاية: من أن قلة عدد الشهداء تشهد
لانتصار خالد بمن معه وحصول الفتح على أيديهم مما يضحك الثكلى؟!.
وقد جرت مبارزات بين فرسان الجيشين، كما رواه عمارة
بن غزية عن أبيه..
ومبارزة الفرسان أمر يتشوق له الناس في ساحات
القتال، ويعطي للحرب رونقاً، ويثير حماس الشجعان، ويدعوهم إلى
إظهار فنونهم، وشدتهم، وبطولاتهم.
ولعل هذا يفسر امتداد الحرب في مؤتة إلى سبعة أيام
كما ذكروه([1])،
وربما يساعد هذا على تفسير قلة الشهداء في صفوف المسلمين.
فقد ذكروا:
أن عددهم هو ثمانية شهداء([2]).
أو اثنا عشر شهيداً([3]).
أو خمسة عشر شهيداً([4])
على أبعد تقدير.
وهذا يدل:
على أن جيش الروم كان يعاني من هزيمة حقيقية في معنوياته، وأن زمام
المبادرة لم يكن في يد ذلك الجيش في ساحة المعركة طيلة عدة أيام
وإلى آخر ساعاتها أي لحظة قتل القادة الثلاثة، فليس صحيحاً: أن
القادة قد استشهدوا في الساعات الأولى من المعركة.
ومما يدل على أن زمام المبادرة في ساحة القتال كان
بيد المسلمين.. ما روي عن ابن عمر: أنه قال أتيته (يعني جعفراً)
بعرق من لحم وهو مستلق آخر النهار، فعرضت عليه فقال: إني صائم،
فضعه عند رأسي، فإن عشت حتى تغرب الشمس أفطرت.
قال:
فمات صائماً قبل غروب الشمس([5]).
ومن الأمور الجديرة بالتأمل:
أن هذا الجيش الهائل الذي جمعه الروم، لم يجرؤ على ملاحقة جيش
المسلمين حتى حين انسحب من المعركة، مهزوماً بفعل خالد بن الوليد..
ولو كان ذلك الجيش الهائل يرى نفسه منتصراً لحظة
استشهاد القادة، أو يحتمل أن بإمكانه أن يكسب لنفسه نصراً لم يتوان
عن ملاحقتهم حتى المدينة، لكي يتخلص من هؤلاء الناس الذين تجرؤوا
على غزو أمبرطوريتهم في عقر دارهم وبلادهم، وشاهدوا منهم ما
أذهلهم، وطاشت له ألبابهم، طيلة أيام عديدة، وكان ما جرى للقادة
الثلاثة هو التتويج لتلك البطولات، الذي وضعهم على عتبة الإنهيار
والاستسلام لو لم يبادر خالد إلى الفرار، وتبعه المسلمون في ذلك.
نعم، إن الله تعالى ألبسهم لباس الذل والخزي، وملأ
الرعب قلوبهم وهذا هو الذي يصنع النصر كما قال «صلى الله عليه
وآله»: «نصرت بالرعب». ولم يكن أمامهم أي خيار سوى لملمة جراحهم،
والإنكفاء الذليل، الذي جعلهم يعيشون الحيرة، وربما الدهشة، والرضا
بالنكسة التي نالتهم.
لقد استبدل خالد النصر الذي كان في متناول أيدي
المسلمين بهزيمة شنعاء، نكراء نشأت عنها متاعب جمة، وتسببت بأن
يعود لكيان الأمبرطورية الرومية لاستجماع قواه، وليلحق الأذى بأهل
الإسلام بعد ذلك مرة بعد أخرى.
ولا نستطيع أن نستبعد تأثير ما جرى في مؤتة التي
تمثل هزيمة حقيقية لجيش ملك يهيمن على إحدى الدولتين الأعظم في
العالم.. رغم أن ذلك الملك وتلك الدولة تعيش عنفواناً قوياً بلغ
أقصى مداه بانتصاره على مملكة فارس، ولابد أن تكون آثار هذا النصر
بالغة العمق على الدولة الرومية وعلى ملكها، الذي نذر المشي على
لزيارة بيت المقدس، وقد قطع مئات الأميال من أجل الوفاء بنذره هذا.
فما معنى أن تنتصر على هذا الملك وعلى جيشه العظيم
الخارج من نصر غالٍ جداً مجموعة صغيرة من الناس كانت تعيش في
جاهليتها حالة الإنكفاء، والإنطواء والإنزواء في صحراء الجزيرة
العربية؟!
ولابد أن يزيد هذا من ثورة الألم لدى قيصر وجيشه،
وهو يرى أن هذه المجموعة الصغيرة تجتاح البلاد التي سيطر عليها عن
عمد وقصد، وتصميم، ومبادرة متعمدة، رغم قلة عددها، ثلاث آلاف
لتواجه مئات الألوف.. علماً بأن مئة ألف من ذلك الجيش الهائل كان
من سنخ اولئك المهاجمين، ولا يختلف عنهم كثيراً في اللغة، وفي
الذهنية، وفي التركيبة الإجتماعية، وفي المفاهيم، وفي العادات،
والتقاليد، وما إلى ذلك.
فماذا يمكن لمشركي مكة ان يفعلوا بعد هذا كله..
وبعد أن سحق بغي اليهود، وسقطت جيوش الشرك طعمة لسيوف أهل الإيمان
في المعارك المختلفة، طيلة تلك السنوات التي خلت.
وروى عبد الرزاق عن ابن المسيب
مرسلاً قال:
قال رسول الله
«صلى الله عليه وآله»:
«مثل
جعفر، وزيد، وابن رواحة في خيمة من در، فرأيت زيداً، وابن رواحة في
أعناقهما صدوداً، ورأيت جعفراً مستقيماً ليس فيه صدود، فسألت، أو
قيل لي: إنهما حين غشيهما الموت اعترضا، أو كأنهما صدا بوجهيهما،
وأما جعفر فإنه لم يفعل، وإن الله تعالى أبدله جناحين يطير بهما في
الجنة حيث شاء»([6]).
وروى البخاري والنسائي، عن عامر
الشعبي، قال:
«كان
ابن عمر إذا حيَّا عبد الله بن جعفر قال: السلام عليك يا ابن ذي
الجناحين»([7]).
