ترقيع الدلاء بكتاب رسول الله
وقد ذكرت عدة سرايا إرسلت إلى جماعات، أو أشخاص، كتب
إليهم رسول الله «صلى الله عليه وآله» كتباً يدعوهم فيها إلى الإسلام،
فرقعوا دلاءهم بكتاب رسول الله «صلى الله عليه وآله» استهانة منهم به،
وسوء خلق وأدب لا مبرر له..
واللافت هنا:
أن هذه الأحداث المتشابهة في هذا الأمر ـ أعني ترقيع الدلاء ـ قد جاءت
متقاربة من حيث الزمان، فهل هذا يشير إلى أن بعض الرواة قد وهموا في
تحديد من فعل ذلك؟! أو أنهم تعمدوا أن يلقوا التهمة على هذا أو ذاك،
ليجنبوا الفاعل الحقيقي هذا العار؟!.. أو أن هناك من فعل هذا الأمر
أولاً، ثم تناقله الناس، فراق لبعض الفئات أن تقتدي بمن سبقها إلى هذا
الأمر الشنيع؟!..
إن ذلك كله ممكن، ولا مجال لاستبعاده بصورة قاطعة، فإن
له نظائر في التاريخ.
وحيث إننا غير قادرين على الحسم في هذا الأمر، فلا بد
لنا من اعتماد الإحتمال الأخير، الذي يدعونا للأخذ بهذه الروايات حتى
يظهر لنا ما يردعنا عنها، أو يقوي الشبهة في صحة بعض أطرافها..
وقد جمعنا ما ظهر لنا منها في صعيد واحد، لأن للتفريق
آفاته ومتاعبه، ومشكلاته، التي ربما يؤثر بعضها على ذهنية القارئ
الكريم..
فإلى ما يلي من مطالب.. وعلى الله نتوكل، ومنه نستمد
القوة والعون، والسداد والرشاد..
قال محمد بن عمر، وابن سعد:
سنة تسع([1]).
وقال الحاكم:
في آخر سنة ثمان([2]).
وقال محمد بن عمر الأسلمي:
في صفر([3]).
وقال ابن سعد:
في ربيع الأول وجرى عليه في المورد والإشارة([4]).
قالوا:
بعث رسول الله صلى «صلى الله عليه وآله» جيشاً إلى
القرطاء، (وهم بطن من بكر)([5])،
عليهم الضحاك بن سفيان الكلابي، ومعه الأصيد بن سلمة بن قرط، فلقوهم
بالزُّج، زج لاوة بنجد، (موضع بناحية ضرية)([6])،
فدعوهم إلى الإسلام، فأبوا، فقاتلوهم، فهزموهم.
فلحق الأصيد أباه سلمة، وسلمة على فرس له في غدير
بالزُّج، فدعا أباه إلى الإسلام وأعطاه الأمان، فسبه وسب دينه، فضرب
الأصيد عرقوبي فرس أبيه، فلما وقع الفرس على عرقوبيه ارتكز سلمة على
رمحه في الماء، ثم استمسك به حتى جاءه أحدهم، فقتل سلمة ولم يقتله ولده([7]).
وقد ذكر ابن حبان:
أن النبي «صلى الله عليه وآله» كتب إلى القرطاء، فرقعوا
دلوهم بكتابه([8]).
وفي شواهد النبوة:
بعث النبي «صلى الله عليه وآله» سرية إلى بني كلاب،
وكتب إليهم في رق، فلم ينقادوا، وغسلوا الخط عن الرق، وخاطوه تحت
دلوهم.
فلما بلغ النبي «صلى الله عليه وآله» الخبر قال:
ما لهم! أذهب الله عقولهم!!
فلذا لا يوجد من بني كلاب إلا مختل
العقل، ومختلط الكلام، وبعضهم بحيث لا يفهم كلامه([9]).
وعند البلاذري:
أنه أرسل الضحاك بن سفيان الكلابي في شهر ربيع الأول
سنة تسع إلى قوم من بني كلاب، كتب إليهم «صلى الله عليه وآله»، فرقعوا
بكتابه دلوهم، فأوقع بهم([10]).
