عودة علي
إلى
اليمن
قال محمد بن عمر، وابن سعد، واللفظ
للأول:
بعث رسول الله «صلى الله عليه وآله» علياً إلى اليمن في
شهر رمضان، وأمره أن يعسكر بقناة، فعسكر بها حتى تتامّ أصحابه. فعقد له
رسول الله «صلى الله عليه وآله» لواءً، وأخذ عمامته فلفها مثنية مربعة،
فجعلها في رأس الرمح، ثم دفعها إليه. وعممه بيده عمامة ثلاثة أكوار،
وجعل له ذراعاً بين يديه، وشبراً من ورائه، وقال له: «امض ولا تلتفت».
فقال علي «عليه السلام»:
يا رسول الله، ما أصنع؟
قال:
«إذا نزلت بساحتهم فلا تقاتلهم حتى يقاتلوك، وادعهم إلى
أن يقولوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله، فإن قالوا: نعم، فمرهم
بالصلاة، فإن أجابوا، فمرهم بالزكاة، فإن أجابوا فلا تبغ منهم غير ذلك،
والله، لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك مما طلعت عليه الشمس أو
غربت».
فخرج علي «عليه السلام» في ثلاثمائة فارس، فكانت خيلهم
أول خيل دخلت تلك البلاد. فلما انتهى إلى أدنى الناحية التي يريد من
مذحج فرق أصحابه، فأتوا بنهب وغنائم وسبايا، نساءً وأطفالاً، ونعماً
وشاءً، وغير ذلك.
فجعل علي «عليه السلام» على الغنائم بريدة بن الحصيب
الأسلمي، فجمع إليه ما أصابوا قبل أن يلقى لهم جمعاً. ثم لقي جمعهم،
فدعاهم إلى الإسلام، فأبوا، ورموا أصحابه بالنبل والحجارة.
فلما رأى أنهم لا يريدون إلا القتال صف أصحابه، ودفع
اللواء إلى مسعود بن سنان السلمي، فتقدم به، فبرز رجل من مذحج يدعو إلى
البراز، فبرز إليه الأسود بن خزاعي، فقتله الأسود، وأخذ سلبه.
ثم حمل عليهم علي «عليه السلام» وأصحابه، فقتل منهم
عشرين رجلاً، فتفرقوا وانهزموا، وتركوا لواءهم قائماً، وكفَّ علي «عليه
السلام» عن طلبهم، ثم دعاهم إلى الإسلام، فأسرعوا وأجابوا.
وتقدم نفر من رؤسائهم، فبايعوه على
الإسلام وقالوا:
نحن على من وراءنا من قومنا. وهذه صدقاتنا، فخذ منها حق
الله تعالى.
وجمع علي «عليه السلام» ما أصاب من تلك الغنائم، فجزأها
خمسة أجزاء، فكتب في سهم منها لله، ثم أقرع عليها، فخرج أول السهمان
سهم الخمس، وقسم علي «عليه السلام» على أصحابه بقية المغنم. ولم ينفل
أحداً من الناس شيئاً، وكان من كان قبله يعطون خيلهم الخاص دون غيرهم
من الخمس، ثم يخبرون رسول الله «صلى الله عليه وآله» بذلك فلا يردُّ ه
عليهم، فطلبوا ذلك من علي «عليه السلام»، فأبى، وقال: الخمس أحمله إلى
رسول الله «صلى الله عليه وآله» يرى فيه رأيه([1]).
وأقام فيهم يقرئهم القرآن، ويعلمهم الشرائع، وكتب إلى
رسول الله «صلى الله عليه وآله» كتاباً مع عبد الله بن عمرو بن عوف
المزني يخبره الخبر.
فأتى رسول الله «صلى الله عليه وآله»، فأمر رسول الله
«صلى الله عليه وآله» أن يوافيه الموسم، فانصرف عبد الله بن عمرو بن
عوف إلى علي «عليه السلام» بذلك، فانصرف علي «عليه السلام» راجعاً.
فلما كان بالفتق تعجل إلى رسول الله «صلى الله عليه
وآله» يخبره الخبر، وخلَّف على أصحابه والخمس أبا رافع، فوافى رسول
الله «صلى الله عليه وآله» بمكة قد قدمها للحج.
وكا ن في الخمس ثياب من ثياب اليمن، أحمال معكومة، ونعم
وشاء مما غنموا، ونعم من صدقة أموالهم. فسأل أصحاب علي «عليه السلام»
أبا رافع أن يكسوهم ثياباً يحرمون فيها، فكساهم منها ثوبين ثوبين.
فلما كانوا بالسدرة داخلين خرج علي «عليه السلام»
ليتلقَّاهم ليقدم بهم، فرأى على أصحابه الثياب، فقال لأبي رافع: ما
هذا؟
فقال:
«كلموني، ففرقت من شكايتهم، وظننت أن هذا ليسهل عليك،
وقد كان مَنْ قبلك يفعل هذا بهم».
فقال:
«قد رأيت امتناعي من ذلك، ثم أعطيتهم؟! وقد أمرتك أن
تحتفظ بما خلَّفت، فتعطيهم»؟.
فنزع علي «عليه السلام» الحلل منهم.
فلما قدموا على رسول الله «صلى الله عليه وآله» شكوه،
فدعا علياً «عليه السلام»، فقال: «ما لأصحابك يشكونك»؟
قال:
ما أشكيتهم، قسمت عليهم ما غنموا، وحبست الخمس حتى يقدم
عليك فترى فيه رأيك.
فسكت رسول الله «صلى الله عليه وآله»([2]).
ونقول:
إن هذا النص قد تضمن أموراً عديدة يحسن الوقوف عندها،
وهي التالية:
ذكر النص المتقدم:
أن خيل علي «عليه السلام» كانت أول خيل دخلت إلى بلاد
اليمن.
وهذا يلقي بظلال من الشك على ما تقدم، من أن النبي «صلى
الله عليه وآله» قد أرسل خالداً إلى اليمن، وأنه قد حصل على بعض
الغنائم، فطلب من النبي «صلى الله عليه وآله» أن يرسل إليه من يقبضها
منه..
إلا أن يقال:
إنه ليس بالضرورة أن يكون خالد قد حصل على تلك الغنائم
من بلاد اليمن، فلعلها حصلت له من مواجهات مع بعض القبائل التي صادفها
في طريقه، أو قصدها لغرض الدعوة..
ولعله حين دخل خالد إلى بلاد اليمن لم يدخلها في خيل
قتال.. ولكنه قد تعرض لأهل اليمن ببعض ما يسوءهم، فأثار حفيظتهم،
فامتنعوا عن الإسلام.. ثم لما جاءهم علي «عليه السلام» وجدوا فيه نمطاً
يختلف تماماً عن نمط من سبقوه، فقبلوا منه.
إننا نلاحظ:
أنه «صلى الله عليه وآله» قد قال لعلي «عليه السلام»
حين وجهه إلى اليمن: «إمض ولا تلتفت».
