بسم الله الرحمن الرحيم
والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف
بريته وخير خلقه أجمعين، محمد وآله الطاهرين. واللعنة على أعدائهم
أجمعين، إلى قيام يوم الدين..
سماحة العلامة الجليل الشيخ (ص..) أدام الله عزه في
الدنيا والآخرة.
السلام عليكم وعلى جميع من تحبون ورحمة الله وبركاته..
وبعد..
فقد وصلتني رسالتكم الميمونة المفعمة بالمحبة، والصدق،
والمعبرة عن ثبات القدم على الحق..
أسأل الله تعالى أن يكلأكم بعين رعايته، ويفيض عليكم من
بركاته، وأن يأخذ بيدكم إلى كل خير، ويدفع عنكم كل شر، وأذى وضير، إنه
ولي قدير..
أخي العلامة الكبير..
ألف:
إنني حين أطلب من جنابكم ومن سائر الأخوة الأكارم إبداء الملاحظات على
ما أقوله وأكتبه، فذلك يعود لسببين:
أحدهما:
أني إنسان، والإنسان قد يخطئ ويسهو، فيكون إخوانه هم الذين يسددونه،
ويرشدونه. فإن المؤمن أخو المؤمن، هو يده، وعينه ودليله، يحب له ما يحب
لنفسه، ويكره له ما يكره لنفسه.
الثاني:
أن الإرشاد والتصويب هو من الأمور التي تجلب المثوبة، وتستنزل بها من
الله الرحمات والبركات، من حيث أن هذا التصويب والإرشاد يسهم في بلورة
وسائل الدعوة إلى الله، والهداية إلى سبيله، وله الأثر في تعريف الناس
بالحق، والخير والصلاح، لأن ذلك يحقق معنى الحكمة، ويضفي على الموعظة
لمحات من الرواء والبهاء الباهر، والصفاء والحسن الظاهر، الذي يجذب
إليها الأنظار، ويجعل النفوس تهفو إليها، والقلوب تحنو عليها.
أخي أيها العالم الجليل، والخليل النبيل..
ب:
لقد سألتني عن كتاب: «المسجد
الأقصى أين»؟!
وأقول:
إن هذا الكتاب كان في الأصل فصلاً من كتاب في مجلدين في تفسير الآيات
الثمانية التي في أول سورة الإسراء، وقد احترق هذا الكتاب كسائر ما
احترق من مؤلفاتي، التي تعد بالعشرات، ولعلها لو كانت قد طبعت تزيد على
الثمانين مجلداً.. لقد احترقت كلها، ولم يبق منها حتى سطر واحد، وذلك
في حرب تموز سنة 2006م.. وقد ذكرت ذلك في خاتمة كتاب الصحيح من سيرة
النبي الأعظم «صلى الله عليه وآله»..
واحترقت أيضاً مكتبتي في بيروت التي كانت تملأ غرفاً
عديدةً، وقسم من مكتبتي في بلدتي في جنوب لبنان، ولعلها تزيد على
الخمسة عشر ألف كتاب، قد دمرها القصف بالإضافة إلى مكتبة أخرى كبيرة
أيضاً قد يصل عدد الكتب فيها إلى هذا المقدار أيضاً، كنا قد هيأناها في
المركز الإسلامي للدراسات.. وكان نصيبها أيضاً التدمير التام بالقصف
الإسرائيلي الحاقد..
ج:
أخي الكريم.. لقد ذكرت في كتاب «المسجد الأقصى أين»: أن البقعة
المباركة التي تبلغ مساحتها 145 ألف متر مربع هي التي يطلق عليها اسم
بيت المقدس، وفيها قبور الأنبياء ومحاريبهم، وفيها باب حطة، وفيها
المسجد ذو القبة الخضراء الذي أسسه عمر بن الخطاب حين زار القدس بمشورة
من علي «عليه السلام».. وفيها أيضاً مسجد الصخرة، وغير ذلك..
إن هذه البقعة ـ بيت المقدس ـ مقدسة عندنا، والصلاة
فيها تعدل ألف صلاة. كما ورد في روايتنا..
وقد أسري بالنبي الأكرم مرات عديدة
قيل:
إنها بلغت مئة وعشرين إسراءً.. ومنها ما كان من المسجد الحرام إلى
السماء مباشرة، ومنها ما كان من المسجد الحرام إلى مسجد الكوفة، إلى
طور سيناء، إلى بيت المقدس.