وقال ابن حجر في ترجمة سمعان بن
عمرو الكلابي:
«ذكر أبو الحسن المدائني في كتاب رسل رسول الله «صلى
الله عليه وآله» بأسانيده، قالوا:
وبعث رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى سمعان بن عمرو
مع عبد الله بن عوسجة، فرقع بكتابه دلوه.
فقيل لهم:
بنو المرقع. ثم أسلم سمعان، وقد قدم على رسول الله «صلى
الله عليه وآله»، وأنشده:
أقـلني كـما
أمـنـت ورداً ولم أكـن بأسـوأ ذنـبـاً إذ أتـيـتـك مـن
ورد
يشير بذلك إلى ورد بن مرداس([11]).
ورووا أيضاً:
أن النبي «صلى الله عليه وآله» كتب إلى جفينة النهدي،
أو الجهني، أو الغساني كتاباً فرقع به دلوه، فقالت له ابنته: عمدت إلى
كتاب سيد العرب، فرقعت به دلوك؟!
فهرب فأخذ كل قليل وكثير هو له، ثم جاء بعد مسلماً([12]).
وروي أيضاً بسند جيد:
أن رسول الله «صلى الله عليه وآله» كتب إلى رعية
السحيمي كتاباً في أديم أحمر، فأخذ كتاب رسول الله «صلى الله عليه
وآله» فرقع به دلوه.
فبعث رسول الله «صلى الله عليه وآله» سرية، فلم يدعوا
له سارحة ولا رائحة، ولا أهلاً ولا مالاً إلا أخذوه، وانفلت عرياناً
على فرس له، ليس عليه سترة حتى انتهى إلى ابنته، وهي متزوجة في بني
هلال، وقد أسلمت وأسلم أهلها. وكان مجلس القوم بفناء بيتها، فدار حتى
دخل عليها من وراء البيت.
فلما رأته ألقت عليه ثوباً وقالت: مالك؟
قال:
«كل الشر نزل بأبيك، ما ترك له رائحة ولا سارحة ولا أهل ولا مال.
قالت:
دعيت إلى الإسلام؟
قال:
أين بعلك؟
قالت:
في الإبل.
فأتاه. قال:
ما لك؟
قال:
كل الشر نزل بي، ما تركت لي رائحة ولا سارحة، ولا أهل
ولا مال، وأنا أريد محمداً قبل أن يقسم أهلي ومالي.
قال:
فخذ راحلتي برحلها.
قال:
لا حاجة لي فيها.
قال:
فخذ قعود الراعي. وزوده إداوة من ماء.
قال:
وعليه ثوب إذا غطى به وجهه خرجت استه، وإذا غطى استه
خرج وجهه، وهو يكره أن يعرف، حتى انتهى إلى المدينة، فعقل راحلته. ثم
أتى رسول الله «صلى الله عليه وآله» فكان بحذائه حيث يقبل. فلما صلى
رسول الله «صلى الله عليه وآله» الصبح قال: يا رسول الله، ابسط يدك
أبايعك، فبسطها. فلما أراد أن يضرب عليها قبضها إليه رسول الله «صلى
الله عليه وآله».
قال:
ففعل ذلك رسول الله «صلى الله عليه وآله» ثلاثاً
ويفعله.
فلما كانت الثالثة قال:
«من أنت»؟
قال:
أنا رعية السحيمي.
قال:
فتناول رسول الله «صلى الله عليه وآله» عضده، ثم رفعه،
ثم قال: «يا معشر المسلمين، هذا رعية السحيمي الذي بعثت إليه كتابي
فرقع به دلوه».
فأخذ يتضرع إليه.
قلت:
يا رسول الله، أهلي ومالي.
قال:
«أما ما لك فقد قسم، وأما أهلك فمن قدرت عليه منهم».
فخرج، فإذا ابنه قد عرف الراحلة وهو قائم عندها، فرجع
إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فقال: يا رسول الله، هذا ابني.
قال:
«يا بلال، أخرج معه فسله أبوك هو؟ فإذا قال: نعم، فادفعه إليه».
فخرج إليه، فقال:
أبوك هذا؟
قال:
نعم.
فرجع إلى رسول الله «صلى الله عليه
وآله»، فقال:
يا رسول الله، ما رأيت أحداً منهما استعبر لصاحبه.
قال:
«ذاك جفاء الأعراب»([13]).