قال ابن إسحاق:
«ولما أصيب القوم قال رسول الله «صلى الله عليه
وآله» ـ فيما بلغني ـ: «أخذ الراية زيد بن حارثة، فقاتل بها حتى
قتل شهيداً».
قال:
ثم صمت رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
حتى تغيرت وجوه الأنصار، وظنوا أنه قد كان في عبد الله بن رواحة
بعض ما يكرهون، ثم قال:
«ثم
أخذها عبد الله بن رواحة، فقاتل بها حتى قتل شهيداً».
ثم قال:
«لقد
رفعوا إليَّ في الجنة فيما ير ى النائم على سرر من ذهب».
فذكر مثل ما سبق([8]).
وفي نص آخر:
لما أصابت الجراحة ابن رواحة نكل، فعاتب نفسه،
فشجع، فاستشهد([9]).
1 ـ
لقد صرحت النصوص المتقدمة بما دل على أن جعفراً كان
هو الأفضل والأكمل، والأصفى، والأتم والأعظم إخلاصاً لله تبارك
وتعالى.. وقد جاهد في الله حق جهاده بخصائصه هذه، التي ميزته حتى
عن رفيقيه في الجهاد، وفي الاستشهاد..
2 ـ
إن الجهاد باب من أبواب الجنة، فتحه الله لخاصة
أوليائه، والشهادة هي ما بعد ذلك الباب، ولا ينال درجتها إلا من
أقدم عليها طائعاً مختاراً، قاصداً القربة إلى الله تعالى.. فمن
أجبر عليها حتى قتل كارهاً لموقفه فهو قتيل، وليس شهيداً.
3 ـ
إن الإنسان حين يشارك في أي حرب حقيقية، فإنه يعرض
نفسه لخطر محتمل، مع تفاوت درجات قوة هذا الاحتمال لديه، كما أن
احتمال السلامة في أكثر مواقف الجهاد قائم أيضاً.. ولكن احتمال
الخطر حتى لو كان قوياً فهو لا يجوز التخلي عن ساحة القتال بحال من
الأحوال.
وأما حين يكون القتل يقينياً، فقد يجب الإصرار على
مواجهة الموت، وقد يحرم ذلك فيما لو أوجب ذلك انكسار جيش الإسلام،
وظهور جيش الكفر.
وقد يجب الخروج من ساحة المعركة، إذا كان في قتل
هؤلاء هدر للطاقة، وتجرئة للعدو، وإضعاف لقوة الدين وأهله.
وقد يكون التعرض للقتل راجحاً، من دون أن يصل إلى
حد الإلزام، كما جرى لرسولَي النبي
«صلى الله عليه وآله»
إلى مسيلمة، حيث خيَّرهما مسيلمة لعنه الله بين القتل، وبين
الإقرار بنبوته، فرفض أحدهما فقتل، وقال له الآخر: أنت ومحمد رسول
الله، فقال
«صلى الله عليه وآله»:
أما أحدهما فمضى على يقينه، وأما الآخر فأخذ بالرخصة([10]).
والظاهر من موقف النبي
«صلى الله عليه وآله»
من الفارين في مؤتة هو وجوب التصدي حتى لو تيقن بعض المقاتلين
بالشهادة، لأن هذا هو الذي كان يستحق النصر على جيش الروم، وسيكون
نصراً هائلاً وعظيماً في آثاره وفي بركاته..
وربما يكون من تلك البركات هو انتشار الإسلام في
جميع أنحاء الدولة الرومية، وفي مناطق نفوذها.
4 ـ
إن هذه النصوص وما يجري مجراها قد بينت أن على أهل
الإيمان أن يحتفظوا بصفاء إيمانهم، وأن يبلغوا في إيمانهم حداً لا
يشعرون معه بأن ثمة بوناً أو فجوة فيما بين الأمر الاعتقادي، وبين
ما يجري في هذه الحياة الدنيا من أحداث.. فلا يظنون أن الاستشهاد
في ساحات الجهاد، معناه: أن الشهيد قد أودع حفرة، تأكله فيها هوام
الأرض، وبقي غيره من بعده يتمتع بالنعم، ويحصل على الأموال
والإمتيازات، ويتقلب في أحضان الملذات والشهوات.
وقد أراد رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
أن يبين هذه الحقيقة للناس من خلال تقديم صورة حية وواقعية لما جرى
للشهداء القادة في مؤتة.. فإن تقديم المفهوم الإيماني، وغيره،
متجسداً في واقع ينبض بالحياة، يجعله قادراً على اقتحام القلوب
والعقول، واحتلال موقعه اللائق به فيها.
وكان المثال الأكثر تأثيراً هو ذلك الذي يأتي في
اللحظة التي يعيش الناس فيها أجواء إثارة وانفعال، توهج عاطفي
مرتبط بشهيد اختار طريق الشهادة بوعي، وصلابة، وباندفاع، وإخلاص،
وإباء في أجواء زاخرة بالتحدي الذي يتجاوز التصورات، ليلامس الخيال
المغرق في البعد، حين يواجه ذلك الشهيد مئات الألوف، ويبذل كل ما
يملكه غير آسف على شيء في هذه الدنيا، ولا يجد في نفسه عن الموت
صدوداً، مع أنه يراه بأم عينيه، ولا يرى عنه محيداً.
5 ـ
وأظهرت الملاحظة التي بينها الرسول
«صلى الله عليه وآله»
حول التردد الخفي الذي راود ابن رواحة، وحتى زيداً لتؤكد للناس: أن
النية جزء من العمل، وان تأثير العمل في تحقيق غايته مرهون بدرجة
الخلوص والإخلاص فيه، كما هو ظاهر.
وقد ذكرت الروايات:
أن النبي
«صلى الله عليه وآله»
قال: رأيت جعفراً ملكاً يطير في الجنة، تدمى قادمتاه، ورأيت زيداً
دون ذلك.
فقلت:
ما كنت أظن أن زيداً دون جعفر.
فأتى جبرئيل «عليه السلام»
وقال:
إن زيداً ليس بدون جعفر، ولكنا فضلنا جعفراً
لقرابته منك([11]).