وهذه هي نفس الكلمة التي قالها له
«عليه السلام»:
حين وجهه إلى يهود خيبر، حيث قتل مرحباً، واقتلع باب
خيبر، وفتح الحصن.. ولم نره قال ذلك لعلي «عليه السلام» في غير هذين
الموردين.
وقد يقال:
إن من نقاط الإشتراك بينهما:
أن فتح خيبر، فيه إسقاط لهيمنة اليهود، في تلك المنطقة، وكسر لشوكتهم،
وإذلال لهم.. وإسلام اليمن يمثل أيضاً ضربة قوية لعنفوان اليهود، الذين
كانت لهم هيمنة كبيرة وانتشار واسع في تلك البلاد.
يضاف إلى ذلك:
إرادة إظهار مدى طاعة علي «عليه السلام»، والتزامه
بحرفية أوامر النبي الكريم «صلى الله عليه وآله».. لكي يوازن الناس بين
ذلك وبين ممارسات غيره، ممن تكون أهواؤهم، وعصبياتهم هي المهيمنة على
تصرفاتهم.
ثم إن هذا التوجيه يشير إلى لزوم الإنضباط التام، وعدم
التسامح، ولزوم الكف عن التوسع الإجتهادي في تطبيق الأوامر الصادرة عن
القيادة، فكيف إذا كانت هذه القيادة معصومة، ولها مقام النبوة
الخاتمة؟!
ثم إن هذا الأمر يعطي الإيحاء القوي:
بأن على الإنسان حين يكلف بمهمة جهادية، وخصوصاً إذا
كان ذلك من رسول الله «صلى الله عليه وآله» أن لا يشغله أي شأن آخر،
وأن يركز كل همه، ويحصر كل تفكيره، في تلك المهمة التي أوكلت إليه، وأن
يقطع جميع تعلقاته بأي شيء آخر مهما كان..
إن الإمام «عليه السلام» حين قال
للنبي «صلى الله عليه وآله»:
ما أصنع؟ فإنما أراد للناس كلهم أن يسمعوا الرسول
الأكرم «صلى الله عليه وآله» وهو يحتم على مبعوثيه: أن لا يقاتلوا
الآخرين حتى يقاتلوهم. وإن المهمة منحصرة في الدعوة إلى الإسلام
والإيمان، وأن المطلوب هو هداية الناس إلى الله، وإلى سلوك طريق الرشاد
والسداد، والهدى.
وهذا يشير إلى:
أن هذا العدد الضخم لأفراد السرية قد كان لأجل أن يحفظ
بعضهم بعضاً في أسفارهم في البراري والقفار حتى لا يجتري عليهم ضعفاء
النفوس، والمتطفلون، والطامعون ممن يمتهنون السلب والنهب كوسيلة للحصول
على ما يعتاشون به، كما هو حال كثير من الناس في تلك الأيام.
وقد لوحظ:
أنه «صلى الله عليه وآله» قد أمر علياً «عليه السلام»:
بأن تكون دعوته للناس على مراحل..
ولوحظ أيضاً:
أنه «صلى الله عليه وآله» قد أمر علياً «عليه السلام»
بأن يطلب منهم أموراً ثلاثة، بل هو قد منعه من طلب الزائد، أيَّاً كان
نوعه وطبيعته..
فالمطلوب الأول هو:
أن يقولوا: لا إله إلا الله، محمد رسول الله..
فمجرد قول هذه الكلمة يكفي في عدم جواز التعرض لهم
بشيء، بل هو لم يسمح بأي من أنواع التدقيق والبحث عما وراء هذا القول،
حتى ولا الإستفهام عن درجة الإيمان ومضمونه..
فإن قالوا ذلك، فالمطلوب الثاني هو:
أن يصلّوا..
فإن فعلوا ذلك، فالمطلوب الثالث هو:
أن يزكّوا..
ثم إنه «صلى الله عليه وآله» قد حسم
الأمر فيما زاد عن ذلك، فقال:
ولا تبغ منهم غير ذلك.
وهذا يعني:
أن على من يشارك في تلك السرايا أن لا يتوهم أنها من
مصادر الرزق، وأنه يباح له سلب أموال الناس تحت غطاء الدين والدعوة..
وأن على الذين يُدْعَوْنَ للإسلام أن لا يفكروا بأن
هؤلاء الدعاة ومن وراءهم يطمعون بأموالهم، أو بنسائهم، أو بالهيمنة
عليهم..
ثم إن الشهادة لله بالوحدانية، ولمحمد «صلى الله عليه
وآله» بالرسالة هما من الأمور الإعتقادية القلبية، التي لا يعود نفعها
لغير المعتقد بها.. وأما الصلاة فما هي إلا صلة وعلاقة بين الإنسان
وربه.. والزكاة أيضاً إنما يعود نفعها للفقراء والمساكين، الذين لا
يتحرج الناس في بِرِّهم، وسدّ حاجاتهم.. ولا يجوز للنبي «صلى الله عليه
وآله»، ولا لأحد من أهل بيته «صلى الله عليه وآله»، وعشيرته أن يستفيد
منها، ولو بمقدار حبة، وذلك بمقتضى التشريع الإلهي الذي جاء به رسول
الله «صلى الله عليه وآله».
وقد ذكرت الروايات المتقدمة:
أنه «عليه السلام» لما وصل إلى أدنى ما يريد من مذحج،
فرق أصحابه، فأتوه بنهب وسبايا الخ.. قبل أن يلقى لهم جمعاً، ثم لقي
جمعهم فدعاهم الخ..
ولكن ذلك موضع ريب كبير، فإن النبي «صلى الله عليه
وآله» قد أوصى علياً «عليه السلام» بأن لا يقاتلهم حتى يقاتلوه، فما
معنى: أن يقبل من أصحابه السبايا والغنائم، والنهب الذي جاؤوه به، حيث
اغتنموا فرصة غيبة الرجال عن الحي ولم يكن هناك من تعرض عليه الدعوة،
فيقبلها، أو يردها؟!.
فهل أجاز النبي «صلى الله عليه وآله» له الإنتهاب
والسبي، ومنعه من القتال؟!
وهل يتوقع أن يتعرض مال شخص للإنتهاب، وعرضه وأطفاله
للسبي، ثم يقف مكتوف اليدين؟! فلا يعترض!! ولا يغضب!! ولا يعتبر ذلك
ظلماً وتعدياً؟! ألا يتوقع منه أن يقول: لماذا لم تسألوني، ولم تعرضوا
علي مطالبكم أولاً؟! فإن رفضتها بلا مبرر، فلكم الحق بانتهاب مالي،
وسبي عيالي، وأطفالي؟!
وهل يصح اعتبار هذا التصرف من مصاديق قوله تعالى:
{ادْعُ
إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالمَوْعِظَةِ الحَسَنَةِ
وَجَادِلهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ}؟!([3])
أم أنه أبعد ما يكون عن مفهوم هذه الآية؟!