وفي مستهل شهر ربيع الأول سنة تسع بعث رسول الله «صلى
الله عليه وآله» عبد الله بن عوسجة [إلى بني حارثة بن عمرو] يدعوهم إلى
الإسلام. فأخذوا الصحيفة، فغسلوها ورقعوا بها أسفل دلوهم، وأبوا أن
يجيبوا، فرفع ذلك إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فقال: «ما لهم
ذهب الله بعقولهم»؟
فهم إلى اليوم أهل رعدة، وعجلة، وكلام مختلط وأهل سفه.
قال محمد بن عمر:
قد رأيت بعضهم عيياً لا يحسن يبين الكلام.
وقالت أم حبيب بنت عامر منكرة عليهم:
إذا مـا أتـتـهـم آيــة مـن محـمـد
محـوهـا بـماء الـبـئر فـهو عصير([14])
ونقول:
لا بأس بملاحظة ما يلي:
قد صرحت النصوص المتقدمة بما لم نزل نشير إليه، ونذكر
القارئ به، وهو: أن سرايا رسول الله «صلى الله عليه وآله» كانت إما
استباقية، حينما كان يبلغه «صلى الله عليه وآله» أن جماعة قد جمعوا
وتهيأوا لمباغتة المسلمين بالحرب، وإما لأجل الدعوة إلى الإسلام، فإذا
واجهوا الدعاة بالعنف، دافعوا عن أنفسهم، وهو حق مشروع لهم.
وقد لاحظنا:
أن رد بني حارثة بن عمرو، وسائر من تقدم ذكرهم، على
كتاب رسول الله «صلى الله عليه وآله» إليهم قد اتسم بالاستهتار والخفة،
وبالصلف، وبالسفه والوقاحة، حيث كانوا يأخذون الصحيفة، وبعد أن
يغسلوها، يرقعون بها أسفل دلائهم.. فدعا رسول الله «صلى الله عليه
وآله» عليهم بأن يبتليهم الله بما يتناسب مع نفس فعلهم، وهو خفة العقل،
وظهور الإختلاط والسفه.
وقد أظهر الله كرامة نبيه باستجابة دعائه فيهم.. ليكون
ذلك عبرة لهم، ولغيرهم ممن يسير في طريق الإستكبار، والعنجهية،
والإستهتار بالحق، والإستخفاف بأهله.
نعم،
لقد جاءت هذه الدعوة النبوية، واستجابتها منسجمة مع طبيعة المنطق الذي
واجهوا به النبي «صلى الله عليه وآله»، فإنه كان يتسم بالإستخفاف
المتمثل بترقيع دلائهم بكتابه «صلى الله عليه وآله».. فإن تصرفهم هذا
تجاه دعوة الحق والخير والهدى قد جاء مجانباً للمنطق، وللإنصاف، يتسم
بالخفة والصبيانية، وعدم التعقل، حيث لم يواجهوا الحجة بالحجة، ولا
استجابوا لنداء الضمير والوجدان، الذي يفرض عليهم الخضوع للحق، والأخذ
بأحكامه، والإستسلام لقضاء الفطرة، وحكم الوجدان. فاستحقوا أن يكونوا
في نفس هذا الموقع الذي ارتضوه لأنفسهم، فكانت الدعوة النبوية، التي
أعقبتها الإستجابة الإلهية.. تماماً كما كان الحال بالنسبة لقوم ثمود،
الذين قال الله تعالى عنهم:
{وَأَمَّا
ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الهُدَى..}([15]).
وقد صرحت الروايات المتقدمة:
بأنه لم يوجد في أولئك القوم، إلا مختل العقل، فيه رعدة
وسفه، واختلاط..
بل لقد زعم الواقدي:
أنه رأى بعضهم عيياً لا يحسن الكلام.
ونحن لا يخالجنا شك في أن الله تعالى قد استجاب لنبيه
«صلى الله عليه وآله» دعوته فيهم.. غير أننا نقول:
إنه «صلى الله عليه وآله» إنما يدعو على من أذنب دون
سواه.. فما معنى أن يستمر العي والإختلاط و.. و.. الخ.. في أعقابهم؟!
ويمكن أن يقال في الجواب:
إن ذلك يخضع للسنن الإلهية المودعة في المخلوقات، ولعل
منها: أن تبقى آثار العي في أعقابهم من خلال قانون الوراثة للخصال،
وللأمراض والعاهات، وانتقال بعض ذلك إلى الذرية بنحو أو بآخر، فإن
العرق دساس..