ونقول:
أولاً:
إن ما حصل عليه جعفر «عليه السلام» من امتيازات لم
يكن لأجل قرابته من رسول الله «صلى الله عليه وآله» ـ وإن كان
للقرابة قيمة من بعض الجهات ولأجل بعض الآثار ـ وإنما لأنه لم يجد
صدوداً، ولا إعراضاً، ولا تردداً. حين واجه الموت في سبيل الله
سبحانه، كما صرحت به الروايات.
ثانياً:
قد تقدم في فصول سابقة من هذا الكتاب ولاسيما في
غزوة خيبر: أن لجعفر
«عليه
السلام»
من الفضل ما لا يدانيه فيه زيد ولا ابن رواحة..
ومن ذلك قوله «صلى الله عليه
وآله»:
خير الناس حمزة، وجعفر وعلي([12]).
فلماذا نجعل القرابة هي السبب؟!
قال ابن عائذ:
«وقفل
المسلمون، فمروا في طريقهم بقرية لها حصن، كان أهلها قتلوا في ذهاب
المسلمين رجلاً من المسلمين، فحاصروهم حتى فتحه الله عليهم عنوة،
وقتل خالد مقاتلتهم»([13]).
ونقول:
إننا نحب أن نسأل:
1 ـ
هل استأذن خالد ومن معه رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
في قتال هذه القرية، وحصارها؟! ثم في قتل مقاتليها؟!
2 ـ
إن كان أهل تلك القرية قد اعتدوا عليهم، وقتلوا
منهم رجلاً، فلماذا لم يقاتلوهم في ذلك الوقت وبمجرد اعتداءهم
عليهم، وقتلهم لذلك الرجل المسلم؟! ولماذا انصرف جعفر وزيد وابن
رواحة عن مطالبتهم بأسباب عدوانهم ولماذا لم يطلب منهم تسليم قاتلي
ذلك الرجل؟!
أم يعقل أن تكون مهمتهم حين الذهاب كانت مستعجلة،
ولا يجوز فيها التواني والتأخير، ولو للمطالبة بدم شهيد منهم؟!
3 ـ
كيف تجرأ أهل تلك القرية على النيل من جيش المسلمين
الذي سار ذكر انجازاته وبطولاته في الآفاق، وبعد أن فتح حصون خيبر،
وبعد حرب أحد، وبدر، والخندق، وسواهما؟!
4 ـ
لماذا قتل خالد مقاتلتهم ولم يبقهم أسرى، ليعرض
أمرهم على رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
ليبت هو في شأنهم ؟!.
النبي
يرى ما جرى في مؤتة:
وقد صرحت الروايات بأنه
«صلى الله عليه وآله»
قد وصف لأصحابه في المدينة ما كان يجري في مؤتة لحظة وقوعه.. ثم
وصف ذلك ليعلى بن أمية، ثم لعبد الرحمن بن سمرة، حتى إنه
«صلى الله عليه وآله»
ما ترك من أمرهم حرفاً واحداً لم يذكره.
فقد ذكر الزهري:
أنهم لما عادوا أنفذ خالد
رجلاً يقال له عبد الرحمن بن سمرة إلى النبي «صلى الله عليه وآله»
بالخبر، قال عبد الرحمن: فسرت إلى النبي «صلى الله عليه وآله»،
فلما وصلت إلى المسجد قال لي رسول الله «صلى الله عليه وآله»: على
رسلك يا عبد الرحمن، ثم قال: أخذ اللواء زيد فقاتل به فقتل الخ..([14]).
وروى البيهقي عن ابن عقبة، قال:
«قدم
يعلى بن أمية على رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
بخبر أهل مؤتة، فقال رسول الله«صلى
الله عليه وآله»:
إن شئت أخبرني، وإن شئت أخبرك بخبرهم.
قال:
بل أخبرني يا رسول الله، فأخبره رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
خبرهم كله.
فقال:
والذي بعثك بالحق، ما تركت من حديثهم حرفاً واحداً
لم تذكره، وإن أمرهم لكما ذكرت.
فقال رسول الله «صلى الله عليه
وآله»:
«إن
الله عز وجل رفع لي الأرض حتى رأيت معتركهم، ورأيتهم في المنام على
سرر من ذهب، فرأيت في سرير عبد الله بن رواحة ازوراراً عن سريريْ
صاحبيه، فقلت: عم هذا؟.
فقيل لي:
مضيا، وتردد بعض التردد، ثم مضى»([15]).
ونقول:
1ـ
قد يكون النبي
«صلى الله عليه وآله»
قد أخبر كلا الرجلين يعلى بن أمية، وعبد الرحمن بن سمرة، بما جرى
في مؤتة..
2 ـ
إن ما ورد في رواية الزهري من أن زيداً كان أول من
أخذ اللواء لا يصح.. بل كان جعفر بن أبي طالب هو الأول كما تقدم.
3 ـ
قد تضافرت الروايات: في أنه
«صلى الله عليه وآله» قد نعى لأهل المدينة القادة الثلاثة ووصف لهم
ما جرى قبل وصول الخبر إليهم([16])،
لأن الله تعالى قد رفع له الأرض حتى رأى معتركهم كما في حديث يعلى
بن أمية..
وعن الإمام الصادق «عليه
السلام» قال:
بينا رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
في المسجد إذ خفض له كل رفيع، ورفع له كل خفيض حتى نظر إلى جعفر
«عليه
السلام»
وهو يقاتل الكفار، فقال رسول الله
«صلى الله عليه وآله»:
قتل جعفر. وأخذه المغص([17]).
والذي نريد أن نقرره هنا:
هو أن رؤية النبي
«صلى الله عليه وآله»
لأهل مؤتة، ورفع كل خفيض، وخفض كل رفيع من الأرض له ليس بالأمر
الخارج عن سياق الحركة الطبيعية بالنسبة إليه
«صلى الله عليه وآله»..
بل هو جارٍ وفق ما رسمه الله تعالى لنبيه
«صلى الله عليه وآله»
من وظائف، وقرره من مهمات، وهيأ له كافة القدرات والوسائل التي
تمنحه القدره على إنجازها.. فإن مقام الشاهدية على الأمة وعلى
الأنبياء السابقين
«عليهم
السلام»
الذي نطق به القرآن وهو من شؤون النبوة الخاتمة يقضي بتحقق هذا
الشهود النبوي المباشر لما جرى في مؤتة..
فأما شاهديته على هذه الأمة فقد أشير إليه في قوله
تعالى: {يَا
أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً
وَنَذِيراً، وَدَاعِياً إِلَى اللهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجاً
مُّنِيراً}([18]).