ومنها ما كان على نحو آخر..
ولكن الكلام في ما ورد في سورتي:
«الإسراء» و «النجم» هل هو إشارة إلى إسرائين مختلفين؟! أم أن السورتين
تتحدثان عن واقعة واحدة؟! وهل هما، أو أحدهما يتحدثان عن الإسراء الذي
حصل من المسجد الحرام إلى بيت المقدس، ثم إلى السماء؟! أم يتحدثان أو
أحدهما عن الإسراء الذي حصل من المسجد الحرام إلى السماء مباشرة؟!
وقد قلنا:
1 ـ
إن المسجد المبني على الصخرة قد استحدث في عهد المروانيين من بني أمية،
وذلك بعد منع بني أمية الناس من الحج إلى مكة، وأمرهم بالحج إلى بيت
المقدس، وأمروا الناس بالطواف حول الصخرة وجعل لهم مسعى وبدائل عن منى
وعرفات. وغير ذلك..
وقد استمر ذلك عدة سنوات.. وبنى الوليد بن عبد الملك
قبة على الصخرة وزخرفها بالأحجار الكريمة، ثم جدّد بناؤها في أول عهد
الدولة العباسية، ثم حولت القبلة عن الكعبة المشرفة إلى بيت المقدس،
كما أشار إليه الجاحظ وغيره..
وأما المسجد ذو القبة الخضراء، فقد اختطه عمر بن الخطاب
حين زار القدس كما قلنا..
فتلخص:
أن الذي كان موجوداً في زمن النبي «صلى الله عليه وآله» هو بيت المقدس،
وهو تلك المساحة الواسعة التي أشرنا إليها.. أما المسجدان اللذان في
ضمنها، فقد استحدثا بعد ذلك..
2 ـ
وحين استحدثا.. كانت المساجد منتشرة في طول البلاد الإسلامية وعرضها،
وهي تعد بالمئات، وكثير منها كان أقصى وأبعد من بيت المقدس..
3 ـ
بل لقد كان مسجد أهل الكهف الذي أشير إليه في قوله تعالى: ﴿لَنَتَّخِذَنَّ
عَلَيْهِمْ مَسْجِداً﴾([1]).
قد سبق ظهور الإسلام بمئات السنين.. وهو أبعد من المسجد الأقصى الذي في
القدس.
4 ـ
كما أنه قد ورد التعبير بأدنى الأرض عن بلاد هي أبعد عن المدينة من بيت
المقدس. فقد قال تعالى: ﴿الم
غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ
غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ﴾([2]).
5 ـ
على أن في آيات سورة الإسراء نفسها قرائن قد يقال: إنها تشير إلى ما
ذكرنا. منها قوله تعالى: ﴿لِنُرِيَهُ
مِنْ آَيَاتِنَا﴾([3]).
التي هي فيما يبدو إشارة إلى قوله تعالى في سورة النجم عن المعراج: ﴿لَقَدْ
رَأَى مِنْ آَيَاتِ رَبِّهِ الْكُبْرَى﴾([4]).
وإنما رأى «صلى الله عليه وآله» هذه الآيات في السماء عند سدرة
المنتهى، لا في مسيره «صلى الله عليه وآله» إلى المسجد الأقصى الذي في
القدس.
ومنها قوله تعالى: ﴿الَّذِي
بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾([5])..
فإنه إنما يناسب ما روي من أن المراد بالمسجد الأقصى في الآية هو مصلى
الملائكة في السماء الرابعة، فإنه هو الذي تمتد البركة منه إلى ما
حوله.. بسبب انتشار الملائكة الذين لا يفترون عن تسبيح الله وتقديسه..
وبعدما تقدم نقول:
إن كل ذلك لا يعني ـ كما قلنا ـ:
أن لا يكون هذا المسجد الموجود في القدس أيضاً اسمه «المسجد الأقصى»
أيضاً. وإن كان قد أطلق عليه هذا الاسم في عهد عمر بن الخطاب أو بعده..
ولكن ما نقوله:
هو أنه ليس لدينا دليل قاطع على أنه هو الذي قصد بكلمة: «المسجد
الأقصى» ﴿الَّذِي
بَارَكْنَا حَوْلَهُ﴾
التي وردت في الآية التي في أول سورة الإسراء..
كما أن ذلك لا يعني:
أن لا يكون أسري بالنبي «صلى الله عليه وآله» إليه، في مرة أخرى أو
أكثر، بل الإسراء إليه أيضاً قد حصل بالفعل كما دلت عليه الروايات..