وليكن هذا من جملة العقوبات التي يستحقها من يستهينون
برسل الله تبارك وتعالى.
وقد تعجب بلال من عدم استعبار الولد لأبيه، والعكس،
فأخبر النبي «صلى الله عليه وآله» بما رآه، وكأنه يريد أن يعبر للنبي
«صلى الله عليه وآله» عن شكه في أن يكونا أباً وابناً، متخذاً من عدم
استعبار أحدهما للآخر، وهما في محنة دلالة تؤكد شكه هذا..
ولكن النبي «صلى الله عليه وآله» الذي كان يعرف طبائع
الناس وحالاتهم قد أوضح لبلال أن سبب ما رآه، وهو جفاء الأعراب، حيث إن
طبائعهم تختلف عن طبائع غيرهم، فإنهم يعيشون قسوة الناس عليهم، بما
يمارسونه ضد بعضهم البعض من سلب ونهب، وأسر، وقتل. ويواجهون قسوة
الطبيعة عليهم في حرها وبردها، وفي شحها بالماء والكلأ، وقسوة الجهل،
وعدم المعرفة بنتائج وآثار كثير من أعمالهم، وبواقعهم.
نعم، إنهم يشاهدون ويعانون من ذلك كله، فيقسمونه على
بعضهم البعض، ويهون على الوالد رؤية ولده في مشقة وتعب وجهل وتخلُّف،
وأن يرى الولد أباه على نفس هذه الحال، ما دام أن الجهد والتعب،
ومواجهة المصائب والبلايا يشمل الجميع، وهو جزء من حياتهم اليومية..
فلا غرابة في أن نراهم جفاة قساة في حياتهم العادية، مع القريب والبعيد
من دون استثناء.
تقدم:
أن النبي «صلى الله عليه وآله» أرسل الضحاك الكلابي مع
جيش إلى القرطاء، فدعوهم إلى الإسلام، فأبوا، فقاتلوهم.
فقد يستظهر من قوله في سرية القرطاء:
«فقاتلوهم، فهزموهم»: أن الإستعداد للقتال كان قائماً
من كلا الطرفين.
وقد قلنا أكثر من مرة:
إن مجرد عدم قبول فئة من الناس الإسلام لا يدفع الدعاة
إلى القتال، لو لم تكن تلك الفئة قد تصرفت بصورة عدوانية تجاه أولئك
الدعاة، وقد قال الله تعالى لنبيه:
{ادْعُ
إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ
وَجَادِلهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ
بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالمُهْتَدِينَ}([16]).
وقال جل وعلا:
{وَلَا تَسْتَوِي
الحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ
فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ
حَمِيمٌ}([17]).
ومما يدل على أن سرايا رسول الله «صلى الله عليه وآله»
كانت سرايا دعوة أنها كانت قليلة العدد، ضعيفة العدة، وكانت تتعرض
للتحدي وللقتل في كثير من الأحيان، وكثيراً ما يكون إرسال سرايا القتال
لمعالجة الموقف، أو للرد على العنف والعدوان الذي تعرضت له سرايا
الدعوة.
1 ـ
وقد ظهرت المباينة بين سلوك الأصيد من جهة، وبين سلوك
أبيه من جهة أخرى، حيث إن الأصيد يريد لأبيه النجاة، فيعطيه الأمان في
الدنيا، ويطلب منه المبادرة لقبول ما ينجيه في الآخرة، وهو الإسلام..
ولكن أباه يقابله على ذلك بالشتيمة والسب له ولدينه..
وقد صدق الشاعر حيث يقول:
أريــد حـبـاءه ويــريــد قـتــلي عـذيـرك مـن
خـلـيـلك من مراد
2 ـ
وحين أصر سلمة على موقفه، لم يبادر ولده إلى إيصال
الأذى إليه، بل اكتفى بعرقبة فرسه، أمسك عنه تأدباً، فلحقه المسلمون،
فقتلوه..
3 ـ
ولا ندري ما المبرر لسب سلمة لولده، وهو إنما يدعوه إلى
ما فيه نجاته ونجاحه، وفلاحه وصلاحه، كما أننا لا ندري ما الذي دعاه
لأن يسب دينه، وهو دين الخير والبركات، والقول السديد، والرأي الحميد،
وهو دين الحق والهدى، والرشاد والسداد؟! فهل نظر في هذا الدين فوجد فيه
ما يوجب هذا السب؟!. أم أنه اللجاج والعناد، والإستكبار والجحود؟!