وقال سبحانه:
{إِنَّا
أَرْسَلْنَاكَ شَاهِداً وَمُبَشِّراً وَنَذِيراً}([19]).
وعن شاهديته
«صلى الله عليه وآله»
على الأنبياء
«عليهم
السلام»
قال تعالى: {فَكَيْفَ
إِذَا جِئْنَا مِن كُلِّ أمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى
هَؤُلاء شَهِيداً}([20]).
وقال سبحانه:
{وَيَوْمَ
نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِم مِّنْ أَنفُسِهِمْ
وَجِئْنَا بِكَ شَهِيداً عَلَى هَؤُلاء}([21]).
وهذه الشاهدية تعني رؤية
«صلى الله عليه وآله»
بأعمال العباد، وبكل ما يقع في دائرة مسؤولياته، على مستوى الحضور
والشهود وقد يسرها الله له حين جعله يرى من خلفه، وتنام عيناه ولا
ينام قلبه، إذ لولا ذلك لم يتمكن من الشهادة على الناس في حال
نومه، أو حين يكونون خلف ظهره.
ولابد أن يكون من وسائل ذلك
أيضاً:
أن يرفع له الخفيض من الأرض، ويخفض الرفيع، بمعنى أن لا تمنعه
الحواجز من مشاهدة أعمالهم، وأن يتمكن من رؤية نواياهم، ويطَّلع
على حالاتهم النفسية، فيرى الحب والبغض، والغبطة والحسد، والفرح
والحزن، وما إلى ذلك، وأن يكون مجهزاً بما يمكنه من الإحاطة بذلك
كله بالنسبة إلى الأمة بأسرها، حتى بعد استشهاده
«صلى
الله عليه وآله».
بل لابد أن يكون له درجة أو نوع من الحضور والشهود
بالنسبة للأنبياء السابقين
«عليهم
السلام»،
ليتمكن من أن يشهد على أعمالهم في يوم القيامة، وفق ما دلت عليه
الآيات المشار إليها..
وهذا معناه:
أن له حياة من نوع ما، حتى في تلك الأحقاب والأزمان، يمكن أن يصدق
معها قوله
«صلى
الله عليه وآله»:
أو
«كنت
نبياً (أو نبئت) وآدم بين الروح والجسد»([22]).
4 ـ
وآخر ما نحب الإشارة إليه هنا: هو أن النبي الأكرم
«صلى الله عليه وآله»
كان يريد أن يحفظ إيمان الناس، وأن يربط على قلوبهم، ويقوي من
عزيمتهم من خلال ربطهم بالغيب، وإفهامهم أنهم في موضع رعاية الله،
وفي محل عنايته.. وأن تضييع النصر الأكبر على يد خالد لا يعني أن
يهيمن عليهم الشعور بالخيبة، وأن يستسلموا لمشاعر الفشل. فإن الله
الذي يرفع كل وضيع، ويخفض كل رفيع من الأرض لنبيه
«صلى الله عليه وآله»
قادر على إسقاط جبروت الملوك، وتحطيم كبريائهم الظالم..
وعلى كل حال،
فإن الهاربين بقيادة خالد حين اقتربوا من المدينة
لقيهم الصبيان يشتدون، ورسول الله
«صلى الله عليه وآله»
مقبل مع القوم على دابة، فقال: خذوا الصبيان فاحملوهم، واعطوني ابن
جعفر، فإتي بعبد الله بن جعفر، فأخذه فحمله بين يديه([23]).
وروى إسحاق، عن عروة، قال:
لما أقبل أصحاب مؤتة، تلقاهم رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
والمسلمون معه([24]).
قال:
وجعل الناس يحثون على الجيش التراب، ويقولون: يا
فرار، فررتم في سبيل الله!!
قال:
فيقول رسول الله
«صلى الله عليه وآله»:
«ليسوا
بالفُرَّار ولكنهم الكُرَّار إن شاء الله تعالى»([25]).
وروي نحو ذلك:
عن أبي سعيد الخدري([26]).
وروى أحمد، وأبو داود، وابن
ماجة عن عبد الله بن عمر قال:
«كنت
في سرية من سرايا رسول الله
«صلى الله عليه وآله»،
فحاص الناس وكنت فيمن حاص([27]).
وفي رواية:
فلما لقينا العدو في أول غادية، فأردنا أن نركب
البحر، فقلنا: كيف نصنع وقد فررنا من الزحف؟
ثم قلنا:
لو دخلنا المدينة (قُتلنا)، فقدمنا المدينة في نفر
ليلاً، فاختفينا.
ثم قلنا:
لو عرضنا أنفسنا على رسول الله «صلى الله عليه
وآله» فاعتذرنا إليه، فإن كانت لنا توبة وإلا ذهبنا.
فأتيناه قبل صلاة الغداة، فخرج
فقال:
«من
القوم»؟
قلنا:
نحن الفَرارون.
قال:
«بل
أنتم الكرارون، وأنا فئتكم..».
أو قال:
«وأنا
فئة كل مسلم».
قال:
فقبلنا يده([28]).
حدثني داود بن سنان قال:
سمعت ثعلبة بن أبي مالك يقول: انكشف خالد بن الوليد
يومئذٍ، حتى عيروا بالفرار، وتشاءم الناس به([29]).
قال الواقدي أيضاً:
حدثني خالد بن إلياس، عن أبي بكر بن عبد الله بن
عتبة، يقول: ما لقي جيش بعثوا معنا ما لقي أصحاب مؤتة من أهل
المدينة، لقيهم أهل المدينة بالشر، حتى إن الرجل لينصرف إلى بيته
وأهله، فيدق عليهم الباب، فيأبون أن يفتحوا له، يقولون: ألا تقدمت
مع أصحابك؟
فأما من كان كبيراً من أصحاب رسول الله
«صلى الله عليه وآله»،
فجلس في بيته استحياء، حتى جعل النبي
«صلى الله عليه وآله»
يرسل إليهم رجلاً رجلاً، يقول: أنتم الكُرار في سبيل الله! فخرجوا([30]).