كما أنه لا ريب في كون هذا المكان الموجود في مدينة
القدس باسم بيت المقدس هو من الأماكن المقدسة عندنا. وتكون الصلاة فيها
تعدل ألف صلاة..
والكلام حول هذا الموضوع طويل ومتشعب. فالإكتفاء بهذا
القدر هو الأولى والأقرب، والأجدر والأصوب.
أخي سماحة العلامة العلم..
د:
بالنسبة لسؤالكم عن التعبير بـ «يجب على الإمام كذا وكذا» أقول:
إن
الوجوب تارة يراد به:
الإلزام المستفاد من الإنشاء الذي أبرز إرادة حصول أمر مَّا من فاعل
مختار، أراد الآمر أن يجعل حصوله على عهدته بحيث لو تخلف عنه أو فرط
فيه، فإنه يكون قد عرَّض نفسه للمؤاخذة، والعقاب..
وأخرى يراد به:
إقتضاء الحكمة والسداد حصول أمر أو أثر من فاعل مَّا أو من مؤثر معين،
من دون أن يكون هناك مُنشئ ومُريد..
فتقول مثلاً:
إن ألوهية الله تعالى تقتضي أن لا يخلف الميعاد، وتقتضي
أن يكون عادلاً، وحكيماً، ورحيماً، ورؤوفاً. فيصح أن يقال: يجب على
الله ـ أي يتحتم عليه بمقتضى ألوهتيه ـ أن يكون العدل، والرحمة، والعمل
وفق الحكمة والرأفة.. و.. و.. من تجلياته تبارك وتعالى.
وليس
معنى ذلك:
أن أحداً أوجب عليه ذلك، وأنه سيعاقبه لو لم يفعل.
وكذلك حين نقول:
يجب على الله اللطف بعباده، فلا نقصد أننا نحن أوجبنا عليه ذلك، بل
نقصد: أنه هو الذي أوجب ذلك على نفسه..
وحين نقول:
يجب على النبي «صلى الله عليه وآله»: أن يكلم الناس على قدر عقولهم،
وأن يحسن سياستهم، وأن يتجاوز عن مسيئهم، ويحسن إلى محسنهم، ويسعى في
حل مشاكلهم وأن يهتم بشؤونهم، فلا يعني أننا نحن الذين أوجبنا عليه
ذلك، بل لأن موقعه كولي ونبي وداع، ومدبر لشؤونهم هو الذي اقتضى ذلك..
أو لأن الله تعالى قد أوجب عليه هذا أو ذاك، فنحن نخبر عن هذا الوجوب،
مع أن كل أحد يعلم: أننا لا ننشئ الأحكام على أحد، حتى على أنفسنا، بل
نحن نخبر عن ثبوت تلك الأحكام، بحسب اقتضاء الواقع لها، أو لأجل أن
الله تعالى قد أنشأها على النبي «صلى الله عليه وآله» والإمام. وقد
كشفت لنا الأدلة عن ثبوتها.. فنحن نخبر عنها. كما نخبر عن أي حكم آخر،
فإذا قلنا: تجب الصلاة على كل مكلف.. فالمقصود هو: أن هذا الوجوب
المكشوف لنا بالدليل، ثابت في واقع الأمر لاقتضاء الواقع له، أو صادر
عمن يحق له أن يصدره، ولنا أن نخبر عنه..
وقولنا:
يجب على الإمام، أو على النبي كذا وكذا من هذا القبيل..
أو أنه كشف عما اقتضته الحال، وحكمت به العقول في حق
النبي أو الوصي.. كما أوضحناه..
سماحة شيخنا الأجل..
هـ:
إن ما أشرتم إليه من سقطات من هنا وهناك تصدر من خطباء المنبر الحسيني
هو من الأمور التي يؤسف لها. ونتمنى أن نجد السبيل إلى معالجتها، ولكن
كيف؟! وأنى؟! والناس مختلفون في عقلياتهم وأذواقهم، وفي مستوياتهم
الفكرية والثقافية، وفي نسبة ذكائهم، وفي مكوناتهم وخصائصهم النفسية.
كما أن ثمة محدودية في القدرات المادية لا تسمح بالتواصل التام أو
المفيد والمجدي.