وقد أظهرت النصوص المتقدمة:
أن الذين رقعوا دلاءهم بكتاب رسول الله «صلى الله عليه
وآله» قد تعددوا، فهل كان عامة العرب يعانون من أزمة في دلائهم، فلا
يجدون ما يرقعونها به؟! حتى جاءتهم كتب النبي «صلى الله عليه وآله»،
فاغتنم بعضهم الفرصة، واجترأ على مقام رسول الله «صلى الله عليه وآله»
دون أن يفكر بالعواقب. وخاف الآخرون من الإقدام على هذا الأمر؟!..
إن الحقيقة هي:
أن الأمر لم يكن كذلك، وإنما هو سوء أدب، وأعرابية
وقحة، ومتجرئة ولا مبالية، تنقاد للهوى، ولا تعيش معنى القيمة والكرامة
الإنسانية إلا في عناوين تتلاءم مع عقلياتها، وعصبياتها، وجهلها،
وحاجاتها الشهوانية والأهوائية.
وقد قرأنا في النصوص المتقدمة قصة السحيمي، وما جرى
بينه وبين ابنته حينما وصل إليها على تلك الحال المزرية، والمتناهية في
السوء والذلة والخزي. حتى إنه لم يجرؤ على دخول بيتها من بابه، بل دخل
من وراء البيت، كي لا يرى الناس حاله..
وقد أدركت ابنته بمجرد رؤيتها إياه:
أنه اتخذ سبيل العناد واللجاج، وواجه الدعوة إلى الحق
بالرد اللئيم والحاقد، الذي يحتقر حتى أنبياء الله وأصفياؤه، من دون
ذنب أتوه إليه، سوى الرغبة في إخراجه من الظلمات إلى النور، ومن النار
إلى الجنة، ومن الضلال إلى الهدى..
والظاهر:
أن ابنته كانت تعرف طبيعة تصرفاته، وترى أنها بعيدة عن
الإتزان، والسداد. فسألته عن حاله، فظهر لها من حاله ومقاله: أن ظنها
قد أصاب كبد الحقيقة. ولعل ذلك هو السبب في أننا لا نجد ما يظهر لنا
أنها اهتمت لما حصل له..
ثم إننا لا ندري إن كان جفينة هو رعية، والسحيمي هو
الجهني. وقد صحف النساخ الكلمات والأسماء.. أم أنهما شخصان مختلفان؟!
وفي جميع الأحوال نقول:
إن استغراب بنت جفينة من فعل أبيها بكتاب رسول الله
«صلى الله عليه وآله» يشير إلى: أن ما فعله جهينة لم يكن مستساغاً حتى
عند الأعراب، البعيدين عن الوعي والثقافة، والمعروفين بالجفاء وسوء
الأدب. بل إن ذلك كان مستهجناً حتى عند النساء منهم، فلا مجال لادعاء
أن يكون جفينة أو غيره قد فعلوا أمراً مستساغاً ومرضياً عندهم..
ولذلك نلاحظ:
أن لحن كلام ابنة جهينة يدل دلالة واضحة على إدراكها
قبح هذا الأمر، حيث قالت له على
سبيل الإنكار: «عمدت إلى كتاب سيد العرب، فرقعت به
دلوك»؟!.
وقد أدرك جفينة قبح وخطورة ما صدر منه، فبادر إلى
الهرب..
حتى جاء بعد ذلك مسلماً..
([1])
سبل الهدى والرشاد ج6 ص215 والطبقات الكبرى لابن سعد ج2 ص162
وعيون الأثر ج2 ص239 وتاريخ الإسلام للذهبي ج2 ص623.
([2])
سبل الهدى والرشاد ج6 ص215 و 216.
([3])
سبل الهدى والرشاد ج6 ص215 و 216.
([4])
سبل الهدى والرشاد ج6 ص215 والطبقات الكبرى لابن سعد ج2 ص162
وإمتاع الأسماع ج2 ص43 وعيون الأثر ج2 ص239 وتاريخ الإسلام
للذهبي ج2 ص623 وتاريخ الخميس ج2 ص120 عن المواهب اللدنية،
والإصابة ج1 ص53.