من أجل ذلك نقول:
لعل في الرواية تحريفاً لغاية في نفس يعقوب، أو لعل
فيها سقطاً أوجب اختلال المعنى. أو لعل فيها تقديماً وتأخيراً، بتقدير،
أن يكون «عليه السلام» قد واجه رجالهم فدعاهم إلى الإسلام، فأبوا،
ورموا أصحابه بالنبل والحجار، فقاتلهم فهزمهم، وقتل منهم، وتفرق أصحابه
إلى مواضع نزولهم فأتوا بسبي وغنائم، ثم كفّ «عليه السلام» عن طلبهم،
ثم دعاهم إلى الإسلام مرة أخرى فأسرعوا وأجابوا، وبايعه نفر من
رؤسائهم، وضمنوا له الإسلام وراءهم..
سيرة علي
في الخمس
تخالف سيرة غيره:
وعن سيرة علي «عليه السلام» في الخمس نقول:
لقد كان النبي «صلى الله عليه وآله»
يريد من جهة:
أن يربي الناس على مفاهيم الشريعة، وعلى الإلتزام
بأحكامها. ويريد من جهة أخرى: أن يكون رفيقاً ورحيماً بهم، ومتألفاً
لهم على هذا الدين.
وكان الناس آنئذٍ حديثي عهد بالجاهلية، ولم تستأصل
مفاهيمها من نفوسهم، ولهم في الأموال رغبة، وفيهم إليها حاجة بصورة
عامة.. وربما لم تكن القناعة قد تبلورت لديهم في موضوع الخمس، ولعل
بعضهم كان يرى: أنه إذا كان ـ الخمس ـ للرسول «صلى الله عليه وآله»،
فالمفروض هو: أن يتنازل عنه لمصلحتهم.
فصاروا يستأثرون به لأنفسهم بصورة منتظمة، فيعطيه
قادتهم إلى خيلهم الخاص دون غيرهم، ثم يخبرون النبي «صلى الله عليه
وآله» بذلك، فلا يرده عليهم..
وحين لم يفعل ذلك علي «عليه السلام» طالبوه به، فرفض
إجابة طلبهم، وحمل الخمس إلى النبي «صلى الله عليه وآله» فلما رجعوا
شكوا علياً «عليه السلام» إليه «صلى الله عليه وآله».. فسأله فأخبره،
فسكت «صلى الله عليه وآله»، وانتهى الأمر عند هذا الحد..
فنلاحظ هنا:
1 ـ
أنه كان من غير اللائق بأولئك القادة أن يتصرفوا
بالخمس، من دون إذن من صاحبه، واضعين النبي «صلى الله عليه وآله» أمام
الأمر الواقع.
2 ـ
إن القائد الذي يولِّيه رسول الله «صلى الله عليه وآله»
أمين على الأموال، وليس وكيلاً في صرفها كيف شاء.
3 ـ
إن مطالبة أولئك الناس لقوادهم بأموال ليست لهم، لا
مبرر لها.. فكيف إذا بلغ الأمر بهم حد شكاية قائدهم، إذا امتنع عن
إعطائهم أموالاً لا حق لهم فيها؟!.
4 ـ
لو أن النبي «صلى الله عليه وآله» أراد أن يضع حداً
لهذا التصرف لاتهم بالبخل والعياذ بالله.. فلذلك كان لا يطالبهم بما
أخذوه مما يعود إليه.
5 ـ
لو أن علياً «عليه السلام» لم يبادر إلى وضع حد لهذا
التصرف المخالف، لأصبح سنة، ولضاعت الفائدة من تشريع الخمس، ولبطل
التشريع من أصله، إذا كان هناك من يريد أن يفهم من هذا السلوك النبوي
وسماحته «صلى الله عليه وآله» وكرم أخلاقه على أنه نسخ للتشريع بصورة
عملية..
6 ـ
إنهم قد اغتنموا فرصة غياب علي «عليه السلام» لمعاودة
السعي للحصول على تلك الأموال التي لا حق لهم بها، وكأنهم ظنوا أن
غيبته «عليه السلام» تزيل عنه صفة الأمين على ذلك المال والمسؤول عنه..
7 ـ
إن علياً «عليه السلام» قد استعاد الحلل التي كان أبو
رافع قد قسمها على أفراد السرية وإن كان أبو رافع قد تحجج بـ:
ألف:
أنه قد خاف من شكايتهم.
ب:
أنه ظن أن هذا الأمر يسهل على علي «عليه السلام».
ج:
أن من كان قبل علي «عليه السلام» كان يفعل ذلك..
وهي حجج واهية:
فإنه رجل قد اؤتمن على مال غيره، فلا معنى للخوف من
شكاية الناس الذين كانوا معه، إذا كانت شكايتهم على منعهم أمراً لا
يستحقونه..
وقد كان المال لرسول الله «صلى الله عليه وآله»، وعلى
علي «عليه السلام» أن يوصله إليه، فكيف يسهل عليه إعطاؤه لغير صاحبه؟!
وفعل غير علي «عليه السلام» إذا كان خطأً، لا يصلح
للتأسي به، أو الإستناد إليه.. فإن الخطأ لا ينتج صواباً..
8 ـ
إن هؤلاء الذين يسعون للحصول على مال لا يملكونه،
ويغتنمون فرصة غياب الأمين على ذلك المال، ليأخذوه من الذي ائتمنه
عليه، بعد أن منعهم هو منه، يريدون أن يستفيدوا من نفس هذا المال في
إحرام حجهم، الذي يفترض فيهم: أن يهتموا بأن يبعدوه عن أية شبهة، وعن
أي مالٍ يشك في حليته وطيبه..
علي
المقرئ
والمعلم:
وقد تقدم:
أن علياً «عليه السلام» أقام في أهل اليمن يقرئهم
القرآن، ويعلمهم الشرائع.. وهذا هو ما يطمح إليه أمير المؤمنين «عليه
السلام»، فإن ما يسعده، ويلذّ له هو إخراج الناس من ظلمات الجهل إلى
نور العلم، ومن الضلال إلى الهدى، وأن يعيش الناس أحراراً، سعداء برضا
الله، ملتزمين بشرائعه، إخواناً على سرر متقابلين، لا يتخذ بعضهم بعضاً
أرباباً من دون الله، ولا يسعى بعضهم للتسلط على بعض، وإذلاله،
والإستئثار بالخيرات والمنافع دونه..
ولا يريد أن يكون جباراً في الأرض، ولا أن يهيمن على
الناس، وتخضع له رقابهم، ولا يبغى الراحة لنفسه بتعبهم، ولا الغنى
بفقرهم، ولا عزةً بذلهم.
وقد تقدم:
أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد تصرف مع علي «عليه
السلام» بصورة من شأنها أن تظهر فضله «عليه السلام» وموقعه، حين انتظر
حتى تتام أصحابه في معسكرهم.
ثم عقد له لواءً، وأخذ عمامته ولفها مثنية مربعة،
فجعلها في رأس الرمح.
ثم دفعها إليه..
ثم عممه بيده عمامة ثلاثة أكوار. وجعل له ذراعاً بين
يديه، وشبراً من ورائه، ثم أصدر إليه الأمر بالمضي، وعدم الإلتفات..