وهذه الحالة لا تختص بالشيعة، بل هي تفرض نفسها على
مختلف الفئات، والمجتمعات فالاجتهادات الشخصية، والتصرفات العشوائية
والسطحية، والخلل في الطروحات، والتباين في الأفكار التي تطرح،
والاختلاف في المعالجات هي السمة الظاهرة والشائعة عند كل طائفة، وفي
جميع الأديان والمذاهب..
غير أن من الواضح:
أن أهل العلم والفكر، لا يأخذون معارفهم، ولا يتخذون مواقفهم بالاستناد
إلى أقوال أمثال هؤلاء، وإنما يتوجهون إلى أعمدة الفكر، وأساطين العلم
في كل طائفة، ليتبينوا منهم، ويأخذوا عنهم معالم مذهبهم، ويميزوا به
الحق من الباطل، والصحيح من السقيم فيما تعتقده تلك الطائفة وتتبناه..
نسأل الله أن يعصمنا من الخطأ والخطل، ومن الوهم
والزلل، في الفكر، وفي القول والعمل، إنه سميع مجيب..
الأخ الفاضل، والصديق الكامل..
أما بالنسبة للسيد محمد حسين فضل الله، فإنه حين ظهر لي
بعض ما ظهر لكم، خشيت على الناس من أن يتأثروا ببعض أفكاره الخاطئة،
فطلبته إلى الحوار والنقاش مرات عديدة، فرفض. وبعد أخذ ورد، ومحاولات
متتابعة لم أجد بداً من التصدي لهذه الأفكار من أجل صيانة الشباب
والناس عموماً من أفكاره الخاطئة.. فكتبت كتاب: «مأساة الزهراء»،
وكتاب: «خلفيات مأساة الزهراء»، وكتباً عديدة أخرى رددت فيها على
أقاويله الكثيرة، فأصر على مواقفه، وأفتى مراجع الشيعة وكبار العلماء
بما دل على لزوم الحذر من تلك الأفكار، بل أفتى بعضهم بخروجه عن دائرة
المذهب..
وبعد أن بينت للناس:
أن في أفكاره الغث والسمين، والصحيح والسقيم، باعتماد النقاش العلمي
الهادئ والرصين، وعدم التعريض بشخصه إلا بالمقدار الذي يسمح به البحث
من التخطئة والتصويب، ثارت ثائرته ورمانا بكل عظيمة. وجند كل طاقاته
وإمكاناته للوقيعة بنا، وها قد مضت عدة سنوات، تزيد على الست عشرة سنة
ولم نسمع منه إجابة مقنعة على أي من الإشكالات والمؤاخذات العلمية التي
وجهناها إليه، ولكنه بقي مصراً على مواقفه، ملتزماً بأفكاره، حتى
المتناقضة منها.
وغني عن البيان:
أن حفظ الدين من أي تحريف أو تزييف في حقائقه مقدم حتى على حفظ آحاد
الناس.. ولذلك وجب على الناس أن يضحوا بأنفسهم من أجل حفظ دينهم، لأن
هذه الحقائق والأحكام والشرائع أمانة لا بد من إيصالها إلى كل جيل، وكل
أمة إلى أن تقوم الساعة، وليس لأحد الحق في أن يفرط بهذه الأمانة.
ومثال ذلك:
أن أحداً لو أراد أن يتحف أحداً بشيء، فليس له أن يسرق أو أن يسلب ما
عند الآخرين ليتحف به أياً كان من الناس، بل عليه أن يتحفه بما يملكه
هو.. لا بما يملكه الآخرون..
ولو أن حريقاً شب بالقرب من ماله أو ولده، فليس له أن
يحمي ولده من النار بوضع ابن الجيران فيها، بل عليه هو أن يجعل نفسه
أمام النار ويمنعها من الوصول إلى ولده.. وأن يقدم ماله ليحول بين
النار وبين أمواله الأخرى.. ولا يقدم أموال الناس ليحمي بها ماله..
أخي الكريم..
إن كنت قد أطلت عليك، فأنا أعتذر من ذلك إليك.. وأتمنى
لك المزيد من العافية والسداد، والصلاح والرشاد، والصلاة والسلام على
عباده الذين اصطفى محمد وآله الطاهرين..
27/شهر صفر/1431هـ الموافق 12 / 2 / 2010 م.
جعفر مرتضى العاملي
([1])
الآية 21 من سورة الكهف.
([2])
الآية 1 ـ 3 من سورة الروم.
([3])
الآية 1 من سورة الإسراء.
([4])
الآية 18 من سورة الإسراء.
([5])
الآية 1 من سورة الإسراء.
|