عـيـيـنـة وبـنـو تمـيــم

   

صفحة :145-182   

عـيـيـنـة وبـنـو تمـيــم

سرية عيينة إلى بني تميم:

وفي سنة ثمان كانت سرية عيينة بن حصن إلى بني العنبر (أو العتير)، من بني تميم، فأغار عليهم، وسبى منهم نساء([1]).

وقيل: إن ذلك كان سنة تسع([2]).

وسبب ذلك: أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» بعث رجلاً من بني سعد ـ هُذيم ـ على صدقاتهم، وأمره رسول الله «صلى الله عليه وآله»: أن يأخذ العفو، ويتوقى كرائم أموالهم.

فخرج بشر بن سفيان الكعبي إلى بني كعب، فأمر بجمع مواشي خزاعة، ليأخذ منها الصدقة، فحشرت عليهم خزاعة الصدقة في كل ناحية، فاسكثرت ذلك بنو تميم (لكونهم لئاماً)، فقالوا: ما هذا؟! أتؤخذ أموالكم منكم بالباطل؟ فشهروا السيوف.

فقال الخزاعيون: نحن قوم ندين بدين الإسلام، وهذا أمر ديننا.

فقال التميميون: لا يصل إلى بعير منها أبداً.

(وفي رواية: أن خزاعة وبني العنبر أعانوا بني تميم)([3]).

فهرب المصدق، وقدم على رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فأخبره الخبر.

فوثبت خزاعة على التميميين، فأخرجوهم من محالهم، وقالوا: لولا قرابتكم ما وصلتم إلى بلادكم، ليدخلن علينا بلاء من محمد «صلى الله عليه وآله» حيث تعرضتم لرسوله، تردونه عن صدقات أموالنا، فخرجوا راجعين إلى بلادهم.

فقال «صلى الله عليه وآله»: «من لهؤلاء القوم (الذين فعلوا ما فعلوا)»؟

فانتدب أول الناس عيينة بن حصن الفزاري، فبعثه رسول الله «صلى الله عليه وآله» في خمسين فارساً من العرب، ليس فيهم مهاجري، ولا أنصاري. فكان يسير الليل ويكمن النهار، فهجم عليهم في صحراء قد حلوا [بها]، وسرحوا مواشيهم.

فلما رأوا الجمع ولُّوا. فأخذ منهم أحد عشر رجلاً، ووجد في المحلة إحدى وعشرين امرأة. كذا في العيون.

وقال محمد بن عمر وابن سعد، وتبعهما في الإشارة والمورد: إحدى عشرة امرأة وثلاثين صبياً.

فجلبهم إلى المدينة، فأمر بهم رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فحبسوا في دار رملة بنت الحارث. فقدم فيهم عدة من رؤسائهم([4]).

فقدم منهم عشرة من رؤسائهم: العطارد بن حاجب بن زُرَارة، والزبزقان بن بدر، وقيس بن عاصم، وقيس بن الحارث، ونعيم بن سعد، وعمرو بن الأهتم، والأقرع بن حابس، ورياح بن الحارث بن مجاشع، فدخلوا المسجد قبل الظهر، وسألوا عَن سبيهم، فأخبروهم، فجاؤوهم، فبكى الذراري والنساء.

فرجعوا إلى المسجد، ورَسُول الله «صلى الله عليه وآله» يومئذٍ في بيت عائشة، وقد أذّن بلال بالظهر، والناس ينتظرون خروجه «صلى الله عليه وآله»، فعجلوا خروجه، فنادوا: يا محمد، أُخرج إلينا.

فقام إليهم بلال، فقال: إن رسول الله «صلى الله عليه وآله» يخرج الآن.

فاشتهر أهل المسجد أصواتهم، فجعلوا يخفقون بأيديهم.

فخرج رَسُول الله «صلى الله عليه وآله»، وأقام بلال الصلاة، وتعلقوا به يكلمونه، فوقف رَسُول الله «صلى الله عليه وآله» معهم بعد إقامة بلال الصلاة مليَّاً، وهم يقولون: أتيناك بخطيبنا وشاعرنا، فاستمع منا.

فتبسم النبي «صلى الله عليه وآله» ثم مضى فصلّى بالناس الظهر، ثم انصرف إلى بيته، فركع ركعتين، ثم خرج فجلس في صحن المسجد.

وقدّموا عطارد بن حَاجب التميمي، فخطب، فقال: الحمد لله الذي له الفضل علينا، والذي جعلنا ملوكاً، وأعطانا الأموال، (أو: ووهب لنا أموالاً عظاماً) نفعل فيها المعروف، وجعلنا أعزّ أهل المشرق، وأكثرهم مالاً، وأكثرهم عدداً، فمن مثلنا في الناس؟

ألسنا رؤوس الناس وذوي فضلهم؟ فمن يفاخر فليعدد مثل ما عددنا، ولو شئنا لأكثرنا من الكلام، ولكنا نستحي من الإكثار فيما أعطانا الله، أقول هذا لأن يؤتى بقول هو أفضل من قولنا.

فقال رَسُول الله «صلى الله عليه وآله» لثابت بن قيس: «قم فأجب خطيبهم».

فقام ثابت، وما كان درى من ذلك بشيء، وما هيأ قبل ذلك ما يقول، فقال:

الحمد لله الذي السموات والأرض خلقه، قضى فيهما أمره، ووسع كل شيء علمه، فلم يك شيء إلَّا من فضله، ثم كان ممّا قدّر الله أن جعلنا ملوكاً، اصطفى لنا من خلقه رسولاً، أكرمهم نسباً، وأحسنهم زِياً، وأصدقهم حديثاً، أنزل عليه كتابه، وائتمنه على خلقه، وكان خيرته من عباده، فدعا إلى الإيمان، فآمن المهاجرون من قومه، وذوي رحمه، أصبح الناس وجهاً، وأفضل الناس فعالاً، ثم كنا أول الناس إجابة حين دعا رَسُول الله «صلى الله عليه وآله»، فنحن أنصار الله ورسوله، نقاتل الناس حتى يقولوا لا إله إلاَّ الله، فمن آمن بالله ورسوله منع منّا ماله ودمه، ومن كفر بالله ورسوله جاهدناه في ذلك، وكان قتله علينا يسيراً، أقول قولي هذا وأستغفر الله للمؤمنين والمؤمنات».

ثم جلس.

فقالوا: يا رَسُول الله ائذن لشاعرنا.

فأذن له.

فأقاموا الزبرقان بن بدر فقال (أو أن الزبرقان اقام رجلاً، فقام فقال):

نحـن المـلـوك فـلا حـي يقـاربنـا                 فينا المـلوك وفـيـنـا تـنـصب البيع
وكـم قسـرنـا مـن الأحيـاء كلهم
               عند النهـاب وفضل الخـير يُـتّـبـع
ونحن نطعم عند القحط ما أكلـوا     
        من السّـديـف إذا لم يـؤنـس القزع
ونـنـحر الكـوم عـبـطاً في أرومتنا              للنـازلـين إذا مـا أنـزلـوا شـبـعوا

وذكر بعضهم أبياتاً أخرى معها.

قال ابن هشام: وأكثر أهل العلم ينكرها للزبرقان.