حدثني مصعب بن ثابت،
عن عامر بن عبد
الله بن الزبير، عن أبي بكر بن عبد الرحمن بن الحارث بن هشام، قال:
كان في ذلك البعث سلمة بن هشام بن المغيرة، فدخلت
امرأته على أم سلمة زوج النبي
«صلى الله عليه وآله»
فقالت أم سلمة: ما لي لا أرى سلمة بن هشام؟ أشتكى شيئاً؟
قالت امرأته:
لا والله، ولكنه لا يستطيع الخروج. إذا خرج صاحوا
به وبأصحابه:
«يا
فُرار، أفررتم في سبيل الله»؟
حتى قعد في البيت.
فذكرت ذلك أم سلمة لرسول الله
«صلى الله عليه وآله»،
فقال رسول الله
«صلى الله عليه وآله»،
بل هم الكرار في سبيل الله، فليخرج! فخرج([31]).
حدثني خالد بن إلياس، عن
الأعرج، عن أبي هريرة، قال:
كنا نخرج ونسمع ما نكره من الناس، لقد كان بيني وبين ابن عم لي
كلام، فقال: إلا فرارك يوم مؤتة! فما دريت أي شيء أقوله له.
الرسول
:
رؤوف رحيم:
ونقول تعليقاً على ما تقدم:
لقد عرف الناس كلهم هذا النبي الكريم
«صلى الله عليه وآله»
بالرحمة والرأفة بالمؤمنين، وبمناهضة التعدي والظلم، من أي إنسان
على أي كان من الناس..
وقد نوه القرآن الكريم بهذه الخصال فيه، ومدحه
عليها، بل أظهر بما لا يقبل الشك أنها متجذرة في أعماق أعماقه، حتى
ليكاد يظن بعض الناس من ذوي الأفهام القاصرة: أنها قد تجاوزت حدود
ما هو مطلوب..
قال تعالى:
{فَبِمَا
رَحْمَةٍ مِّنَ الله لِنتَ لهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظّاً غَلِيظَ
الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ}([32]).
وقال سبحانه:
{لَقَدْ
جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا
عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ}([33]).
غير أننا نلاحظ:
أن أهل المدينة يخرجون لاستقبال الجيش العائد،
بقيادة خالد، ثم يحثون التراب في وجه العائدين، ويصيحون في وجوههم:
يا فرار، فررتم في سبيل الله.. ورسول الله
«صلى الله عليه وآله»
حاضر وناظر، لا يلوم أحداً على فعله، ولا يظهر تغيظاً، ولا يعاقب،
ولا يطالب.. مع أنه نصير كل مظلوم، وإنما يكتفي بالتفوه بكلمات
يسيرة على سبيل تطييب الخاطر، والسعي لإعادة المعنويات المنهارة..
بل إن هؤلاء العائدين بالفشل لا يجرؤون على شكوى
أحد من الناس الذين يواجهونهم بالتأنيب واللوم إلى رسول الله
«صلى الله عليه وآله»،
بل يكتفون بالاختباء في بيوتهم، رغم أنهم لم يقترفوا ذنباً، ولا
ارتكبوا خطيئة، لا عند الشرع، ولا بنظر العرف.
كما أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» نفسه لا
يسأل عن أحد منهم، ولا يتساءل عن سبب غيبتهم عن جماعته، وعن مجلسه،
وعن جميع المنتديات والمجالس.
ويتأكد مضمون هذا السؤال إذا لاحظنا أن المختبئين
في البيوت هم أصحاب الشأن، والأعيان منهم، حسبما صرحت به
الروايات..
وإنما قلنا:
أنهم لم يرتكبوا ذنباً بنظر الشرع، لأن الفقهاء قد
ذكروا: أنه
يجوز الهرب
في الجهاد
في أحوال ثلاثة:
الأولى:
أن يزيد عدد الكفار على ضِعْفِ
عدد المسلمين،
والدليل على الجواز:
1 ـ
قوله تعالى:
{الآنَ
خَفَّفَ اللهُ عَنكُمْ وَعَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِن يَكُن
مِّنكُم مِّئَةٌ صَابِرَةٌ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن
مِّنكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُواْ أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللهِ وَاللهُ
مَعَ الصَّابِرِينَ}([34]).
2 ـ
ما
رواه العامة عن ابن عباس، قال: «من فر من اثنين فقد فر، ومن فر من
ثلاثة فما فر»([35]).
3 ـ
ما روي
من طريق الخاصة:
عن
الصادق «عليه
السلام»:
«من فر من رجلين في القتال من الزحف فقد فر، ومن فر من ثلاثة في
القتال من الزحف فلم يفر»([36]).
الحالة الثانية:
أن يترك
القتال، ولكن
لا بنية الهرب، بل
لأجل أن
ينصرف ليكمن في موضع،
ثم يهجم.
الحالة الثالثة:
أن يتحيز إلى فئة،
وهو: أن
ينصرف على قصد أن يذهب إلى طائفة ليستنجد بها في
القتال([37]).
وعلى هذا فإنه إذا كان عدد الفارين ثلاثة آلاف،
والجيش الذي يواجههم يعد بمئات الألوف، فلماذا يلامون على الفرار؟
ولماذا يطردون؟ ولماذا يعيرون؟! ولماذا؟! ولماذا؟!
وأما قوله
«صلى الله عليه وآله»
للذين اعترفوا أمامه بالفرار من الزحف:
«بل
أنتم الكرارون، وأنا فئتكم، أو قال: وأنا فئة كل مسلم»
فأراد
«صلى الله عليه وآله»
به أن يؤيد اعترافهم بالفرار، ثم يخفف من وطأة ذلك على نفوسهم حين
يقرر أن فرارهم يدخل في سياق التحيز إلى فئة، وبذلك يكون قد خفف
عنهم بعض الألم الذي كان يعتصر قلوبهم..
وبتعبير آخر أوضح وأصرح:
إنه
«صلى الله عليه وآله»
إنما قال ذلك لهم على سبيل التشبيه والتنزيل والمجاز، لا على سبيل
الحقيقة، إذ ليس في ظاهر حالهم حين فرارهم ما يدل على أنهم كانوا
يقصدون بهذا الفرار التحيز إلى فئة. بل كان همهم النجاة بأنفسهم
وحسب.
ولكن النبي
«صلى الله عليه وآله»
ـ كما قلنا ـ قد أراد معالجة سلبيات الهزيمة بهذا النحو من التخفيف
والتلطيف، واعتبارهم كأنهم قد تحيزوا إلى فئة، حتى قال لهم: وأنا
فئتكم.