وكل ذلك يجعل الناس يعيشون لحظات من الرقابة المتمازجة
بمشاعر الإعجاب والرضا، والإيغال في آفاق البهاء والصفاء، والجمال
والجلال، والمحبة والرضا.
تقدم:
أن النبي «صلى الله عليه وآله» قد نهى علياً «عليه
السلام» عن قتال أحد إلا أن يقاتلوه، وأعطاه تعليماته التي بينت: أن
المطلوب هو دعوتهم إلى الله تعالى، وأن عليه أن يتدرج في طلب ذلك منهم،
ولكنه لم يزد عن طلب ثلاثة أشياء، كما سلف..
وصرحت نصوص أخرى:
بأن النبي «صلى الله عليه وآله»، قد أرسل علياً «عليه
السلام» إلى اليمن قاضياً.
وزعمت:
أنه «عليه السلام» قال للنبي «صلى الله عليه وآله»:
تبعثني إلى قوم وأنا حدث السن ولا علم لي بالقضاء (أو بكثير من
القضاء)، فوضع يده على صدره وقال: إن الله سيهدي قلبك، ويثبت لسانك. يا
علي، إذا جلس إليك الخصمان، فلا تقض بينهما حتى تسمع من الآخر الخ..([4]).
ولذلك اعتبر السكتواري علياً «عليه السلام» أول قاض
بعثه رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى اليمن([5]).
غير أننا نقول:
إن النبي «صلى الله عليه وآله» كان قد صرح بما يدل على
رسوخ قدم علي «عليه السلام» في العلم في مناسبات كثيرة قبل ذهاب علي
«عليه السلام» إلى اليمن، ولم يزل يجهر بذلك على مدى ثلاث وعشرين سنة،
فهو عيبة علمه، وهو منه بمنزلة هارون من موسى، وهو مدينة العلم وعلي
بابها، إلى غير ذلك مما يتعذر جمعه، وإحصاؤه، وقد نزلت فيه «عليه
السلام» آيات كثيرة تشير إلى علمه هذا، ويكفي قوله تعالى:
{..قُلْ
كَفَى بِاللّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَبَيْنَكُمْ وَمَنْ عِندَهُ عِلْمُ
الْكِتَابِ}([6]).
يضاف إلى ذلك:
أنه «عليه السلام» نفس رسول الله
«صلى الله عليه وآله» بنص آية المباهلة، وهل يمكن أن يكون كذلك إذا كان
ـ حسب زعمهم ـ: إلى أواخر حياة رسول الله «صلى الله عليه وآله» لا يعرف
القضاء؟!!([7]).
ويمكن أن يجاب:
بأنه «عليه السلام» إنما تكلم بلسان غيره، وعبر عن
مكنونات ضمائرهم، لكي يُسمعهم ويُسمع الأجيال كلها إلى يوم القيامة
جواب رسول الله «صلى الله عليه وآله»، القاطع لكل عذر، والمبدد لجميع
الأوهام، وليبوء هؤلاء بالإثم والخزي والخذلان..
وبالنسبة لذهاب علي «عليه السلام» إلى اليمن نقول:
لعل الصحيح هو:
أنه «عليه السلام» قد ذهب إلى اليمن أولاً، فأسلمت
همدان كلها على يديه في ساعة واحدة، وانتشر الإسلام في تلك البلاد.
ثم إن أهلها شعروا بحاجتهم إلى من يفقههم في الدين،
فوفدوا إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» وطلبوا منه ذلك، فأرسل
إليهم علياً «عليه السلام» مرة ثانية، فقد روي: أنه أتى النبي «صلى
الله عليه وآله» ناس من اليمن، فقالوا: ابعث فينا من يفقهنا في الدين،
ويعلمنا السنن، ويحكم فينا بكتاب الله.
فقال النبي «صلى الله عليه وآله»:
انطلق يا علي إلى أهل اليمن، ففقههم في الدين وعلمهم
السنن، واحكم فيهم بكتاب الله.
فقلت:
إن أهل اليمن قوم طغام، يأتوني من القضاء بما لا علم لي
به.
فضرب «صلى الله عليه وآله» على
صدري، ثم قال:
اذهب، فإن الله سيهدي قلبك، ويثبت لسانك. فما شككت في
قضاء بين اثنين حتى الساعة([8]).
وقال الطبرسي:
بعث رسول الله «صلى الله عليه وآله» علياً «عليه
السلام» إلى اليمن، ليدعوهم إلى الإسلام، وليخمس ركازهم، ويعلمهم
الأحكام، ويبين لهم الحلال والحرام، وإلى أهل نجران ليجمع صدقاتهم،
ويقدم عليه بجزيتهم([9]).
النبي
لم يعلم علياً
القضاء:
ولعل من المهم هنا:
أن نشير إلى أن الملاحظ هو: أن النبي «صلى الله عليه
وآله» لم يعلم علياً «عليه السلام» القضاء، بل اكتفى بالطلب إليه أن لا
يقضي بين الخصمين حتى يسمع كلامهما.. ثم أخبره بأن الله تعالى هو الذي
يتولى هداية قلبه، وتثبيت لسانه على الحق والصواب.
ولا ريب في أن ذلك لن يكون على سبيل القهر والجبر، بل
هو منحة إلهية، تدل على مكانة علي «عليه السلام» عند الله تبارك
وتعالى، وعلى أنه «عليه السلام» قد بلغ هذا المقام بجهده وجهاده،
فاستحق هذه الهداية الإلهية على قاعدة:
{وَالَّذِينَ
جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}([10])،
{وَالَّذِينَ
اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْواهُمْ}([11])،
{وَمَن
يُؤْمِن بِاللهَ يَهْدِ قَلْبَهُ}([12]).
وقد ذكروا العديد من مفردات الأقضية التي صدرت عن علي
«عليه السلام» في اليمن، ومنها:
1 ـ
قالوا: احتفر قوم بئراً باليمن، فأصبحوا وقد سقط فيها
أسد، فنظروا إليه، فسقط إنسان بالبئر، فتعلق بآخر، وتعلق الآخر بآخر،
حتى كانوا في البئر أربعة، فقتلهم الأسد، فأهوى إليه رجل برمح فقتله.
فتحاكموا إلى علي «عليه السلام».
فقال:
ربع دية، وثلث دية، ونصف دية، ودية تامة: للأسفل ربع
دية، من أجل أنه هلك فوقه ثلاثة، وللثاني ثلث دية، لأنه هلك فوقه إثنان،
وللثالث نصف دية، من أجل أنه هلك فوقه واحد، وللأعلى الدية كاملة.
فإن رضيتم فهو بينكم قضاء، وإن لم ترضوا فلا حق لكم حتى
تأتوا رسول الله «صلى الله عليه وآله» فيقضي بينكم.
فلما أتوا رسول الله «صلى الله عليه وآله» قصوا عليه
خبرهم، فقال: «أنا أقضي بينكم إن شاء الله تعالى».