فقال رَسُول الله «صلى الله عليه وآله»: «أجبهم يا حسان بن ثابت»، فقام، فقال:

إن الـذوائـب من فهـر وإِخوتهـم                 قـد شـرعـوا سـنـة للنـاس تـتبع
يـرضـى بها كل من كانت سريرته      تقوى الإله وبالأمر الـذي شرعوا
قـوم إذا حـاربـوا ضـروا عدوهم                 أو حاولوا النفع في أشياعهم نفعوا
سـجـيـة تـلـك منهـم غـير محدثة       إن الخـلائـق فاعـلم شرهـا البدع
لا يـرقـع النـاس ما أوهت أكفهم        عند الدفـاع ولا يـوهون ما رقعوا
ولا يـضـنـون عَـن جـار بفضلهم        ولا يـنــالهـم في مـطـمـع طـبــع
(إن سابقوا الناس يوماً فاز سبقهم             أو وازنوا أهل مجد بالندى متعـوا)
إن كان في النـاس سباقون بعدهم              فكـل سـبـق لأدنـى سـبـقهم تَبَع
أكرم بـقـوم رَسُـول الله شيعتهـم                إذا تـفـرقـت الأهـواء والـشـيــع
أعـفـة ذكـرت في الـوحي عفتهم                لا يـطـمـعـون ولا يـرديهـم طمع
كأنهم في الوغى والمـوت مكـتـنع              أسـد بـبـيـشـة في أرسـاغهـا فدع
لا فـرَّحٌ إن أصـابـوا فـي عدوهم                 وإن أصـيـبـوا فـلا خور ولا جزع
وإن أصـبـنـا لحـي لم نــدبّ لهـم                كـما يـدبّ إلى الـوحـشـيـة الذرع
نـسـمـوا إلى الحـرب نالتنا مخالبها            إذا الـزعـانف من أطرافها خشعوا
خـذ منهم ما أبوا عفوا إذا غضبوا              ولا يكـن همـك الأمر الذي  منعوا
فإن [ في ] حربهم فاترك عـداوتهم             سمَّاً غريضـاً عليه الصاب  والسَّلَع
أهـدى لهـم مـدحـاً قـلب يؤازره         فـيـما أحـب لسـان حـائـك صنع
وأنـهـم أفـضـل الأحـياء كـلّهم           إنْ جدّ بالناس جدّ القول أو شمعوا

(وفي نص آخر: فقام شاعرهم الأقرع بن حابس، فقال:

أتينـاك كيما يعـرف الناس فضلنـا              إذا خـالفـونـا عنـد ذكـر  المكـارم
وأن رؤوس النـاس في كـل معشر              وأن ليس في أرض الحجاز كـوارم

فأمر النبي «صلى الله عليه وآله» حساناً أن يجيبه، فقام، فقال:

بـنـي دارم لا تفـخروا إن فخركم        يـعـود وبـالاً عـنـد ذكـر المكـارم
هـبـلتم علينا تـفـخـرون وأنـتـم          لنـا خـول مـا بـين قـن وخـــادم

فكان أول من أسلم شاعرهم([5]).

وكان رَسُول الله «صلى الله عليه وآله» قد أمر بمنبر، فوضع في المسجد ينشد عليه حسان، وقال: «إنّ الله ليؤيد حسان» (بروح القدس ما دافع عن نبيه).

وخلا الوفد بعضهم إلى بعض، فقال قائلهم (وهو الأقرع بن حابس): تعلمنّ والله أن هذا الرجل مؤيد مصنوع له. والله، لخطيبه أخطب من خطيبنا، ولشاعرهم أشعر من شاعرنا، ولهم أحلم منا.

وأنزل الله على نبيه «صلى الله عليه وآله» في رفع أصوات التميميين. ويذكر أنهم نادوا النبي «صلى الله عليه وآله» من وراء الحُجُرات، فقال: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَرْفَعُوا أَصْوَاتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ} إلى قوله: {أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}([6])، فردّ رَسُول الله «صلى الله عليه وآله» الأسرى والسبي.

(فلما فرغ القوم أسلموا، جوَّزهم رسول الله «صلى الله عليه وآله» [أي أعطاهم الجوائز]، فأحسن جوائزهم).

وقام عمرو بن الأهتم يومئذٍ، فهجا قيس بن عاصم، وكانا جميعاً في الوفد.

وكان رَسُول الله «صلى الله عليه وآله» قد أمر لهم بجوائز، وكان يجيز الوفد إذْ قدموا عليه، ويفُضّل بينهم من العطية على قدر ما يرى، فلمّا أجازهم رَسُول الله «صلى الله عليه وآله» قال: «هل بقي منكم مَنْ لم نجزه».

فقالوا: غلام في الرحل، فقال رَسُول الله «صلى الله عليه وآله»: «أرسلوه نجزه».

فقال قيس بن عاصم: إنه لا شرف له.

قال رَسُول الله «صلى الله عليه وآله»: «وإنْ كان، فإنه وافدٌ وله حقّ».

فقال عمرو بن الأهتم شعراً يريد قيس بن عاصم:

ظللـت مفـترشـاً هلبـاك تشتمني        عند الرسول فلم تصدفْ ولم تصبِ
إنـا وسـؤددنـا عـود وسـؤددكـم         مخلّـف بمكـان الـعـجب والذنب
إن تـبـغـضونا فإن الروم أصلكم        والروم لا تملـك البغضـاء للعرب
وكانت الجائزة لكل واحد منهم اثنا عشر أوقية ونشاً (أي نصفاً)
(
[7]).

صورة أخرى لما حدث:

قال العسقلاني: عن ابن عباس، قال: أصابت بنو العنبر دماء في قومهم، فارتحلوا، فنزلوا بأخوالهم من خزاعة، فبعث رسول الله «صلى الله عليه وآله» مصدقاً إلى خزاعة، فصدقهم، ثم صدق بني العنبر، فلما رأت بنو العنبر الصدقة قد أحرزها وثبوا فانتزعوها، فقدم على رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فقال: يا رسول الله، إن بني العنبر منعوا الصدقة.

فبعث إليهم عيينة بن حصن في سبعين ومائة، فوجد القوم خلوفاً، فاستاق تسعة رجال، وإحدى عشرة امرأة، وصبياناً.

فبلغ ذلك بني العنبر، فركب إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» منهم سبعون رجلاً، منهم الأقرع بن حابس، ومنهم الأعور بن بشامة العنبري، وهو أحدثهم سناً، فلما قدموا المدينة بهش إليهم النساء والصبيان، فوثبوا على حجر النبي «صلى الله عليه وآله» وهو في قائلته، فصاحوا به: يا محمد، علام تسبى نساؤنا، ولم ننزع يدا من طاعتك؟

فخرج إليهم، فقال: اجعلوا بيني وبينكم حكماً.

فقالوا: يا رسول الله، الأعور بن بشامة.

فقال: بل سيدكم بن عمرو.

قالوا: يا رسول الله، الأعور بن بشامة.

فحكمه رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فحكم أن يفدى شطر، وأن يعتق شطر([8]).

ونقول:

إن لنا مع ما تقدم وقفات هي التالية:

خزاعة لا تعين بني تميم:

إنه لا ريب في بطلان الرواية التي ذكرها الدياربكري، من أن خزاعة قد أعانت بني تميم على ما أرادوه من منع الصدقة التي جمعت، وأرادت أن ترسلها، وقد غضبت من بني تميم، وأخرجتهم عنها حينما فعلوا ما فعلوا.

إختلاف الروايات:

إن الصورة التي ذكرها العسقلاني تختلف عن تلك التي ذكرناها آنفاً، إذ هي تدَّعي:

1 ـ أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد أخذ الصدقة من خزاعة ثم من بني العنبر، بينما تذكر الرواية الأخرى: أنه لم يأخذ صدقته من بني العنبر.

2 ـ إن هذه الرواية تدَّعي: أن النبي «صلى الله عليه وآله» أرسل إليهم عيينة في مائة وسبعين رجلاً، بينما تقول الرواية الأخرى: إنه بعثه في خمسين رجلاً فقط.

3 ـ هذه الرواية تقول: أخذ منهم تسعة رجال، وتقول تلك: بل أخذ منهم أحد عشر رجلاً.

4 ـ هذه الرواية زعمت: أن وفدهم إلى النبي «صلى الله عليه وآله» كان مائة وسبعين رجلاً، وتلك تقول: كان وفدهم عشرة رجال، ولكنها ذكرت أسماء ثمانية منهم فقط.

وفي نص آخر: كانوا في وفد عظيم، يقال: كانوا سبعين (تسعين) أو ثمانين رجلاً([9]).

5 ـ إن هذه الرواية ذكرت طلبهم التحكيم، واستجابة النبي «صلى الله عليه وآله» لهم..

والرواية الأخرى ذكرت حديث الخطباء والشعراء ولم تشر إلى التحكيم بشيء.

6 ـ إن هذه الرواية ذكرت: أن الحُكْمَ كان هو أن يفدى شطر، ويعتق شطر..

والرواية الأخرى ذكرت: أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» قد رد الأسرى والسبي.

تاريخ هذه السرية:

إنه يبدو لنا: أنه لا مشكلة في اختلافهم في تاريخ هذه السرية، إذ لعل إرسال عيينة إلى بني العنبر قد كان في سنة ثمان.. ثم كان مجيء وفدهم إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» في سنة تسع، فإن النبي «صلى الله عليه وآله» قد عاد إلى المدينة من غزوة الفتح وحنين لثلات ليال بقين من ذي القعدة..