([5])
شرح المواهب اللدنية ج3 ص57.
([6])
وفاء الوفاء ج2 ص317.
([7])
سبل الهدى والرشاد ج6 ص215 والطبقات الكبرى لابن سعد ج2 ص163 و
356 وعيون الأثر ج2 ص239 وتاريخ الإسلام للذهبي ج2 ص623.
([9])
تاريخ الخميس ج2 ص120 والسيرة الحلبية (ط دار المعرفة) ج3
ص222.
([10])
أنساب الأشراف ج1 ص382.
([11])
الإصابة ج2 ص80 و (ط دار الكتب العلمية) ج3 ص153 والطبقات
الكبرى لابن سعد (ط ليدن) ج1 ق1 ص31 و (ط دار صادر) ج1 ص280
ورسالات نبوية ص22 ومجموعة الوثائق السياسية ص276 ومكاتيب
الرسول ج1 ص195.وسبل الهدى والرشاد ج11 ص364.
([12])
مكاتيب الـرسول ج1 ص203 وقال في هامشه: راجع: البحار 19 ص166 =
= والإستيعاب (بهامش الإصابة) ج1 ص261 والإصابة ج1 ص241 /1175 وأسد الغابة ج1
ص291 وكنز العمال ج15 ص295 عن أبي نعيم، ورسالات نبوية ص15
والأمالي للشيخ الطوسي ج1 ص397 ومجموعة الوثائق السياسية
174/92 عن قسم من المصادر المتقدمة، وقال: قابل الجرح والتعديل
لأبي حاتم الرازي ج1 ص21 الرقم (2263) وراجع: المعجم الكبير
للطبراني ج2 ص325 ومجمع الزوائد ج6 ص208 والكامل لابن عدي ج4
ص1457.
([13])
سبل الهدى والرشاد ج6 ص241 و 242 عن أحمد، وابن أبي شيبة،
ومسند أحمد ج5 ص285 و 286 وراجع: مكاتيب الرسول ج1 ص210 عن
الإصابة ج1 ص516/2659 في رعية وص241 في جفينة الجهني، وأسد
الغابة ج2 ص176 و 177 والإستيعاب (بهامش الإصابة) ج1 ص536 وكنز
العمال ج4 ص340 عن أحمد، وعبد الرزاق بأسانيد وص341 عن ابن أبي
شيبة، وص342 عن الطبراني، وأعلام السائلين ص31 ورسالات نبوية
ص18 والمصنف لابن أبي شيبة ج14 ص344 وراجع: مجموعة الوثائق
السياسية ص275 و (في ط أخرى) ص323/235 عن جمع ممن تقدم وعن:
إمتاع الأسماع للمقريزي ج1 ص44 وتعجيل المنفعة لابن حجر ص321
وأنساب الأشراف للبلاذري ج1 ص382. وراجع: الطبقات الكبرى لابن
سعد ج1 ق2 ص31 والكامل لابن عدي ج4 ص1457 والمعجم الكبير
للطبراني ج5 ص77/4635 و ص78/4636 ومجمع الزوائد ص205 ـ 206.
([14])
سبل الهدى والرشاد ج6 ص213 عن أبي سعيد النيسابوري في الشرف،
وعن دلائل النبوة، وأنساب الأشراف ج1 ص382 والإصابة ج2 ص355
وج4 ص446 و (ط دار الكتب العلمية) ج8 ص384 وأسد الغابة ج3 ص239
والمغازي للواقدي ج3 ص982 و 983 والإمتاع ص441 والبحار ج18 ص16
والمناقب لابن شهرآشوب ج1 ص81 والثقات لابن حبان ج2 ص91 ومعجم
قبائل العرب ص83 عن المواهب اللدنية، ومجموعة الوثائق السياسية
ص275 ورسالات نبوية ص12 وعن السيرة النبوية لدحلان ج2 ص365
وتاريخ الخميس ج2 ص120 عن سيرة مغلطاي، وعن شرف المصطفى
للنيسابوري، وعن المواهب اللدنية.
([15])
الآية 17 من سورة فصلت.
([16])
الآية 125 من سورة النحل.
([17])
الآية 34 من سورة فصلت.
|