فقال بعضهم:
يا رسول الله، إن علياً قد قضى بيننا.
قال:
«فيم قضى»؟ فأخبروه.
فقال:
«هو كما قضى به»([13]).
2 ـ
كان علي «عليه السلام» باليمن، فأُتي بامرأة وطأها
ثلاثة نفر في طهر واحد، فسأل اثنين: أتقران لهذا بالولد؟
فلم يقرَّا.
ثم سأل اثنين:
أتقران لهذا بالولد؟
فلم يقرَّا.
ثم سأل اثنين، حتى فرغ، يسأل اثنين اثنين غير واحد، فلم
يقرُّوا.
ثم أقرع بينهم، فألزم الولد، الذي خرجت عليه القرعة،
وجعل عليه ثلثي الدية.
فرفُع ذلك للنبي «صلى الله عليه وآله»، فضحك حتى بدت
نواجذه
زاد في نص آخر:
وقال: «القضاء ما قضى».
أو قال:
«لا أعلم فيها إلا ما قضى علي».
أو قال:
«حكمتَ فيه بحكم الله».
أو قال:
«لقد رضي الله عز وجل حكمك فيهم»([14]).
3 ـ
عن أبي جعفر الباقر «عليه السلام»، قال: بعث رسول الله
«صلى الله عليه وآله» علياً «عليه السلام» إلى اليمن، فانفلت فرس لرجل
من أهل اليمن، فنفح رجلاً برجله فقتله، وأخذه أولياء المقتول، فرفعوه
إلى علي «عليه السلام»، فأقام صاحب الفرس البيّنة أن الفرس انفلت من
داره فنفح الرجل برجله، فأبطل علي «عليه السلام» دم الرجل.
فجاء أولياء المقتول من اليمن إلى النبي «صلى الله عليه
وآله» يشكون علياً «عليه السلام» فيما حكم عليهم، فقالوا: إن علياً
ظلمنا، وأبطل دم صاحبنا.
فقال رسول الله «صلى الله عليه
وآله»:
إن علياً ليس بظلام، ولم يخلق علي للظلم، وإن الولاية
من بعدي لعلي، والحكم حكمه، والقول قوله، لا يرد حكمه وقوله وولايته
إلا كافر، ولا يرضى بحكمه وقوله وولايته إلا مؤمن.
فلما سمع اليمانيون قول رسول الله «صلى الله عليه وآله»
في علي «عليه السلام» قالوا: يا رسول الله، رضينا بقول علي وحكمه.
فقال رسول الله «صلى الله عليه وآله»: هو توبتكم مما
قلتم([15]).
ونقول:
إن هناك العديد من الأمور التي تضمنتها هذه النصوص،
ويحسن منا لفت النظر إليها هنا، ومنها:
إن المتخاصمين لم يرضوا بقضاء علي «عليه السلام» في
الموارد الثلاثة المنقولة آنفاً، ولا نرى أن ذلك لسوء نظر، أو لكراهةٍ
منهم لشخص علي «عليه السلام»، بل لأن التخاصم بين الناس يكون عادة بسبب
شبهة دخلت على أحد المتخاصمين، أو على كليهما، توجب وقوعه في وهم أن
يكون الحق معه وإلى جانبه. فيبحث عمن يساعده في نيل حقه، أو عمن يدفع
عنه خصومة مدعي الحق عنده. وفق ضوابط عقلية، ومسلمات شرعية، أو توافقات
أو أعراف اجتماعية مع رعاية قانون العدل والإنصاف، وعدم الإنقياد للهوى
فيما يقضى به..
ولم يكن هؤلاء الناس قد عرفوا شيئاً ذا بال عن علي
«عليه السلام»، وعن جهاده، وتضحياته، وعلمه، والآيات النازلة في حقه،
وأقوال النبي «صلى الله عليه وآله» فيه.. إلا ما ربما يكونون قد شاهدوه
منه في تلك المدة اليسيرة التي عاشها بينهم، وهو يعلمهم، ويهديهم،
ويرشدهم، ويقضي بينهم بأمر رسول الله «صلى الله عليه وآله».
فلعلهم ظنوا:
أنه لا يملك الكثير من المعرفة بأسرار القضاء، فطلبوا
الإستيثاق من صحة قضائه.
أو أنهم ظنوا:
أنه قد ظلمهم في بعض قضائه فيهم..
فجاءهم الرد الحاسم من رسول الله «صلى الله عليه وآله»
في هذه الرواية الأخيرة، حيث بين لهم حقيقة علي «عليه السلام» وموقعه،
والمقام الذي جعله الله تعالى له فيهم، وهو مقام الولاية، وحكم من
يَرُدُّ حكمه، وقوله، وولايته..
2ـ
وقد قرر «صلى الله عليه وآله»: أن علياً «عليه السلام»
ليس بظلام، ولم يخلق علي «عليه السلام» للظلم.. ليكون هذا القول هو
الضابطة في شأن من تكون له الولاية على الناس، فإن من يظلم فرداً من
الناس فلا يؤمن من أن ينال بظلمه كل فردٍ فردٍ منهم، إذ لا خصوصية
للفرد الذي ظلم أولاً. ولذلك عبّر «صلى الله عليه وآله» بكلمة
«ظلَّام».
والمطلوب من الولي هو:
إنصاف الناس، وإيصال الخير إليهم، فالظلَّام الذي قد
ينال ظلمه كل فردٍ فردٍ، ولو على سبيل الإحتمال لا يصلح للولاية..
ثم إنه «صلى الله عليه وآله» بيّن أن غاية خلق علي
«عليه السلام» لم تكن هي الظلم، فهو صاحب الفطرة الصافية التي لا
تشوبها أية شائبة، وقد استمرت على هذا الصفاء والنقاء، حيث إنه لا تصدر
منه أي من مفردات الظلم، فهو ليس بظلام للأفراد..
بالنسبة للذين قتلهم الأسد في البئر نقول:
اختلفت الرواية في الحكم الذي صدر عنه «عليه السلام»،
فواحدة تقول: إن للأول ربع الدية، وللثاني ثلثها، وللثالث نصفها،
وللرابع الدية كاملة، وجعلها «عليه السلام» على قبائل الذين ازدحموا..
قال التستري:
للأول الربع، لاحتمال استناد موته إلى أربعة أشياء:
أحدها:
تضييق المزدحمين، وباقيها إسقاطه لثلاثة رجال فوق نفسه.
وللثاني الثلث، لإحتمال استناده إلى ثلاثة أمور:
أحدها:
إسقاط الأول له.
وللثالث النصف، حيث يحتمل استناده إلى أمرين:
أحدهما:
إسقاط الثاني له.
وللرابع التمام حيث إن قتله كله مستند إلى الثالث، وجعل
الدية على قبائل المزدحمين لأن الساقطين أيضاً كانوا منهم([16]).
وجاء في نص آخر أنه «عليه السلام»
قال:
الأول فريسة الأسد، وغرّم أهله ثلث الدية لأهل الثاني،
وغرّم الثاني لأهل الثالث ثلثي الدية.. وغرّم الثالث لأهل الرابع الدية
كاملة([17]).