ومن الواضح: أن أحداث هذه السرية تحتاج إلى وقت طويل لعله امتد حتى كان بعضه في سنة تسع أيضاً، فهو «صلى الله عليه وآله» قد أرسل المصدق إلى خزاعة، ثم جمعوا له الصدقات، ثم اعترض بنو تميم على تسليمها لمبعوث النبي «صلى الله عليه وآله»، ثم عاد الرسول، ثم ارسل عيينة بن حصن إليهم على رأس جيش، فأسر وسبي بعض رجالهم ونسائهم، ثم عاد إلى المدينة، ثم جاء وفدهم إلى النبي «صلى الله عليه وآله».

وذلك كله يستغرق وقتاً، وربما يكون ذلك أو بعضه قد حصل في شهر ذي الحجة، وبعضه الآخر قد حصل في شهر المحرم كما قلنا..

فنتج عن ذلك: أن أشار بعض المؤرخين إلى ما جرى في ذي الحجة سنة ثمان، وأشار بعضهم الآخر إلى ما جرى في المحرم، سنة تسع..

البغي الذميم:

ثم إن ما فعله بنو تميم لهو من أقبح وأسوأ البغي، حيث تعاورت عليه عناوين السوء والخزي من جهات عديدة، فهو بغي ذوي القربى، بعد سبق الإحسان من المبغي عليهم، وهو بغي الضيوف اللئام على مضيفيهم الكرام، وهو بغي يقصد به مخالفة أحكام الشريعة، وتوفير مال لغير مستحقيه، وحرمان أهله الحقيقين منه، وأهله هم الفقراء والمساكين.. وهو بغي فيه عدوان على نبي بالعدوان على مبعوثه.. فأي بغي ذميم أسوأ وأقبح من هذا؟!.

لا مبرر لخوف خزاعة:

وقد يقال: إذا كان البغاة المعتدون هم بنو تميم، فلا مبرر لخوف خزاعة من نشوء أية مشكلة لها مع النبي الأكرم «صلى الله عليه وآله»، لأنها تعلم أنه لا يأخذ البريء بذنب المجرم.

وقد يجاب: بأنها ربما خافت من أن يكون مبعوث الرسول «صلى الله عليه وآله» لم يميز بني تميم عن خزاعة، ولا يدري أن الذين فعلوا ذلك هم ضيوف على خزاعة وليسوا منها، فظن أن الذين فعلوا ذلك هم طائفة من أصحاب الصدقة أنفسهم..

فيكون قد أخبر النبي «صلى الله عليه وآله» بما رآه فيتغيظ النبي «صلى الله عليه وآله» عليهم، ويعلن موقعاً سلبياً منهم، وفق ظواهر الأمور، التي كان يجب عليه أن يعامل الناس على أساسها..

فضول يثير القرف، ويلامس المساس بالشرف:

عن ابن عباس: أن بني العنبر التميميين كانوا قد أصابوا دماء في قومهم، فارتحلوا، فنزلوا بأخوالهم من خزاعة([10]).. فما معنى أن يمنعوا مبعوث النبي «صلى الله عليه وآله» من قبض صدقة الخزاعيين؟!

وما هذه الجرأة على التدخل فيما لا يعنيهم، وما هذا التعدي على قرار قوم قبلوهم ضيوفاً عليهم، ومكَّنوهم من العيش معهم بسلام وأمان؟!.

ألا يعتبر الإعتداء على قرار خزاعة اعتداء على الكرامة؟! وألا يعد هذا التصرف جبرية وتسلطاً على الآخرين بدون حق؟ رغم أن أولئك الآخرين متفضلون عليهم!!. ومحسنون إليهم!!.

أم أنهم يتهمون الخزاعيين بسوء الرأي، أو بقلة العقل، أو بالجبن والخور والضعف؟!.

وهل الإلتزام بأحكام الشرع والدين يعد ضعفاً، أو جبناً، أو يمكن اعتباره سوء رأي، وقلة تدبير؟!.

هذا شحٌّ! أم لؤم؟!:

إننا قد نتصور: أن يكون أحد من الناس شحيحاً، ولكننا لا نستطيع أن نقبل بأن يكون الشحّ هو الصفة المميزة لجماعة من الناس، من دون استثناء، مع قبول تلك الجماعةكلها: بأن الشح صفة ذميمة، تجلب لهم العار، وتحط من قدرهم في جميع الأعصار والأمصار، ولا تجد أحداً يرضى بأن تنسب إليه مهما كانت ظاهرة وراسخة فيه.

أما إذا شَحَّ إنسان بمال غيره، فذلك مما يستعصي على العقول فهمه، فكيف إذا ظهر ذلك من جماعة أو من عشيرة بكاملها؟

ولماذا أقدمت تلك الجماعة أو العشيرة على منع أخذ الصدقات من عشيرة غيرها، إلى حد أنها رضيت بمباشرة القتال، وركوب الأهوال من أجل ذلك؟! كما هو الحال بالنسبة لبني تميم حين شحوا بمال قبيلة خزاعة، الذي لا تريد أن تعطيه ترفاً وسرفاً، ولا جوداً وكرماً، وإنما انقياداً للحكم الشرعي، والواجب الإلهي، والأمر النبوي.

إننا لا نستطيع تفسير هذا الأمر إلا على أساس أن هؤلاء القوم قد بلغوا الغاية وأوفوا على النهاية في النذالة واللؤم.. وقدموا بذلك أوضح الأدلة والبراهين على أنهم أبعد الناس عن الأدب، وعن الإلتزام بفروض اللياقة، أو الشعور بالكرامة.

كما أن ما فعلوه يدل دلالة واضحة على إغراقهم في الجهل، والأعرابية، إلى حد يثير القرف والإشمئزاز..

أخذ العفو، لا كرائم الأموال:

ثم إن أول ما يطالعنا في هذه السرية هو وصية النبي «صلى الله عليه وآله» لمبعوثه على الصدقات بأن يأخذ عفو المال، وأن يتوقى كرائمه.

وهذا هو العدل والرفق. فإن أخذ ما فضل من المال، الذي يحبه الإنسان حباً جماً بصورة عفوية، ومن دون انتقاء كرائمه يسهّل على صاحب ذلك المال بذله، ويجعله مما تطيب به النفوس، ولا تجد أي حرج في التنازل وصرف النظر عنه.

أما كرائم الأموال، التي يكون لأصحابها تعلق خاص بها، فليس من السهل التنازل عنها، ولا أن تطيب بها النفوس.

والمطلوب في العبادات ـ والصدقات منها ـ هو: أن يقطع الإنسان رابطته بالمال قربة إلى الله تعالى، والقربة بهذا المعنى لا تتحقق إذا بقيت القلوب متعلقة بالمال.

على أن بقاء هذه العلقة سيكون من أسباب ظهور الحسد بين الناس. وحدوث درجة من التنافر فيما بينهم، ثم تنامي مشاعر الكراهية، وأن تتجه العلاقة نحو التوتر، والمزيد من الحساسية، لتصبح ثقيلة ومرهقة، وربما مؤذية أيضاً.

فالإخلاص في العبادة، المتمثل بإعطاء الناس صدقات أموالهم بطيب نفس، وقربة إلى الله تعالى، ورعاية سنن العدل، بإعطاء كل ذي حق حقه، ومن دون أدنى حيف على الشريك الآخر، وتحصين النفوس من مساوئ الشح، وغير ذلك ـ إن ذلك كله ـ يحتِّم أخذ العفو، وهو ما فضل، وتوقي كرائم الأموال، في استيفاء حقوق الفقراء والمساكين من أموال الناس..

تعهد عيينة لرسول الله :

وقد تعهد عيينة بن حصن لرسول الله «صلى الله عليه وآله» تتبع آثار «الذين فعلوا ما فعلوا»، ولو بلغوا يبرين([11])، حتى آتيك بهم إن شاء الله، فترى فيهم رأيك، أو يسلموا»([12]).

ونقول:

إن هذا التعهد قد تضمن الأمور التالية:

1 ـ إن النبي «صلى الله عليه وآله» حين انتدب المسلمين لهؤلاء المعتدين قد حصر هدف المواجهة بخصوص «الذين فعلوا ما فعلوا» دون سواهم، فلا يحق لأحد توسعة نطاق عمليات المواجهة لتشمل غير هؤلاء حتى لو كانوا من بني تميم، فضلاً عن غيرها.

2 ـ إن عيينة قد تعهد لرسول الله «صلى الله عليه وآله» بملاحقة الفاعلين، لا بهدف قتلهم، بل ليأتي بهم إليه «صلى الله عليه وآله»، ليرى فيهم رأيه..