ولو كان كلامه
«صلى الله عليه وآله»
جار على سبيل الحقيقة، لم يحتج إلى بيان من هو الفئة لهم..
والأمر الأكثر إثارة، والأشد غرابة والأوضح دلالة،
أن يبلغ الخوف بالفارين من الزحف حداً يجعلهم يصرحون بأنهم لو
دخلوا المدينة قتلوا..
فإن هذا الخوف لا يكون لمجرد تحيزهم إلى فئة، بل هو
فرارهم من الزحف..
إن لم نقل:
إن ذلك قد يثير احتمال ظهور تواطؤ أو خيانة منهم
اكتشفها المسلمون، فأثارت لدى مرتكبيها احتمالات القتل..
ويتأكد هذا الذي ذكرناه مع علم
الجميع:
بأن الفرار من وجه جيش يزيدهم عشرات الأضعاف، لا
يوجب للفارين أية مجازاة أو عقوبة. أو لوم.
عن الزهري:
أن النبي
«صلى
الله عليه وآله»
لما أخبر الناس بقتل القادة الثلاثة
«بكى
أصحاب رسول الله
«صلى
الله عليه وآله»،
وهم حوله، فقال لهم النبي
«صلى
الله عليه وآله»:
«وما
يبكيكم»؟
فقالوا:
وما لنا لا نبكي، وقد ذهب خيارنا وأشرافنا، وأهل
الفضل منا؟!
فقال لهم «صلى الله عليه وآله»:
لا تبكوا، فإنما مثل أمتي مثل حديقة قام عليها
صاحبها، فأصلح رواكبها، وبنى مساكنها، وحلق سعفها، فأطعمت عاماً
فوجاً، ثم عاماً فوجاً، ثم عاماً فوجاً.
فلعل آخرها طعماً أن يكون أجودها قنواناً، وأقومها
شمراخاً!!
والذي بعثني بالحق نبياً، ليجدن عيسى بن مريم في
أمتي خلفاً من حواريه»([38]).
ونقول:
إن كلام رسول الله
«صلى
الله عليه وآله»
هنا يكاد يكون صريحاً في أنه يدين ما صدر من الفارين في مؤتة، فإنه
أشار إلى أن قتل الخيار لابد أن يعقبه أن تنجب الأمة فوجاً آخر من
هؤلاء الخيار.
ولعل الفوج الأخير ـ الذي هو من أنصار المهدي
«عليه
السلام»
ـ سوف يكون خيراً من حواري عيسى
«عليه
السلام»
نفسهم.. وسيلمس عيسى
«عليه
السلام»
ذلك حينما يظهر مع الإمام
«عليه
السلام»،
ليقيم الحجة على النصارى في أمر بشريته، وتابعيته لوصي محمد
«صلى
الله عليه آله»،
حيث يصلي خلفه، ويكون من أعوانه..
فيلاحظ:
أنه
«صلى الله عليه وآله»
لم يشر بشيء إلى أي نصر أنجزه خالد ومن معه، فضلاً عن تحقيق ما
يستحق أن يسمى فتحاً.. بل هو
«صلى
الله عليه آله»
قد قبل بأن المقتولين هم خيار أصحابه، وأشرافهم، وأهل الفضل فيهم..
ولا يرى في الذين سلموا في مؤتة خلفاً من الذين قتلوا، بل لابد من
انتظار ظهور فوج جديد من الأخيار، والأشراف، وأهل الفضل.
ونستطيع بعد كل هذا الذي ذكرناه وقررناه، أن نؤكد
على أن كل الدلائل تشير إلى أن الفارين كانوا عارفين بعظيم جرمهم،
وقبح جنايتهم، كما أن أهل المدينة كانوا عارفين بذلك، وكذلك رسول
الله
«صلى الله عليه وآله»..
وقد كان واضحاً للجميع:
أن النبي
«صلى الله عليه وآله»
قد أرسلهم لإنجاز مهمة كبرى كان يعرف حجمها، ولابد ان يكون قد رسم
لهم معالم حركتهم فيها، وحدد كل تفاصيلها، ولابد أن يكون عارفاً
بجموع قيصر ونواياه وخططه، وكيف لا يكون كذلك، وهو قد اثبت أن لديه
قدرة فائقة على رصد حركة أعدائه في مختلف البقاع والأصقاع مهما
اختلفت الفئات والأنواع.
وكانت هذه المهمة من الخطورة بحيث تستحق أن يضحي من
أجلها بمثل جعفر، وزيد، وابن رواحة، ولعلها كانت ستنتهي بالانتصار
على جيوش قيصر، وربما بأسره، وإسلام البلاد التي يحكمها أو كان له
نفوذ فيها.. ولعل هذا النصر كان سيتحقق بعد استشهاد القادة بيسر،
ولكن الفرار قلب الأمور، فوقع المحذور.
ولذلك لم يتمكن الفارون من تقديم أي عذر أو تأويل،
بل ربما كانوا خائفين من وصول الأمور إلى حد اتخاذ القرار بقتلهم.
ولذلك لم يتساهل أهل المدينة معهم، بل حثوا التراب
في وجوههم وطردوهم، ولم يفتحوا لهم أبواب بيوتهم، كما أن النبي
الكريم، والرؤوف الرحيم بالمؤمنين لم يعترض على أحد من أهل المدينة
فيما يفعل، ولم يردعهم عن شيء من تصرفاتهم التي تدخل في سياق
الإهانة والتحقير لهذا الجيش..
وقد قلنا آنفاً:
أن الفرار من جيش يفوق عدده عدد جيش المسلمين
بعشرات الأضعاف ليس جرماً ولا حراماً..
وهذا يدلنا:
على أن القضية لم تكن قضية فرار وحسب، وإنما هي
أدهى وأكبر، وأعظم، وأمر وأخطر، لأنها قضية تضييع أعظم نصر عرفه
تاريخ البشرية.
واقتصر الأمر على مجرد تراجع جيش الروم عن تصميمه
بمهاجمة المسلمين في عمق بلادهم، وفي عقر دارهم، في المدينة
نفسها..
إذ إننا نرى:
أن هرقل بعد أن انتصر على كسرى، طمع بالإستيلاء على
الحجاز ليؤكد شوكته، وليعزز سلطانه..