وذكر التستري:
أن الوجه في ذلك: أن هلاك الأول لم يكن مستنداً إلى
أحد..
والثاني كان هلاكه مستنداً إلى
ثلاثة أمور:
جذب الأول، وسقوط الثالث والرابع فوقه، وكان هو السبب
في سقوطهما، فيكون ثلث قتله مستنداً إلى الأول فله الثلث.
والثالث كان ثلث قتله مستنداً إلى نفسه بجذب الرابع،
فيكون له الثلثان فقط على الثاني.
والرابع كان جميع قتله مستنداً إلى الثالث، فكان عليه
تمام ديته([18]).
1 ـ
روى الكليني، عن علي بن إبراهيم، عن أبيه، عن النوفلي،
عن السكوني، عن أبي عبد الله «عليه السلام» قال: قال أمير المؤمنين
«عليه السلام»: بعثني رسول الله «صلى الله عليه وآله» إلى اليمن وقال
لي: يا علي، لا تقاتلن أحداً حتى تدعوه، وأيم الله لأن يهدي الله على
يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤه يا علي([19]).
قال المجلسي «رحمه الله»:
قوله «صلى الله عليه وآله»: ولك ولاؤه، أي لك ميراثه إن
لم يكن له وارث، وعليك خطاؤه([20]).
2 ـ
روى جماعة عن أبي المفضل، عن عبد الرزاق بن سليمان، عن
الفضل بن الفضل الأشعري، عن الرضا، عن آبائه «عليهم السلام»: أن رسول
الله «صلى الله عليه وآله» بعث علياً «عليه السلام» إلى اليمن، فقال له
وهو يوصيه: يا علي، أوصيك بالدعاء، فإن معه الإجابة، وبالشكر فإن معه
المزيد، وإياك عن أن تخفر عهداً وتعين عليه، وأنهاك عن المكر، فإنه لا
يحيق المكر السيء إلا بأهله، وأنهاك عن البغي، فإنه من بغي عليه
لينصرنه الله([21]).
ونقول:
إن وصية النبي «صلى الله عليه وآله»
علياً «عليه السلام»:
بأن لا يقاتل أحداً حتى يدعوه ثم قوله له: «وأيم الله
لأن يهدي الله على يديك رجلاً خير لك مما طلعت عليه الشمس وغربت» قد
أظهرت: أن الهدف الأول والأخير هو هداية الناس، ونشر الدعوة.
فلا يصح ما يذكرونه في أكثر السرايا من أنها كانت تبادر
إلى الغارة واغتنام الأموال، وسبي النساء، والأطفال، وأسر الرجال.. فإن
كان قد حصل شىء من ذلك، فهو على سبيل التمرد على أوامر النبي «صلى الله
عليه وآله»، طمعاً بالدنيا، وجرياً على عادات أهل الجاهلية، واستجابة
لدواعي الهوى والعصبية.
2 ـ
ومن الواضح: أن مجرد أن يسلم رجل على يد شخص ليس من
أسباب اختصاصه بإرثه، إلا في موردين:
الأول:
أن يكون مولى له.. وما نحن فيه ليس كذلك، إذ المفروض:
أنه «صلى الله عليه وآله» طلب من علي «عليه السلام» أن يدعوهم إلى
الإسلام، ولا يبدأ بحربهم، فإن أسلموا كان لهم ما للمسلمين وعليهم ما
عليهم..
الثاني:
أن يكون ولاؤه له من حيث إنه الإمام المفترض الطاعة،
والإمام وارث من لا وارث له..
وهذا معناه:
أن يصبح هذا الحديث من دلائل إمامة علي «عليه السلام»
بعد رسول الله «صلى الله عليه وآله».
3 ـ
إن الوصايا المتقدمة، التي رويت عن الإمام الرضا «عليه
السلام» آنفاً، عن رسول الله «صلى الله عليه وآله» ليس فقط لا تشير إلى
أي أمر بقتال صدر عنه له، وإنما هي في سياق إثارة أجواء ومشاعر سليمة
وطبيعية، والتوجيه نحو تنظيم العلاقة مع أهل اليمن، على أساس التوافق،
وإبرام العهود، ولزوم الوفاء بها. ولزوم الوضوح والصدق في التعامل،
والإبتعاد عن المكر والخداع وضرورة الإبتعاد عن البغي والتجني، والتزام
جادة الإنصاف، والرفق..
وقد مهد لذلك كله بالتوجيه نحو الله تعالى بالدعاء،
والطلب منه دون سواه، ثم بالشكر له، الذي يجلب معه المزيد من العطاءات
الإلهية، والألطاف والرحمات والبركات الربانية..
هدايا علي
من اليمن
إلى النبي :
روى الكليني عن العدة، عن سهل وأحمد بن محمد جميعاً، عن
بكر بن صالح، عن سليمان الجعفري، عن أبي الحسن «عليه السلام» قال:
سمعته يقول: أهدى أمير المؤمنين إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله»
أربعة أفراس من اليمن، فقال: سمها لي.
فقال:
هي ألوان مختلفة.
فقال:
ففيها وضح؟
قال:
نعم، فيها أشقر به وضح.
قال:
فأمسكه عليّ.
قال:
وفيها كميتان أوضحان.
فقال:
أعطهما ابنيك.
قال:
والرابع أدهم بهيم.
قال:
بعه، واستخلف به نفقة لعيالك، إنما
يمن الخيل في ذوات الأوضاح([22]).
ونقول:
1 ـ
إننا لسنا بحاجة إلى التدليل على قيمة هذه الهدية
ومغزاها من حيث لفت النظر إلى استمرار المسيرة الجهادية، التي تحتاج
إلى إعداد القوة التي ترهب العدو.. وذلك في وقت ظن فيه بعض قاصري النظر
من المسلمين أن زمن الجهاد قد انتهى، وانتفت الحاجة إلى السلاح، فباعوا
أسلحتهم، حسبما تقدم.
2 ـ
إن هذا النص قد تضمن إشارة إلى لزوم إعطاء الألوان
والمواصفات الشكلية موقعها ودورها في الإختيار.. وإلى أن لقضية
اليُمْنِ أيضاً أثرها، وأن تجاهلها وإسقاطها من الحساب أمر غير حميد،
ورأي ليس بسديد ولا رشيد..
علي
في اليمن
مرة أخرى:
عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب
«عليه السلام» قال:
دعاني رسول الله «صلى الله عليه وآله» فوجهني إلى اليمن
لأصلح بينهم، فقلت له: يا رسول الله، إنهم قوم كثير، وأنا شاب حدث!!
فقال لي:
يا علي، إذا صرت بأعلى عقبة فيق فناد بأعلى صوتك: يا
شجر، يا مدر، يا ثرى، محمدٌ رسول الله «صلى الله عليه وآله» يقرؤكم
السلام.