3 ـ إنه ليس لرأي عيينة، ولا لرأي غيره فيهم أي قيمة أو أثر.

أعرابي أمير على أعراب:

وقد رأينا: أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يؤمِّر عيينة على مهاجري، ولا على أنصاري. بل أمَّره على خمسين رجلاً من الأعراب.

ويبدو أنه «صلى الله عليه وآله» لا يريد أن يجعل لعيينة الذي كان أعرابياً جافياً، لم يستقر الإيمان في قلبه، سبيلاً على أحد من أهل الإيمان، أو من ذوي السابقة فيه. فإنه كان يعلم: أن أمثال عيينة لا يراعون الآداب، ولا يقيمون وزناً لمراتب الفضل في تعاملهم مع الآخرين..

أما حين يكون الذين تحت يد عيينة من أقرانه، وأشباهه في أعرابيته، فإن تصرفاته تجاههم تأتي منسجمة مع توقعاتهم، ولا تسبب لهم تلك المرتبة من الأذى والإساءة، التي ستنشأ عنها لو كان المعني بها من هم أكثر وعياً، وأسمى أنفساً، وأنبل أخلاقاً..

هذا كله عدا أنه «صلى الله عليه وآله» لا يريد أن يعطي عيينة أي سبب من اسباب الإستطالة على الآخرين بما ربما يخلعه على نفسه من مظاهر النبل والعظمة، وبما يمنحها من امتيازات، بالإستناد إلى تولية النبي «صلى الله عليه وآله» له على فريق من أهل النصرة والهجرة.

مدى وفاء عيينة بتعهداته:

وإذا نظرنا إلى النتائج التي انتهت إليها مهمة عيينة، فسنرى أنها قد جاءت قاصرة عن بلوغ المدى الذي تعهد هو لرسول الله «صلى الله عليه وآله» بإبلاغها إياه، فقد تعهد أن يأتي بالذين اقترفوا ذلك الجرم ولو بلغوا ببرين.. ولكنه لم يأت إلا ببضع نساء، ونُفَيْر (تصغير نفر) من رجال كانوا قد تخلفوا في البيوت، فلما رأوا الجمع ولوا، فكان عدد الذين أخذوا منهم هو أحد عشر رجلاً، وإحد عشرة امرأة، وثلاثون صبياً..

أما سائر القوم فكانوا غائبين، ولم يأت بأحد منهم.

ولعل أولئك النفر الذين أخذوا من الرجال كانوا من المسنين والعجزة أيضاً، ولعلهم لم يشاركوا في منع رسول النبي «صلى الله عليه وآله» من أخذ صدقات خزاعة.

حبس الأسرى:

وعن مصير الأسرى والسبايا نقول:

إنه «صلى الله عليه وآله» لم يبادر إلى اتخاذ أي إجراء في حقهم، فهو لم يقسمهم بين المسلمين، ولا أطلق سراحهم، بل احتفظ بهم، بانتظار مجيء قومهم في طلبهم.

كما أنه حبسهم في دار امرأة، وهذا من شأنه أن يمنع من تطفل المتطفلين عليهم، وتعرُّض الناس لهم بما يوجب لهم أي أذى، أو مهانة، أو أي شيء يوجب التهمة.

وهذا يدل على: أنه «صلى الله عليه وآله» كان يريد أن يسهل عليهم قبول الحق، والخروج من المأزق الذي أوقعوا أنفسهم فيه، بطريقة التوجيه نحو أفضل الخيارات، التي تفتح لهم أبواب الهداية، وتدفع بهم نحو سبيل الصلاح والخير في الدنيا وفي الآخرة. وهذا ما حصل بالفعل، كما تقدم.

سوء أدب الرؤساء:

وقد أظهرت النصوص المتقدمة: أن رؤساء تلك القبيلة التي ارتكبت تلك الإساءة قد تصرفوا مع رسول الله «صلى الله عليه وآله» بصورة غير لائقة، ولا مقبولة، فصاروا ينادونه من وراء الحجرات: أن يا محمد، أخرج إلينا.

وقد خلَّد الله تعالى سبحانه تصرفهم هذا في آية قرآنية إلى يوم القيامة، وقال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}([13]).

والذي تحسن ملاحظته هنا هو ما يلي:

1 ـ إنهم إنما جاؤوا في حاجة لهم، فالمفروض هو: أن يتبعوا سبيل التلطف، والرفق في التماسها، مع علمهم بأنهم لا قدرة لهم على مواجهة المسلمين، ولن يتمكنوا من أخذ حاجتهم عنوة.

2 ـ إنهم إنما جاؤوا وافدين وضيوفاً، فالمفروض فيهم: أن يراعوا جانب مضيفهم، ولا يضايقوه، وأن يفسحوا له المجال ليفْرَغَ لهم، وليتمكن من النظر فيما جاؤوا له.

3 ـ إن مراعاة الأدب في الخطاب، وفي السلوك، وعدم اللجاج، من شأنه أن يهيّيء النفوس للإستجابة للمطالب التي تضعف دوافع الإستجابة لها، بل الدواعي متوفرة لرفض الإستجابة.. إلا على سبيل التكرم، والتفضل في أجواء مفعمة بالرضا وبالأريحية.

ومن الواضح: أن هؤلاء القوم قد سبقت منهم إساءة قبيحة لمقام رسول الله «صلى الله عليه وآله»، تمثلت بالتعدي الوقح، والفضول السمج، والتدخل في أمر لا يعنيهم، ولا يرتبط بهم.. حيث انتهى الأمر بإشهار السيوف لمنع مبعوث رسول الله «صلى الله عليه وآله» من استلام صدقة قبيلة خزاعة، لإيصالها إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، حسبما تقدم.

4 ـ ويلاحظ: أن الله تعالى قد ذكر سوء أدبهم هذا ليتعظ بهم غيرهم، وليقف الناس على مدى معاناة رسول الله «صلى الله عليه وآله»، ودرجة صبره وتحمله، وجليل عفوه، وكريم أخلاقه، وجميل صفاته، ليكون للناس أسوة وقدوة في ذلك كله.

5 ـ وقد وصف الله تعالى الذين ينادون رسول الله «صلى الله عليه وآله» من وراء الحجرات بأنهم: {أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}..

وهذا معناه: أن من يملك العقل منهم، لا يملك القرار ما دام أن الأكثر لا يعقل، والذي يملك القرار، فإنه لا يعقل.. وتلك هي المصيبة العظمى التي كان رسول الله «صلى الله عليه وآله» يواجهها. فإنه مبتلى بقوم هذا واقعهم، وتلك هي حالهم.. فهم كالسلة التي ليس لها قعر، وهي مصنوعة من القصب أو من الشعر، ويراد لها أن تحمل الماء ليشربه العطاشى المجاهدون من أهل الثغر.

فإن من لا يملك عقلاً لا يملك أحد له خطاباً، ولا يعرف ما يلقى إليه إن كان خطأً أو صواباً..

ومن معجزات رسول الله «صلى الله عليه وآله»: أنه قد صنع من نفس هؤلاء أمة هي أهدى الأمم، وحضارة هي من أرقى الحضارات. وظهر منهم بفضل رسول الله «صلى الله عليه وآله» الكثير من العلماء، والحكماء، والعظماء.

6 ـ وآخر كلمة نقولها هنا: إنه إذا كان الرؤساء لا يملكون العقل ولا الأدب، ولا الخلق الرضي، فما بالك بالأذناب والأتباع، والأكثر بعداً عن ممارسة الأمور، والأكثر استغراقاً في الجزئيات والصغائر، الذين يستضعفهم الرؤساء والأكابر..

بدلاً من الإعتذار:

وقد كنا نتوقع أن يأتي هؤلاء الرؤساء الوافدون بالإعتذارات التي تعيد لهم الإعتبار، وتخفف من قبح ما صدر منهم، وإذ بنا نراهم يبادرون رسول الله «صلى الله عليه وآله» بإساءة الأدب معه، ثم يطلبون منه «صلى الله عليه وآله» أن يناظرهم، ويفاخرهم!! وأن يتبارى خطيبه وخطيبهم، وشاعره وشاعرهم!!

وكيف وبماذا يفاخر هؤلاء الأعراب الجفاة، والجهلاء القساة، وهم الذين اعتدوا بدون مبرر وتدخلوا فيما لا يعنيهم بكل صلف ورعونة على على أمر يعود لمضيفهم على النحو المخزي الذي سبق بيانه..