فجاء بالجيوش بحجة المشي إلى بيت المقدس وفاءً
بنذره، فبادر رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
لمباغتته بخطة تبطل كيده، وتمزق جنده، فضيع ذلك خالد بهزيمته
النكراء تلك. وإلا فكيف نفسر وجود هذه الجيوش الهائلة التي تعد
بمئات الألوف في منطقة الأردن القريبة من الحجاز، بل هي على مشارفه،
وقد ظهر مصداق هذا النصر في الحرب التي لم تسفر رغم امتدادها
أياماً سوى عن ثمانية، وقيل: اثني عشر قتيلاً على أبعد التقادير.
مع أن العادة تقضي بأن جيشاً، قد يصل عدده إلى نصف
مليون مقاتل لا يحتاج إلى استئصال ثلاثة آلاف مقاتل إلى أكثر من
نهار.
النبي
..
وعائلة جعفر:
عن أسماء بنت عميس رحمها الله
قالت:
دخل علي رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
يوم أصيب جعفر وأصحابه، فقال:
«إيتيني
ببني جعفر».
فأتيته بهم فضمهم، وشمهم، وذرفت عيناه، فقلت: يا
رسول الله بأبي أنت وأمي، ما يبكيك؟ أبلغك عن جعفر وأصحابه شئ؟
قال:
«نعم
أصيبوا هذا اليوم».
قالت:
فقمت أصيح. واجتمع إليَّ النساء([39]).
زاد الواقدي وابن سعد:
فجعل رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
يقول: يا أسماء، لا تقولي هجراً، ولا تضربي صدراً.
قالت:
فخرج رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
حتى دخل على ابنته فاطمة
«عليها
السلام»
وهي تقول: وا عماه.
فقال «صلى الله عليه وآله»:
على مثل جعفر فلتبكي الباكية، ثم قال: اصنعوا لآل
جعفر طعاماً، قد شغلوا عن أنفسهم اليوم([40]).
وقال الواقدي:
حدثني محمد بن مسلم، عن يحيى بن أبى يعلى، قال:
سمعت عبد الله بن جعفر يقول: أنا أحفظ حين دخل رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
على أمي، فنعى لها أبي، فأنظر إليه وهو يمسح على رأسي ورأس أخي،
وعيناه تهراقان الدموع حتى تقطر لحيته. ثم قال: اللهم إن جعفراً قد
قدم إلى أحسن الثواب، فاخلفه في ذريته بأحسن ما خلفت أحداً من
عبادك في ذريته.
ثم قال:
يا أسماء، أ لا أبشرك؟
قالت:
بلى، بأبى وأمى.
قال:
فإن الله عز وجل جعل لجعفر جناحين يطير بهما في
الجنة.
قالت:
بأبى وأمى يا رسول الله، فأعلِم الناس ذلك!
فقام رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
وأخذ بيدى، يمسح بيده رأسي حتى رَقِي على المنبر، وأجلسني أمامه
على الدرجة السفلى، والحزن، يعرف عليه، فتكلم فقال: إن المرء كثير
بأخيه وابن عمه. ألا إن جعفراً قد استشهد، وقد جعل الله له جناحين
يطير بهما في الجنة.
ثم نزل
«صلى الله عليه وآله»،
فدخل بيته، وأدخلني، وأمر بطعام فصنع لأهلي، وأرسل إلى أخى فتغدينا
عنده ـ والله ـ غداء طيباً مباركاً، عمدت سلمى خادمته إلى شعير
فطحنته، ثم نسفته، ثم أنضجته، وأدمته بزيت، وجعلت عليه فلفلاً.
فتغديت أنا وأخي معه،
فأقمنا عنده ثلاثة أيام في بيته، ندور معه كلما صار
في إحدى بيوت نسائه، ثم رجعنا إلى بيتنا، فأتى رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
بعد ذلك وأنا أساوم بشاة أخٍ لي، فقال: اللهم بارك في صفقته.
فقال عبد الله:
فما بعت شيئاً ولا اشتريت إلا بورك فيه([41]).
وعن الإمام الصادق «عليه
السلام» قال:
إن النبي
«صلى الله عليه وآله»
حين جاءته وفاة جعفر بن أبي طالب، وزيد بن حارثة كان إذا دخل بيته
كثر بكاؤه عليهما جداً، ويقول: كانا يحدثاني ويؤنساني، فذهبا
جميعاً([42]).
عن خالد بن الوليد قال:
لما أصيب زيد بن حارثة أتاه النبي
«صلى الله عليه وآله»،
فجهشت بنت زيد في وجه رسول الله، فبكى
«صلى الله عليه وآله»
حتى انتحب (أي رفع صوته في البكاء).
فقال له سعد بن عبادة:
يا رسول الله، ما هذا؟!
قال «صلى الله عليه وآله»:
هذا شوق الحبيب إلى حبيبه([43]).
وعن الإمام السجاد «عليه
السلام»:
ما من يوم أشد على رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
من يوم أحد، قتل فيه عمه حمزة بن عبد المطلب، أسد الله، وأسد
رسوله.
وبعده يوم مؤتة قتل فيه ابن عمه جعفر بن أبي طالب.
ثم قال «عليه السلام»:
لا يوم كيوم الحسين، ازدلف إليه ثلاثون ألف رجل
الخ..([44]).
وعن العباس بن موسى بن جعفر
قال:
سألت أبي
«عليه
السلام»
عن المأتم، فقال: إن رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
لما انتهى إليه قتل جعفر بن أبي طالب دخل على أسماء بنت عميس امرأة
جعفر، فقال: أين بني؟!
فدعت بهم، وهم ثلاثة:
عبد الله، وعون، ومحمد. فمسح رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
رؤوسهم، فقالت: إنك تمسح رؤوسهم كأنهم أيتام!
فعجب رسول الله «صلى الله عليه
وآله» من عقلها، فقال:
يا أسماء، الم تعلمي أن جعفراً رضوان الله عليه
استشهد؟!
فبكت، فقال لها رسول الله «صلى
الله عليه وآله»:
لا تبكي، فإن الله أخبرني أن له جناحين في الجنة من
ياقوت أحمر.