قال:
فذهبت، فلما صرت بأعلى عقبة فيق أشرفت على اليمن، فإذا
هم بأسرهم مقبلون نحوي، مشرعون أسنتهم، متنكبون قسيهم، شاهرون سلاحهم،
فناديت بأعلى صوتي: يا شجر، يا مدر، يا ثرى، محمد «صلى الله عليه وآله»
يقرؤكم السلام.
قال:
فلم يبق شجرة، ولا مدرة، ولا ثرى إلا ارتجت بصوت واحد:
وعلى محمد رسول الله وعليك السلام.
فاضطربت قوائم القوم، وارتعدت ركبهم، ووقع السلاح من
أيديهم، وأقبلوا مسرعين، فأصلحت بينهم وانصرفت([23]).
ونقول:
إن لنا مع هذا النص وقفات هي
التالية:
قال الفيروز آبادي:
أفيق كامير، قرية بين حوران والغور، يعني: غور الأردن
في أول العقبة المعروفة بعقبة أفيق التي تنزل منها إلى الغور وهي عقبة
طويلة نحو ميلين([24]).
والسؤال هنا هو:
إذا كان النبي «صلى الله عليه وآله» قد أرسل علياً
«عليه السلام» من المدينة إلى اليمن، فإن اليمن تقع إلى الجنوب من
المدينة، وعقبة أفيق تقع في الجهة الشمالية منها، لأنها بين حوران
والغور، فأين هذه من تلك؟! ولا سيما مع تصريح الرواية المشار إليها
آنفاً: بأنه «عليه السلام» لما صار بأعلى عقبة فيق أشرف على اليمن،
فإذا هم بأسرهم مقبلون نحوه، مشرعون أسنتهم الخ..
إننا لا نملك ما يؤيد أو ينفي هذه الحادثة، التي يبدو
أنها بعثة تهدف إلى الصلح بين فريقين متخاصمين، حيث قالت الفقرة
الأخيرة:
«فأصلحت بينهم وانصرفت». فهل هؤلاء الناس مسلمين؟!
فإن الرواية لم تذكر ذلك كما أنها لم تذكر:
أنه «عليه السلام» قد دعاهم إلى الإسلام، أو أنهم هم
بادروا إلى إعلان إسلامهم.. وليس فيها ما يدل على أنهم كانوا قد أرسلوا
قبل ذلك إلى النبي «صلى الله عليه وآله» بطلب وساطة..
إن هذه الرواية قد دلت على:
أن لهم موقفاً عدائياً من مبعوث رسول الله «صلى الله
عليه وآله»، حيث إنهم جاؤوا باندفاع شديد، ومعهم أسلحتهم، وكان دفع
شرهم عنه «عليه السلام» بواسطة التدخل الإلهي وبصورة إعجازية.
فلماذا يندفع الفريقان المتنازعان لمواجهة مبعوث قد جاء
ليصلح بينهم؟!
ولعلك تقول:
قد يكون الذين جاؤوا غاضبين، هم أحد الفريقين المتنازعين، ولعلهم
اعتقدوا أن هذا المبعوث لن يقف إلى جانبهم في خصومتهم..
ويجاب:
بأن الرواية قد صرحت: بأن أهل اليمن بأسرهم كانوا
مقبلين نحوه مشرعين أسنتهم.. فلا يصح هذا التوجيه..
هل يمكن لأهل اليمن كلهم أن يأتوا لاستقبال علي «عليها
السلام» بالسلاح، ويواجهوه بالحرب؟! وهل كانت اليمن بمثابة قرية أو
مدينة، تستطيع أن تخرج عن بكرة أبيها لمواجهة أحد القادمين؟!
ألا يدلنا ذلك على:
أن مهمة علي «عليه السلام» هي الصلح بين جماعة صغيرة من
حيث العدد، وكانت مساكنها متقاربة، ولعلها كانت في بعض نواحي اليمن.
إن الصعود إلى أعلى عقبة أفيق ـ لو قبلنا أنها كانت في
اليمن ـ هل يعني الإشراف على بلاد اليمن كلها؟! وهل كانت اليمن بقعة
صغيرة تظهر معالمها للصاعد إلى أعلى عقبة أفيق؟!
ألا يدل ذلك على صحة ما قلناه:
من أن المطلوب كان الصلح بين جماعة من الناس كانوا
يسكنون في ناحية صغيرة؟!
علي
شاب حدث:
ولا ندري بعد ذلك كله:
ما معنى أن يصف علي «عليه السلام» نفسه لرسول الله «صلى
الله عليه وآله»: بأنه شاب حدث!!
فإن عمر علي «عليه السلام» كان في ذلك الوقت أكثر من
ثلاثين عاماً.. فمتى يصح وصفه بأنه رجل كامل إذن؟! وكيف نصَّبه الله
ورسوله ولياً للمؤمنين قبل وبعد هذا التاريخ في مناسبات عديدة؟!
([1])
سبل الهدى والرشاد ج6 ص238 والسيرة الحلبية ج3 ص206 والطبقات
الكبرى ج2 ق1 ص122 وشرح المواهب اللدنية ج5 ص177 عن ابن سعد
وراجع: إمتاع الأسماع ج2 ص96 و 97 و شرح إحقاق الحق (الملحقات)
ج21 ص627.
([2])
سبل الهدى والرشاد ج6 ص239 وراجع: إمتاع الأسماع ج2 ص97 وشرح
إحقاق الحق ج21 ص628.
([3])
الآية 125 من سورة النحل.
([4])
مسند أحمد ج1 ص83 و 88 و 149 و (ط دار صادر) ج1 ص111 والطبقات
الكبرى (ط دار المعارف بمصر) ج2 ص337 والسنن الكبرى للبيهقي
ج10 ص140 وذخائر المواريث ج3 ص14 وتيسير الوصول (ط نول كشور)
ج2 ص216 وقضاة الأندلس ص23 وخصائص الإمام علي «عليه السلام»
للنسائي (ط التقدم بمصر) ص12 وأخبار القضاة لوكيع ج1 ص85
وفرائد السمطين، ونظم درر السمطين ص127 والشذورات الذهبية ص119
وطبقات الفقهاء ص16 وشرح النهج للمعتزلي ج2 ص236 ومناقب علي
«عليه السلام» لابن المغازلي ص248 والرصف ص313 وجمع الفوائد من
جامع الأصول، ومجمع الزوائد ج1 ص259 وفتح المنعم (مطبوع مع زاد
المسلم) ج4 ص217 والبحار ج21 ص360 و 361 وفي هامشه عن: إعلام
الورى (ط 1) ص80 و (ط2) ص137. وراجع: العمدة لابن البطريق ص256
وفتح الباري ج8 ص52 والسنن الكبرى للنسائي ج5 ص117 وكنز العمال
ج13 ص125 والبداية والنهاية ج5 ص124 والسيرة النبوية لابن كثير
ج4 ص208 وجواهر المطالب في مناقب الإمام علي «عليه السلام» ج1
ص205 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج7 ص65 وج20 ص565 و 571 وج22
ص176 وج31 ص387.