وبماذا يفخر هؤلاء الذين جاؤوا ليطالبوا بنسائهم ورجالهم، الذين أسروا بسبب رعونتهم وسوء فعلهم، فصاروا ينادون رسول الله «صلى الله عليه وآله» من وراء الحجرات، وهو أمر لا يصدر إلا عن أعرابي جاهل، لا يعرف شيئاً عن قواعد الأدب واللياقة..

وقد كان الأجدر بهم أن يخجلوا من أنفسهم، وأن يظهروا لرسول الله «صلى الله عليه وآله» الندم والتوبة، ثم يوسطون أهل الخير والكرم، والشهامة والشمم، عند رسول الله «صلى الله عليه وآله» ليرضى عنهم، ويقبل منهم.

ولولا أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» كان أصبر الصابرين، وأحلم وأكرم العالمين، لطردهم من حضرته، وأعادهم أذلاء مقبوحين.. أو كان قبض عليهم، وقدمهم للعقاب على ما بدر منهم من سوء أدب، ومن تعدِ خسيس على رسوله إلى بني خزاعة من افتئات مضيفهم!!

ولكنه «صلى الله عليه وآله» تحمل كل هذا الأذى، وصبر عليهم، وعاملهم بالرفق واللين، وعفا عنهم، وأعاد إليهم رجالهم ونساءهم، وحفظ لهم ما فرطوا فيه، وأقالهم عثراتهم المتلاحقة، لأنه لا ينطلق في حركته ومواقفه من ردات الفعل، ومن الإنفعالات النفسية، ولا من المصالح الشخصية، ولا من منطلق الرغبة في مواجهة المعتدي بما يستحقه من القصاص والعقوبة، وإنما من واجبه الإلهي، وفي دائرة مهمته كنبي ورسول.

والأهم من ذلك كله، من خلقه الرضي، وإحساسه، وميزاته وخصائصه التي جعلت نفسه تذهب حسرات على الناس، حتى وهم يحاربونه، ويسعون في سفك دمه، ودم أهل بيته وأصحابه.. فإن كل همه كان منصباً على إنقاذهم من حمأة الجهالة، ومن التيه والضلالة، وأن يغمر أرواحهم، وكل وجودهم نور الإسلام، ويعيشوا روحانيته، وقيمه، ويتخلقوا بأخلاق أهل الإيمان..

وهذا هو ما يرضيه، ويسعد به «صلى الله عليه وآله»..

الأخلاق تعطي للعقل دوره:

ولعل هناك من يتساءل عن السبب الذي يكمن وراء اقتصار الآيات الكريمة في ملامتها لهؤلاء الناس على خصوص ندائهم رسول الله «صلى الله عليه وآله» من وراء الحجرات، مع انه امر يرتبط بشكليات السلوك، والآداب العامة، التي لا ترقى إلى رجة استباحة سمعة من يتخلف عنها، أو تسجيل ما يوجب له العار إلى يوم القيامة، مع أن جرمهم لا يقتصر على هذا فقد منعوا تحت طائلة التهديد بالقتل من إيصال الحق لأهله كما تقدم، بل يكفيهم سوءاً وشراً أنهم لا يزالون يتخذون سبيل الشرك والضلال..

ويمكن ان يجاب: بأن مسألة الأخلاق والآداب في غاية الأهمية، وهي حساسة جداً وأساسية في حياة البشر، وفي تعاطيهم مع القضايا، وفي وعيهم لأسبابها، ولآثارها، وتلمُّس ما يرتبط بها، أو ينشأ عنها..

بل إن لها دوراً في اختيارات الإنسان، وفي حصوله على السكينة والرضا بقضايا الإيمان، وفي تفاعله معها، والتأثر بها.

كما أنها تؤثر بشكل قوي في بعث العقول وإيقاظها من سباتها، لتتولى هي هداية الإنسان في حركته في الحياة، على أساس من الإدراك والوعي، المعتمد على التدبر والتأمل..

ولأجل ذلك ربط تعالى بين ندائهم رسول الله «صلى الله عليه وآله» من وراء الحجرات، وبين العقل، الذي به يزن الإنسان المتوازن أموره، ويأخذ بمشورته وبأحكامه في الإقدام والإحجام..

كما ويلاحظ: أن التعبير في الآية قد جاء بصيغة «يعقلون»، التي تشير إلى الصدور والفعل. ولم يقل: إنهم لا عقول لهم، أي أنهم لا يستعملون عقولهم.

بل إن الإبتلاء بواحدة من العاهات الأخلاقية قد يؤدي بالإنسان إلى إخراجه عن مقتضيات الفطرة وأحكام العقل، ثم إلى الإمعان في الإبتعاد والإنحراف عنها، حيث قد يستمر به هذا الإنحراف إلى ان يورده المهالك، وينتهي به إلى أن يصبح فرعونياً أو إبليسياً في فكره، ونظرته، وفي فهمه للقضايا، وفي سلوكياته ومواقفه..

وهذا ما يجعلنا نفهم بعمق سر اهتمام القرآن بالآداب والأخلاق المستندة إلى المفاهيم الحقة، وإلى القيم والمثل العليا..

وخلاصة القول: إن الإلتزام بالأدب إنما يكون انطلاقاً من مثل وقيم تفرضها وتقتضيها، وهذا الإلتزام يحتاج إلى الوقوف على حقائق تلك القيم ودقائقها ومعرفة حدودها وقيودها. وهو إنما يكون بتحريك العقل وإعطائه دوره وموقعه، والإلتزام بأحكامه.. فإذا بلغ الإنسان هذه المرتبة، فإن أبواب الخير والفلاح ستفتح أمامه على مصاريعها في كل مجالات وشؤون الحياة، في الدين والدنيا. وتكون له السعادة الأبدية والخلود في النعيم.

مفاخر بني تميم:

ولسنا بحاجة إلى المقارنة، ولا إلى شرح ما فخر به التميميون، وما أجابهم به ثابت بن قيس.. فإن ما فخر به خطيبهم هو كثرة المال، وكثرة العدد، والزعامة.

أما خطيب الأنصار، الذي انتدبه رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فقد اثنى على الله بما هو أهله، وحمده على أن اصطفى لهم رسولاً، متصفاً بأحمد الأوصاف وأسناها، وأفضلها، وأعلاها.

ثم اعتز بإيمانه وتصديقه وإجابته دعوته، وبنصرته له..

ولم يذكر كثرةً في الأموال ولا في العدد، ولا افتخر بزعامة ولا رئاسة، ثم تعهد بمجاهدة أهل الكفر والطغيان، وختم حديثه بالإستغفار لنفسه وللمؤمنين..

لماذا ثابت بن قيس؟!:

ويلاحظ: أن النبي «صلى الله عليه وآله» لم يطلب من رجل مهاجري أن يجيب خطيب بني تميم، ليس لأنه «صلى الله عليه وآله» لا يريد أن يرفع من شأن بني تميم حين يرون أنفسهم، ويراهم الناس مقابل رجالات قريش، فإنه «صلى الله عليه وآله» لا يتعامل بهذه الطريقة، حتى لو كان وفد بني تميم يرغب في أن يرى نفسه ويراه الناس مقابل أعظم رجل خلقه الله تعالى، وهو واسطة العقد في جميع مخلوقاته، فضلاً عن قريش وبني هاشم، وبني عبد المطلب. وهو الرجل الذي بهر الدنيا والعرب بالإنتصارات الإعجازية التي حققها على العرب وتجاوزتهم إلى الروم، وهو النبي الذي ظهرت معجزاته، وسطعت آياته، وأعجزت العقول دلائله وبيناته.

وإنما الذي دعا النبي «صلى الله عليه وآله» إلى انتداب ذلك الأنصاري للإجابة على ترهات بني تميم، هو أنه أراد أن يظهر لهم بالفعل قبل القول: أنه لا يريد أن يفاخرهم بقومه وعشيرته، على الرغم من أن أحداً لا يتوهم أن لبني تميم شأناً يذكر معهم، وما قياس بني تميم بهم، إلا كقياس حبة من خردل بالنسبة للطود العظيم!!

إنه يريد أن يجعل من استجابته هذه سبيل هداية لهم، وباب سداد ورشاد، ينقذهم مما هم فيه من جهالات وضلالات، ويعرفهم: أن العزة إنما هي لله، ومن الله، وأن الفخر إنما هو بالإيمان به، وبالإلتزام بطاعته، واجتناب معصيته، وبالجهاد في سبيله.