فقالت:
يا رسول الله، لو جمعت الناس وأخبرتهم بفضل جعفر،
لا ينسى فضله.
فعجب رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
من عقلها.
ثم قال:
ابعثوا إلى أهل جعفر طعاماً فجرت السنة([45]).
وقالوا أيضاً:
لما قتل جعفر بمؤتة، أمهل النبي
«صلى الله عليه وآله»
آل جعفر أن يأتيهم ثلاثة أيام، فندبوا.
ثم قال:
لا تبكوا على أخي بعد اليوم، وقال: إن له جناحين
يطير بهما حيث شاء من الجنة([46]).
1 ـ
إن المصائب التي تحل بالناس، ولاسيما فقد الأحبة،
قد تخرجهم عن حالة التوازن، فتصدر منهم بعض التصرفات غير المقبولة
ولا المعقولة.. فإذا تركوا، فقد يتفاقم الأمر، ليص إلى حد الخروج
عن دائرة الشرع وأحكام الدين..
ولذلك، كان من المستحسن إذا ظهرت بوادر هذا
الاختلال، المبادرة إلى وضع حد يمنع من الانسياق مع أجواء الانفعال
هذه لتبقى الأمور تحت السيطرة، وفي دائرة الانضباط..
والظاهر:
أن ما ظهر من أسماء بنت عميس في حضرة رسول الله
«صلى الله عليه وآله»،
حين أخبرها باستشهاد زوجها جعفر بن أبي طالب يدخل في هذا السياق،
فإن صياحها بحضرة الرسول
«صلى الله عليه وآله»،
واجتماع النساء إليها قد أظهر أنها قد تخرج تحت تأثير الفاجعة عن
حدود الاتزان المعقول والمقبول في كلامها، وفي حركتها الإنفعالية
التصعيدية..
فبادر النبي
«صلى الله عليه وآله»
إلى وضع حدٍ لهذا التصعيد حين جعل يقول لها: لا تقولي هجراً، ولا
تضربي صدراً.. مع ملاحظة: أن سياق هذا التعبير يعطي أنه
«صلى الله عليه وآله»
قد كرر قوله هذا لها.
2 ـ
يضاف إلى ما تقدم: أن رسول الله
«صلى الله عليه وآله»
يعلم: أن الناس يتعاملون مع أقواله، وأفعاله، وكل ما يفعل بحضرته
مع سكوته عنه، وقدرته على القبول والرد.. على أنه مسنون ومشروع..
فإذا لطمت أسماء صدرها بحضرته، وسكت عنها رسول الله
«صلى الله عليه وآله»..
فسيفهم الناس أن ذلك مما يشرع أو يسنّ في الشريعة بالنسبة إلى كل
بيت، وقد يدخل ذلك في صميم عادات الناس وممارستهم حين يفقدون أحداً
من أعزائهم.
مع أن الشهيد الذي يحسن إظهار الجزع في مأتمه،
ويكون لطم الصدور فيه راجحاً هو الإمام الحسين
«عليه
السلام»،
لأن في ذلك قوة للدين، وترسيخاً للإيمان واليقين.. فلابد من حفظ
الخصوصية له صلوات الله وسلامه عليه من أجل ذلك..
فالنهي عن لطم الصدر هنا لا يعني أنه حرام، بل هو
هنا لأجل أن لا يستفاد من ذلك مطلوبية هذا الأمر، بالنسبة لكل من
مات أو استشهد..
1 ـ
ثم إن هناك نوعاً من الناس يحمل مزايا فريدة،
ويتميز بإنسانية عالية وكاملة ورائدة، وأمثولة للفضيلة حية، فإذا
مات أو استشهد فلابد أن يبكيه الناس كلهم، لأن فقده يعنيهم كلهم.
وخسارة لهم جميعاً..
وقد بين النبي
«صلى الله عليه وآله»
مواصفات هؤلاء الناس من خلال النموذج الذي قدمه لهم على أنه يحمل
هذه المزايا والمواصفات، وذلك حين قال: على مثل جعفر فلتبك البواكي([47]).
فالبكاء على جعفر إنما هو لأجل ما ذكرناه، لا لأنه
في نسبه قريب أو صاحب أو حبيب.
وقد أوضح نص آخر:
أن هذه المزايا لا حد لها ولا حصر لها في شخصية
جعفر
«عليه
السلام».
فقد روي أنه
«صلى الله عليه وآله»
قال لفاطمة
«عليها
السلام»،
حين قتل جعفر بن أبي طالب: لا تدعي بذل، ولا ثكل، ولا حَرَبٍ. وما
قلت فيه فقد صدقت([48]).
فهذه العبارة الأخيرة قد أفسحت المجال لكل قول يبين
سجايا جعفر ومزاياه الفاضلة، مهما كان نوع ومستوى ما يقال من تلك
السجايا والمزايا. لأن كل ما يقال فيه من فضل، فهو صدق وحق وعدل..
وهذه المزايا إذا اجتمعت وتكاملت في أيٍ كان من
الناس، فإنه يصبح مثلاًَ أعلى، وأسوة وقدوة، يحس الناس كلهم
بالحاجة إليه، ويكون إلحاق الأذى به بمثابة التعدي عليهم، وإلحاق
الأذى بهم كلهم.
فلماذا إذن لا يبكون إذا فقد، ولا يحنون إليه إذا
غاب.
2 ـ
ومن جهة ثانية إن هذه الكلمة وكذا النصوص المصرحة
ببكاء النبي
«صلى
الله عليه وآله»
على جعفر
«عليه
السلام»،
وزيد بن حارثة
«رحمه
الله»،
قد جاءت لتؤكد على مشروعية البكاء على الميت، بل على مطلوبيته
بالنسبة لبعض من يموت أو يستشهد، من الأتقياء الأبرار، والعلماء
الأخيار.. فلا يصح ما يزعمونه من المنع عن ذلك، وقد أشرنا إلى هذه
الحقيقة في أكثر من موضع من هذا الكتاب.
وإذا أردنا أن نتصور مدى حزن النبي
«صلى الله عليه وآله»
على جعفر، فعلينا أن نتذكر عودة جعفر من الحبشة، فقد كان سرور
النبي
«صلى الله عليه وآله»
بقدومه منها يوازي سروره بفتح الله خيبراً على يد أخيه علي
«عليه
السلام»،
أو يزيد عليه..