([5])
محاضرة الأوائل ص62.
([6])
الآية 24 من سورة الرعد.
([7])
وقد ذكر في إحقاق الحق (قسم الملحقات) مئات الأحاديث الدالة
على علم الإمام علي «عليه السلام» وفضله فراجع.
([8])
منتخب كنز العمال (مطبوع مع مسند أحمد) ج5 ص36 وكنز العمال ج13
ص113 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج8 ص35 وو 40 و 45 وج21 ص634
وج22 ص511 وج23 ص667 وراجع: أخبار القضاة لمحمد بن خلف بن حيان
ج1 ص86 و تاريخ الإسلام للذهبي ج3 ص637.
([9])
البحار ج21 ص360 وفي هامشه عن: إعلام الورى (ط1) ص79 و 80 و
(ط2) ص137.
([10])
الآية 69 من سورة العنكبوت.
([11])
الآية 17 من سورة محمد.
([12])
الآية 11 من سورة التغابن.
([13])
راجع: مسند الطيالسي ص18 وأخبار القضاة لوكيع ج1 ص95 والسنن
الكبرى للبيهقي ج8 ص111 وذخائر العقبى ص84 وتذكرة الخواص ص49
والقياس في الشرع الإسلامي ص45 وأعلام الموقعين ج2 ص39 ومجمع
بحار
الأنـوار = = ج2 ص57 وينابيع المودة ص75 وأرجح المطالب ص120
والطرق الحكمية لابن القيم ص262 عن أحمد، وأبي داود، والنسائي،
وابن ماجة، والحاكم في صحيحه، وإرشاد الفحول ص257 وسبل الهدى
والرشاد ج6 ص239 ومسند أحمد ج1 ص77 و 152 ومشكل الآثار ج3 ص58
وكتاب الديات للشيباني ص65 وتفريع الأحباب ص321 ووسيلة النجاة
للسهالوي ص152 ومرآة المؤمنين ص70 وكنز العمال (ط الهند) ج15
ص103 عن الطيالسي، وابن أبي شيبة، وأحمد، وابن منيع، وابن جرير
وصححه، وقرة العينين في تفضيل الشيخين ص158 وبذل القوة ص285
وتلخيص التحبير ج4 ص30 عن أحمد، والبزار، والبيهقي، وإحقاق
الحق (الملحقات) ج17 ص493 ـ 497 وج8 ص67 ـ 70 عما تقدم وعن
مصادر أخرى.
([14])
راجع: مسند أحمد ج4 ص373 وسنن النسائي (ط الميمنة بمصر) ج2
ص107 وأخبار القضاة ج1 ص90 و 91 و 93 و 94 ومستدرك الحاكم ج2
ص207 وج3 ص135 وج4 ص96 وتلخيص المستدرك للذهبي (مطبوع مع
المستدرك) ج4 ص96 وذخائر العقبى ص85 والقياس في الشرع الإسلامي
ص48 وزاد المعاد لابن القيم (ط الأزهرية بمصر) ج7 ص380
والبداية والنهاية ج5 ص107 عن أحمد، وأبي داود، والنسائي،
وينابيع المودة ص211 و 75 وتيسير الوصول ج2 ص281 وأرجح المطالب
ص121 والمعجم الكبير ج5 ص193 و 194 وفيه: أن علياً «عليه
السلام» كتب إلى رسول الله «صلى الله عليه وآله» يخبره بذلك.
ومسند ابن أبي شيبة ج2 ص345 وأخبار الموفقيات ص363 عن مسند
الحميدي، ومرآة المؤمنين ص71.
([15])
البحار ج21 ص362 عن قصص الأنبياء،
الأمالي
للشيخ
الصدوق
ص428
ومستدرك
الوسائل
ج18
ص322
والبحار
ج21
ص362
وج38
ص102 وج40 ص316 وج101
ص390
وجامع أحاديث الشيعة ج26 ص343 وعجائب
أحكام أمير المؤمنين «عليه السلام»
للسيد
محسن الأمين
ص42
وقضاء أمير المؤمنين علي «عليه السلام» ص192 عن الكليني،
والشيخ، وعن الصدوق في أماليه. والكافي ج7 ص353
([16])
قضاء أمير المؤمنين علي «عليه السلام» ص36.
([17])
راجع: الوسائل (ط الإسلامية) ج9 ص176 وقضاء أمير المؤمنين علي
«عليه السلام» للتستري ص35 عن الإرشاد، وعن المشايخ الثلاثة،
والمناقب، ومسند أحمد، وأمالي أحمد بن منيع. وراجع: دعائم
الإسلام ج2 ص418 ومستدرك الوسائل ج18 ص313 وشرح الأخبار ج2
ص331 والإرشاد للشيخ المفيد ج1 ص196 ومناقب آل أبي طالب لابن
شهرآشوب ج2 ص198 والبحار ج40 ص245 وج101 ص393 وجامع أحاديث
الشيعة ج26 ص338 و 339.
([18])
قضاء أمير المؤمنين علي «عليه السلام» ص35 و 36.
([19])
البحار ج21 ص361 عن الكافي ج5 ص28 ومختلف الشيعة ج4 ص393 وكشف
اللثام (ط ج) ج9 ص341 و (ط ق) ج2 ص276 وجواهر الكلام ج21 ص52
وتهذيب الأحكام ج6 ص141 والوسائل (ط مؤسسة أهل البيت) ج15 ص43
و (ط دار الإسلامية) ج11 ص30 ومستدرك الوسائل ج11 ص30 وجامع
أحاديث الشيعة ج3 ص143 وموسوعة أحاديث أهل البيت ج12 ص23
وأعيان الشيعة ج1 ص418.
([21])
البحار ج21 ص361 عن المجالس والأخبار ص28 والوسائل (الإسلامية)
ج4 ص1088 وجامع أحاديث الشيعة ج15 ص193 ومستدرك سفينة البحار
ج10 ص345 وموسوعة أحاديث أهل البيت «عليهم السلام» ج2 ص62 وج10
ص414.
([22])
البحار ج21 ص361 وج61 ص169 عن الكافي، والمحاسن للبرقي ج2 ص631
والكافي ج6 ص536 ومن لا يحضره الفقيه للشيخ الصدوق ج2 ص285
والوسائل (ط مؤسسة آل البيت) ج11 ص475 و (ط دار الإسلامية) ج8
ص347 وجامع أحاديث الشيعة ج16 ص855 ومسند الإمام الرضا «عليه
السلام» للعطاردي ج2 ص377 وموسوعة أحاديث أهل البيت «عليهم
السلام» ج12 ص339.
([23])
البحار ج21 ص362 عن بصائر الدرجات ص145 و 146 و (ط مؤسسة
الأعلمي) ص521 و 524 وراجع: تاريخ بغداد للخطيب البغدادي ج7
ص62 وتاريخ جرجان للسهمي ص387.
([24])
معجم البلدان ج1 ص233 وراجع ج4 ص286 والبحار ج21 ص363. وراجع:
تاج العروس ج13 ص7 وج13 ص413.
|