ولذلك اختار رجلاً من الأنصار ليجيب خطيبهم.

ومن جهة أخرى، فإنهم إذا كانوا يسيؤن إلى من يضيفهم، وهم خزاعة، ويتسببون بكل هذا الذي يجري، حتى تضطر خزاعة إلى طردهم، فإن النبي «صلى الله عليه وآله» الذي كان ينزل على الأنصار، قد رفع من شأن مضيفيه حتى جعلهم ملوكاً على الناس كما أعلنه خطيبه الأنصاري، وأصبح الأنصار يدافعون عنه، ويضحون بأنفسهم وبأبنائهم من أجله وفي سبيله، ثم هؤلاء هم يفاخرون عنه، ويكون جل بل كل فخرهم به ومنه..

فهل أدرك التميميون هذه الحقيقة؟! أم أن أكثرهم كانت لهم قلوب لا يعقلون بها، ولهم أعين لا يبصرون بها، ولهم آذان لا يسمعون بها؟!

وهل يستطيع بنو تميم أن يجدوا حتى في حلفائهم وذوي رحمهم، من خزاعة أو غيرها من يدافع ويدفع عنهم، بمستوى دفاع ودفع الأنصار عن رسول الله «صلى الله عليه وآله»؟!.. أم أن ذوي رحمهم قد نبذوهم، وطردوهم وأخرجوهم، من أجل نفس هذا الذي جاء إليه وفد بني تميم، ليناظره ويفاخره؟!

ابن الأهتم، وابن عاصم:

وقد ظهر مصداق ما ذكرناه آنفاً في نفس مجلس المفاخرة الذي أرادواه في محضر رسول الله «صلى الله عليه وآله».. فيما جرى بين عمرو بن الأهتم، وقيس بن عاصم.. حينما أراد قيس أن يصرف النبي «صلى الله عليه وآله» عن إشراك ابن الأهتم في الجائزة التي أعطاها «صلى الله عليه وآله» لوفد بني تميم، بدعوى: أن ابن الأهتم صغير السن لا شرف له.. فأصر النبي «صلى الله عليه وآله» على إجازته وقال: «فإنه وافد، وله الحق»، وأعطاه مثل ما أعطى القوم اثنتي عشرة أوقية ونصفاً.

لكن الواقدي قال: إنه أعطاه خمس آواق فقط، لحداثة سنه([14]).

وروى البيهقي عن ابن عباس ما جرى بين الرجلين، فقال: «جلس إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» قيس بن عاصم، والزبرقان بن بدر، وعمرو بن الأهتم التميميون. ففخر الزبرقان وقال: يا رسول الله، أنا سيد تميم، والمطاع فيهم، والمجاب منهم، آخذ لهم بحقوقهم، وأمنعهم من الظلم، وهذا يعلم ذلك. وأشار إلى عمرو بن الأهتم.

فقال عمرو بن الأهتم: إنه لشديد العارضة، مانع لجانبه، مطاع في أدانيه.

فقال الزبرقان: والله يا رسول الله، لقد علم مني غير ما قال، وما منعه أن يتكلم إلا الحسد.

فقال عمرو بن الأهتم: «أنا أحسدك؟! فوالله إنك للئيم الخال، حديث المال، أحمق الولد، مبغض في العشيرة.

والله يا رسول الله، لقد صدقت فيما قلت أولاً وما كذبت فيما قلت آخراً، ولكني رجل إذا رضيت قلت أحسن ما علمت، وإذا غضبت قلت أقبح ما وجدت، ولقد صدقت في الأولى والأخرى جميعاً».

فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «إن من البيان لسحراً»([15]).

فإذا كان رؤساء الوفد يسعون لمنع من جاؤوا يفاخرونه من إجازة بعض رفقائهم ببعض المال حسداً منهم لهم، وضناً بمال غيرهم، أو خشية من أن يعد ذلك امتيازاً لذلك البعض، يرفعه بين الناس بحيث يلحقه بهم..

فهل بعد هذا يمكن ان يتوقع هؤلاء من إخوانهم الإيثار والفداء، والتضحية بالنفس والمال لدفع الأسواء عنهم؟!.. أم أن عليهم أن يتوقعوا من نفس رؤسائهم أن يقذفوا بهم في أتون المكاره والأسواء، لينعموا هم بالجاه والمال وبالراحة، وليحصلوا على المنافع والمناصب من خلال ذلك.

الله يؤيد حسان ما دافع عن نبيه:

وقد ورد في الرواية: أنه «صلى الله عليه وآله» قال: «إن الله يؤيد حسان بروح القدس، ما دافع عن نبيه.

أو قال له: لا تزال ـ يا حسان ـ مؤيداً بروح القدس ما نصرتنا بلسانك»([16]).

ولسنا بحاجة إلى تذكير القارئ بأن هذا القيد الوارد في دعاء النبي «صلى الله عليه وآله» لحسان، يشير إلى علمه بأن حساناً سوف ينقطع عن هذا النصر، ويتحول عن نصرة النبي «صلى الله عليه وآله» إلى نصرة بني أمية، وغيرهم، حين يؤيد غاصبي حق علي «عليه السلام»، ويخالف أوامر الله ورسوله فيه، ويعرّض نفسه لدعاء النبي «صلى الله عليه وآله» عليه بالخذلان، في قوله «صلى الله عليه وآله» في حديث الغدير: «وانصر من نصره واخذل من خذله».

وقد نظم ذلك الحديث حسان شعراً، فقال:

وقـال: فمـن مـولاكـم ووليـكم            فقـالـوا: ولم يبـدوا هنـاك التعاديا
إلهـك مـولانـا وأنــت ولـيـنـــا           ولـن تجـدن منـا لك اليوم عاصيا
فقـال لـه: قــم يــا عــلي فـإنني          رضيتك من بعـدي إمامـاً وهاديـا
فـمـن كـنـت مـولاه فـهـذا وليه           فكـونـوا لـه أنصار صـدق  مَوَالياً
هـنـاك دعـا اللـهـم والِ ولـيـــه          وكـن للـذي عادى علياً معاديـا(
[17])

هذا.. وقد قال الشيخ المفيد «رحمه الله»: «وإنما اشترط رسول الله «صلى الله عليه وآله» في الدعاء له، لعلمه بعاقبة أمره في الخلاف، ولو علم سلامته في مستقبل الأحوال لدعا له على الإطلاق. ومثل ذلك: ما اشترط الله تعالى في مدح أزواج النبي «صلى الله عليه وآله»، ولم يمدحهن بغير اشتراط، لعلمه أن منهن من يتغير بعد الحال عن الصلاح الذي يستحق عليه المدح والإكرام، فقال عز قائلاً: {يَا نِسَاء النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِّنَ النِّسَاء إِنِ اتَّقَيْتُنَّ}([18]).

ولم يجعلهن في ذلك حسب ما جعل أهل بيت النبي «صلى الله عليه وآله» في محل الإكرام والمدحة، حيث بذلوا قوتهم للمسكين واليتيم والأسير، فأنزل سبحانه وتعالى في علي بن أبي طالب وفاطمة والحسن والحسين «عليهم السلام»، وقد آثروا على أنفسهم مع الخصاصة التي كانت بهم، فقال جل قائلاً: {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَيَتِيماً وَأَسِيراً إِنَّمَا نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللهَ لَا نُرِيدُ مِنكُمْ جَزَاء وَلَا شُكُوراً إِنَّا نَخَافُ مِن رَّبِّنَا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً فَوَقَاهُمُ اللهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً وَجَزَاهُم بِمَا صَبَرُوا جَنَّةً وَحَرِيراً}([19])، فقطع لهم بالجزاء، ولم يشترط لهم كما اشترط لغيرهم، لعلمه باختلاف الأحوال على ما بيناه([20]).

ومما يشير إلى انحراف حسان قول المسعودي: «كان حسان عثمانياً منحرفاً عن غيره. وكان إليه محسناً، وهو المتوعد للأنصار في قوله:

يا ليت شعري، وليت الطير يخبرني           مـا كـان شـأن عـلي وابـن عفـانـا
لتسمـعـن وشـيـكـاً في ديـارهــم         الله أكـبـر يـا ثــارات عـثـمانـا»
([21])

وقال ابن الأثير: «بايعت الأنصار علياً «عليه السلام» إلا نفيراً يسيراً، منهم حسان بن ثابت.. وقال رجل لعبد الله بن حسن: كيف أبى هؤلاء بيعة علي وكانوا عثمانية؟!

قال: أما حسان فكان شاعراً لا يبالي ما يصنع؟!([22])

الشاعران يفتخران:

وقد افتخر شاعر بني تميم، وهو الزبرقان بن بدر بالإنتهاب عنوة من الأحياء، وبنحر الجزور الكوماء، وبإطعام الطعام والأضياف والنزلاء..

أما حسان فافتخر برسول الله «صلى الله عليه وآله»، وبالعفاف الذي ذكره الوحي الإلهي، وبالقناعة حين يثور الطمع المردي، وبالتقوى، وبالشجاعة في ساحات الوغى، من دون أن يفرحهم النصر، ومن دون أن يجزعهم أو أن يسقطهم عند المصاب، وبأنهم لا يدبون إلى المغلوبين كما يدب المفترس إلى فريسته ليمزقها، ونحو ذلك من معان، تشير إلى عظمة الإيمان، وسمو نفوس المؤمنين والصالحين، وإلى الخصال الحميدة، التي تجذرت ونمت في تلك النفوس..

وقد كان لا بد لهم أن يدركوا، ثم أن يقروا بهذا التفاوت الظاهر بين ما قاله خطيبهم وشاعرهم، وما قاله خطيب رسول الله «صلى الله عليه وآله» وشاعره.

وهذا ما حصل بالفعل.

حديث التحكيم:

1 ـ وإن صح حديث التحكيم في السبايا والأسرى، فإننا نقول: إن من الأمور التي تزيد في وضوح سوء حال هؤلاء القوم: أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» يريد تحكيم واحد منهم في الأسرى والسبايا.. فيبادرون إلى الرفض، ويقترحون عليه غيره.. وهذه إساءة أخرى تضاف إلى جملة إساءاتهم.

ولعل سبب رفضهم هذا هو: أنهم لا يريدون الإقرار بزعامة ذلك الذي اقترحه «صلى الله عليه وآله»، أو لايريدون تكريس زعامته عليهم، رغم أنه منهم!! ورغم أن الأمر يتعلق بمصير أسراهم وسباياهم.

وهل يعلمون أن النبي «صلى الله عليه وآله» لو ألغى هذا التحكيم، غضباً من تصرفهم السيء هذا، فإن نساءهم سوف تتعرض لخطر الإسترقاق، وهو الأمر الذي يدَّعون أنهم لا يرضون به لأنفسهم، وتأباه لهم غيرتهم وكرامتهم..

فلماذا لم يقدّروا للنبي «صلى الله عليه وآله» حلمه عنهم، وتفضله عليهم؟! بوضعه مصير رجالهم ونسائهم في يد رجل منهم، لا من قبيلة أخرى. بل إن نفس أن يبادر النبي «صلى الله عليه وآله» لإخراج هذا الأمر من يده ويرضى بالتحكيم في هذا الأمر لهو فضيلة عظيمة، ومنة، وكرامة لا مثيل لها، فإن أحداً لا يرضى مهما ألحوا عليه ـ وهو منتصر ـ بأن يجعل القرار في الأسرى والسبايا الذي هم بيده إلى غيره.. ولاسيما إذا كان هو الذي اعتدي عليه من قبل أولئك الأسرى، وقبائلهم أنفسهم..

فما بالك بمن يبادر هو إلى ذلك، بل هو يبادر إلى تحكيم نفس المعتدين عليه؟!

والأعظم والأهم من ذلك كله، أن يكون هذا الذي رضوا به حكماً، قد حكم بأن يفدى شطر وأن يعتق شطر..

ولا ندري لماذا حكم على النبي «صلى الله عليه وآله» بأن يعتق ذلك الشطر؟! ألا يعد هذا الحكم مجحفاً وغير منصف.

ومع غض النظر عن ذلك كله، فإن هذا الحكم يمثل إقراراً من زعيم وحاكم اختاروه هم أنفسهم، بأن هؤلاء الناس رقٌ لرسول الله «صلى الله عليه وآله».. وهو بالتالي إقرار بالعدوان واعتراف بالظلم والطغيان، فلماذا يريد هؤلاء الظالمون والمعتدون أن يفاخروا من ظلموه واعتدوا عليه، وهو يعاملهم بهذا الحلم والكرم والإباء والشمم، وذلك حين توّج ذلك كله القرار النبوي برد الأسرى والسبي، والعفو عنهم من دون مقابل كما أوضحته الرواية الأخرى..

عيينة في وفد بني تميم:

وبعد.. فإن النصوص التاريخية قد صرحت: بأن عيينة بن حصن، والأقرع بن حابس كانا في وفد بني تميم إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»([23]).

مع أن عيينة هو الذي تبرع للنبي «صلى الله عليه وآله» بالإتيان بهم أسرى إليه، وقد قام بذلك فعلاً.

فما معنى: أن ينضم إلى وفدهم، ويأتي معهم؟!

ألا يدل ذلك على: أنه كان لا يزال على شركه، وعلى قلة وعيه للأمور، وانتهازيته، وعلى أعرابيته، وها قد حن إلى إلفه، وسعى إليهم بظلفه؟!

غرور بني تميم:

وقد قال بنو تميم لرسول الله «صلى الله عليه وآله» حين خرج إليهم: «إن مدحنا لزين، وإن ذمنا لشين، نحن أكرم العرب».

فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «كذبتم، بل مدحة الله عز وجل الزين، وذمه الشين، وأكرم منكم يوسف بن يعقوب»([24]).

ويظهر من رواية أخرى مروية عن الأقرع بن حابس، والبراء بن عازب: أن الأقرع بن حابس نفسه هو الذي قال ذلك، فقد رويا: أنه جاء إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فقال: يا محمد، اخرج إلينا. فلم يجبه.

فقال: يا محمد، إن حمدي لزين، وإن ذمي لشين.

فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: «ذاك الله عز وجل».

فقالوا: إنَّا أتيناك لنفاخرك، فأذن لشاعرنا وخطيبنا.

قال: قد أذنت لخطيبكم، فليقل الخ..([25]).

ونقول:

1 ـ يتجلى غرور هؤلاء القوم بما لا مزيد عليه، حين يضعون أنفسهم في مقام لا يجرؤ أحد على وضع نفسه فيه. فلو سلمنا ـ وإن كان هذا التسليم لا مبرر له ـ أن دافعهم للمدح أو الذم ليس هو الهوى والعصبية، والرعونة وما إلى ذلك، وقبلنا جدلاً أنهم يتحرون الدقة والأمانة والصدق فيما يقولون، فإن الكل يعلم أنهم حين يمدحون أو يذمون، إنما يذكرون ما ظهر لهم.. ونحن نعلم علم اليقين أنهم لا يملكون القدرة على كشف الحقائق، واستكناه بواطن الأمور، بل إن الله وحده هو العالم بالسرائر، والمطلع على ما في الضمائر وقد يطلع على ذلك أنبياءه.. فكل مدح أو ذم من سواه يبقى في دائرة احتمالات الصدق والكذب، أو الخطأ والصواب، أو التمام والنقص.. فلا يمكن أن يكون زيناً، ولا شيناً.

أما حين يأتي المدح أو الذم من علام الغيوب، والواقف على ما في الضمائر والقلوب، والخالق والمدبر والمهيمن والمسيطر، فلا ريب في أنه هو الحق، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، ولابد أن يكون مدحه زيناً، وذمه شيناً.

2 ـ أما قوله «صلى الله عليه وآله»: «وأكرم منكم يوسف بن يعقوب» إن صح أنه قوله.. فلربما يكون مقصوده إلزامهم بما يلزمون به أنفسهم، والإحتجاج عليهم بمن لا سبيل لهم إلى إنكاره، مما أخذوه عن أهل الكتاب الذين كانوا يمثلون المرجعية لهم، وعن يوسف «عليه السلام»، فإنه أكرم منهم، على الرغم مما ينسبه إليه أهل الكتاب من ترهات وأباطيل، فيما يرتبط بعفته، ووفائه، وحفظه للعزيز في عرضه، إلى غير ذلك مما قد يتظاهر بنو تميم بالتنزه عنه.. مع اعترافهم بنبوته.

وتسقط بذلك دعواهم الفضل والكرامة على سائر العرب. وهم يرون أن العرب أكرم الأمم.

بنو تميم، والأعور الدجال:

قال ابن إسحاق عن وفد بني تميم: وفيهم نزل من القرآن: {إِنَّ الَّذِينَ يُنَادُونَكَ مِن وَرَاء الحُجُرَاتِ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ}([26]).

وسئل رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فقال: «هم جفاة بني تميم، لولا انهم من أشد الناس قتالاً للأعور الدجال لدعوت الله عليهم أن يهلكهم»([27]).

ونقول:

إن هذه الرواية لم ترد في أي مصدر يتكفل برواية حديث أهل بيت العصمة، وإذا راجعنا تاريخ بني تميم، فسنجد أنهم كانوا بعد رسول الله «صلى الله عليه وآله» ـ في الأكثر ـ أعداء لعلي «عليه السلام»، حتى إن غالبية الخوارج كانوا من بني تميم([28]).

ويستظهر الجاحظ: أن بني صريم ـ وهم من بني تميم ـ كانوا من الخوارج أيضاً([29]).

وكل ذلك يجعلنا نظن ـ أو نحتمل ـ: أن هذه الرواية قد وضعت مكافأة لبني تميم على بغضهم لعلي «عليه السلام»، وشكراً لهم على محاربتهم إياه. فليلاحظ ذلك.

 

([1]) راجع: البحار ج21 ص184 عن الكامل لابن الأثير ج2 ص182 ومستدرك سفينة البحار ج5 ص36 وراجع: الكامل في التاريخ (ط دار صادر) ج2 ص273.

([2]) راجع: فتح الباري ج5 ص125 وج8 ص66 والطبقات الكبرى ج2 ص160 وعيون الأثر ج2 ص234 وعمدة القاري ج18 ص18 وسبل الهدى والرشاد ج6 ص212.

([3]) تاريخ الخميس ج2 ص119.

([4]) سبل الهدى والرشاد ج6 ص212 عن العيون، والواقدي، وابن سعد، والإشارة والمورد، والإصابة ج1 ص246 وتاريخ مدينة دمشق ج40 ص360 و 361 والمغازي للواقدي ج3 ص973 ـ 975 وراجع: السيرة النبوية لابن هشام ج4 ص208 وعن البداية والنهاية ج5 ص51. وراجع: والطبقات الكبرى ج2 ص160 و 161 وإمتاع الأسماع ج2 ص37 و 38 وعيون الأثر ج2 ص234 والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج3 ص216.

([5]) تاريخ الإسلام ج2 ص119.

([6]) الآيات 2 ـ 4 من سورة الحجرات.

([7]) تاريخ مدينة دمشق ج40 ص360 ـ 364 والمغازي للواقدي ج3 ص973 ـ 980 وراجع: السيرة النبوية لابن هشام ج4 ص208 والإصابة ج1 ص246 و 247 والطبقات الكبرى لابن سعد ج1 ص294 وسبل الهدى والرشاد ج6 ص287 ـ 291 وتاريخ الخميس ج2 ص119 وراجع: وراجع: البداية والنهاية ج5 ص55 والسيرة النبوية لابن كثير ج4 ص86 الطبقات الكبرى ج2 ص161 و 162 وإمتاع الأسماع ج2 ص38 و 39 وعيون الأثر ج2 ص234 ـ 236.

والقصيدة في ديوان حسان بن ثابت ص144 و 145.

([8]) الإصابة ج1 ص246 و (ط دار الكتب العلمية) ج1 ص246.

([9]) سبل الهدى والرشاد ج6 ص287 وتاريخ الخميس ج2 ص119 وراجع: الإستيعاب (ط دار الجيل) ج3 ص1163.

([10]) الإصابة ج1 ص246 و (ط دار الكتب العلمية) ج1 ص246.

([11]) يبرين: رمل معروف في ديار بني سعد بن تميم. راجع: معجم ما استعجم ص849.

([12]) تاريخ مدينة دمشق ج40 ص260 و 261 والمغازي للواقدي ج3 ص974.

([13]) الآية 4 من سورة الحجرات.

([14]) سبل الهدى والرشاد ج6 ص291 وراجع: البداية والنهاية ج5 ص55 والسيرة النبوية لابن كثير ج4 ص86.

([15]) سبل الهدى والرشاد ج6 ص291 وراجع: الإستيعاب (ط دار الجيل) ج3 ص1163 والتمهيد لابن عبد البر ج5 ص172 وأسد الغابة ج4 ص87 والوافي بالوفيات ج14 ص117 والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج3 ص220.

([16]) راجع: الإرشاد للمفيد ج1 ص177 وخصائص الأئمة للشريف الرضي ص42 والفصول المختارة للشريف المرتضى ص49 و 291 والصوارم المهرقة للتستري ص336 والبحار ج10 ص293 وج21 ص388 وج29 ص69 وج37 ص166 والغدير ج2 ص7 و 34 و 37 ومجمع البيان ج8 ص287 والتفسير الصافي ج4 ص260 وتفسير نور الثقلين ج4 ص393 ومصادر كثيرة أخرى.

([17]) الإرشاد للمفيد ج1 ص177 والاقتصاد للشيخ الطوسي ص221 وخصائص الأئمة للشريف الرضي ص42 والفصول المختارة للشريف المرتضى ص291 وكتاب سليم بن قيس (تحقيق محمد باقر الأنصاري) ص356 وأقسام المولى للشيخ المفيد ص35.

([18]) الآية 32 من سورة الأحزاب.

([19]) الآيات 8 ـ 11 من سورة هل أتى.

([20]) الإرشاد للمفيد ج1 ص177 و 178 والبحار ج21 ص388 وأعيان الشيعة ج1 ص420.

([21]) مروج الذهب ج2 ص347.

([22]) تاريخ الأمم والملوك ج3 ص425 والكامل في التاريخ ج3 ص191 وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب «عليه السلام» في الكتاب والسنة والتاريخ للريشهري ج4 ص84 وأعيان الشيعة ج1 ص444.

([23]) سبل الهدى والرشاد ج6 ص287 عن ابن مردويه، وابن إسحاق. وراجع: تاريخ مدينة دمشق ج10 ص272 وتاريخ المدينة لابن شبة ج2 ص527 وتاريخ الأمم والملوك ج2 ص377 والبداية والنهاية ج5 ص51 والسيرة النبوية لابن كثير ج4 ص79.

([24]) سبل الهدى والرشاد ج6 ص287 والدر المنثور ج6 ص87 عن ابن مردويه، وابن إسحاق. وراجع: تخريج الأحاديث والآثار للزيلعي ج3 ص331 وتفسير الآلوسي ج26 ص141 والسيرة الحلبية ج3 ص217.

([25]) سبل الهدى والرشاد ج6 ص287 و 288 عن أحمد عن الأقرع، عن ابن جرير بسند جيد، وأبي القاسم البغوي، والطبراني بسند صحيح، والترمذي وحسنه، وابن أبي حاتم، وابن المنذر عن البراء ابن عازب، والدر المنثور ج6 ص86 عن أكثر من تقدم. وراجع: مجمع الزوائد ج7 ص108 وتحفة الأحوذي ج9 ص109 وكنز العمال ج3 ص810 وتفسير القرآن العظيم ج4 ص223 ولباب النقول للسيوطي (ط دار إحياء العلوم) ص196 و (ط دار الكتب العلمية) ص179 والطبقات الكبرى لابن سعد ج1 ص294 وتاريخ مدينة دمشق ج9 ص184 و 185 وج40 ص358 والإصابة (ط دار الكتب العلمية) ج1 ص253 والوافي بالوفيات ج10 ص280 والبداية والنهاية لابن كثير ج5 ص55 وأعيان الشيعة ج1 ص241 وج3 ص471 والسيرة النبوية لابن كثير ج4 ص86.

([26]) الآية 4 من سورة الحجرات.

([27]) سبل الهدى والرشاد ج6 ص291.

([28]) فجر الإسلام ص256 وقضايا في التاريخ الإسلامي ص37 و 68 و 71 عن تاريخ الأمم والملوك ج5 ص516 وعن العبر وديوان المبتدأ والخبر ج3 ص145 وضحى الإسلام ج3 ص332 والخوارج والشيعة ص74 وتاريخ الإسلام السياسي ج1 ص397 ودائرة المعارف الإسلامية ج8 ص470.

([29]) البيان والتبيين ج1 ص206.

 
   
 
 

العودة إلى موقع الميزان